❞ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
قوله تعالى : قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين فيه سبع مسائل الأولى : قوله تعالى : نستبق نفتعل ، من ، المسابقة . وقيل : أي ننتضل ; وكذا في قراءة عبد الله " إنا ذهبنا ننتضل " وهو نوع من المسابقة ; قاله الزجاج . وقال الأزهري : النضال في السهام ، والرهان في الخيل ، والمسابقة تجمعهما . قال القشيري أبو نصر : نستبق أي في الرمي ، أو على الفرس ; أو على الأقدام ; والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو ، لأنه الآلة في قتال العدو ، ودفع الذئب عن الأغنام . وقال السدي وابن حبان : نستبق نشتد جريا لنرى أينا أسبق . قال ابن العربي : المسابقة شرعة في الشريعة ، وخصلة بديعة ، وعون على الحرب ; وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبخيله ، وسابق عائشة - رضي الله عنها - على قدميه فسبقها ; فلما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابقها فسبقته ; فقال لها : هذه بتلك .
قلت : وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة ; خرجه مسلم .
الثانية : وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها ; وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط ; فلا تجوز المسابقة بدونها ، وهي : أن المسافة لا بد أن تكون معلومة . الثاني : أن تكون الخيل متساوية الأحوال . الثالث : ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة . والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها ، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن .
الثالثة : وأما المسابقة بالنصال والإبل ; فروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل ، وذكر الحديث . وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة ، ذكره النسائي ; وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق . وروى البخاري عن أنس قال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد : أو لا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه ; فقال : حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه .
الرابعة : أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف ، والحافر والنصل ; قال الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار . وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل " أو جناح " وهي لفظة وضعها للرشيد ، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته ; فلا يكتب العلماء حديثه بحال . وقد روي عن مالك أنه قال : لا سبق إلا في الخيل والرمي ، لأنه قوة على أهل الحرب ; قال : وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي . وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل . وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل ; لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها . وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة ; وقد تؤول قوله ; لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى إجازة القمار ، وهو محرم باتفاق .
الخامسة : لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم ، كما ذكرنا ، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم ، ونوع من الإصابة ; مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط . والأسباق ثلاثة : سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما ; فمن سبق أخذه . وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه ، فإن سبقه صاحبه أخذه ، وإن سبق هو صاحبه أخذه ، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له ، ولا يرجع إلى ماله ; وهذا مما لا خلاف فيه . والسبق الثالث : اختلف فيه ; وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه ، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه ; وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما ; فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده ، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه ; ولا شيء للمحلل فيه ، ولا شيء عليه . وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما . وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه ; وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أو له . واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار ، ولا يجوز . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال : ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل ، فإن سبق أخذ السبق ، وإن سبق لم يكن عليه شيء ; وبهذا قال الشافعي وجمهور أهل العلم . واختلف في ذلك قول مالك ; فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل ، ولا نأخذ فيه بقول سعيد ، ثم قال : لا يجوز إلا بالمحلل ; وهو الأجود من قوله .
السادسة : ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم ، ولو ركبها أربابها كان أولى ; وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها . وقال الشافعي : وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه ; أو بالكفل أو بعضه . والسبق من الرماة على هذا النحو عنده ; وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي .
السابعة : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سابق أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر وثلث عمر ; ومعنى وصلى أبو بكر : يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصلوان موضع العجز .
قوله تعالى : وتركنا يوسف عند متاعنا أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها .
فأكله الذئب وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول : وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به ; لأنه كان أظهر المخاوف عليه .
وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق .
" ولو كنا " أي وإن كنا ; قاله المبرد وابن إسحاق . " صادقين " في قولنا ; ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي بيانه . وقيل : ولو كنا صادقين أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا ، ولاتهمتنا في هذه القضية ، لشدة محبتك في يوسف ; قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما .. ❝ ⏤محمد رشيد رضا
❞ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
قوله تعالى : قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين فيه سبع مسائل الأولى : قوله تعالى : نستبق نفتعل ، من ، المسابقة . وقيل : أي ننتضل ; وكذا في قراءة عبد الله ˝ إنا ذهبنا ننتضل ˝ وهو نوع من المسابقة ; قاله الزجاج . وقال الأزهري : النضال في السهام ، والرهان في الخيل ، والمسابقة تجمعهما . قال القشيري أبو نصر : نستبق أي في الرمي ، أو على الفرس ; أو على الأقدام ; والغرض من المسابقة على الأقدام تدريب النفس على العدو ، لأنه الآلة في قتال العدو ، ودفع الذئب عن الأغنام . وقال السدي وابن حبان : نستبق نشتد جريا لنرى أينا أسبق . قال ابن العربي : المسابقة شرعة في الشريعة ، وخصلة بديعة ، وعون على الحرب ; وقد فعلها - صلى الله عليه وسلم - بنفسه وبخيله ، وسابق عائشة - رضي الله عنها - على قدميه فسبقها ; فلما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابقها فسبقته ; فقال لها : هذه بتلك .
قلت : وسابق سلمة بن الأكوع رجلا لما رجعوا من ذي قرد إلى المدينة فسبقه سلمة ; خرجه مسلم .
الثانية : وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق ، وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها ; وهذا الحديث مع صحته في هذا الباب تضمن ثلاثة شروط ; فلا تجوز المسابقة بدونها ، وهي : أن المسافة لا بد أن تكون معلومة . الثاني : أن تكون الخيل متساوية الأحوال . الثالث : ألا يسابق المضمر مع غير المضمر في أمد واحد وغاية واحدة . والخيل التي يجب أن تضمر ويسابق عليها ، وتقام هذه السنة فيها هي الخيل المعدة لجهاد العدو لا لقتال المسلمين في الفتن .
الثالثة : وأما المسابقة بالنصال والإبل ; فروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل ، وذكر الحديث . وخرج النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر . وثبت ذكر النصل من حديث ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة ، ذكره النسائي ; وبه يقول فقهاء الحجاز والعراق . وروى البخاري عن أنس قال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى العضباء لا تسبق - قال حميد : أو لا تكاد تسبق - فجاء أعرابي على قعود فسبقها ، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه ; فقال : حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه .
الرابعة : أجمع المسلمون على أن السبق لا يجوز على وجه الرهان إلا في الخف ، والحافر والنصل ; قال الشافعي : ما عدا هذه الثلاثة فالسبق فيها قمار . وقد زاد أبو البختري القاضي في حديث الخف والحافر والنصل ˝ أو جناح ˝ وهي لفظة وضعها للرشيد ، فترك العلماء حديثه لذلك ولغيره من موضوعاته ; فلا يكتب العلماء حديثه بحال . وقد روي عن مالك أنه قال : لا سبق إلا في الخيل والرمي ، لأنه قوة على أهل الحرب ; قال : وسبق الخيل أحب إلينا من سبق الرمي . وظاهر الحديث يسوي بين السبق على النجب والسبق على الخيل . وقد منع بعض العلماء الرهان في كل شيء إلا في الخيل ; لأنها التي كانت عادة العرب المراهنة عليها . وروي عن عطاء أن المراهنة في كل شيء جائزة ; وقد تؤول قوله ; لأن حمله على العموم في كل شيء يؤدي إلى إجازة القمار ، وهو محرم باتفاق .
الخامسة : لا يجوز السبق في الخيل والإبل إلا في غاية معلومة وأمد معلوم ، كما ذكرنا ، وكذلك الرمي لا يجوز السبق فيه إلا بغاية معلومة ورشق معلوم ، ونوع من الإصابة ; مشترط خسقا أو إصابة بغير شرط . والأسباق ثلاثة : سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعل للسابق شيئا معلوما ; فمن سبق أخذه . وسبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه ، فإن سبقه صاحبه أخذه ، وإن سبق هو صاحبه أخذه ، وحسن أن يمضيه في الوجه الذي أخرجه له ، ولا يرجع إلى ماله ; وهذا مما لا خلاف فيه . والسبق الثالث : اختلف فيه ; وهو أن يخرج كل واحد منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه ، فأيهما سبق أحرز سبقه وسبق صاحبه ; وهذا الوجه لا يجوز حتى يدخلا بينهما محللا لا يأمنا أن يسبقهما ; فإن سبق المحلل أحرز السبقين جميعا وأخذهما وحده ، وإن سبق أحد المتسابقين أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه ; ولا شيء للمحلل فيه ، ولا شيء عليه . وإن سبق الثاني منهما الثالث كان كمن لم يسبق واحد منهما . وقال أبو علي بن خيران - من أصحاب الشافعي - : وحكم الفرس المحلل أن يكون مجهولا جريه ; وسمي محللا لأنه يحلل السبق للمتسابقين أو له . واتفق العلماء على أنه إن لم يكن بينهما محلل واشترط كل واحد من المتسابقين أنه إن سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه أنه قمار ، ولا يجوز . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخله وهو يأمن أن يسبق فهو قمار . وفي الموطأ عن سعيد بن المسيب قال : ليس برهان الخيل بأس إذا دخل فيها محلل ، فإن سبق أخذ السبق ، وإن سبق لم يكن عليه شيء ; وبهذا قال الشافعي وجمهور أهل العلم . واختلف في ذلك قول مالك ; فقال مرة لا يجب المحلل في الخيل ، ولا نأخذ فيه بقول سعيد ، ثم قال : لا يجوز إلا بالمحلل ; وهو الأجود من قوله .
السادسة : ولا يحمل على الخيل والإبل في المسابقة إلا محتلم ، ولو ركبها أربابها كان أولى ; وقد روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لا يركب الخيل في السباق إلا أربابها . وقال الشافعي : وأقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه ; أو بالكفل أو بعضه . والسبق من الرماة على هذا النحو عنده ; وقول محمد بن الحسن في هذا الباب نحو قول الشافعي .
السابعة : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سابق أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - فسبق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصلى أبو بكر وثلث عمر ; ومعنى وصلى أبو بكر : يعني أن رأس فرسه كان عند صلا فرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصلوان موضع العجز .
قوله تعالى : وتركنا يوسف عند متاعنا أي عند ثيابنا وأقمشتنا حارسا لها .
فأكله الذئب وذلك أنهم لما سمعوا أباهم يقول : وأخاف أن يأكله الذئب أخذوا ذلك من فيه فتحرموا به ; لأنه كان أظهر المخاوف عليه .
وما أنت بمؤمن لنا أي بمصدق .
˝ ولو كنا ˝ أي وإن كنا ; قاله المبرد وابن إسحاق . ˝ صادقين ˝ في قولنا ; ولم يصدقهم يعقوب لما ظهر له منهم من قوة التهمة وكثرة الأدلة على خلاف ما قالوه على ما يأتي بيانه . وقيل : ولو كنا صادقين أي ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدقتنا ، ولاتهمتنا في هذه القضية ، لشدة محبتك في يوسف ; قال معناه الطبري والزجاج وغيرهما. ❝
❞ هدية إلى الأحباب
في تفسير أم الكتاب
ويليه
متن طالب التفسير
تأليف
أبي الحسن هشام
المحجوبي وأبي مريم
عبدالكريم صكاري
طبعة منقحة ومخرجة الأحاديث
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين\" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ\" \"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا\" \"يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)\"
وبعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أجارنا الله جميعا من النار.
إن الله تعالى خلق الجن والإنس وأمرهم بعبادته فقال عزَّ من قائل \" وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)\" وبين سبحانه وتعالى كيفية عبادته في الكتب التي أنزل على أنبيائه وآخرها وأفضلها وناسخها القرآن الكريم قال تعالى: \" وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ \" ولايمكن أن يصل الإنسان إلى العبادة الصحيحة التي ترضي الله تعالى إلا من طريق علم التفسير الذي هو: علم يبحث في الكشف عن معاني القرآن على مراد الله وبمنهاج رسول الله وأصحابه، لذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون عشرة آيات من القرآن فلا يتعدونها حتى يعلموا معناه ويعملوا بما فيها، عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، \"
فعلم التفسير يوصل إلى الفهم الصحيح للقرآن والفهم الصحيح يوصل إلى العمل الصحيح والعمل الصحيح يوصل إلى رضوان الله ورضوان الله يوصل إلى الجنة، لذا يعد علم التفسير سيد العلوم وأشرفها وسبيل النجاة من الضلالات والانحرافات والخرافات.
وجميع العلوم الشرعية خادمة له فلا يمكن أن يفسر عالم القرآن حتى يكون ملما باللغة العربية التي هي لغة القرآن وعلم العقيدة وعلم أصول الفقه والفقه وعلم مصطلح الحديث وعلم السير والمغازي، ومن بركات هذا العلم الكريم أن فاهم القرآن يتخشع في صلاته ويتدبر معانيه ويتلذذ بقراءته ما يدفعه إلى حفظ القرآن والإكثار من قراءته والتهجد والتنفل به قال تعالى: \" قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ\" وقال أبو جعفر ابن جرير الطبري: \" إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته \" .
وقد ورد في فضل طالب العلم الجليل أن رحمة الله تغشاه وتنزل عليه الملائكة والسكينة ويذكره الله في الملإ الأعلى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
و أفضل سور القرآن الفاتحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: \" هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ \" وعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: \" أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] «هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»
و سميت بالفاتحة لأن المصحف يفتح بها وتفتح بها الصلاة، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
ومن أسمائها: أم الكتاب وأم القرآن، قَال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» أي المشتملة على أصول معاني القرآن اللذان هما توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل الأول مضمن من أولها إلى قوله تعالى: \" إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ \" والأصل الثاني مضمن من قوله تعالى \" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ\" إلى آخرها ـ ومن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم أي آياتها السبع التي استثنيت بها أمة النبي صلى الله عليه وسلم بالتفضيل على باقي الأمم قال تعالى: \" وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ\" و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ» و من أسمائها الراقية لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي بها من الأمراض فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَابِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا »فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا\" ومن أسمائها الشافية أي يشفي الله بها عباده من الأمراض المعنوية كالضلال والأمراض الحسية، قال صلى الله عليه وسلم: \" فاتحة الكتاب شفاء من كل سم \"ومن أسمائها الحمد لأنها تبتدئ به قال تعالى: \"الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ \"
و من أسمائها الصلاة أي روحها الصلاة وقيل لا تصح الصلاة إلا بها فعن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: \" قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي – وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي – فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ \"
وقد سماها بعض العلماء بالكنز والأساس والكافية والواقية وغير ذلك.
فهي سورة مكية أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وقيل مدنية وقيل نزل نصفها في مكة ونصفها في المدينة، وقيل نزلت مرتين في مكة وفي المدينة، والصحيح المشهور بين المفسرين القول الأول.
