█ _ مصطفى محمود 0 حصريا كتاب رحلتي من الشك الي الإيمان عن دار أخبار اليوم 2024 الإيمان: إلى هو فكري ألفه عام 1970 يعرض الكتاب العديد المواضيع والتساؤلات الفكرية والمتعلقة بخلق الإنسان والجسد والعقل ويتحدث بشكل تفصيلي رحلة الطويلة وصولاً فصول الكتاب: يتألف ثمانية فصول وهي: الله: هذا الفصل الأفكار الجدلية حول وجود الخالق وفكرة الوجود والعدم الجسد: ويتكلم كيفية تميز كل شخص بصفات فريدة تميزه غيره مثل البصمة الوراثية الروح: يتحدث الروح وكيف أنها مجهولة بالنسبة للإنسان العدل الأزلي: عدل الله المطلق لماذا العذاب؟: الحكمة العذاب ماذا قالت لي الخلوة التوازن الطبيعي المسيح الدجال الرد الإلحاد مجاناً PDF اونلاين روح المناقشات الدينية تناقش بالعقل بما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء , لذا يحتوي القسم الكتب اللتي ترد الالحاد والملحدين وفرقهم رد عقلاني وفي نفس الوقت بالآدلة الواقعة القرآن والسنة
❞ العقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفا على هرم هائل من المنجزات و إذ يرى نفسه مانحا للحضارة بما فيها من صناعة و كهرباء و صواريخ و طائرات و غواصات و إذ يرى نفسه قد اقتحم البر و البحر و الجو و الماء و ما تحت الماء. فتصور نفسه القادر على كل شيء و زج نفسه في كل شيء و أقام نفسه حاكما على ما يعلم وما لا يعلم . ❝
❞ العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله هو عقل فقد التعقل، فالنور يكشف لنا الأشياء ويدلنا عليها ولا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور، كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول أين دليلك على أن الدنيا نهار . ❝
❞ يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان: إذا كان الظما إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي . ❝
❞ كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره .. ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك .. في مَطَالِعْ المراهقة .. حينما بدأت أتساءل في تمرد :
- تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من موجِد .. صدقنا وآمنا .. فلتقولوا لي إذن مَن خلق الله .. أم أنه جاء بذاته ؟! .. فإذا كان قد جاء بذاته وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر .. فلماذا لا يصح في تصوركم أيضاً أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال .
كنت أقول هذا فتصفر من حولي الوجوه وتنطلق الألسُن تمطرني باللعنات وتتسابق إليّ اللكمات عن يمين وشمال .. ويستغفر لي أصحاب القلوب التقية ويطلبون لي الهدى .. ويتبرأ مني المتزمتون ويجتمع حولي المتمردون .. فنغرق معاً في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل .
وتغيب عني تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل .
إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها .. كان هو الحافز دائماً .. وكان هو المشجِع .. وكان هو الدافع .. وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب .
لقد رَفَضْتُ عبادة الله لأني إستغرقت في عبادة نفسي وأُعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة .
كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي يتكرر كل يوم . وغابت عني أيضاً أصول المنطق وأنا أعالج المنطق .. ولم أدرك أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق ثم أقول : ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً .. وهي السفسطة بعينها .
ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته وليس معتمداً ولا محتاجاً لغيره لكي يوجد . أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول .
هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي إنتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود .
ولم تكن هذه الأبعاد واضحة في ذهني في ذلك الحين .
ولم أكُن قد عرفت بعد من هو أرسطو ولا ما هي القوانين الأولى للمنطق والجدل .
واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوةِ والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثُمَّ إعادة النظر في إعادة النظر ..
ثُمَّ تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من ( الله والإنسان ) إلى ( لغز الحياة ) إلى ( لغز الموت ) إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين ، لم يكن الأمر سهلاً .. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً .
ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله ..
ولكنني جئت في زمن تَعَقّدِتْ فيه كل شيء وضَعِفَ صوت الفطرة حتى صار همساً وإرتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً ..
والعقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات وإذ يرى نفسه مانحاً للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات وإذ يرى نفسه قد اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء .. فتصور نفسه القادر على كل شيء وزج نفسه في كل شيء وأقام نفسه حاكماً على ما يعلم وما لا يعلم .
وغرقت في مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبي أقرأ لشبلي شميل وسلامة موسى وأتعرف على فرويد وداروين .
وشغفت بالكيمياء والطبيعة والبيولوجيا .. وكان لي معمل صغير في غرفتي أجضر فيه غاز ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأقتل الصراصير بالكلور وأشرِّح فيه الضفادع ، وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي .. العلم .. العلم .. العلم .. ولا شيء غير العلم !!
النظرة الموضوعية هي الطريق .
لنرفض الغيبيات ولنكُف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات .
من يعطينا دبابات وطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات ؟؟
وكان ما يصلنا من أنباء العلم الغربي باهراً يخطف أبصارنا وكنا نأخذ عن الغرب كل شيء .. الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات .. وحتى الأطعمة المعلبة .. حتى قلم الرصاص والدبوس والإبرة .. حتى نظم التعليم وقوالب التأليف الأدبي من قصة ومسرحية ورواية .. حتى ورق الصحف .
وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومُثُلِنا العليا .. حول باستير وماركوني ورونتجن وأديسون .. وحول نابليون وإبراهام لنكولن .. وكرستوفر كولمبس وماجلان .
كان الغرب هو التقدم ، وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والإنهيار تحت أقدام الإستعمار ، وكان طبيعيّاً أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق .. وهو السبيل إلى القوة والخلاص .
ودخلت كلية الطب لأتلقى العلوم بلغة إنجليزية وأدرس التشريح في مراجع إنجليزية وأتكلم مع أستاذي في المشفى باللغة الإنجليزية .. ليس لأن إنجلترا كانت تحتل القناة لكن لسبب آخر مشروع وعادل .. هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تماماً .. وما بدأه العرب في هذه العلوم أيام ابن سينا , كان مجرد أوليّات لا تفي بحاجات العصر .
وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا والباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة ومعامل ومختبرات وملايين الجنيهات المرصودة للبحث , فسبقوا الأولين من العرب والفُرس والعُجم , وأقاموا صرح علم الطب الحديث والفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا وأصبحوا بحق مرجعاً .
وتعلمت ما تعلمت في كتب الطب .. النظرة العلمية .. وأنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس .
وأن العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين ، وما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود ، وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي .
بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة وبالرغم من هذه الأرضية المادية والإنطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ما هو غيب فإني لم أستطع أن أنفي أو أستبعد القوة الإلهية .
كان العلم يقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام والإنضباط .. كل شيء من ورقة الشجر إلى جناح الفراشة إلى ذرة الرمل فيها تناسق ونظام وجمال الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة .
وكل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية في الصغر إلى الفلَك العظيم إلى الشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التي يقول لنا الفَلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة .
كل هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار .. أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح .
كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية .
وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراضٍ وسماوات .. هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي البروتوبلازم وفي الأفلاك ..
هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء ..أو بعبارة القديس توماس " الفعل الخالص الذي ظل يتحول في الميكروب حتى أصبح إنساناً ومازال يتحول وسيظل يتحول إلى ما لانهاية " .
والوجود كان في تصوري لامحدوداً لانهائياً . إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم .. والعدم معدوم .. ومن هنا يلزم منطقياً أن يكون الوجود غير محدود ولانهائي .
ولا يصح أن نسأل .. مَن الذي خلق الكون . إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوماً في البداية ثم وُجِد .. وكيف يكون لمعدوم كيان ؟! .
إن العدم معدوم في الزمان والمكان وساقط في حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان .
وبهذا جعلت من الوجود حدثاً قديماً أبدياً أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية .
وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته .
الله هو الوجود .. والعدم قبله معدوم .
هو الوجود المادي الممتد أزلاً وأبداً بلا بدء وبلا نهاية .
وهكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود .. وترى أن الله هو الوجود .. دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات .. ودون حاجة إلى التماس اللامنظور .
وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا .. وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاّقة ..
وكلها فلسفات تبدأ من الأرض .. من الحواس الخمس .. ولا تعترف بالمغيبات ، ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغي الثنائية بين المخلوق والخالق .. فكل المخلوقات في نظرها هي عيني الخالق .
وفي سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى في أبيات رقيقة من الشعر ...
إن الإله براهماً الذي يسكن قلب العالم يتحدث في همس قائلاً :
إذا ظن القاتل أنه قاتل ......
والمقتول أنه قتيل .........
فليسا يدريان ما خفي من أساليبي ....
حيث أكون الصدر لمن يموت ........
والسلاح لمن يقتل .......
والجناح لمن يطير ......
وحيث أكون لمن يشك في وجودي ......
كل شيء حتى الشك نفسه ....
وحيث أكون أنا الواحد .....
وأنا الأشياء .....
إنه إله يشبه النور الأبيض .. واحد .. وبسيط .. ولكنه يحتوى في داخله على ألوان الطيف السبعة ، وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود .
وسيطرَت عليَّ فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت روايات لي مثل ( العنكبوت ) و ( الخروج من التابوت ) ، ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الإقتناع .
واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط . ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي ، عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكروسكوب قال لي شيئاً آخر .
وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية .. ولكنها غير صادقة ..
والحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر .. وحدة في النسيج والسُنن الأولية والقوانين .. وحدة في المادة الأولية التي بُنيَ منها كل شيء .. فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الآيدروجين والأكسجين .. ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالإحتراق .. وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها .
ومرة أخرى نتعلم من الفلَك والكيمياء والعلوم النووية أن الكربون ذاته وكذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الآيدروجين .
الآيدروجين يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم وكربون وسليكون وكوبالت ونيكل وحديد إلى آخر قائمة العناصر وذلك بتفكيكه وإعادة تركيبه في درجات حرارة وضغوط هائلة ، وهذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة .. إلى فتلة واحدة حريرية غُزِل منها الكون في تفصيلات وتصميمات وطُرُز مختلفة .
والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقات الكيفية والكمية .. في المعادلة والشفرة التكوينية .. لكن الخامة واحدة .. وهذا سر الشعور بالنَسَب والقرابة والمصاهرة وصلة الرحم بين الإنسان والحيوان وبين الوَحش ومُروِضه وبين الأنف التي تشم والوهرة العاطرة وبين العين ومنظر الغروب الجميل .
هذا هو سر الهارموني والإنسجام ، إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد ، وهو أمر لا يستتبع أبداً أن نقول إن الله هو الوجود , وأن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفيّ غير وارد .
والأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرضاً للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات .. واكتشف أنها جميعاً مرسومة على الخامة نفسها .. وبذات المجموعة الواحدة من الألوان , وأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد .
والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد . وأن الرسّام هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني .. مثلاً ، فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها .
ولكنها لا تعني أبداً أن هذه الموجدات هي ذاتها الخالق ، ولا يقول الناقد أبداً إن هذه الرسوم هي الرسّام ، إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفيّة خرافية .. وهي تبسيط وجداني لا يصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل .
وإنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات , إن هناك وحدة بينها .. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه .
وتقول لنا أيضاً إن هذا الخالق هو عقل كلّي شامل ومحيط , يُلهم مخلوقاته ويهديها في رحلة تطورها ويسلّحها بوسائل البقاء , فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحةً لتستطيع أن تعبر الصحاري الجرداء بحثاً عن ماء وعن ظروف إنبات موالية .
وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق . وما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس .
وإنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق .. هو الذي يزود كل مخلوق بأسباب حياته .. وهو خالق متعالٍ على مخلوقاته .. يعلم ما لا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى ، فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير .. وهو متعال يعطي الصفات ولا تحيط به صفات .
* * *
والصلة دائماً معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها ، وهو المبدِع الذي عزف الإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة ، هو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ ، وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله .
* * *
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود , فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ ، والعدم في واقع الأمر غير معدوم ، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوماً .
والعدم هو على الأكثر نفي ٌ لما نعلم ولكنه نفياً مطلقاً مساوياً للمحو المطلق . وفكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي .. ولا يصح الخلط بين الإفتراض والواقع ولا يصح تحميل الواقع فرضاً نظرياً , فنقول اعتسافاً إن العدم معدوم , ونعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني عليها أحكاماً في الواقع .. هذا تناقض صريح وسفسطة جدلية ، وبالمثل القول بأن الوجود موجود .. هنا نفس الخلط .. فالوجود تجريد ذهني والموجود واقع حسيّ ..
وكلمة العدم وكلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر ،واللانهاية لا يصح أن نخلط بينها وبين الواقع الملموس المتعيَّن ،والكون الكائن المحدد أمام الحواس ،، الكون إذن ليس أزليا ً،، وإنما هو كون مخلوق كان لا بد له بدء بدليل آخرمن قاموس العلم هو ما نعرفه باسم القانون الثاني للديناميكا الحرارية ،، ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراري .
ولو كان الكون أبديا أزليا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كل شيء ،،إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون له بدء .
والقيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت الحضارات وموت الأفراد وموت النجوم وموت الحيوان والنبات وتناهي اللحظات والحُقَبْ والدهور .. هي لمحة أُخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لابد أن ينتهي إليها الكون ..
إن العلم الحَق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دالٌ عليه مؤكَد بمعناه .
وإنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك ..
وبخاصة إن كان ذلك العقل مزهوّاً بنفسه معتدّاً بعقلانيته .. وبخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كلّ شيء .. وإذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة ماديّة صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعيّة .. هاتفةً كلّ لحظة :
أنا المادة ....
أنا كل شيء ....
مقال / اللــــــّـــــه
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ) . ❝
❞ المسيخ الدجال قد ظهر بالفعل كما يقول الكاتب البولندي ليوبولد فايس، وقد اسلم هذا الكاتب وتسمى بإسم محمد أسد.
وهذا المسيخ الشائه ذو العين الواحدة كما يقول هو:
التقدم العلمي والقوة المادية والترف المادي. معبودات هذا الزمان .
مدينة العصر الذري، العوراء العرجاء، التي تتقدم في اتجاه واحد، وترى في اتجاه واحد هو الاتجاه المادي .
على حين تفتقد العين الثانية ((الروح)) التي تبصر البعد الروحي للحياة . فهي قوة بلا محبة، وعلم بلا دين، وتكنولوجيا بلا اخلاق .
وقد استطاع هذا المسخ فعلا عن طريق العلم ان يسمع ما يدور في اقصى الارض ((باللاسلكي)) ويرى ما يجري في اخر الدنيا ((بالتلفزيون))، وهو الان يسقط المطر بوسائل صناعية، ويزرع الصحارى، ويشفي المرضى وينقل قلوب الاموات الى الاحياء، ويطير حول الارض في صواريخ وينشر الموت والدمار بالقنابل الذرية، ويكشف عروق الذهب في باطن الجبال .
وقد افتتن الناس بهذا المسخ فعبدوه. وامام هذا الاستعراض الباهر للتقدم العلمي الغربي فقدنا نحن الشرقيين ثقتنا بأنفسنا ونظرنا بإحتقار الى تراثنا وديننا.
وفي حمى الشعور بالنقص والتخلف تصورنا ان دياناتنا ضرب من الخرافات المخجلة التي يجب ان نتخلص منها لنلحق بركب التقدم وندخل في رحاب المعبد الجديد. معبد العلم لنعبد ذلك الإله الجديد الذي اسمه القوة المادية وسجدنا مبهورين فاقدي الوعي وقد اختلطت علينا الوسيلة بالغاية
فجعلنا من القوة المادية غايتنا . ونسينا انها مجرد وسيلة واداة .
القطار وسيلة .
والتلغراف وسيلة .
والكهرباء وسيلة .
والطاقة الذرية وسيلة .
ودور هذه الوسائل ان توضع في خدمة الانسان لتحرره من الضرورات المادية فيفرغ الى الفكر والتأمل واثراء روحه بالمعرفة الحقة .
وبدلا من ان تكون هذه الوسائل في خدمتنا اصبحنا نحن في خدمتها نكد ونكدح ونتعارك ونتكالب لنمتلك عربة وراديو وتلفزيونا. فإذا امتلكنا هذه الاشياء ازددنا نهما ورغبة لنمتلك عربة اكبر ثم جهاز تسجيل ستيريوفونيك ثم قاربا للنزهة ثم يختا ثم فيلا وحديقة وحمام سباحة ..
ثم طائرة خاصة ان امكن، ويطيش صوابنا شيئا فشيئا امام سيل المنتجات الاستهلاكية التي تملأ الفترينات..ونتحول الى جوع اكال يزداد جوعا كلما امعن في الشراء. وحلقة مفرغة من الاطماع لا تنتهي لتبدأ .
وهي ابدا تهدف الى اقتناء سبب من اسباب القوة المادية او الترف الحياتي مما تطرحه التكنولوجيا كل يوم في واجهات المحلات .
. ❝
❞ الذي رأى قطة تتلصص على مائدة في خلسة من أصحابها ثم تمد فمها لتلقف قطعة سمك. الذي رأى مثل تلك القطة ونظر إلى عينيها وهي تسرق لن ينسى أبداً تلك النظرة التي تملؤها الإحساس بالذنب.
إن القطة وهي الحيوان الأعجم تشعر شعوراً مبهماً أنها ترتكب إثماً .. فإذا لحقها العقاب ونالت ضربة على رأسها فإنها تغض من رأسها وتطأطئ بصرها ، وكأنها تدرك إدراكاً مبهماً أنها نالت ما تستحق.
هو إحساس الفطرة الأولى الذي ركبه الخالق في بنية المخلوق .. إنه الحاسة الأخلاقية البدائية نجد أثرها حتى في الحيوان الأعجم.
والقط إذ يتبرز ثم ينثني علي ما فعل ويهيل عليه التراب حتى يخفيه عن الأنظار.
ذلك الفعل الغريزي يدل على إحساس بالقبح وعلى المبادرة بستر هذا القبح.
وذلك الفعل هو أيضاً فطرة أخلاقية لم تكتسب بالتعلم .. وإنما بهذه الفطرة وُلِد كل القطط.
وبالمثل غضبة الجمل بعد تكرار الإهانة من صاحبه وبعد طول الصبر والتحمل .. وكبرياء الأسد وترفعه عن أن يهاجم فريسته غدراً من الخلف وإنما دائماً من الأمام ومواجهة .. ولا يفترس إلا ليأكل .. ولا يفكر في أكل أو افتراس إلّا إذا جاع.
كل هذه أخلاق مفطورة في الحشوة الحية وفي الحيوان.
ثم الوفاء الزوجي عند الحمام.
والولاء للجماعة في الحيوانات التي تتحرك في قطعان.
نحن أمام الأسس الأولى للضمير .. نكتشفها تحت الجلد وفي الدم لم يعلمها معلم وإنما هي في الخلقة.
ونحن إذ نتردد قبل الفعل نتيجة إحساس فطري بالمسئولية .. ثم نشعر بالعبء أثناء الفعل نتيجة تحري الصواب .. ونشعر بالندم بعد الفعل نتيجة الخطأ.