ولأن المؤمن يقرأ هذه السورة على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم في صلواته المفروضة، أقبلنا على تفسير هذه السورة العظيمة بأسلوب ميسر ومفصل وجامع لأجود ما ذكره سادتنا المفسرون في تفاسيرهم راجين من الله تعالى القبول والثواب وأن يجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومع خدمة كتابه الكريم في جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تفسير الاستعاذة:
اتَّفق المفسِّرون أن(الاستعاذة)ليست من القرآن، وأشهر صِيغها الواردة في السُّنة: \"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم\"، \"أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم\"، وزِيد عليهما في بعض الروايات \"من همزه ونفثه ونفخه\" ، وقد اشتق البعض من القرآن: \"أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ\" و \"أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ \" و\"أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ \"و \"أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ\"
ويَجوز فيها السر والجهر على المشهور، وقد اختلف العلماء في موضع قراءتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها قبل القراءة؛ لأن العِلة منها طرد وساوس الشيطان عند القراءة، وقدَّروا فِعل: فإذا أردت أن تقرأ القرآن، \"فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ\".
القول الثاني: يُحكى عن أبي هريرة وبعض العلماء أنها تكون بعد القراءة لطرد عُجب النفس والسُّمعة وعمَلاً بظاهر الآية: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ النحل: 98.
القول الثالث: ذهب بعض المفسِّرين إلى مشروعيتها قبل القراءة وبعدها عملاً بالوجهين، والمشهور القول الأول، وقد اختلفوا في حُكمها، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى وجوبها؛ لأن الأمر يفيد الوجوب ما لم تصرفه القرينة، والصحيح - والله تعالى أعلم - أن الأمر مصروف إلى الاستحباب لقرينة أنه صلى الله عليه وسلم استدل ببعض الآيات من غير أن يستعيذ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ أي: ألتجئ وأعتصم وأتحَصَّن بالله من أذى الشيطان الرجيم، و\"أعوذ\" فعل مضارع يُفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع،
والمعنى كأن الله تعالى يأمرنا بالمداومة على الاستعاذة؛ لأن الشيطان عَدُوٌّ مبين لا يَملُّ ولا يَكلُّ مِن سعْيه لإضلال الإنسان؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168، وقال على لسانه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ الأعراف: 16، 17، وفي الحديث: ((إن الشيطان يبعث في الصباح سراياه فيقول من يُضلُّ اليوم مُسلمًا أُلبسه التاجَ))
وقد بُدئ الفعل المضارع بهمزة المضارعة لفائدتين - والله تعالى أعلم:
الفائدة الأولى: استدعاء حضور القلب عند القراءة؛ لأن الهمزة تُفيد الحضور.
الفائدة الثانية: استِشعار التواضع والتبرُّؤ من الكِبْر الذي أضل الشيطان، لأن الهمزة تُفيد الإفراد، ولو كانت بدَلها النون لأفادت الإحساس بالتعظيم.
الله: أصل الأسماء الحسنى وأعظمها، وهو المعبود الذي يتقرَّب إليه العباد بشتى الطاعات حبًّا وتعظيمًا، مشتق من ألَه يأْله إلهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة؛ ففي قراءة ابن عباس: ﴿ وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ ﴾، وقيل: الذي حيَّر العقول، مشتقٌّ من الولَه؛ أي: الحيرة وهو بعيد، وقيل: غير مشتق، والصحيح المشهور: القول الأول.
وأما الشيطان فهو الجِنِّي أو الإنسيُّ الكافر المُحارِب للإسلام، مشتقٌّ من شَطَن أي: بعُد عن رحمة الله، وقيل: الشِّياط، والمقصود في هذا السياق شيطان الجنِّ.
الرجيم: وصف له، وهو مفعول في معناه على وزن فعيل، قيل: سُمِّي بالرجيم لأنه أتى إبراهيم عليه السلام وهاجر وإسماعيل في منى، فاستعطف إبراهيمَ حتى لا يذبح ولده، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه، ثم استعطف هاجر على ولدها فقالت: أعوذ بالله منك فرجمته، ثم استعطف إسماعيل عليه السلام على نفسه، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه\"، فصار الرجم من مناسك الحج إلى يوم القيامة،
وقيل: سُمِّي بالرجيم؛ لأنه يسترق السمع في السماء فترجُمُه الملائكة؛ قال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 18]، وقيل: وُصف بذلك لأن أتباعه يرجمونه في النار.
السميع: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه الذي لا يَخفى عليه صوت مهما خَفُت، وينقسم إلى سمع عام وهو الذي عرفناه، وسمع خاص ومعناه: الذي يستجيب دعاء عباده.
وأما العليم: فهو من أسماء الله الحسنى، ومن أسمائه أيضًا: العالم والعلّام والأعلم والخبير، ومعناه: صاحب العلم الواسع المطلق؛ بحيث لا يَخفى عليه شيء.
وأما الهمز والنفث والنفخ، فالهمز: جنس من الجنون يُقال له: الموتة، والنفث: الشِّعر القبيح، والنفْخ: الكِبر، فعن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمرو: لا أدرى أي صلاة هي، فقال: ((الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) ثلاثًا، ((أعوذ بالله من الشيطان من نفخه، ونفثه، وهمزه)) ، قال: نفثه: الشِّعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة.
تفسير البسملة
فالبسملة اختصار لـ \"بسم الله الرحمن الرحيم\" كالحمدلة والصلصلة والحوقلة، جاء في فضلها حديث موقوف حُكمه الرفع، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: \"مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيجعل اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا جُنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ \" .
ومعناها الإجمالي: طلب العون والبركة من الله وأسمائه الحسنى صاحِبِ الرحمة الشاملة والخاصة قبل الشروع في القول أو الفعل.
فالباء للاستعانة والتبرُّك، و\"اسم\" مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، ومعناه اللفظ الذي وُضع للشيء لِرِفعة شأنه وتمييزه عن غيره، مشتق من السُّموِّ، وقيل: من السِّمة، والمعنى هنا: أستعين وأتبرك بجميع أسماء الله الحسنى؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]؛ أي: جميع نعم الله؛ لأن ﴿ نِعْمَةَ ﴾ مفرد مضاف إلى اسم الجلالة.
الله: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وهو أعظم اسم من أسماء الله الحسنى؛ لذلك جاء مُبَيَّنًا بعد العموم؛ لأن الخاص بعد العام يفيد الأهمية والشرف، ومعناه المعبود الذي يَتقرب إليه العباد حبًّا وتعظيمًا بشتى الطاعات، مشتق من ألَه يأْله إلاهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة، قال سبحانه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ [الحشر: 22]، وقد استنبط المحققون من أهل العلم من هذا الاسم العظيم أن المخلوقات في الأصل لا أول لها؛ لأنه سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء في ذاته وأسمائه وصفاته، ويلزم من هذا الاسم وجود العباد له، فالمخلوقات في جنسها وأفرادها لها أوَّل كما لها آخر، أما في أصل الخَلق فلا أول له؛ لأن من أسمائه اللهَ والخالق والرب وغيرها، والله تعالى أعلم.
الرحمن الرحيم: اسمان عظيمان من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، وهما بدل من الله تابعان له في جره، وقيل: نعت.
الرحمن: على وزن فعلان، وهذا الوزن يفيد السَّعَة والامتلاء؛ أي: صاحب الرحمة الشاملة التي تشمل جميع الخَلق، فلولاها لما رُزق الكافر قطرة ماء، قال سبحانه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فعرشه سبحانه يتوسط الكون ويعلوه، وهو سبحانه وتعالى فوق عرشه يُغدق رحمته على جميع خلقه.
الرحيم: على وزن فعيل؛ أي: صاحب الرحمة الخاصة بالمؤمنين، فبها وُفِّقوا إلى طاعته وأُدخِلوا الجنة، قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فالجزء الأول يرجع إلى اسم الرحمن، والتسعة والتسعون جزءًا يرجعون إلى اسم الرحيم.
وقيل: الرحمن الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم إذا لم يُسأل يغضب، وهما مشتقان من الرحم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: \"قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وصلها وصلته ومن قطعها بتته\" .
والجار والمجرور متعلق بفعل تقديره: \"أبدأ\"، ويجوز أن يُقدَّر اسمًا \"ابتدائي\" على أنه مبتدأ، والمشهور أن يُقدَّر فعلاً لبلاغته، ويجوز أن يُقدَّر خاصًّا: أقرأ أو أتلو، والأفضل - والله أعلم - أن يُقدر عامًّا \"أبدأ\"؛ لأنه يشمل جميع العبادات والأفعال، فمثلاً تلاوة القرآن فيها القراءة والتدبر والنظر إلى المصحف.
والأصل أن يُقدَّر في أول الكلمة: \"أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم\"، لكن الأفضل أن يُقدر في آخرها: \"بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ\"؛ لأن تأخير ما حقُّه التقديم يفيد الحصر والقصر والاختصاص، فيكون المعنى: أي لا أطلب العون والبركة إلا من الله، وفي هذا إدخال للتوحيد في البسملة، الذي هو إفراد الله بالعبادة.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى استحبابها قبل الأقوال والأفعال؛ فبِها بدأ الله كلامه، وكان يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أكله وشربه وجِماعه ودخوله إلى الخلاء ودخوله إلى البيت وخروجه منه، وغير ذلك.
واتفق العلماء أنها جزء آية من سورة النمل: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 29، 30]، وأنها ليست في أول سورة التوبة التي فُضح فيها المنافقون ووُعدوا فيها بأشد العذاب، فلا يليق أن تُبدأ برحمة الله،
واختلفوا هل هي جزء آية من أول كل سورة، أو آية، أو ليست بآية أصلاً، أو آية من سورة الفاتحة؟ والصحيح - والله تعالى أعلم - الذي ترجح لنا أنها آية منفردة في المصحف ليست من السور، أُنزلت للفصل بينها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الفصل ما بين السورة والسورة، حتى ينزل عليه جبريل بـ\"بسم الله الرحمن الرحيم\".
ويجوز الإسرار بها والجهر في الصلاة وغيرها؛ جمعًا بين الروايات.
وقد بيَّن القُرَّاء أوجه قراءتها، فأباحوا جميع الأوجه، ومنعوا واحدًا:
الأوجه الجائزة:
أولاً: الفصل بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثانيًا: الجمع بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثالثًا: الفصل بينها وبين آخر السورة وجمعها بأول السورة التي تليها.
رابعًا: حذفها بالكلية.
أما الوجه الممنوع؛ فهو جمعها بآخر السورة وفصلها عن أول السورة التي تليها؛ مخافة أن يُظنَّ أنها من آخر السورة، وفيه تعطيل لمعناها المتعلق بالبدء لا بالانتهاء.
فهذا تفسير البسملة الذي ينبغي لكل طالب علم أن يَعْلَمه ويُتقنه؛ لوجودها في أول كلام الله وأوائل المتون والكتب العلمية، ولكل مسلم؛ حتى يحضر قلبه ويخشى ربه ويتذوق حلاوة البَدء بها.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)}:
إعراب الآية:
الحمد: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
لله: ل: حرف جر، الله: اسم جلالة مجرور اختياري وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وشبه جملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مبتدأ.
رب: بدل من الله تابع له في جره وقيل نعت تابع له في جره وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
وجه المناسبة بين البسملة وهذه الآية والله تعالى أعلم أن الله تعالى يعد قارئ القرآن ومفسره والعامل به بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة
و المعنى الإجمالي للآية أي جميع الثناء والشكر والمدح مستحق لله تعالى خالق ومالك ومدبر جميع شؤون خلقه \"فالحمد\" هو الثناء على شيء بحب وتقدير وهو قريب من الشكر والمدح، فالفرق بينه وبين الشكر من وجهين.
فالحمد أعم من الشكر من جهة السبب فهو يكون مقابل الإحسان وفي غيره، نقول: \" فلان يحمد على حسن خلقته \" كما يقال: \" يحمد على حسن ضيافته \" فأما الشكر فلا يكون إلا مقابل الإحسان فهو أعم من الحمد من جهة الآلة فهو يكون باللسان والجوارح وأما الحمد فيكون باللسان قال تعالى: \"اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ \"سورة سبأ – الآية: 12، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا»
و أما الفرق بين الحمد والمدح:
-فالحمد يكون بحب وأما المدح فيكون بحب وبغير حب.
- والحمد يكون للعاقل والمدح يكون للعاقل وغير العاقل نقول مدح شاعر الحمراء مراكش،
- والحمد يكون موجزا وأما المدح فيكون في الأغلب أوسع من الحمد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحمد أفضل ذكر بعد القرآن الكريم لأن الله تعالى بدأ به كتابه الكريم وأثنى به على نفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ به خطبه، إذ ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ به خطبه فيقول:
«إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» و هو ذكر أهل الجنة يلهمونه كما يلهمون النفس فهو في الدنيا تكليف وفي الآخرة تشريف، قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) \". سورة يونس الآيات: 9- 10
و هو ذكر الحافين بالعرش قال تعالى: \"وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ \" سورة الزمر - الآية: 75
و لازِمه جميع معاني الأذكار فما استَحق الثناءَ سبحانه وتعالى إلا وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له المنزه عن النقص والرذائل الأكبر من كل شيء، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: \" أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ \" : فيحمل على من أفضل، ومثال ذلك عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: \" أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" الْإِيمَانُ \"، قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: \" تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" الْهِجْرَةُ \"، قَالَ: فَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: \" تَهْجُرُ السُّوءَ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" الْجِهَادُ \"، قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: \" أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إِذَا لَقِيتَهُمْ \"، قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: \" مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ \"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ \"
\" رَبِّ الْعَالَمِينَ \"
\"رَبِّ \": الرب لغة: السيد أو المالك نقول رب الأسرة، وقال سيدنا يوسف على العزيز \" إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ \"سورة يوسف – الآية: 23
و شرعا: هو الخالق المالك المدبر، من أسماء الله الحسنى المتضمنة لصفات أصلية لازمها باقي صفات الكمال فهو سبحانه ما كان خالقا ومالكا ومدبرا حتى كان عليما خبيرا غنيا حكيما رزاقا.
\"الْعَالَمِينَ\": جمع عالم قيل هو كل جنس مخلوق عاقل كعالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن، وقيل كل جنس مخلوق فيه روح، وقيل كل جنس مخلوق على الإطلاق وهو الصحيح المشهور.
فهذه الآية الكريمة اشتملت على أصل الإسلام العظيم الذي هو التوحيد فتوحيد الألوهية مضمن في قوله تعالى \": الحمد لله \" وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مضمن في قوله تعالى: \"رَبِّ الْعَالَمِينَ \"، وهنا لنا وقفة لبيان التوحيد.
إنّ توحيد الله لا يتحقق إلا إذا قام على التصديق بأن الله هو الربّ والإله الذي لا شريك له ولا مثيل.