هذه المشاعر الفطرية التي يشترك فيها المثقف والبدائي والطفل هي دليل على شعور باطن بالقانون والنظام وأن هناك محاسبة .. وأن هناك عدالة .. وإن كل واحد فينا مُطَالب بالعدالة كما أن له الحق في أن يطلبها .. وإن هذا شعور مفطور فينا منذ الميلاد جاءنا من الخالق الذي خلقنا ومن طبيعتنا ذاتها.
فإذا نظرنا إلى العالم المادي من الذرات المتناهية في الصغر إلى المجرات المتناهية في العظم وجدنا كل شيء يجري بقوانين و بحساب و انضباط .
حتى الإلكترون لا ينتقل من مدار إلى مدار في فلك النواة إلّا إذا أعطى أو أخذ حزماً من الطاقة تساوي مقادير انتقاله و كأنه راكب في قطار لا يستطيع أن يستقل القطار إلّا إذا دفع ثمن التذكرة .
و ميلاد النجوم و موتها له قوانين و أسباب.
و حركة الكواكب في دولاب الجاذبية لها معادلة .
و تحول المادة إلى طاقة و تحول جسم الشمس إلى نور له معادلة .
و انتقال النور له سرعة .
و كل موجة لها طول و لها ذبذبة و لها سرعة .
كما أن كل معدن له طيف و له خطوط امتصاص مميزة يُعرَف بها في جهاز المطياف .
و كل معدن يتمدد بمقدار و يتقلص بمقدار بالحرارة و البرودة .. و كل معدن له كتلة و كثافة و وزن ذري جزيئي و ثوابت و خواص .
و أينشتين أثبت لنا أن هناك علاقة بين كتلة الجسم و سرعته .. و بين الزمن و نظام الحركة داخل مجموعة متحركة .. و بين الزمان و المكان .
و الذي يفرق المواد إلى جوامد و سوائل و غازات هو معدل السرعة بين جزيئاتها .
و لأن الحرارة تعجّل من هذه السرعة فإنها تستطيع أن تصهر الجوامد و تحولها إلى سوائل ثم تبخر السوائل و تحولها إلى غازات .
كما أن الكهرباء تتولد بقوانين .. كما يتحرك التيار الكهربائي و يفعل و يؤثرعلى أساس من فرق الجهد و الشدة .
كما تتوقف جاذبية كل نجم على مقدار جرمه و كتلته .
و الزلازل التي تبدو أنواعاً من الفوضى لها هي الأخرى نظام و أحزمة و
خطوط تحدث فيها و يمكن رسم و تتبع الأحزمة الزلزالية بطول الكرة
الأرضية و عرضها .
و الكون كله جدول من القوانين المنضبطة الصريحة التي لا غش فيها و لا خداع .
سوف يرتفع صوت ليقول : و ما رأيك فيما نحن فيه من الغش و الخداع و الحروب و المظالم و قتل بعضنا البعض بغياً و عدواناً .. أين النظام هنا ؟ و سوف أقول له : هذا شيء آخر .. فإن ما يحدث بيننا نحن دولة بني آدم يحدث لأن الله أخلفنا في الأرض و أقامنا ملوكاً نحكم و أعطانا الحرية .. و عرض علينا الأمانة فقبلناها .
و كان معنى إعطائنا الحرية أن تصبح لنا إمكانية الخطأ و الصواب .
و كان كل ما نرى حولنا في دنيانا البشرية هو نتيجة هذه الحرية التي
أسأنا استعمالها .
إن الفوضى هي فعلنا نحن و هي النتيجة المترتبة على حريتنا ، أما العالم فهو بالغ الذروة في الانضباط و النظام .
و لو شاء الله لأخضعنا نحن أيضاً للنظام قهراً كما أخضع الجبال و البحار و النجوم و الفضاء .. و لكنه شاء أن يفني عنّا القهر لتكتمل بذلك عدالته .. و ليكون لكل منا فعله الخاص الحر الذي هو من جنس دخيلته .
أراد بذلك عدلاً ليكون بعثنا بعد ذلك على مقامات و درجات هو إحقاق الحق و وضع كل شيء في نصابه .
و الحياة مستمرة .
و ليس ما نحياه من الحياة في دنيانا هو كل الحياة .
و معنى هذا أن الفترة الاعتراضية من المظالم و الفوضى هي فترة لها حِكمتها و أسبابها و أنها عين العدالة من حيث هي امتحان لما يلي من حياة مستمرة أبداً .
إن دنيانا هي فترة موضوعة بين قوسين بالنسبة لما بعدها و ما قبلها ، و هي ليست كل الحقيقة و لا كل القصة .. و إنما هي فصل صغير من رواية سوف تتعدد فصولاً .
وقد أدرك الإنسان حقيقة البعث بالفطرة.
أدركها الإنسان البدائي.
وقال بها الأنبياء إخباراً عن الغيب.
وقال بها العقل والعلم الذي أدرك أن الإنسان جسد وروح كما ذكرنا في فصول سابقة .. وإن الإنسان يستشعر بروحه من إحساسه الداخلي العميق المستمر بالحضور رغم شلال التغيرات الزمنية من حوله ، وهو إحساس ينبئ بأنه يملك وجوداً داخلياً متعالياً على التغيرات مجاوزاً للزمن والفناء والموت.
وفلاسفة مثل عمانويل كانت وبرجسون وكيركجارد ، لهم وزنهم في الفكر قالوا بحقيقة الروح والبعث.
وفي كتاب «جمهورية أفلاطون».. فصل رائع عن خلود الروح.
هي حقيقة كانت تفرض نفسها إذن على أكبر العقول وعلى أصغر العقول وكانت تقوم كبداهة يصعب إنكارها.
ولكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعا ونتصرف على أساسه ، أن هناك نظاماً مُحكَماً وقانوناً وعدلاً.
ونحن نطالب أنفسنا ونطالب غيرنا فطرياً وغريزياً بهذا العدل.
وتحترق صدورنا إذا لم يتحقق هذا العدل.
ونحارب لنرسي دعائم ذلك العدل.
ونموت في سبيل العدل.
وفي النهاية لا نحقق أبداً ذلك العدل.
وهذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لاشك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا وضمائرنا طول الوقت.
وإذا كنا لا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة ولأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة.
وإلّا فلماذا تحترق صدورنا لرؤية الظلم ولماذا نطالب غيرنا دائما بأن يكون عادلاً .. لماذا نحرص كل هذا الحرص ونشتعل غضباً على ما لا وجود له.
يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان :
إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي.