لقد أكد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حقيقة التوحيد في صيغ متعددة. فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1- 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾سورة البقرة – الآية: 163، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ المائدة - الآية: 73
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: \"لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: \"إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيه أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى...\"
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: \"بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ \"
إنه ولِما لتوحيد الله من أهمية بالغة فقد حرص علماء الإسلام على تبيان الأصول التي يقوم عليها وما يقتضيه الإيمان بكل واحد منها.
توحيد الله وأصوله: يقوم توحيد الله تعالى على ثلاثة أصول هي:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله وصفاته.
هذه الأصول هي حسبما اهتدى إليه العلماء متضمَّنة في الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، فتوحيد الربوبية متضمَّن في شق الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، أما توحيد الألوهية فمتضمَّن في: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾، وأما توحيد أسماء الله وصفاته فمُتضمن في: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ أي هل تعلم له شبيها ومثيلا في أسمائه وصفاته.
1- توحيد الربوبية:
يعني توحيد الله في الربوبية إفراده سبحانه بالخلق والملك والتدبير، أي الاعتقاد الجازم بأن لا خالق ولا مالك ولا مُدبر في الكون إلا اللهُ سبحانه وتعالى.
لقد نص القرآن الكريم على ربوبية الله فذَكر تفرده سبحانه بالخلق على غيره، قال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾سورة فاطر- الآية: 3، كما أفرد الله نفسه بالملك فقال: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، أما الدليل على إفراد الله ذاته بالتدبير فنجده في قوله تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾سورة الأعراف – الآية: 54، والمراد بالأمر هنا التدبير.
2- توحيد الألوهية:
يعني توحيد الألوهية إفرادَ العبد ربَّه بالعبادة. والعبادة كما عرَّفها ابن تيمية هي: \"اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة\" ، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 3
إن الإنسان لا يصير مُوحِّدًا حتى تكون عبادته كلها موجهة لله دون غيره، بحيث لا يدعو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به ولا يحب شيئا مثل حبه ولا يخاف من شيء مثل خوفه ولا يرضى بالتحاكم بغير شرعه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، فتوحيد الألوهية هو حقّ الله على العباد، لأنه خلقهم ورزقهم فاستحق بذلك عبادتهم، وقد وعد سبحانه وتعالى من أفرده بالعبادة بالجنة والنجاة من النار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: \" يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فقال - صلى الله عليه وسلم -: \"يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ \"، فقال معاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: \"يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ\"
لقد كان غالبية المشركين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وهو ما أكده القرآن في حديثه عنهم، حيث قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 88]، لكنهم كانوا يرفضون الإقرار بتوحيد الألوهية فمنعهم ذلك من الدخول في الإسلام، لأن الدخول فيه لا يتم إلا إذا رافق توحيد الربوبية توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله تعالى وصفاته:
يعني توحيدُ أسماء الله تعالى وصفاتِه، إفرادَ الله تعالى بأسمائه التي سمّى بها نفسه وصفاته التي وصف بها ذاته في كتابه والتي أخبر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الأصل في التوحيد لَيُبيّن للعبد سبيل التعرف على ربه والتأدب معه في الحدود التي ارتضاها سبحانه لمقامه. ويقتضي الإيمان به مراعاة القواعد التسع التالية:
أولها: لا تُستمد أسماء الله تعالى وصفاته إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنها غيب والغيب لا يُعلم إلاَّ من الوحي. قال الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ النجم: 1، 4.
ثانيها: التسليم بأن جميع أسماء الله تعالى حسنى في منتهى الحسن، وبأن صفاته كاملة في منتهى الكمال. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 181]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الله جميل يحب الجمال \"
ثالثها: يجب إثبات أسماء الله تعالى وصفاته كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله دون تحريف ولا تشبيه ولا نفي مع تفويض كيفيتها إلى الله. إن تفسير غنى الله سبحانه وتعالى في الآية: ﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 41]، بالقدرة هو تأويل لا يجوز، أما القول بأن غناه - سبحانه وتعالى - مثل غنى أغنى الناس، فهو تشبيه لا يجوز، وأما الزعم بأن الله غني من غير غنى فهو نفي وتعطيل لا يجوز.
إن هذه التأويل يعارض قول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ففي قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ نفي الشبيه عن الله، وفي قوله: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته.
إن الفهم الصحيح للآية: ﴿ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾سورة التغابن – الآية: 6، يقتضى التسليمَ بأن الله غني غنى مطلقًا ليس كغنى خلقه الذي يتسم بالمحدودية والحاجة له - سبحانه.
رابعها: لا يجوز اشتقاق أسماء الله تعالى من صفاته، بينما يجوز اشتقاق صفاته تعالى من أسمائه. قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾سورة طه – الآية: 5، لا يجوز لنا هنا أن نشتق من صفة \"الاستواء\" اسم \"المستوي\". أما في قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾، فيجوز لنا إضفاء صفة الغنى على الله؛ لأنها جاءت متضمّنة في اسم الغني ولأن أسماءه سبحانه وتعالى أتت دالة على كماله.
خامسها: لا يجوز حصر أسماء الله عز وجل في تسعةٍ وتسعين اسمًا لوجود دليل من السنة نَصَّ على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله تعالى بعلمها وحده دون غيره.
لقد دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القول في دعائه: \"أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ...\"
إن هذا الدعاء ليشير إلى وجود أسماء استأثر الله بعلمها وحده، ولهذا يُحمل الحديث النبوي: \"لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة\"
على أن عدد هذه الأسماء جاء على سبيل الذكر لا الحصر.
سادسها: إن للهِ تعالى صفات ذاتية وأخرى فعلية. أما صفات الله الذاتية فهي الصفات اللازمة لذاته كصفة البركة والحياة والعلم واليد والوجه.
وأما صفات الله الفعلية فهي صفات تابعة لمشيئته كصفة الاستواء على العرش وصفة الرضى وصفة الغضب، فهو يفعلها متى شاء ويدعها متى شاء.
سابعها: لا يجوز أن يُفرَد الله تعالى بصفات كالمكر والاستهزاء والخداع لما فيها من تنقيص منه سبحانه بل يعمد إلى مقابلتها بأفعال المخلوقين. إنها لا تطلق على الله إلا فيما سيقت فيه من الآيات كقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. سورة آل عمران – الآية: 54، وقوله: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 14، 15]، وقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142].
ثامنها: لا يجوز التفصيل في الصفات التي نفاها الله عن ذاته لما يحمله ذلك من قلة أدب في حق الله عز وجل، ويُسمى كل ما نفاه الله عن ذاته صفاتًا سلبية لما فيها من نقص كنفي الولد والنوم؛ قال تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾، وقال - سبحانه -: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾، فمثلاً إذا قال إنسان لملِك أنت لست فقيرًا ولا ضعيفًا ولا ذليلًا ولو كنت كذلك لما صرت ملكًا، فلا شك أن مثل هذه الأوصاف لا تُلاقى بالتَّرحاب.
تاسعها: إذا أطلقنا على الله اسم \"الصانع\" و\"المقصود\"، فإن ذلك يعد حقًّا في ذاته - سبحانه - لأنه في حقيقة الأمر صانع للكون، ومقصود بالعبادة والرجاء، ولو لم يرد دليل مباشر في الكتاب والسنة على ذلك؛ لذا فقد سمى العلماء ما كان حقًّا في ذات الله، ولم يرد به نصٌّ إِخبارًا.
إن لتوحيد سبعة شروط تسمى عند العلماء بأركان وشروط لا إله إله إلا الله و لا يصير المرء موحدا حتى يحققها، فالركنان هما: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله: قال تعالى: \" فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ \" سورة البقرة - الآية: 256
وقال أيضا: \" وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ\"سورة الزخرف - الآيات: 26-27 فالكفر بالطاغوت متجلي في قوله عليه السلام: \" إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ \"و الإيمان بالله متجلي في قوله: \" إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي \"
فالكفر بالطاغوت هو نفي استحقاق العبادة عن غير الله ويدخل فيه بغض كل مدع للألوهية وجهاده إن توفرت الشروط الشرعية المبينة في كتب العقيدة والفقه.
والطاغوت لغة: هو المتجاوز لحده،
وشرعا هو كل مجاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع برضاه، وقد يعرف بكل مشارك لله في حقه على الناس الذي هو العبادة، ورؤوس الطواغيت خمسة:
الرأس الأول: الشيطان، قال تعالى: \" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ \"سورة النحل – الآيات: 36
الرأس الثاني: كل من دعى الناس لعبادة نفسه، كفرعون قال تعالى: \" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ \" سورة الفجر، الآيات: 6-12
الرأس الثالث: كل من عبد من غير الله ورضي وسكت.
الرأس الرابع: كل من ادعى علم الغيب وتعامل مع الشياطين لإذاية الناس كالسحرة والعرافين، قال تعالى: \" أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ \" سورة النساء – الآية: 51
الرأس الخامس: الحاكم الذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، قال تعالى: \" يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا \"سورة النساء – الآية: 60 وأما إن كان يعتقد أن شرع الله هو الحق وحكم بغيره بسبب هوى في نفسه أو حرص على مصلحة دنيوية فهو واقع في الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة ولا يدخل في الطواغيت.
و أما الإيمان بالله فهو التصديق بوجوده وإفراده بما يختص به على الوجه الذي بيناه في معنى التوحيد، وهو يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص.
و أما شروط التوحيد التي تسمى عند العلماء بشروط لا إله إلاّ الله فهي سبعة: العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد.
الشرط الأول: العلم معنى التوحيد وهو إدراك معنى التوحيد بدليله. فالإنسان لا يمكن أن يعمل بشيء ويُطَبّقه في حياته حتى يعلمه. فالعلم لازم للعمل، قال الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ﴾. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"من مات وهو يعلم لا إله إلاّ الله دخل الجنة\"
الشرط الثاني: اليقين وهو اعتقاد التوحيد من غير شك. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾سورة الحجرات – الآية: 15. وقال تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾سورة إبراهيم – الآية: 10
الشرط الثالث: الصدق وهو استقامة الظاهر والباطن على توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته. قال سبحانه وتعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقينَ ﴾ سورة التوبة – الآية: 119. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ [ص: 38] مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . وضد الصدق النفاق، فهو من أشرَّ الكفر بالله ويعني إبطان الكفر وإظهار الإسلام. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾سورة النساء – الآية: 145
الشرط الرابع: الإخلاص، وهو الابتغاء بالتوحيد والعمل به وجَه الله تعالى وثوابه دون رياء ولا سمعة. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ سورة البينة – الآية: 5. وقال سبحانه وتعالى أيضا: ﴿ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴾سورة الزمر – الآية: 14. وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ \" وللإخلاص قوادح تفسده، يجب معرفتها واجتنابها.
القادح الأول: الرياء، وهو فعل العبادة أمام الناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
القادح الثاني: السمعة، وهي ذكر العبادة والعمل الصالح للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»
أي من سمَّع في الدنيا أسمع الله النّاسَ عيوبه يوم القيامة. والسمعة أخطر من الرياء، لأن الإنسان قد يفعل عبادة ويُخلِص فيها ثم يفسدها بالسمعة بعد سنين.
الشرط الخامس: المحبة، وتعني حبَّ الله تعالى وحبّ ما يحبّ وكراهية ما يكره؛ لقد نعت الله عباده المؤمنين بأنهم أشد الناس حبا له، فهم لا يتخذون من دونه أنداداً كما يفعل غيرهم، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾سورة البقرة-الآية: 165 وعلامة حب العبد ربَّهُ تقديم كل ما يُحب الله على ما يحبه هو وتميل إليه نفسه، وبغض جميع ما يُبغِض ربُّه وإن مالت إليه نفسه.
الشرط السادس: القَبول، ويعني أن نقبل بالتوحيد كما هو دون أدنى تردّد أو تمنُّع. لقد حدثنا الله تعالى في كتابه عن حال الأمم التي استكبرت ورَدّت كلمة التوحيد متَّهِمَةً من دَعاها إليها بالجنون فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾. سورة الصافات – الآيات: 35-36. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصحا: \"قل آمنت بالله ثم استقم\"
الشرط السابع: الانقياد، وهو الإذعان لأمر الله تعالى بالرضى المستحق. قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾، وقال أيضا: ﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾سورة لقمان – الآية: 22 ومعنى ﴿ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ﴾ أي يذعن، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾أي موحد، والعروة الوثقى فسّرها علماء الإسلام بـ\"لا إله إلاّ الله\"
و لا يقبل الله تعالى توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات من العبد إلا من طريق توحيد الاتباع بعد بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إفراد النبي صلى الله علي وسلم بالمتابعة في الدين فقد أجمع العلماء أن من وصلته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه فهو كافر قال تعالى: \" فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا \"سورة النساء – الآية: 65وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»
وقال أيضا: \" لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي \" .
و لا يحقق العبد توحيد الاتباع إلا بالشروط السبعة التالية:
الشرط الأول: العلم بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
إن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتم إلا بمعرفة سنته - صلى الله عليه وسلم -. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ\" وقال أيضا: \"طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ\" ومِن أَوْجَبِ العلمِ تَعلُّمُ سنته - صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: محبته - صلى الله عليه وسلم.
وتعني أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ للمسلم من نفسه وولده، فعن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
و قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: \" لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ\" فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \"الآنَ يَا عُمَرُ\"
الشرط الثالث: التصديق بما أخبر به - صلى الله عليه وسلم.
إنَّ كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعدّ وحيا من الله، لذا وجب تصديقه سواء كان خبراً ماضيا كقَصص الأنبياء والصالحين، أو خبراً حاضراً كأحوال الملائكة والجن، أو خبراً مستقبَلا كعلامات الساعة وأحوال أهل الجنة والنار. قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾سورة الحديد – الآية: 28.أي صدِّقوه فيما قال.
الشرط الرابع: طاعته - صلى الله عليه وسلم-.
أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سورة الأنفال – الآية: 20. أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»
ومن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾[31]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا\"
الشرط الخامس: تحقيق عبادة الله على منهاجه - صلى الله عليه وسلم.
إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عبادةً حتى تكون على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: ﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾سورة الأعراف – الآية: 158. أي تَأسَّوْا به في عبادتكم لربكم.
الشرط السادس: الإيمان بأفضليته - صلى الله عليه وسلم.
إن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الرسل دون تنقيص من رسول أو تحقير. قال - صلى الله عليه وسلم -: \" أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...\"
الشرط السابع: الإيمان بخاتَمِيَّته - صلى الله عليه وسلم.
ويعني الاعتقاد الجازم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الأنبياء والمرسلين؛ قال الله تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾.سورة الأحزاب – الآية: 40، فلا يقبل مسلم بِمُدَّعٍ لنُبُوَّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما كانت مكانته. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"لا نبيّ بعدي\" . أي لَا لِأحد أن يدَّعي النبوة بعدي.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الحمد خير ذكر بعد القرآن، لذا بدأ به سبحانه قرآنه.
- جميع المحاميد مستحقة له سبحانه لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
- من أسمائه سبحانه وتعالى \" الله \" وهو: المعبود الذي يتقرب إليه العباد بشتى الطاعات حبا وتعظيما.
- أن من أسمائه سبحانه \"الرب\" وهو الخالق المالك المدبر.
- اشتملت الآية على أقسام التوحيد الثلاثة وهي: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
\"الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ\"
إعراب الآية:
الرحمان: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وقيل نعت تابع لمنعوته في جره.
الرحيم: لها نفس إعراب الرحمان
مر تفسيرها معنا في البسملة ووجه المناسبة والله أعلم بينها وبين الآية التي قبلها أن الله تعالى يعد موحده وحامده بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة فهي قبله في البسملة وبعده في هذه الآية قال تعالى: \" وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا \" سورة الأحزاب - الآيات: 43-44
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه سبحانه: \"الرحمان\" وهو صاحب الرحمة الواسعة التي تشمل جميع الخلق.
- أن من أسمائه سبحانه وتعالى: \"الرحيم \" وهو صاحب الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين.
- يستحب أن يقرن الرحمان بالرحيم في الدعاء وغيره لورود الآية بذلك وبيان فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الذين خصهم بالرحمة الأخروية من دون سائر الناس.
\" مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ \":
إعراب لآية:
مالك: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره وقيل نعت تابع لمنعوته في جره وهو مضاف.
يوم: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره.
الشرح:
\" مَالِكِ \": أي المتصرف في يوم القيامة وقرئت أيضا ب \" مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ \" أي الحاكم المتصرف وهو أبلغ من مالك مشتق من الملك أما الأول فإنه مشتق من المِلك فكل ملك مالِك وليس كل مالِك ملك وجميع آيات القرآن تأتي بضم الميم كقوله تعالى: \"لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ \"سورة المائدة – الآية: 120 وقوله تعالى: \" لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ\"سورة غافر - الآية: 16
وقوله تعالى: \" لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ \" سورة البقرة - الآيات: 106و من أسمائه سبحانه \" مالك وملك ومليك \" قال تعالى: \" إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) \" سورة القمر - الآيات: 54-55
و معناه صاحب الملك الواسع.
\" يَوْمِ الدِّينِ \": هو يوم الجزاء لأن الله تعالى يبعث فيه الناس ليجزيهم على أعمالهم فمن كان مسلما وغلبت حسناته سيئاته دخل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته دخل النار حتى يطهر من الذنوب فيدخل الجنة إلا إذا غفر الله له أو أدركته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين فإنه يدخل الجنة من أول مرة،
و أما الكافر فمآله النار خالدين فيها أبدا وبئس المصير قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) \" سورة البينة - الآيات: 6-8
وقيل سمي بيوم الدين: لأنه اليوم الذي ينصر فيه الإسلام ويظهر للجميع أنه الحق.
و من أسمائه \" يوم القيامة \": أي اليوم الذي يقوم فيه الخلق من قبورهم للحساب والجزاء قال تعالى: \" لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ \" سورة القيامة – الآية: 1
و من أسمائه: \" يوم الفصل \": قال تعالى: \" إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ \"سورة الدخان - الآيات: 40 أي اليوم الذي يفصل فيه الله بين الكفر والإيمان والحق والباطل والظالم والمظلوم،
و سمي أيضا \" بيوم التغابن \": أي اليوم الذي يَغبُنُ فيه أهل الجنة أهل النار قال تعالى: \" ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ \" سورة التغابن – الآية: 9
و سمي \" بيوم الجمع \" لأنه تعالى يجمع فيه جميع الخلق فلا يفلت منهم أحد، قال تعالى: \" يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ\"سورة التغابن – الآية: 9
وسمي \" بالغاشية \": لأنه يُطبق على الناس ويغشاهم بحيث لا يجدون منه مفرا قال تعالى: \" هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ\" سورة الغاشية – الآية: 1
و سمي \"بالقارعة \" لأنه يقرع القلوب بأهواله، قال تعالى: \" الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) \" سورة القارعة
و سمي بيوم الحشر: لأن الناس يحشرون فيه، قال تعالى: \" وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا \" سورة يونس – الآية: 28
و سمي بالواقعة: أي يقع على الناس فجأة، قال تعالى: \"إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ \" سورة الواقعة – الآيات: 1-2
و سمي: \"بالحاقة \": أي يحق فيه ما أنكر من البعث والحساب والجزاء والقرآن، قال تعالى: \" الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)\"سورة الحاقة – الآيات: 1-3
و سمي بيوم البعث: لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم، قال تعالى: \" قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ \". سورة يس– الآية: 51
و سمي بيوم الحساب: لأن الناس يحاسبون فيه على أعمالهم، قال تعالى: \" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا \" سورة الانشقاق – الآيات: 7-8
و سمي\" بالساعة\": لأنه هو وقت تحول الناس من الدنيا إلى الآخرة، قال تعالى: \"قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ \" سورة الأنعام – الآية: 30
و سمي بالصاخة: قال تعالى: \" فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ \" سورة عبس- الآية: 33قال البغوي رحمه الله: \" الصاخة \" يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها.
و سمي بالطامة الكبرى: قال تعالى: \" فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى \"سورة النازعات – الآية: 34 قال البغوي في تفسيره: وسميت القيامة \" طامة \" لأنها تطم على كل هائلة من الأمور، فتعلوا فوقها وتغمر ما سواها والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع .
و سمي بالمعاد: قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ\"سورة القصص – الآية: 85
و سمي بيوم التلاقي: لأن العبد يلتقي فيه بربه، قال تعالى: \"رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ \"سورة غافر – الآية: 15
و سمي بيوم الوعيد: قال تعالى: \"وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ \"سورة ق – الآية: 20 أي اليوم الذي يتوعد فيه الله تعالى الظالمين بأشد العذاب.
و هو تعالى مَلك ومالك ليوم القيامة وغيره، وإنما خص يوم القيامة بالمُلك في هذا السياق والله تعالى أعلم لبيان عظمت ذلك اليوم الذي ينتهي فيه ملك كل أحد ويبقى ملك الواحد الأحد سبحانه قال الله تعالى: \"لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ \"سورة غافر – الآية: 16، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ \"
و فسرت هذه الآية بالقادر على إقامة يوم الدين وهو ضعيف من جهة اللغة والشرع فالمُلك منفصل عن القدرة ومن أسمائه تعالى الملك والمالك والقادر والقدير فيبعد تفسير المُلك بالقدرة.
ووجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآيتين السابقتين أنه تعالى سيرحم أهل القرآن والتوحيد والحمد يوم القيامة ويرون ذلك بأعينهم قال تعالى: \" يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ \"سورة الحديد – الآية: 12
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه تعالى: \"المالك\" وهو المتصرف.
- أن من أسماه تعالى: \"الملك\" وهو الحاكم المتصرف.
- أن يوم القيامة لا ريب فيه.
- أن من أصول الإيمان الإيمان بيوم القيامة التي يقوم فيها الناس ليحاسبوا ويجزوا على أعمالهم، لذا ذكره سبحانه وتعالى في أعظم سورة في القرآن الكريم.
- أن من أسماء يوم القيامة: \" يوم الدين \" أي يوم الجزاء.
\"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ\":
إعراب الآية:
إيا: ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
الكاف: حرف خطاب مبني على الفتح.
نعبد: فعل مضارع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن.
الواو: واو العطف.
إياك نستعين: جملة فعلية معطوفة على الآية التي قبلها.
الشرح:
العبادة لغة: مأخوذة من قول العرب الطريق معبد أي ممهد للسير.
و شرعا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: \" هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة \"
أي كل قول أو فعل دل دليل على أن الله يحب أن يتقرب له به فهو داخل في مسمى العبادة، كالدعاء والركوع والسجود والذبح والصوم والحكم وغير ذلك، ولكل عبادة منها ركنان وشرطان لا تصح العبادة إلا بهما.
الركنان هما: تمام الحب وتمام الذل له سبحانه، قال تعالى: \" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ\" وقال أيضا: \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ \"سورة المائدة – الآية: 54 وقال أيضا في سورة المؤمنين: \" قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ \" وقال أيضا في سورة البقرة: \" وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ \"
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وعبادة الرحمن غاية حبه... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر... ما دار حتى قامت القطبان
وأما الشرطان فهما الإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى \" فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا \" أي من كان يريد حسن اللقاء مع ربه يوم القيامة فليصلح عمله باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا يرد به غير وجه ربه الأعلى، وقال أيضا: \" وما كان لمومن ولامومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا \"
فالإخلاص لغة هو الصفاء نقول: \" خالص ماء الورد \"
و شرعا هو: الابتغاء بالعبادة رضوان الله وتوابه دون رياء ولا سمعة ولا مصلحة دنيوية، قال تعالى: \" وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء...\" وقال أيضا: \" قل الله أعبد مخلصا له ديني \"
و له ثلاثة قوادح تفسده وبالتالي تفسد العبادة على صاحبها.
القادح الأول: الرياء وهو: إظهار العبادة لناس ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: \" أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئا تركته وشركه\" وقال عليه الصلاة والسلام: \" أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، قيل ما الشرك الخفي يا رسول الله، قال: الرياء \" وفي رواية: \" يزين الرجل صلاته ليراها الرجل \"
القادح الثاني: السمعة وهي: تحديث الناس بالعبادة ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم: \" من رأى راء الله به ومن سمع سمع الله به \" أي من سمع في الدنيا أسمع الله عيوبه الناس يوم القيامة.
القادح الثالث: فعل العبادة ابتغاء مصلحة دنيوية: كالذي يدعي التدين ليتزوج من امرأة تقية، أو الذي يطلب العلم ليشتهر به ويحصل المال والجاه: قال تعالى: \" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم \"، فعن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»
أما الاتباع لغة: تقفي الأثر.
و شرعا: موافقة العبادة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الأصل والتفاصيل والسبب والعدد والصفة والزمان والمكان والقدر والجنس.
المقصود بالأصل: أن يكون لها دليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
و التفاصيل: أي توافق سنة النبي صلى الله عليه في الجزئيات المضمنة في الأصل.
و السبب: مثل دعاء دخول المسجد فسببه هو دخول المسجد.
و العدد: مثل عدد ركعات الصلاة.
و الصفة: كموافقة هيئة النبي صلى الله عليه والسلام في الصلاة أو في الحج.
و الزمان: كأداء الصلاة في وقتها الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و المكان: كأداء ركعتي تحية المسجد في المسجد.
و القدر: كإخراج زكاة المال من القدر الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و الجنس: كالتضحية في العيد بجنس الأنعام.
و أما الاستعانة فهي طلب العون من الله، فهي عبادة قلبية لها علاقة بالدعاء، قال تعالى: \" وعلى الله فليتوكل المومنون \" وقال أيضا: \" فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين \" وقال صلى الله عليه وسلم: \"فإذا استعنت فاستعن بالله \"
و لا يجوز أن تطلب في الأصل من غير الله إلا بشروط.
الشرط الأول: أن يعتقد المستعين أن المستعان به أعانه بقدر الله وتوفيقه.
الشرط الثاني أن يكون المستعان به حيا.
الشرط الثالث: أن يكون المستعان به حاضرا.
الشرط الرابع: أن يكون المستعان به قادرا على الإعانة. والدليل على هذه الشروط، قوله تعالى: \"فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ \" سورة القصص – الآية: 15
و المعنى الإجمالي للآية \" إياك نعبد وإياك نستعين\" ألا نتقرب بالعبادة ولا نطلب العون على ذلك وغيره إلا منك سبحانك.
ف\"إِيَّا \": ضمير منفصل مبني في محل نصب مفعول به مقدم والأصل في المفعول به أن يؤخر عن الفعل، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والقصر والاختصاص، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك، والكاف حرف خطاب يفيد وجوب حضور القلب في الصلاة لأن انتقال الخطاب من الغائب إلى الحاضر يستدعي الانتباه وحضور القلب، ويفيد أيضا قرب الله تعالى من عبده خاصة في الصلاة فمن أسمائه تعالى \"القريب\" قال تعالى: \" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) \" سورة البقرة – الآية: 186وقال عليه الصلاة والسلام: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ»
و من معاني هذه الآية الكريمة: أنه تعالى يعظم عباده الموحدين لأن نون الجمع في فعل المضارع \" نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ \" تفيد التعظيم إذا أطلقت على الفرد قال تعالى: \" إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) \" وفيها إشارة إلى أن المؤمنين أمة واحدة متماسكة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا لدلالة النون على الجماعة، قال تعالى: \" إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ \"سورة الأنبياء – الآية: 92 وقال أيضا: \" الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ \"سورة الأنعام - الآية: 159 وقال صلى الله عليه وسلم: \" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى \" وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»
و فيها إشارة إلى أن الأصل في صلاة الرجل الجماعة لدلالة النون عليها قال سبحانه وتعالى: \" وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ \" وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وفي رواية: «تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً»
و قد اختلف العلماء في حكمها بين القول أنها شرط صحة في الصلاة وأنها واجبة وأنها سنة مؤكدة والمشهور من مذهب الإمام مالك أنها سنة مؤكدة والله تعالى أعلم.
و من معانيها أيضا أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع، قال تعالى: \" يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ \"سورة إبراهيم – الآية: 27 وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ»
و ينبغي الإشارة إلى تنبيه قارئ هذه الآية من خطإ شائع يحرف معناها ويبطل الصلاة إن كان بتقصير وهو نطق الياء مخففة من غير شدة \"إيَاك\" ف \"الإيَا \" هو ضوء الشمس فيصير المعنى ضوء شمسك نعبد ونستعين.
و وجه المناسبة بين هذه الآية والآيات التي قبلها والله تعالى أعلم أن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة على العبادة لا على الخِلقة والأرزاق والآجال.
الفوائد المستخلصة من الآية:
-أن أعظم أصل في الدين هو التوحيد.
-أن الله تعالى يعظم عباده الموحدين.
- أنه تعالى يحب أن يكون عباده جسدا واحدا كالبنيان المرصوص.
- أن صلاة الرجل مع الجماعة سنة مؤكدة.
- أنه ينبغي للعبد أن يطلب العون من الله على العبادة وغيرها.
- أن الخشوع من واجبات الصلاة.
- أن الله تعالى قريب من عباده المؤمنين.
- أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة.
\"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ\"
اعراب الآية:
اهدنا: فعل أمر بمعنى الدعاء مبني على حذف الياء والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت، نا: ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.
الصراط: مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
المستقيم: نعت تابع لصراط في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
شرح الآية:
أي وفقنا وأرشدنا برحمتك ومنك وكرمك إلى طريق الجنة الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
اهْدِنَا: دعاء، ويكون الدعاء بصيغة الأمر ممن هو أسفل إلى من هو أعلى،
والهداية تنقسم إلى قسمين هداية توفيق وهداية دعوة وإرشاد.