إن شعورنا الداخلي الفطري هو الدليل القطعي على أن العدل حق .. وإن كنا لا نراه اليوم .. فإننا سوف نراه غداً .. هذا توكيد يأتينا دائما من داخلنا .. وهو الصدق لأنه وحي البداهة..
والبداهة والفطرة جزء من الطبيعة المحكمة الخالية من الغش وهي قانون من ضمن القوانين العديدة التي ينضبط بها الوجود.
سوف يرتفع صوت ليقول : لندع عالم الآدميين ونسأل : لماذا خلق الله الخنزير خنزيراً والكلب كلباً .. والحشرة حشرة .. ما ذنب هذه الكائنات لتخلق على تلك الصورة المنحطة .. وأين العدل هنا ؟
وإذا كان الله سوف يبعث كل ذي روح فلماذا لا يبعث القرد والكلب والخنزير؟
والسؤال وجيه ولكن يلقيه عقل لا يعرف إلّا نصف القضية .. أو سطراً واحداً من ملف التحقيق .. ومع ذلك يتعجل معرفة الحكم وحيثياته.
والواقع أن كل الكائنات الحيوانية نفوس.
والله قد اختار لكل نفس القالب المادي الذي تستحقه.
والله قد خلق الخنزير خنزيراً لأنه خنزير..
ونحن لا نعلم شيئا عن تلك النفوس الخنزيرية قبل أن يودعها الله في قالبها المادي الخنزيري..
ولا نعلم لماذا وكيف كان الميلاد على تلك الصورة .. وما قبل الميلاد محجوب.
كما أن ما بعد الموت محجوب.
ولكن أهل المشاهدة يقولون كما يقول القرآن إننا كنا قبل الميلاد في عالم ( يسمونه عالم الذر ) ونكون بعد الموت في عالم. والحياة أبدية ولا موت وإنما انتقال وارتقاء في معراج لا ينتهي . صعوداً وتطوراً وتسامياً وكدحاً إلى الله.
وهذا الاستمرار يقول به العقل أيضاً.
والعدل هو الحقيقة الأزلية التي وقرها الله في الفطرة وفي الحشوة الآدمية.. وحتي في الحشوة الحيوانية كما قدمت في بداية مقالي.
هذا العدل حقيقة مطلقة سوف تقول لنا أن جميع القوالب المادية والحيوانية هي استحقاقات مؤكدة لا ندري شيئا عن تفاصيلها ولا كيف كانت ، ولكننا نستطيع أن نقول بداهة أنها استحقاقات .. وأن الله خلق الخنزير خنزيراً لأن نفسه كانت نفسا خنزيرية فكان هذا ثوبها وقالبها الملائم.
أما بعث الحيوانات فالقرآن يقول به :
( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) (الأنعام – 38).
هي أمم من الأنفس يقول لنا القرآن أنها تُحشَر كما نُحشَر.. أما ما يجري عليها بعد ذلك وأين تكون وما مصيرها .. فهو غيب .. وتطلع إلى محجوبات .. وفضول لن نجد له جواباً شافياً.
والعلم بكل شيء في داخل اللحظة المحدودة وفي عمرنا الدنيوي هو طمع في مستحيل.
ولكن إذا كان نصيبنا من العلم وإذا كان ما غنمناه بالتأمل هو أن العدل حقيقة أزلية وأن الله وقرها وأودعها في الفطرة فقد علمنا الكثير وأدركنا كفايتنا.
وبالصورة التي أدركنا بها الله في مقالنا الأول على أنه العقل الكلي المحيط وأنه القادر المبدع الملهم المعني بمخلوقاته ، بهذه الصورة سوف نفهم كيف أودع الله هذه الفطرة الهادية المرشدة في مخلوقاته فهذا مقتضي عنايته وعدله .. أن يخلق مخلوقاته ويخلق لها النور الذي تهتدي به. وسوف نصدق أيضا أن الله أرسل الأنبياء وأوحي بالكتب .. فإن الله لا يكون رباً ولا إلهاً ملهماً مدبراً بغير ذلك.
وسوف يكون دليلا على صدق الكتب السماوية وهو ما تأتينا به من علم وغيب وحكمة وتشريع وحق مما لا يتأتي لجهد فردي أن يهتدي إليه بالمحاولة الشخصية.
إن الله الخالق العادل الملهم الذي خلق مخلوقاته وألهمها الطريق.. (وهو لباب الأديان كلها)..
هو مبدأ أولي يصل إليه العقل دون إجهاد. وتوحي به الفطرة بداهة.
وإنما الافتعال كل الافتعال.. هو القول بغير ذلك.
والإنكار يحتاج إلى الجهد كل الجهد وإلى الالتفاف والدوران واللجاجة والجدل العقيم ثم نهايته إلى التهافت .. لأنه لا يقوم على أساس .. ولأنه يدخل في باب المكابرة والعناد أكثر مما يدخل في باب التأمل المحايد النزيه والفطرة السوية.
وهذا هو ما قالته لي رحلتي الفكرية الطويلة .. من بدايتها المزهوة في كتاب ( الله والإنسان ) إلى وقفتها الخاشعة على أبواب القرآن والتوراة والإنجيل وليس متديناً في نظري من تعصب وتحزب وتصور أن نبيه هو النبي الوحيد وأن الله لم يأت بغيره .. فإن هذا التصور لله هو تصور طفولي متخلف يظن أن الله أشبه بشيخ قبيلة .. ومثل هذا الإحساس هو عنصرية وليس تديناً.
وإنما التصور الحق لله .. أنه الكريم الذي يعطي الكل ويرسل الرسل للكل.
( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير )
(فاطر – 24)
و( لقد بعثنا في كل أمة رسولاً )
(النحل – 36)
( وما كان ربك مُهلِك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً )
( القصص – 59)
( ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك )
( النساء – 164)
ومعنى هذه الآية أن بوذا يمكن أن يكون رسولا وإن لم يرد ذكره في القرآن.
وإخناتون يمكن أن يكون رسولاً .. ويمكن أن يكون ما وصلنا من تعاليمهم قد خضع للتحريف .. والله يريد بهذا أن يوحي بالإيمان المنفتح الذي يحتضن كل الرسالات وكل الأنبياء وكل الكتب بلا تعصب وبلا تحيز.
وأصدق مثل للوعي الديني المتفتح هو وعي رجل مثل غاندي .. هندوسي ومع ذلك يقرأ في صلاته فقرات من القرآن والتوراة والإنجيل وكتاب ( الدامابادا ) لبوذا .. في خشوع ومحبة.. مؤمناً بكل الكتب وكل الرسل .. وبالخالق الواحد الذي أرسلها.
وهو رجل حياته مثل كلامه أنفقها في الحب والسلام.
والدين واحد من الناحية العقائدية وإن اختلفت الشرائع في الأديان المتعددة . كما أن الرب واحد.
والفضلاء من جميع الأديان هم على دين واحد.
لأن المتدين الفاضل لا يتصور الله خالقاً له وحده وهادياً له وحده أو لفئة وحدها .. وإنما هو نور السموات والأرض .. المتاح لكل من يجهد باحثا عنه .. الرحمن الرحيم المرسل للهداة المنزل للوحي في جميع الأعصر والدهور .. وهذا مقتضى عدله الأزلي .. وهذا هو المعنى الجدير بالمقام الإلهي .. وبدون هذا الإيمان المنفتح لا يكون المتدين متديناً.
أما الأديان التي تنقسم شيعاً يحارب بعضها بعضاً باسم الدين فإنها ترفع راية الدين كذباً .. وما الراية المرفوعة إلا راية العنصر والعرق والجنس وهي مازالت في جاهلية الأوس والخزرج وحماسيات عنترة .. تحارب للغرور .. وإن ظنت أنها تحارب لله .. وهي هالكة ، الغالب فيها والمغلوب .. مشركة .. كل منها عابد لتمثاله ولذاته ولتصوره الشخصي وليس عابداً لله.
وإنما تبدأ عبادة الله بمعرفة الله ومقامه الأسمى . وتبدأ معرفة الله بمعرفة النفس ومكانها الأدنى.
وهذا هو الطريق .. والصراط .. والمعراج الذي يبدأ منه عروج السالكين في هجرتهم الكبرى إلى الحق.
مقال : العدل الأزلي .
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان .
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ المثقفون لهم اعتراض تقليدي على مسألة البعث والعقاب ..
فهم يقولون : كيف يعذبنا الله والله محبة ؟
وينسى الواحد منهم أنه قد يحب ابنه كل الحب ومع ذلك يعاقبه بالضرب والحرمان من المصروف والتأديب والتعنيف .. وكلما ازداد حبه لابنه كلما ازداد اهتمامه بتأديبه ..
ولو أنه تهاون في تربيته لاتّهمه الناس في حبه لابنه ولقالوا عنه إنه أب مهمل لا يرعى أبناءه الرعاية الكافية .. فما بال الرب وهو المربي الأعظم .. وكلمة الرب مشتقة من التربية .
والواقع أن عبارة (( الله محبة )) عبارة فضفاضة يسيء الكثيرون فهمها ويُحمِّلونها معنى مطلقًا .. ويتصورون أن الله محبة على الإطلاق .. وهذا غير صحيح .
فهل الله يحب الظلم مثلاً ؟!
مستحيل ..
مستحيل أن يحب الله الظلم والظالمين .. وأن يستوي في نظره ظالم ومظلوم .. وهذا التصور للقوة الإلهية .. هو فوضى فكرية ..
ويلزم فعلًا أن يكون لله العلو المطلق على كل الظالمين , وأن يكون جبارًا مطلقًا يملك الجبروت على كل الجبارين .. وأن يكون متكبرًا على المتكبرين مُذِلًّا للمُذِلين قويًا على جميع الأقوياء .. وأن يكون الحَكم العدل الذي يضع كل إنسان في رتبته ومقامه .
وبمقتضى ما نرى حولنا من انضباط القوانين في المادة والفضاء والسماوات يكون استنتاجنا للعدل الإلهي استنتاجًا سليمًا يعطي الصفة لموصوفها ..
وكل البيِّنات تحت أيدينا تقوم لتؤكد صفة العدل الإلهي والنظام والحكمة والتدبير .
والذين ينكرون النظام والعدل هم الذين يحتاجون إلى إقامة البرهان وإلى تقديم الدليل على إنكارهم .. وليس الذين يؤمنون بالنظام .
أما الذين ينكرون العذاب على إطلاقه وينكرون أن الإنسان مربوب تعلو عليه قوة أعلى منه وقوانين أعلى منه ندعوهم إلى نظرة في أحوال عالَمَهم الأرضي .. نظرة في الدنيا دون حاجة إلى افتراض آخره .
ولا أحد لم يجرب ألم الضرس الذي يخرق الدماغ ويشق الرأس كالمنشار . والمغص الكلوي والصداع الشقي وألم الغضروف وسل العظام وهي ألوان من الجحيم يعرفها من أَلقى به سوء حظه إلى تجربتها .
وزيارة لعنبر المحروقين في القصر العيني سوف تقنع المشاهد بأن هناك فارقًا كبيرًا بين رجل محروق مشوه يصرخ في الضمادات , وبين حال رجل يرشف فنجان شاي في استرخاء ولذة على شاطئ النيل وإلى جواره حسناء تلاطفه .
إن العذاب حقيقة ملموسة .
والإنسان مربوب بقوة أعلى منه وهو عديم الحيلة في قبضة تلك القوة . ويستوي الأمر أن يسمي المؤمن هذه القوة .. (( الله )) وأن يسميها الملحد (( الطبيعة )) أو (( القوانين الطبيعية )) أو (( قانون القوانين )) فما هذه إلا سفسطة لفظية ..
المهم أنه لم يجد بدّاً من الإعتراف بأن هناك قوة تعلو على الإنسان وعلى الحوادث .. وأن هذه القوة تعذب وتنكل .
وأصحاب المشاعر الرقيقة الذين يتأففون من تصور الله جبارًا معذِبًا .. علينا أن نذكِّرَهم بما كان يفعله الخليفة التركي حينما يصدر حكم الإعدام بالخازوق على أعدائه .. وما كان يفعله الجلاد المنوط به تنفيذ الحكم حينما كان يلقي بالضحية على بطنه ثم يدخل في الشرج خازوقاً ذا رأس حديدية مدببة يظل يُدَق ببطء حتى تتهتك جميع الأحشاء ويخرج الخازوق من الرقبة .. وكيف أنه كان من واجب الجلاد أن يحتفظ بضحيته حيّاً حتى يخرج الخازوق من رقبته ليشعر بجميع الآلام الضرورية .
وأفظع من ذلك أن تفقأ عيون الأسرى بالأسياخ المحمية في النار .
مثل هؤلاء الجبارين هل من المفروض أن يقدم لهم الله حفلة شاي لأن الله محبة ؟!