فهداية التوفيق لا يملكها إلا الله سبحانه وهي في قوله تعالى: \" إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ \" وفي قوله تعالى: \" لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ \" وفي قوله تعالى: \" وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ \"
و أما هداية الدعوة والإرشاد فهي: إرشاد الناس إلى الحق والخير وتحذيرهم من الضلال والشر، وقد جعلها سبحانه وتعالى بيد أنبيائه ودعاته، وهي في قوله تعالى: \" وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ \" وفي قوله تعالى: \" أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ \"
و في هذه الآية الكريمة \" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ \" استحباب أن يكثر المؤمن من الدعاء لنفسه ولأخوانه المسلمين، قال سبحانه: \" وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ \" وقال أيضا: \" وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ \" وقال تعالى: \" وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ \" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \" إن الله يحب العبد الملحاح \" أي كثير الدعاء وقال أيضا: \" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير \"
و قد عبر سبحانه وتعالى في هذه الآية على الإسلام بالصراط المستقيم لأنه منهاج حياة متكامل وقويم يدفع الإنسان إلى الخير ويبعده عن الشر ويوصله إلى رضوان ربه وجنته، قال تعالى: \" قد جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ \" وقال تعالى: \" إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) \"
الإسلام في اللغة هو الاستسلام.
وفي الشرع هو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى بالإخلاص والرضى المستحق له سبحانه. فهو مبنيّ على الاستجابة للأمر الإلهي من غير اعتراض ولا تمَنّع. وينقسم إلى قسمين: إسلام عامّ وإسلام خاص. الإسلام العام هو الاستجابة والانقياد لأمر الله تعالى في كل زمان، فهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم. والدليل قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. وقال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾.
وأما الإسلام الخاص فهو اتّباع شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالله عز وجل لا يقبل شرعا ولا دينا بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلا دينه - عليه الصلاة والسلام -. قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. وفي الحديث الصحيحالذي رواه الامام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني\".
وضد الإسلام الكفر، ويعني في اللغة: التغطية، تُسمّي العرب الزُّرّاع بالكفار لأنهم يغطون الزرع. قال الله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾، أي الزّراع. وفي الشرع هو رفض الإسلام وله سبعة أصول تَرجع إليها جميع شعب الكفر وصوره.
الأصل الأول: كُفر الشرك، وهو عبادة غير الله معه كدعاء الأموات والذبح لهم وحب شيء مثل حب الله والخوف من شيء مثل خوف الله والرضى بالتحاكم لغير شرع الله إلخ. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾. وقال سبحانه وتعالى في شرك المحبة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾
وينقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر. الشرك الأكبر سُمّي بالأكبر لأنه يُخرج من الإسلام، وهو الذي عرّفناه. وأما الشرك الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي بالشّرك في الشرع ولا يُخرج من الإسلام، لذا سُمّي بالأصغر، إلا أنه أقبح من كبائر الذنوب، ونذكر بعض أنواعه:
النوع الأول: الحَلِفُ بغير الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"من حلَف بغير الله فقد أشرك\"
النوع الثاني: الشرك اللفظي، وهو الشرك في اللّفظ دون القصد، كقول الرجل لولا الله والكلب لسُرق البيت، والصحيح أن يقول لولا الله ثم الكلب، لأن الواو تفيد المعية والتسوية وأما ثُمّ فتفيد التراخي، أي الكلب بعد الله. قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: \"لو شاء الله وشئت، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أجعلتني لله نِدّا، قل ما شاء الله وحده\" وفي رواية: \"قل لو شاء الله ثم محمد\". وفي حديث آخر: \"رأى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يمشي في طريق من طرق المدينة، فالتقى بنفر من اليهود قال نِعم القوم أنتم اليهود، لولا أنكم تقولون عُزير ابن الله، فقالت اليهود نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، ثم التقى بنفر من النصارى فقال لهم نِعم القوم أنتم النصارى لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، فقالت النصارى نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، فلما أصبح الرجل ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال - صلى الله عليه وسلم - اجمَعُوا الناس ثم صعد المنبر وقال يأيها الناس لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ \"
النوع الثالث: الرياء، وهو إظهار العبادة للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ»
النوع الرابع: السمعة، وهي إخبار الناس بالعبادة ابتغاء ثنائهم وإعجابهم، وهي داخلة في الشرك الخفي.
النوع الخامس: التّطيّر، وهو التشاؤم بأشياء معينة كالرجل الأسود أو الهِرّ الأسود. وسُمّي بالتطير لأن العرب في الجاهلية كانوا إذا همّوا بالخروج إلى سفر أطلقوا طائرا، فإن طار يمينا تفاءلوا وسافروا وإن طار شمالا تشاءموا ورجعوا. قال - صلى الله عليه وسلم -: \"الطِّيَرة شرك\". وأما التفاؤل بالخير فلا بأس به، كالتفاؤل بالأذان أو سماع القرآن أو رؤية رجل صالح، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه الفأل الحسن.
الأصل الثاني: كُفر الجحود والعناد، وهو التكذيب بالإسلام رُغم العلم بصِدقه ككفر آل فرعون، قال سبحانه وتعالى في حقهم: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾، أي كفروا بلا إله إلاّ الله رُغم علمهم بصدقها.
الأصل الثالث: كفر التكذيب، وهو الكفر بالإسلام جهلا بصِدقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾
الأصل الرابع: كفر الإيباء والاستكبار، وهو الكفر بالإسلام بسبب احتقار أهله ككفر إبليس، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾
الأصل الخامس: كفر الشك، وهو التردد في صدق الإسلام، قال سبحانه: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
الأصل السادس: كفر الإعراض، وهو إهمال الإسلام وترك تعلّمه والعمل به، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾
الأصل السابع: كفر النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾
وينقسم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر، الكفر الأكبر هو الذي بيّنّا أصوله وأما الكفر الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي في الشرع بالكفر ولا يُخرج من الإسلام، لذلك سُمّي بالأصغر كقتال المؤمن، قال - صلى الله عليه وسلم -: \"سِباب المؤمن فسوق وقتاله كفر\" والدليل الذي صَرَف الكفر في الحديث من الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾. قال الحافظ بن كثير فقد أثبت سبحانه وتعالى الإيمان لِكلا الطائفتين رُغم اقتتالهم.
وموانع اتباع الكفار للإسلام ستة:
المانع الأول: التعصب لما كان عليه الآباء والأجداد، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾سورة البقرة – الآية: 170
المانع الثاني: اتباع الهوى، وهو شهوة النفس، قال سبحانه: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾سورة ص – الآية: 26
المانع الثالث: الكِبْر، وهو احتقار الناس والتعالي عليهم، فهو السبب الذي منع إبليس من الإسلام. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾.سورة البقرة – الآية: 35
المانع الرابع: الخوف من زوال مصلحة دُنيوية كالملك أو المال أو الجاه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ﴾سورة التغابن الآية: 15.وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» أي الحرص على المال والجاه يُفسد الدِّين كما يفسد الذنبان الجائعان الغنم. وقد كان الحرص على المُلك سببا في ارتداد هِرقل ملك الروم بعدما آمن.
المانع الخامس: الحسد، وهو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، فهو من أسباب كُفر اليهود لأنهم حسدوا العرب على (النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى القرآن. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ سورة البقرة – الآية: 109.
المانع السادس: الجهل، وهو هنا عدم معرفة الإسلام، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ﴾. سورة التوبة – الآية: 6
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هذه الآية والآية التي قبلها أنه تعالى:
- لا يقبل عبادة من أحد حتى يكون مسلما، قال تعالى: \"وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) \" سورة آل عمران – الآية: 85
- أن من آداب الدعاء أن يبدأ بالثناء على الله لأن الآيات التي قبل هذه الآية ثناء عليه سبحانه.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن التوفيق إلى الحق بيد الله سبحانه وتعالى.
-استحباب أن يدعو المؤمن لنفسه وإخوانه.
- أن الله تعالى لا يقبل دينا غير الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
- أن الإسلام هو منهاج الحياة القويم والمتكامل الذي يدفع البشرية إلى السعادة ويبعدها عن الشقاوة في الدنيا والآخرة.
\"صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ\"
إعراب الآية:
صراط: بدل تابع للمبدل منه في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه.
أنعمت: فعل ماض مبني على السكون والتاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
عليهم: على: حرف جر، هم: ضمير متصل مبني على الكسر في محل جر اسم مجرور، وجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
شرح الآية:
أي دين ومنهاج الذين أنعم الله عليهم بالمنهاج القويم والدين الحق والسعادة الدنيوية والجنة والنظر إلى وجه الله في الآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
قال تعالى: \"وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)\"سورة النساء – الآيات: 69-70
والنبي هو الرجل الإنسي العاقل المعصوم من الكفر والكبائر والرذائل والمكلف بتبليغ رسالة ربه،فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول والفرق بينهما على أرجح أقوال أهل العلم،
الرسول هو: الذي أوحي إليه بشرع جديد غالبا ويبعث إلى قوم مشركين،وقلنا غالبا ليخرج من القاعدة سيدنا إسماعيل عليه السلام فهو رسول نبي أبقاه الله على شرع أبيه ابراهيم عليه السلام،وأما النبي فهو: الذي أوحي إليه بإحياء شرع من قبله غالبا ويبعث إلى قوم مؤمنين وقلنا غالبا لأنه يستثنى من القاعدة آدم عليه السلام فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي ولا شك أن لا شرع قبله لكونه أبو البشر وقد أخطأ من عرف النبي بالذي أوحي إليه بالرسالة ولم يؤمر بالتبليغ والرسول أمر بالتبليغ لأن هذا يتنافى مع الحكمة الإلهية المطلقة ويتعارض مع قوله تعالى : \" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ \"سورة آل عمران – الآية: 187
فأما الصديق فهو المبالغ في الإخلاص لربه والصدق في دينه كسيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال تعالى: \" وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ \" سورة الحديد – الآية: 19
و أما الشهيد فهو الذي قتل في جهاد مشروع لتكون كلمة الله هي العليا، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (لو يشار لمن له حكم الشهيد كقوله صلى الله عليه وسلم قال: «المبطون شهيد، والمطعون شهيد» صحيح البخاري (7/ 131))
و أما الصالح هو الذي يصلح حياته وآخرته بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه قال تعالى: \" وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ \" سورة الأعراف – الآية: 170
و وجه المناسبة بين هاته الآية والله تعالى أعلم والآية التي قبلها، أن الإسلام هو الدين الحق والمنهاج القويم الذي ينعم أتباعه بالسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: \" أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ\". سورة القلم – الآيات: 35-36
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والصالحين في كل مكان وزمان.
- أن الإسلام هو أقوم منهاج حياة يكفل للإنسان السعادة الدنيوية والأخروية.
- أن أعظم نعمة هي الهداية إلى العمل بالإسلام لأن الإنسان يعيش بها كريما سعيدا وينال بها السعادة الأبدية وهي الجنة،
- أن من صفاته سبحانه وتعالى \" الإنعام\" وليس من أسمائه المنعم، لأن اسم الله يشتق من الاسم لا الفعل قال تعالى: \" وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ \" سورة النحل – الآية: 53
\"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \"
إعراب الآية:
غير: بدل تابع للمبدل منه في جره المضمر في عليهم وقيل المضمر في الذين أو نعت تابع له في جره وهو مضاف.
المغضوب: مضاف إليه
عليهم: جار ومجرور متعلق بالمغضوب
و: الواو للعطف
لا: زائدة لتأكيد والتنبيه.
وقد قرئت الراء بالفتح \" غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \" (وهي قراءة شاذة): أي لا تجعلنا على دين ومنهاج الذين غضب الله عليهم بسبب تركهم العمل بالعلم كإبليس واليهود ومن كان على شاكلتهم ولا الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلهم بالدين كرهبان النصارى وغلاة الخوارج والتصوف ومن كان على شاكلتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وإنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى»
و ينقسم العمل بالعلم إلى كفر ومعصية ومكروه ومباح.
فالكفر: كترك اعتقاد أصول الإيمان والعمل بالتوحيد
و أما المعصية كشرب الخمر مع العلم أنها حرام
و أما المكروه: كترك المستحبات.
و أماالمباح: كترك العمل بسنن العادات مثل طريقة مشيته صلى الله عليه وسلم وما يحبه من المأكولات.
و الكفر والمعصية يوجبان غضبه سبحانه قال تعالى: \"وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ \"سورة البقرة الآية: 61
وقال أيضا: \" بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ \"سورة البقرة – الآية: 90
و ينقسم الضلال إلى كفر وبدعة:
فالكفر هو الذي دل الدليل على أنه يخرج من الإسلام كاعتقاد إيمان وصلاح إبليس قال تعالى: \" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ \"سورة آل عمران – الآية: 90
و أما البدعة في هذا السياق: فهي التقرب بعبادة إلى الله لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذكر بالشطحات والرقصات الطرقية، قال تعالى: \" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا \"سورة النساء – الآية: 115 وقد دلت هذه الآية \"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \" على صفة فعلية من صفاته تعالى وهي الغضب، فهو تعالى يغضب غضبا يليق به لا كغضب الخلق،
والصفات الفعلية تابعة لمشيئته سبحانه وتعالى فهو يغضب متى شاء على من شاء بعدل مطلق وحكمة بالغة وإرادة نافذة.
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآية التي قبلها:
أصل الولاء والبراء، فالولاء حب الله تعالى وحب جميع محبوباته وهو مضمن في قوله تعالى: \"اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ \"
و البراء هو بغض جميع مبغوضاته تعالى وهو مضمن في قوله تعالى: \"غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ \"
قال تعالى: \" قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ \"سورة الممتحنة – الآية: 4و قال أيضا: \"و إذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) \" سورة الزخرف - الآيات: 26-27
الفوائد المستخلصة من الآية:
-أن من صفاته تعالى الفعلية الغضب.
- أن الله تعالى يغضب على من ترك العمل مع علمه به.
- لزوم وصف الضلال لكل جاهل بالإسلام.
- أن المغضوب عليهم والضالين في النار عكس المنعم عليهم.
- أن العالم التارك للعمل أشر من الجاهل لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين.
- أن من أراد أن يرض ربه عنه ويكون على صراطه المستقيم فعليه الجمع بين العلم والعمل.
آمين:
اتفق المفسرون أنها ليست من الفاتحة إنما هي جواب على الدعاء المضمن في الفاتحة ومعناها: \" اللهم استجب \"
و حكمها: تجب على المأموم إن أمن الإمام لقول النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: \" إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ \"
و أما إذا لم يؤمن الإمام فلا يجوز للمأموم أن يؤمن فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: \" إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، \"
و وقت تأمين المأموم بعيدة تأمين الإمام والدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال: \" إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا \"
و محل الشاهد أن أمن فعل ماض يفيد الانقطاع وقيل يؤمن مع الامام والراجح القول الأول.
و يستحب التأمين للمنفرد والامام، وفي الصلاة السرية للمأموم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمن في هذه الحالات، ويجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: تَرَكَ النَّاسُ التَّأْمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: \" {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قَالَ: «آمِينَ» حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ \"
و يستحب أيضا أن يُمد بها الصوت فعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فَقَالَ: \" آمِينَ \" يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ\"
و نقول في النهاية أن سورة الفاتحة بحر شاسع من العلم والحكم والمواعظ البليغة مهما درسنا وتحرينا وجمعنا وكتبنا فلن نصل إلى ساحله وأملنا في الله أن يتقبل منا ما كتبناه ويحفظه بما حفظ الذكر الحكيم ويكتب له الانتشار والقبول بين الناس ويجعله هاديا إلى الصراط المستقيم والمنهاج السليم ورضوان الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله يوم الأحد 18رمضان 1436 بمدينة مراكش الحمراء. على الساعة السابعة مساء
و الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ
تأليف
أبي الحسن هشام المحجوبي
و
أبي مريم عبد الكريم صكاري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحمدُ لِلهِ مُبَيِّنِ القرآنِ بسنة خيرِ الآنامِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وعلى آل بيتهِ وصحابتهِ الكرامِ.
عِلْم أُصولِ التفسيرِ
اِعلمْ وفقكَ اللهُ أنَّ أُصولَ التَّفسيرِ عِلمٌ يبحثُ في الأصولِ والقواعدِ والمناهجِ الشرعيةِ التي توصلُ المفسِّرَ إلى المعنى الصحيحِ لكتابِ اللهِ، وأولُ من ألفَ فيهِ الإمامُ أبو جعفرَ مُحمدٌ اِبنُ جريرٍ الطبريُّ في مقدمةِ تفسيرهِ \"جَامِعُ البَيَانِ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ \" وحُكمهُ فرضُ كِفايةٍ، وأمَّا ثَمرتُهُ فهي صَوْنُ الفهمِ عنِ الخَطإِ في تأويلِ كتابِ اللهِ.
وَ يشتمِلُ هذا العلمُ على عدَّةِ مباحثَ.
المبحثُ الأولُ: معرفةُ المنهجيةِ الصَّحيحةِ للتفسيرِ.
فالتفسيرُ هو: الكَشفُ عن معاني القرآنِ.
و منهجيَّتُهُ الصَّحِيحةُ هي: تَفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ وتفسيرُ القرآنِ بالسنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصَّحابةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التابعينَ وتفسيرُ القرآنِ باللغةِ العربيةِ.
المبحثُ الثَّانِي: مَعرفةُ الدَّلاَلاَتِ اللغويةِ الَّتِي يحتاجُ إِليهَا المُفسرُ.
كالخبرِ والإنشاءِ والمشتركِ المعنوي والمترادفِ.
فالخبرُ: هوَ كلُّ قولٍ يحتملُ الصِّدقَ والكذبَ ؛ كقولِكَ: \"خليلٌ يقرأُ القرآنَ\".و أمَّا الإنشاءُ فهوَ مَا لاَ يحتمِلُ الصدقَو لا الكذِبَ ويتضمَّنُ كلاً منَ الأمرِ والنَّهيِ والدُّعاءِ والإلْتِمَاسِ والإستفهامِ والتمنِّي و الرجاءِ والعرْضِ والتَّحْضِيضِ والقسمِ والذَّمِّ والمدحِ وصيغِ البيعِ.فالأمرُ: هو طلبُ الفعلِ مِمَّنْ هوَ أَعلى إلى مَنْ هوَ أَدْنى على سبيلِ الوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينَةٌ إلى النَّدبِ أو الإباحَةِ، ويكونُ بصيغةِ إفعلْ أو مُضَمَّنا في الخبرِ.و أمَّا النَّهْيُ: فهو طلبُ تركِ الفعلِ مِمَّنْ هو أعلى لِمَنْ هوَ أدْنَى على سبيلِ المنْعِحتَّى تَصْرِفَهُ قرينَةٌ إلى الكَراهةِ، ويكونُ على صِيغَةِ لا تفعلْ أو مضمنا في الخبر.
و أما الدُّعاءُ: فهو طلبٌ مِمَّنْ هو أدْنَى إلى مَنْ هو أَعْلى.و أمَّا الإلْتِمَاسُ: فَهُوَ طلبٌ مِنْ مُساوٍ.و أَمَّا الإسْتِفْهامُ: فهوَ تَوْجيهُ السُّؤالِ.و أمَّا التَّمَنِّي: فهو الرَّغْبَةُ في شَيْءٍ بعيدِ المنالِ.
و أمَّا الرَّجَاءُ: فهوَ الرغبة في شيء قريبِ المنالِ.و أما العرْضُ: فهو طَلَبُ الشَّيْءِ برفْقٍ ولِينٍ.و أما التَّحْضيضُ: فهو طلب الشيء بشدةٍ.و أما القَسَمُ: فهو الحلفُ.و أما الذَّمُّ: فهو ذِكْرُ المَعَايِبِ .و أما المدحُ: فهو ذكر المحاسنِ.و أما صِيَغُ البيعِ: كقولك بِعتُكَ كذا بكذا.
النوع السادس: إطلاقُ الكُلِّ على الجُزءِ ؛
كقَول الله تَعَالَى في الحديثِ القدسي: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ \"
النوع السابع: إطلاق المُسَبَّبِ على السَّبَبِ ؛ كقوله تعالى: \"وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا \"
النوع الثامن: إطلاق السبب على المسبب ؛ كقوله تعالى: \"أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا \"
و أما المُشْتَرَكُ: فهو اللَّفْظُ الواحدُ الَّذي يتضمَّنُ عِدَّةَ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً مثل كلمةِ \"اشْتَرَى \"
وينقسمُ إلى مشتركٍ حرفيٍ ومشتركٍ اسميٍ ومشتركٍ فِعليٍ.
و أما المُترادِفُ فهو اللألْفَاظ المُخْتلِفةُ في البناءِ والمُتَّفِقةِ في المعنى كالعلْمِ والمعْرِفةِ.
المبحث الثالث: معرفةُ دَلَالَاتِ التفسيرِ
تنقسمُ دلالاتُ التَّفْسيرِ إلى دلالاتٍ يُحتَجُّ بها وإلى دلالات لا يُحتَجُّبها.
الدلالات التي يحتج بها هي: المُحْكَمُ، والظَّاهِرُ، والمُبَيَّنُ، والمَنْطوقُ، ومَفْهومُ المُوافقةِ، ومفهومُ المخالفةِ، ودلالةُ السِّيَّاقِ، ودلالةُ الإشارةِ، ودلالةُ الاِقْتِضاءِ، ودلالةُ الإيماءِ.
فالمُحْكَمُ هُوَ: النَّصُّ الواضحُ، بحيثُ لا يَحتاجُ إلى نصٍ آخرَ لِبيانِ معناهُ وأما الظَّاهر فهو: الدَّلالةُ الشَّرْعِيَّةُ المُتَضَمِّنَةُ لِمعنى راجحٍ.
وأما المُبَيَّنُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعيةُ المُفَسِّرَةُ لِلْمُتَشَابِهِ.
و أما المَنْطُوقُ فهو: دَلَالَةُ الَّلفْظِ الظَّاهِرَةِ. وأما مفهوم المُوَافَقَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عَنْهُ المُوَافِقِ لِلْمَنْطُوقِ.
و أما مفهوم المُخَالَفَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عنه المُخَالِفِ لِلْمَنْطُوقِ.و أما دَلَالَةُ السِّيَّاقِ فهي: المعنى الذي قَبْلَ الكَلَامِ وبَعْدَهُ، ويسمى الذي قَبْلَ الْكَلَامِ بالسِّبَاقِ والَّذي بعدهُ بالِّلحاقِ.
و أما دلالة الإشارةِ فهي: المعنى التَّابِعُ لِلْمَقْصُودِ مِنَ النَّصِّ.
و أما دلالة الاقْتِضَاءِ فهيَ: الَّلفْظُ المُقَدَّرُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا اسْتَقَامَ معنى النَّصِّ.و أما دلالة الايماءِ فهي: الوَصْفُ الذي لولاه لَمَا كان للدليل معنى.
و أما الدلالات التي لا يُحْتَجُّ بها فهي: المُتَشَابِهُ، والمُؤَوَّلُ.
فالمُتَشَابِهُ هُوَ: النَّصُّ الَّذِي خَفِيَ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلى نَصٍّ آخَرَ لِبَيَانِهِ أو يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَوْجُهٍ، ومَنْهَجُ أَهْلِ الحَقِّ تَفْسِيرُهُ بِالمُحْكَمِ.
و أما المُؤَوَّلُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ مَعْنًى مَرْجُوحاً.
المبحث الرابع: مَعْرِفَةُ الإِسْرائيلِياتُ في التَّفْسِيرِ.
فالإسرائيلياتُ هي: قَصَصُ بَنِي إسرائيلَ وتنقسم إلى ثلاثة أنواعٍ.
النوع الأول: إسرائيلياتٌ جاءَ بها القرآنُ والسنَّةُ فهذه حجةٌ في التفسيرِ.
النوع الثاني: إسرائيليات جاءتْ في كتب بني إسرائيلَ ووَافَقَتْ شرعنا فهذه لا تُصدَّقُ ولا تُكذَّبُ، ويُستأنسُ بها في التفسيرِ.
النوع الثالث: إسرائيليات جاءت في كتب بني إسرائيل وخالفت شرعنا، فهذه تُرد باتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ
المبحث الخامس: معرفة العَامِّ والخاصِّ، والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ
فالعامُّ هو: اللفظ المُسْتَغْرِقُ الشَّامِلُ كقوله تعالى: \" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ \" و صيغُ العمومِ في اللغة كثيرة كلفظ \" كلٍّ\"، و\"ال\" للجنس والاستغراقِ، و\"النَّكِرةُ\" في سياق النفيِ أوِ النهيِ أو الشرطِ أو الاستفهامِ، و\"متى\" في عموم الزمان، و\"أينما\" في عموم المكان،و \"مَنْ\" للعاقل و، \"ما\" لغير العاقل، والمفرد المضاف.و أما الخَاصُّ فهو: اللفظُ المُسْتَثْنِي لبعض أفرادِ العمومِ كقوله تعالى: \" قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ \" .
و ينقسم التَّخْصِيصُ إلى تخْصيصٍ بالعقل، وتخصيصٍ بالحسِّ، و تخصيصٍ بالعرف وتخصيصٍ بالوصف، وتخصيصٍ بالنَّصِّ
و أما المُطْلَقُ فهو: ما دَلَّ على ذاتٍ غيرَ مُقَيَّدَةٍ بوصف، كقوله تعالى في كفارة اليمين: \" أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ\"
و أما المُقَيَّدُ فهو: الوصف الذي يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الذَّاتِ كقوله تعالى في كفارة القتل الخطإ: \" وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ\" .و يُحمل المُطْلَقُ على المُقَيَّدِ إن اتفقا في السببِ والحُكْمِ أو اتفقا في الحُكْمِ واختلفا في السبب.
المبحثُ السادسِ: مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخُ.
النَّسْخُ هو: تَعْويضُ لَفْظٍ أو حُكْمٍ شَرْعِيٍ سَابِقٍ بدليلٍ شرعيٍ لاحقٍ،و ينقسم إلى أربعة أقسام: نسخُ القرآنِ للقرآنِ، ونسخُ السنةِ للقرآنِ،و نسخُ القرآنِ للسنةِ، ونسخُ السنةِ للسنةِ.
وينقسم النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأول: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وحُكْمُهُ.
القسم الثاني: ما نُسِخَ حُكْمُهُ وبَقِيَ رَسْمُهُ.
القسم الثالثِ: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وبَقِيَ حُكْمُهُ.
المبحث السابع: مَعْرِفَةُ القُرْآنِ المَكِيِّ والمَدَنِيِّ.
فالقرآنُ المكيُّ هو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ ويعرفُ بإخبارِ الصَّحابي ونبذِ الشِّرْكِ، وتأصيلِ العقيدةِ، وبلفظ \"يَا أَيُّهَا النَّاس\"، وذكر قَصَصِ الأمم السَّابِقَة وقوَّة الخطابِ.و أما القرآنُ المَدَنِيُّ فهو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهِجرةِ ويعرف بإخبار الصحابي، وبذكر الأحكام الفقهية، وبفضح المنافقينَ، وذكر بعض الغزوات، وانتقال الخطاب إلى أهل الكتاب، ولفظ \" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا \".و الفائدة من معرفة المكيِّ والمدنيِّ هي: تعميقُ الفهمِ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ومعرفةِ الناسخِ والمنسوخِ
المبحث الثامن: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ النُّزولِ.
فأسباب النزولِ هي: الأسئلةُ والحوادثُ التي كانت سبَباً في نزول القرآن زمن النبوَّةِ .
فقد يتعدَّدُ النَّازِلُ والسَّبَبُ واحدٌ، وقد تتعدد الأسباب والنازل واحد.و فائدة معرفتِها الوصول إلى المعنى الصحيح للقرآن الكريم، والسَّعة في الإطلاع على معانيه.
المبحث التاسع: مَعْرِفَةُ اخْتِلافِ التَّنَوُّعِ واختلافِ التَّضَادِ.
فاختلاف التَّنَوُّعِ هو: اتفاق المفسرينَ على معنى الآية مع اختلافِهم في التعبيرِ، أو تفسيرِهم للآية بمعاني مختلفة يسوغ الجمع بينهما.
و أما اختلافُ التَّضادِ فهو: تفسير الآيةِ بمعنيين أحدُهما راجحٌ والآخر مرجوحٌ.
المبحث العاشر: معرفة شروطِ المفسرِ.
شروطِ المفسرِ ثمانيةٌ:
الشرطُ الأولُ: التَّقْوَى والسَّمْتُ الحسن عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ»
الشرط الثاني: سلامة العقل والنَّفس من الأمراض.
الشرط الثالث: أن يكون مُلِمًّا بعلوم الآلة كاللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث.
الشرط الرابع: أن يكون مُلِمًّا بأصول العقيدة الصحيحة.
الشرط الخامس: أن يكون مُطَّلِعاً على كتب الحديث كالصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد.
الشرط السادس: أن يكون له علم بفقه المذاهب الأربعة
الشرط السابع: أن يكون له علم بالتاريخ والسِّيَّر والمغازي.
الشرط الثامن: أن يكون له اطلاع واسع على تفاسير المتقدمين والمتأخرين.