بل إن جهنم هي منتهى المحبة ما دامت لا توجد وسيلة غيرها لتعريف هؤلاء بأن هناك إلهًا عادلًا .
وهي رحمة من حيث كونها تعريفًا وتعليمًا لمن رفض أن يتعلم من جميع الكتب والرسل , وللذين كذَّبوا حتى أوَّليات العقل وبداهات الإنسانية .
أيكون عدلًا أن يقتل هتلر عشرين مليونًا في حرب عالمية .. يسلخ فيها عماله الأسرى ويعدمون الألوف منهم في غرف الغاز ويحرقونهم في المحارق .. ثم عند الهزيمة ينتحر هتلر هاربًا وفارّاً من مواجهة نتيجة أعماله .
إن العبث وحده وأن يكون العالَم عبثًا في عبث هو الذي يمكن أن ينجي هذا القاتل الشامل من ذنبه .
ولا شيء حولنا في هذا العالَم المنضبط الجميل يدل على العبث .. وكل شيء من أكبر النجوم إلى أدق الذرّات ينطق بالنظام والضبط والإحكام . ولا يكون الله محبة .. ولا يكون عادلاً .. إلا إذا وضع هذا الرجل في هاوية أعماله .
عن العاقل الفطن المتأمل لن يحتاج إلى فلسفة ليدرك حقيقة العذاب فإنه سوف يكتشف نذر هذا العذاب في نفسه داخل ضميره .. وفي عيون المذنبين ونظرات القتلة .. وفي دموع المظلومين وآلام المكلومين وفي ذل الأسرى وجبروت المنتصرين وفي حشرجة المحتضرين .
وهو سوف يدرك العذاب والحساب حينما يحتويه الندم .
والندم هو صوت الفطرة لحظة الخطأ .
وهو القيامة الصغرى والجحيم الأصغر وهو نموذج من الدينونة .
وهو إشارة الخطر التي تضيء في داخل النفس لتدل على أن هناك ميزانًا للأعمال .. وأن هناك حقّاً وباطلًا .. ومَن كان على الحق فهو على صراط وقلبه مطمئن .. ومن كان على باطل فهو في هاوية الندم وقلبه كليم .
وعذاب الدنيا دائمًا نوع من التقويم .. وكذلك على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمم .. فهزيمة 67 في سيناء كانت درسًا , كما أن رسوب الطالب يكون درسًا – كما أن آلام المرض واعتلال الصحة هي لمن عاش , حياة الإسراف والترف والرخاوة والمتعة درس .
والعذاب يجلو صدأ النفس و يصقل معدنها .
ولا نعرف نبيّاً أو مصلحًا أو فنانًا أو عبقريّاً إلا وقد ذاق أشد العذاب مرضًا أو فقرًا أو إضطهادًا .
والعذاب من هذه الزاوية محبة .. وهو الضريبة التي يلزم دفعها للإنتقال إلى درجة أعلى .
وإذا خفيت عنا الحكمة في العذاب أحيانًا فلأننا لا ندرك كل شيء ولا نعرف كل شيء من القصة إلا تلك الرحلة المحدودة بين قوسين التي إسمها الدنيا ..
أما ما قبل ذلك وما بعد ذلك فهو بالنسبة لنا غيب محجوب , ولذا يجب أن نصمت في احترام ولا نطلق الأحكام .
أما كيفيات العذاب بعد البعث فلا يمكن القطع فيها تفصيلًا لأن الآخرة كلها غيب .. ويمكن أن يكون ما ورد في الكتب المقدسة بهذا الشأن رموزًا وإشارات .. كما نقول للصبي الذي لم يدرك البلوغ حينما يسألنا عن اللذة الجنسية إنها مثل السكر أو العسل لأننا لا نجد في قاموس خبراته شيئًا غير ذلك .. ولأن تلك اللذة بالنسبة له غيب لا يمكن وصفه بكلمات من محصوله اللغوي فهي خبرة لم يجربها إطلاقًا , وبالمثل الجنة والجحيم هي خبرات بالنسبة لنا .. غيب .. ولا يمكن وصفها بكلمات من قاموسنا الدنيوي .. وكل ما يمكن هو إيراد أوصاف على سبيل التقريب مثل النار أو الحدائق الغناء التي تجري من تحتها الأنهار .. أما ما سوف يحدث فهو شيء يفوق بكثير كل هذه الأوصاف التقريبية مما لم تره عين ولم يخطر على قلب بشر .
ويمكن أن يقال دون خطأ إن جهنم هي المقام الأسفل بكل ما يستتبع ذلك المقام من عذاب حسي ومعنوي .. وأن الجنة هي المقام الأعلى بكل ما يستتبع ذلك المقام من نعيم حسي ومعنوي .
والصوفية يقولون إن جهنم هي مقام البعد ( البعد عن الله ) والحَجب عن الله .. والجنة هي مقام القرب بكل ما يتبع ذلك القرب من سعادة لا يمكن وصفها .
(( و مَنْ كانَ في هَذِهِ أعمَْى فَهوَ في الآخرة أعْمى وأضَلُّ سبيلاً )) . والعمى هنا هو عمى البصيرة .
إنها إذن أشبه بما نرى من درجات ومقامات وتفاوت بين أعمى وبصير . ومهتد وضال . ولكن في الآخرة سوف يكون التفاوت عظيمًا .
(( انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا )) .. (الإسراء – 21)
لدرجة أن من سيكون في المقام الأسفل سيكون حاله حال من في النار وأسوأ .. إنه قانون التفاضل الذي يحكم الوجود كله دنيا وآخره ملكًا وملكوتًا غيبًا وشهودًا .
لكل واحد رتبة واستحقاق ومقام ودرجة .. ولا يستوي اثنان .
ولا يكون الإنتقال من درجة إلى درجة إلا مقابل جهد وعمل واختبار وابتلاء .. ومن كان في الدنيا في أحط الدرجات من عمى البصيرة فسيكون حاله في الآخرة في أحط الدرجات أيضاً .
وهذا عين العدل .. أن يوضع كل إنسان في مكانه ودرجته واستحقاقه .. وهذا ما يحدث في الدنيا ظلمًا وهو ما سوف يحدث في الآخرة عدلًا .
والعذاب بهذا المعنى عدل .
والثواب عدل .
وكلاهما من مقتضيات الضرورة .
أن يكون الحديد الصلب غاية في الصلابة فيصنع منه الموتور .
ويكون الكاوتشوك رخوًا فتصنع منه العجلات .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
ويكون القش رخيصًا فتصنع منه رأس المكنسة .
وأن يكون القطن الفاخر لصناعة الوسائد .. والقطن الرديء لتسليك البالوعات .
وهذه بداهات وأوليات تقول بها الفطرة والمنطق السوي ولا تحتاج إلى تدبيج مقالات في الفلسفة ولا إلى رص حيثيات ومسببات .
ولهذا كانت الأديان كلها مقولة فطرية .. لا تحتمل الجدل ولا تحتمل التكذيب .. ولهذا كانت حقيقة مطلقة تقبلها العقول السوية التي لم تفسدها لفلفات الفلسفة والسفسطة .. والتي احتفظت ببكارتها ونقاوتها وبرئَت من داء العناد والمكابرة .
ولهذا يقول الصوفي إن الله لا يحتاج إلى دليل بل إن الله هو الدليل الذي يستدل به على كل شيء .
هو الثابت الذي نعرف به المتغيرات .
وهو الجوهر الذي ندرك به اختلاف الظواهر .
وهو البرهان الذي ندرك به حكمة العالم الزائل .
أما العقل الذي يطلب برهاناً على وجود الله فهو عقل فقد التعقل .
فالنور يكشف لنا الأشياء ويدلنا عليها .
ولا يمكن أن تكون الأشياء هي دليلنا على النور وإلا نكون قد قلبنا الأوضاع .. كمن يسير في ضوء النهار ثم يقول .. أين دليلك على أن الدنيا نهار .. أثبت لي بالبرهان .
ومن فقد سلامة الفطرة وبكارة القلب .. ولم يبق له إلا الجدل وتلافيف المنطق وعلوم الكلام .. فقد فقدَ كل شيء وسوف يطول به المطاف .. ولن يصل أبداً .
ومثل الذي يحتج على العذاب الدنيوي ويتبرم ويتسخط ويلعن الحياة وقول إنها حياة لا تحتمل وإنه يرفضها وإن أحداً لم يأخذ رأيه قبل أن يولد وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وإن هذا ظلم فادح .
مثل هذا الرفض الساخط مثل الفنان الذي يؤدي دوراً في مسرحية .. ويقتضي الدور أن يتلقى الضرب والركل كل يوم أما المتفرجين .
لو أن هذا الممثل فقد الذاكرة ولم ير شريط حياته إلا أمام هذا الدور الذي يؤديه بين قوسين على خشبة المسرح كل يوم .. فإنه سوف يحتج .. رافضاً أن يتلقى العذاب .. ويقول إن أحداً لم يأخذ رأيه وإنه خلق قهراً وحكم عليه بالعذاب جبراً وقضي عليه بالإهانة أمام الناس بدون مبرر معقول وبدون اختيار منه منذ البداية .
وسوف ينسى هذا الممثل أنه كان هناك اتفاق قبل بدء الرواية .. وكان هناك تكليف من المخرج ثم قبول للتكليف من جانب الممثل .. ثم عهد وميثاق على تنفيذ المطلوب .. كل هذا تم في حرية قبل أن يبدأ العرض .. وارتضى الممثل دوره اختياراً .. بل إنه أحب دوره وسعى إليه .
ولكن الممثل قد نسي تماماً هذه الحقبة الزمنية قبل الوقوف على خشبة المسرح .. ومن هنا تحولت حياته بما فيها من تكاليف وآلام إلى علامة استفهام ولغز غير مفهوم .
وهذا شأن الإنسان الذي تصور أن كل حياته هي وجوده بالجسد في هذه اللحظات الدنيوية وأنه هالك ومصيره التراب . وأنه ليس له وجود غير هذا الوجود الثلاثي الأبعاد على خشبة الحياة الدنيا .
نسي هذا الإنسان أنه كان روحاً في الملكوت وأنه جاء على الدنيا بتكليف وأنه قبل هذا التكليف وارتضاه .. وأنه كانت بينه وبين خالقه ( المخرج الأعظم لدراما الوجود ) عهود ومواثيق .. وأنه بعد دراما الوجود الدنيوي يكون البعث والحساب كما أنه بعد المسرحية يكون النقد من النقاد والنجاح والفشل من الجمهور والسقوط في عين النظارة أو الارتفاع في نظرهم .
إنه النسيان والغفلة .
والنظرة الضيقة المحدودة التي تتصور أن الدنيا كل شيء .. هي التي تؤدي إلى ضلال الفكر .. و هي التي تؤدي إلى الحيرة أمام العذاب والشر والألم ...
ومن هنا جاءت تسمية القرآن بأنه .. ذكر .. وتذكير .. وتذكرة .. ليتذكر أولو الألباب .
والنبي هو مذكر .
(( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ , لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ))
( الغاشية 21 – 22 )
الدنيا كلها ليست كل القصة .
إنها فصل في الرواية .. كان لها بدء قبل الميلاد وسيكون لها استمرار بعد الموت .
وفي داخل هذه الرؤية الشاملة يصبح للعذاب معنى ...
يصبح عذاب الدنيا رحمة من الرحيم الذي ينبهنا به حتى لا نغفل ..
إنه محاولة إيقاظ لتتوتر الحواس ويتساءل العقل .. وهو تذكير دائم بأن الدنيا لن تكون ولا يمكن أن تكون جنة .. وإنها مجرد مرحلة ..
وأن الإخلاد إلى ذاتها يؤدي بصاحبه إلى غفلة مهلكة .
إنه العقاب الذي ظاهره العذاب وباطنه الرحمة .
وأما عذاب الآخرة فهو الصحو على الحقيقة وعلى العدل المطلق الذي لا تفوته ذرة الخير ولا ذرة الشر .. وهو اليقين بنظام المنظم الذي أبدع كل شيء صنعًا .
(( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ))
واليقين هنا هو الموت وما وراءه .
~
مقال : لماذا العذاب
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ و الصلاة لا يكفي فيها خشوع النفس و إنما لا بد أن يعبر الجسد عن الخشوع هو الآخر و في ذات الوقت بالركوع و السجود .. و الصلاة الإسلامية هي رمز لهذه الوحدة التي لا تتجزأ بين الروح و الجسد ..الروح تخشع و اللسان يسبح و الجسد يركع . ❝
❞ يقول لنا المفكر الهندي وحيد الدين خان إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل .. ولأنه لا عدل في الدنيا .. فهو دليل على وجود الآخرة مستقر العدل الحقيقي . ❝
❞ ˝لأن العالم الذي نعيش فيه يفصح عن النظام والانضباط من أصغر ذرّة إلى أكبر فلك... والعبث غير موجود إلا في عقولنا وأحكامنا المنحرفة..˝ . ❝