تم بحمد الله
قائمة المصادر والمراجع
- كتاب رب العالمين: القرآن الكريم
- الكتاب: تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
المحقق: محمد حسين شمس الدين
الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة: الأولى - 1419 هـ
- الكتاب: تفسير الجلالين
المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1414 هـ
- الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)
المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»
المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)
الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس
سنة النشر: 1984 هـ
عدد الأجزاء: 30 (والجزء رقم 8 في قسمين)
- الكتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
المؤلف: جابر بن موسى بن عبدالقادر بن جابر أبوبكرالجزائري
الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة: الخامسة، 1424هـ/2003م
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف: دوهبة بن مصطفى الزحيلي
الناشر: دار الفكر المعاصر - دمشق
الطبعة: الثانية، 1418 هـ
عدد الأجزاء: 30
- الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبوجعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
المحقق: أحمد محمد شاكر
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م
عدد الأجزاء: 24
- الكتاب: التيسير في القراءات السبع
المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبوعمر والداني (المتوفى: 444هـ ) المحقق: اوتوتريزل
الناشر: دارالكتاب العربي - بيروت
الطبعة: الثانية، 1404هـ/ 1984م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أسباب نزول القرآن
المؤلف: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)
المحقق: عصام بن عبدالمحسن الحميدان
قال المحقق: قمت بتوفيق الله وحده بتخريج أحاديث الكتاب تخريجا مستوفى على ما ذكر العلماء أو ما توصلت إليه من خلال نقد تلك الأسانيد
الناشر: دار الإصلاح - الدمام
الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م
- الكتاب: متن الشاطبية = حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع
المؤلف: القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي (المتوفى: 590هـ)
المحقق: محمد تميم الزعبي
الناشر: مكتبة دار الهدى ودار الغوثاني للدراسات القرآنية
الطبعة: الرابعة، 1426 هـ - 2005 م
عددالأجزاء: 1
- الكتاب: مناهل العرفان في علوم القرآن
المؤلف: محمد عبدالعظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367هـ)
الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه
الطبعة: الطبعة الثالثة
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبوشُهبة المتوفى: 1403هـ))
الناشر: مكتبة السنة
الطبعة: الرابعة
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أصول في التفسير
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين(المتوفى: 1421هـ)
أشرف على تحقيقه: قسم التحقيق بالمكتبة الإسلامية
الناشر: المكتبة الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني
المؤلف: أحمد جمال العمري
الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الطبعة: السنة العاشرة – العدد الثاني - 1397هـ - 1977 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري
المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي
المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر
الناشر: دار طوق النجاة
الطبعة: الأولى، 1422هـ
عدد الأجزاء: 9
الكتاب: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)
المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: سنن أبي داود
المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: سنن الترمذي
المؤلف: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)
تحقيق وتعليق:
أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)
ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3)
وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5)
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر
الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م
عدد الأجزاء: 5 أجزاء
- الكتاب: المجتبى من السنن = السنن الصغرى للنسائي
المؤلف: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ)
تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة
الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب
الطبعة: الثانية، 1406 - 1986
عدد الأجزاء: 8
- الكتاب: سنن ابن ماجه
المؤلف: ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273هـ)
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الموطأ
المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179هـ)
المحقق: محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات
الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 8 (منهم مجلد للمقدمة، و3 للفهارس)
- الكتاب: مسند ابن أبي شيبة
المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)
المحقق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فريد المزيدي
الناشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة: الأولى، 1997م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: مسند الإمام أحمد بن حنبل
المؤلف: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون
إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م
- الكتاب: صحيحُ ابن خُزَيمة
المؤلف: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)
حَققهُ وعَلّق عَلَيه وَخَرّجَ أحَاديثه وَقدَّم له: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: المكتب الإسلامي
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: المعجم الكبير
المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)
المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي
دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة
الطبعة: الثانية
عدد الأجزاء: 25
- الكتاب: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان
المؤلف: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الثانية، 1414 - 1993
عدد الأجزاء: 18 (17 جزء ومجلد فهارس)
- الكتاب: المستدرك على الصحيحين
المؤلف: أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبيالطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ)
تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1411 - 1990
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: العبودية
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: محمد زهير الشاويش
الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة: الطبعة السابعة المجددة 1426هـ - 2005م
(هذه الرسالة مطبوعة أيضًا ضمن \"مجموع الفتاوى\" 10/149، وفي \"الفتاوى الكبرى\" 5/155)
- الكتاب: متن القصيدة النونية
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة
الطبعة: الثانية، 1417هـ
عدد الأجزاء: 1
الفهرس
المقدمة 3
تفسير الاستعاذة: 7
تفسير البسملة 10
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ 47
قائمة المصادر والمراجع 54
الفهرس 63. ❝ ⏤بستان علم النبوءة
❞ هدية إلى الأحباب
في تفسير أم الكتاب
ويليه
متن طالب التفسير
تأليف
أبي الحسن هشام
المحجوبي وأبي مريم
عبدالكريم صكاري
طبعة منقحة ومخرجة الأحاديث
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ˝ ˝يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا˝ ˝يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)˝
وبعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أجارنا الله جميعا من النار.
إن الله تعالى خلق الجن والإنس وأمرهم بعبادته فقال عزَّ من قائل ˝ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)˝ وبين سبحانه وتعالى كيفية عبادته في الكتب التي أنزل على أنبيائه وآخرها وأفضلها وناسخها القرآن الكريم قال تعالى: ˝ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ˝ ولايمكن أن يصل الإنسان إلى العبادة الصحيحة التي ترضي الله تعالى إلا من طريق علم التفسير الذي هو: علم يبحث في الكشف عن معاني القرآن على مراد الله وبمنهاج رسول الله وأصحابه، لذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون عشرة آيات من القرآن فلا يتعدونها حتى يعلموا معناه ويعملوا بما فيها، عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، ˝
فعلم التفسير يوصل إلى الفهم الصحيح للقرآن والفهم الصحيح يوصل إلى العمل الصحيح والعمل الصحيح يوصل إلى رضوان الله ورضوان الله يوصل إلى الجنة، لذا يعد علم التفسير سيد العلوم وأشرفها وسبيل النجاة من الضلالات والانحرافات والخرافات.
وجميع العلوم الشرعية خادمة له فلا يمكن أن يفسر عالم القرآن حتى يكون ملما باللغة العربية التي هي لغة القرآن وعلم العقيدة وعلم أصول الفقه والفقه وعلم مصطلح الحديث وعلم السير والمغازي، ومن بركات هذا العلم الكريم أن فاهم القرآن يتخشع في صلاته ويتدبر معانيه ويتلذذ بقراءته ما يدفعه إلى حفظ القرآن والإكثار من قراءته والتهجد والتنفل به قال تعالى: ˝ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ˝ وقال أبو جعفر ابن جرير الطبري: ˝ إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله، كيف يلتذ بقراءته ˝ .
وقد ورد في فضل طالب العلم الجليل أن رحمة الله تغشاه وتنزل عليه الملائكة والسكينة ويذكره الله في الملإ الأعلى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» و أفضل سور القرآن الفاتحة، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ˝ هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ ˝ وعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: ˝ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال: 24]. ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، قَالَ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] «هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ» و سميت بالفاتحة لأن المصحف يفتح بها وتفتح بها الصلاة، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قال، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» ومن أسمائها: أم الكتاب وأم القرآن، قَال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» أي المشتملة على أصول معاني القرآن اللذان هما توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأصل الأول مضمن من أولها إلى قوله تعالى: ˝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ˝ والأصل الثاني مضمن من قوله تعالى ˝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ˝ إلى آخرها ـ ومن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم أي آياتها السبع التي استثنيت بها أمة النبي صلى الله عليه وسلم بالتفضيل على باقي الأمم قال تعالى: ˝ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ˝ و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ» و من أسمائها الراقية لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي بها من الأمراض فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَابِهِ قَلَبَةٌ، قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا »فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا˝ ومن أسمائها الشافية أي يشفي الله بها عباده من الأمراض المعنوية كالضلال والأمراض الحسية، قال صلى الله عليه وسلم: ˝ فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ˝ومن أسمائها الحمد لأنها تبتدئ به قال تعالى: ˝الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
و من أسمائها الصلاة أي روحها الصلاة وقيل لا تصح الصلاة إلا بها فعن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ˝ قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 1]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وإِذَا قَالَ: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي – وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي – فَإِذَا قَالَ: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ˝
وقد سماها بعض العلماء بالكنز والأساس والكافية والواقية وغير ذلك.
فهي سورة مكية أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وقيل مدنية وقيل نزل نصفها في مكة ونصفها في المدينة، وقيل نزلت مرتين في مكة وفي المدينة، والصحيح المشهور بين المفسرين القول الأول.
ولأن المؤمن يقرأ هذه السورة على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم في صلواته المفروضة، أقبلنا على تفسير هذه السورة العظيمة بأسلوب ميسر ومفصل وجامع لأجود ما ذكره سادتنا المفسرون في تفاسيرهم راجين من الله تعالى القبول والثواب وأن يجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومع خدمة كتابه الكريم في جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تفسير الاستعاذة:
اتَّفق المفسِّرون أن(الاستعاذة)ليست من القرآن، وأشهر صِيغها الواردة في السُّنة: ˝أعوذ بالله من الشيطان الرجيم˝، ˝أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم˝، وزِيد عليهما في بعض الروايات ˝من همزه ونفثه ونفخه˝ ، وقد اشتق البعض من القرآن: ˝أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ˝ و ˝أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ˝ و˝أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ˝و ˝أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ˝
ويَجوز فيها السر والجهر على المشهور، وقد اختلف العلماء في موضع قراءتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها قبل القراءة؛ لأن العِلة منها طرد وساوس الشيطان عند القراءة، وقدَّروا فِعل: فإذا أردت أن تقرأ القرآن، ˝فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ˝.
القول الثاني: يُحكى عن أبي هريرة وبعض العلماء أنها تكون بعد القراءة لطرد عُجب النفس والسُّمعة وعمَلاً بظاهر الآية: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ النحل: 98.
القول الثالث: ذهب بعض المفسِّرين إلى مشروعيتها قبل القراءة وبعدها عملاً بالوجهين، والمشهور القول الأول، وقد اختلفوا في حُكمها، فذهبت طائفة من أهل العلم إلى وجوبها؛ لأن الأمر يفيد الوجوب ما لم تصرفه القرينة، والصحيح - والله تعالى أعلم - أن الأمر مصروف إلى الاستحباب لقرينة أنه صلى الله عليه وسلم استدل ببعض الآيات من غير أن يستعيذ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ أي: ألتجئ وأعتصم وأتحَصَّن بالله من أذى الشيطان الرجيم، و˝أعوذ˝ فعل مضارع يُفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع،
والمعنى كأن الله تعالى يأمرنا بالمداومة على الاستعاذة؛ لأن الشيطان عَدُوٌّ مبين لا يَملُّ ولا يَكلُّ مِن سعْيه لإضلال الإنسان؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168، وقال على لسانه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ الأعراف: 16، 17، وفي الحديث: ((إن الشيطان يبعث في الصباح سراياه فيقول من يُضلُّ اليوم مُسلمًا أُلبسه التاجَ))
وقد بُدئ الفعل المضارع بهمزة المضارعة لفائدتين - والله تعالى أعلم:
الفائدة الأولى: استدعاء حضور القلب عند القراءة؛ لأن الهمزة تُفيد الحضور.
الفائدة الثانية: استِشعار التواضع والتبرُّؤ من الكِبْر الذي أضل الشيطان، لأن الهمزة تُفيد الإفراد، ولو كانت بدَلها النون لأفادت الإحساس بالتعظيم.
الله: أصل الأسماء الحسنى وأعظمها، وهو المعبود الذي يتقرَّب إليه العباد بشتى الطاعات حبًّا وتعظيمًا، مشتق من ألَه يأْله إلهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة؛ ففي قراءة ابن عباس: ﴿ وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ ﴾، وقيل: الذي حيَّر العقول، مشتقٌّ من الولَه؛ أي: الحيرة وهو بعيد، وقيل: غير مشتق، والصحيح المشهور: القول الأول.
وأما الشيطان فهو الجِنِّي أو الإنسيُّ الكافر المُحارِب للإسلام، مشتقٌّ من شَطَن أي: بعُد عن رحمة الله، وقيل: الشِّياط، والمقصود في هذا السياق شيطان الجنِّ.
الرجيم: وصف له، وهو مفعول في معناه على وزن فعيل، قيل: سُمِّي بالرجيم لأنه أتى إبراهيم عليه السلام وهاجر وإسماعيل في منى، فاستعطف إبراهيمَ حتى لا يذبح ولده، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه، ثم استعطف هاجر على ولدها فقالت: أعوذ بالله منك فرجمته، ثم استعطف إسماعيل عليه السلام على نفسه، فقال: أعوذ بالله منك فرجمه˝، فصار الرجم من مناسك الحج إلى يوم القيامة،
وقيل: سُمِّي بالرجيم؛ لأنه يسترق السمع في السماء فترجُمُه الملائكة؛ قال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 18]، وقيل: وُصف بذلك لأن أتباعه يرجمونه في النار.
السميع: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه الذي لا يَخفى عليه صوت مهما خَفُت، وينقسم إلى سمع عام وهو الذي عرفناه، وسمع خاص ومعناه: الذي يستجيب دعاء عباده.
وأما العليم: فهو من أسماء الله الحسنى، ومن أسمائه أيضًا: العالم والعلّام والأعلم والخبير، ومعناه: صاحب العلم الواسع المطلق؛ بحيث لا يَخفى عليه شيء.
وأما الهمز والنفث والنفخ، فالهمز: جنس من الجنون يُقال له: الموتة، والنفث: الشِّعر القبيح، والنفْخ: الكِبر، فعن ابن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة، قال عمرو: لا أدرى أي صلاة هي، فقال: ((الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) ثلاثًا، ((أعوذ بالله من الشيطان من نفخه، ونفثه، وهمزه)) ، قال: نفثه: الشِّعر، ونفخه: الكبر، وهمزه: الموتة.
تفسير البسملة
فالبسملة اختصار لـ ˝بسم الله الرحمن الرحيم˝ كالحمدلة والصلصلة والحوقلة، جاء في فضلها حديث موقوف حُكمه الرفع، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ˝مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيجعل اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا جُنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ˝ .
ومعناها الإجمالي: طلب العون والبركة من الله وأسمائه الحسنى صاحِبِ الرحمة الشاملة والخاصة قبل الشروع في القول أو الفعل.
فالباء للاستعانة والتبرُّك، و˝اسم˝ مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، ومعناه اللفظ الذي وُضع للشيء لِرِفعة شأنه وتمييزه عن غيره، مشتق من السُّموِّ، وقيل: من السِّمة، والمعنى هنا: أستعين وأتبرك بجميع أسماء الله الحسنى؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]؛ أي: جميع نعم الله؛ لأن ﴿ نِعْمَةَ ﴾ مفرد مضاف إلى اسم الجلالة.
الله: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وهو أعظم اسم من أسماء الله الحسنى؛ لذلك جاء مُبَيَّنًا بعد العموم؛ لأن الخاص بعد العام يفيد الأهمية والشرف، ومعناه المعبود الذي يَتقرب إليه العباد حبًّا وتعظيمًا بشتى الطاعات، مشتق من ألَه يأْله إلاهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة، قال سبحانه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ [الحشر: 22]، وقد استنبط المحققون من أهل العلم من هذا الاسم العظيم أن المخلوقات في الأصل لا أول لها؛ لأنه سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء في ذاته وأسمائه وصفاته، ويلزم من هذا الاسم وجود العباد له، فالمخلوقات في جنسها وأفرادها لها أوَّل كما لها آخر، أما في أصل الخَلق فلا أول له؛ لأن من أسمائه اللهَ والخالق والرب وغيرها، والله تعالى أعلم.
الرحمن الرحيم: اسمان عظيمان من أسماء الله الحسنى، قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، وهما بدل من الله تابعان له في جره، وقيل: نعت.
الرحمن: على وزن فعلان، وهذا الوزن يفيد السَّعَة والامتلاء؛ أي: صاحب الرحمة الشاملة التي تشمل جميع الخَلق، فلولاها لما رُزق الكافر قطرة ماء، قال سبحانه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]، فعرشه سبحانه يتوسط الكون ويعلوه، وهو سبحانه وتعالى فوق عرشه يُغدق رحمته على جميع خلقه.
الرحيم: على وزن فعيل؛ أي: صاحب الرحمة الخاصة بالمؤمنين، فبها وُفِّقوا إلى طاعته وأُدخِلوا الجنة، قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]، وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فالجزء الأول يرجع إلى اسم الرحمن، والتسعة والتسعون جزءًا يرجعون إلى اسم الرحيم.
وقيل: الرحمن الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم إذا لم يُسأل يغضب، وهما مشتقان من الرحم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ˝قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وصلها وصلته ومن قطعها بتته˝ .
والجار والمجرور متعلق بفعل تقديره: ˝أبدأ˝، ويجوز أن يُقدَّر اسمًا ˝ابتدائي˝ على أنه مبتدأ، والمشهور أن يُقدَّر فعلاً لبلاغته، ويجوز أن يُقدَّر خاصًّا: أقرأ أو أتلو، والأفضل - والله أعلم - أن يُقدر عامًّا ˝أبدأ˝؛ لأنه يشمل جميع العبادات والأفعال، فمثلاً تلاوة القرآن فيها القراءة والتدبر والنظر إلى المصحف.
والأصل أن يُقدَّر في أول الكلمة: ˝أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم˝، لكن الأفضل أن يُقدر في آخرها: ˝بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ˝؛ لأن تأخير ما حقُّه التقديم يفيد الحصر والقصر والاختصاص، فيكون المعنى: أي لا أطلب العون والبركة إلا من الله، وفي هذا إدخال للتوحيد في البسملة، الذي هو إفراد الله بالعبادة.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى استحبابها قبل الأقوال والأفعال؛ فبِها بدأ الله كلامه، وكان يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أكله وشربه وجِماعه ودخوله إلى الخلاء ودخوله إلى البيت وخروجه منه، وغير ذلك.
واتفق العلماء أنها جزء آية من سورة النمل: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 29، 30]، وأنها ليست في أول سورة التوبة التي فُضح فيها المنافقون ووُعدوا فيها بأشد العذاب، فلا يليق أن تُبدأ برحمة الله،
واختلفوا هل هي جزء آية من أول كل سورة، أو آية، أو ليست بآية أصلاً، أو آية من سورة الفاتحة؟ والصحيح - والله تعالى أعلم - الذي ترجح لنا أنها آية منفردة في المصحف ليست من السور، أُنزلت للفصل بينها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الفصل ما بين السورة والسورة، حتى ينزل عليه جبريل بـ˝بسم الله الرحمن الرحيم˝.
ويجوز الإسرار بها والجهر في الصلاة وغيرها؛ جمعًا بين الروايات.
وقد بيَّن القُرَّاء أوجه قراءتها، فأباحوا جميع الأوجه، ومنعوا واحدًا:
الأوجه الجائزة:
أولاً: الفصل بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثانيًا: الجمع بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثالثًا: الفصل بينها وبين آخر السورة وجمعها بأول السورة التي تليها.
رابعًا: حذفها بالكلية.
أما الوجه الممنوع؛ فهو جمعها بآخر السورة وفصلها عن أول السورة التي تليها؛ مخافة أن يُظنَّ أنها من آخر السورة، وفيه تعطيل لمعناها المتعلق بالبدء لا بالانتهاء.
فهذا تفسير البسملة الذي ينبغي لكل طالب علم أن يَعْلَمه ويُتقنه؛ لوجودها في أول كلام الله وأوائل المتون والكتب العلمية، ولكل مسلم؛ حتى يحضر قلبه ويخشى ربه ويتذوق حلاوة البَدء بها.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)﴾:
إعراب الآية:
الحمد: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
لله: ل: حرف جر، الله: اسم جلالة مجرور اختياري وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وشبه جملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مبتدأ.
رب: بدل من الله تابع له في جره وقيل نعت تابع له في جره وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
وجه المناسبة بين البسملة وهذه الآية والله تعالى أعلم أن الله تعالى يعد قارئ القرآن ومفسره والعامل به بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة
و المعنى الإجمالي للآية أي جميع الثناء والشكر والمدح مستحق لله تعالى خالق ومالك ومدبر جميع شؤون خلقه ˝فالحمد˝ هو الثناء على شيء بحب وتقدير وهو قريب من الشكر والمدح، فالفرق بينه وبين الشكر من وجهين.
فالحمد أعم من الشكر من جهة السبب فهو يكون مقابل الإحسان وفي غيره، نقول: ˝ فلان يحمد على حسن خلقته ˝ كما يقال: ˝ يحمد على حسن ضيافته ˝ فأما الشكر فلا يكون إلا مقابل الإحسان فهو أعم من الحمد من جهة الآلة فهو يكون باللسان والجوارح وأما الحمد فيكون باللسان قال تعالى: ˝اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ˝سورة سبأ – الآية: 12، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا» و أما الفرق بين الحمد والمدح:
- فالحمد يكون بحب وأما المدح فيكون بحب وبغير حب.
- والحمد يكون للعاقل والمدح يكون للعاقل وغير العاقل نقول مدح شاعر الحمراء مراكش،
- والحمد يكون موجزا وأما المدح فيكون في الأغلب أوسع من الحمد، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحمد أفضل ذكر بعد القرآن الكريم لأن الله تعالى بدأ به كتابه الكريم وأثنى به على نفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ به خطبه، إذ ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ به خطبه فيقول:
«إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» و هو ذكر أهل الجنة يلهمونه كما يلهمون النفس فهو في الدنيا تكليف وفي الآخرة تشريف، قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ˝. سورة يونس الآيات: 9- 10
و هو ذكر الحافين بالعرش قال تعالى: ˝وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝ سورة الزمر - الآية: 75
و لازِمه جميع معاني الأذكار فما استَحق الثناءَ سبحانه وتعالى إلا وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له المنزه عن النقص والرذائل الأكبر من كل شيء، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ˝ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ˝ : فيحمل على من أفضل، ومثال ذلك عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: ˝ أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْإِيمَانُ ˝، قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: ˝ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْهِجْرَةُ ˝، قَالَ: فَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: ˝ تَهْجُرُ السُّوءَ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْجِهَادُ ˝، قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: ˝ أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إِذَا لَقِيتَهُمْ ˝، قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ ˝، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ˝
˝ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
˝رَبِّ ˝: الرب لغة: السيد أو المالك نقول رب الأسرة، وقال سيدنا يوسف على العزيز ˝ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ˝سورة يوسف – الآية: 23
و شرعا: هو الخالق المالك المدبر، من أسماء الله الحسنى المتضمنة لصفات أصلية لازمها باقي صفات الكمال فهو سبحانه ما كان خالقا ومالكا ومدبرا حتى كان عليما خبيرا غنيا حكيما رزاقا.
˝الْعَالَمِينَ˝: جمع عالم قيل هو كل جنس مخلوق عاقل كعالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن، وقيل كل جنس مخلوق فيه روح، وقيل كل جنس مخلوق على الإطلاق وهو الصحيح المشهور.
فهذه الآية الكريمة اشتملت على أصل الإسلام العظيم الذي هو التوحيد فتوحيد الألوهية مضمن في قوله تعالى ˝: الحمد لله ˝ وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مضمن في قوله تعالى: ˝رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝، وهنا لنا وقفة لبيان التوحيد.
إنّ توحيد الله لا يتحقق إلا إذا قام على التصديق بأن الله هو الربّ والإله الذي لا شريك له ولا مثيل.
لقد أكد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حقيقة التوحيد في صيغ متعددة. فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1- 4]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾سورة البقرة – الآية: 163، وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ المائدة - الآية: 73
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ˝لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ˝إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيه أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى..˝
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ˝بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ ˝
إنه ولِما لتوحيد الله من أهمية بالغة فقد حرص علماء الإسلام على تبيان الأصول التي يقوم عليها وما يقتضيه الإيمان بكل واحد منها.
توحيد الله وأصوله: يقوم توحيد الله تعالى على ثلاثة أصول هي:
1- توحيد الربوبية.
2- توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله وصفاته.
هذه الأصول هي حسبما اهتدى إليه العلماء متضمَّنة في الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65]، فتوحيد الربوبية متضمَّن في شق الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾، أما توحيد الألوهية فمتضمَّن في: ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾، وأما توحيد أسماء الله وصفاته فمُتضمن في: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ أي هل تعلم له شبيها ومثيلا في أسمائه وصفاته.
1- توحيد الربوبية:
يعني توحيد الله في الربوبية إفراده سبحانه بالخلق والملك والتدبير، أي الاعتقاد الجازم بأن لا خالق ولا مالك ولا مُدبر في الكون إلا اللهُ سبحانه وتعالى.
لقد نص القرآن الكريم على ربوبية الله فذَكر تفرده سبحانه بالخلق على غيره، قال تعالى: ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾سورة فاطر- الآية: 3، كما أفرد الله نفسه بالملك فقال: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ [الملك: 1]، أما الدليل على إفراد الله ذاته بالتدبير فنجده في قوله تعالى: ﴿ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾سورة الأعراف – الآية: 54، والمراد بالأمر هنا التدبير.
2- توحيد الألوهية:
يعني توحيد الألوهية إفرادَ العبد ربَّه بالعبادة. والعبادة كما عرَّفها ابن تيمية هي: ˝اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة˝ ، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 3
إن الإنسان لا يصير مُوحِّدًا حتى تكون عبادته كلها موجهة لله دون غيره، بحيث لا يدعو إلا الله ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به ولا يحب شيئا مثل حبه ولا يخاف من شيء مثل خوفه ولا يرضى بالتحاكم بغير شرعه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، فتوحيد الألوهية هو حقّ الله على العباد، لأنه خلقهم ورزقهم فاستحق بذلك عبادتهم، وقد وعد سبحانه وتعالى من أفرده بالعبادة بالجنة والنجاة من النار، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل: ˝ يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟ ˝، فقال معاذ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: ˝يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ˝
لقد كان غالبية المشركين في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بتوحيد الربوبية، وهو ما أكده القرآن في حديثه عنهم، حيث قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [الزخرف: 88]، لكنهم كانوا يرفضون الإقرار بتوحيد الألوهية فمنعهم ذلك من الدخول في الإسلام، لأن الدخول فيه لا يتم إلا إذا رافق توحيد الربوبية توحيد الألوهية.
3- توحيد أسماء الله تعالى وصفاته:
يعني توحيدُ أسماء الله تعالى وصفاتِه، إفرادَ الله تعالى بأسمائه التي سمّى بها نفسه وصفاته التي وصف بها ذاته في كتابه والتي أخبر بها رسوله - صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الأصل في التوحيد لَيُبيّن للعبد سبيل التعرف على ربه والتأدب معه في الحدود التي ارتضاها سبحانه لمقامه. ويقتضي الإيمان به مراعاة القواعد التسع التالية:
أولها: لا تُستمد أسماء الله تعالى وصفاته إلا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنها غيب والغيب لا يُعلم إلاَّ من الوحي. قال الله تعالى: ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ﴾ النجم: 1، 4.
ثانيها: التسليم بأن جميع أسماء الله تعالى حسنى في منتهى الحسن، وبأن صفاته كاملة في منتهى الكمال. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 181]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝إن الله جميل يحب الجمال ˝
ثالثها: يجب إثبات أسماء الله تعالى وصفاته كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله دون تحريف ولا تشبيه ولا نفي مع تفويض كيفيتها إلى الله. إن تفسير غنى الله سبحانه وتعالى في الآية: ﴿ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 41]، بالقدرة هو تأويل لا يجوز، أما القول بأن غناه - سبحانه وتعالى - مثل غنى أغنى الناس، فهو تشبيه لا يجوز، وأما الزعم بأن الله غني من غير غنى فهو نفي وتعطيل لا يجوز.
إن هذه التأويل يعارض قول الله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ففي قوله: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ نفي الشبيه عن الله، وفي قوله: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ إثبات لأسماء الله تعالى وصفاته.
إن الفهم الصحيح للآية: ﴿ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾سورة التغابن – الآية: 6، يقتضى التسليمَ بأن الله غني غنى مطلقًا ليس كغنى خلقه الذي يتسم بالمحدودية والحاجة له - سبحانه.
رابعها: لا يجوز اشتقاق أسماء الله تعالى من صفاته، بينما يجوز اشتقاق صفاته تعالى من أسمائه. قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾سورة طه – الآية: 5، لا يجوز لنا هنا أن نشتق من صفة ˝الاستواء˝ اسم ˝المستوي˝. أما في قول الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾، فيجوز لنا إضفاء صفة الغنى على الله؛ لأنها جاءت متضمّنة في اسم الغني ولأن أسماءه سبحانه وتعالى أتت دالة على كماله.
خامسها: لا يجوز حصر أسماء الله عز وجل في تسعةٍ وتسعين اسمًا لوجود دليل من السنة نَصَّ على أن هناك أسماء أخرى استأثر الله تعالى بعلمها وحده دون غيره.
لقد دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على القول في دعائه: ˝أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ..˝
إن هذا الدعاء ليشير إلى وجود أسماء استأثر الله بعلمها وحده، ولهذا يُحمل الحديث النبوي: ˝لله تسعة وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة˝
على أن عدد هذه الأسماء جاء على سبيل الذكر لا الحصر.
سادسها: إن للهِ تعالى صفات ذاتية وأخرى فعلية. أما صفات الله الذاتية فهي الصفات اللازمة لذاته كصفة البركة والحياة والعلم واليد والوجه.
وأما صفات الله الفعلية فهي صفات تابعة لمشيئته كصفة الاستواء على العرش وصفة الرضى وصفة الغضب، فهو يفعلها متى شاء ويدعها متى شاء.
سابعها: لا يجوز أن يُفرَد الله تعالى بصفات كالمكر والاستهزاء والخداع لما فيها من تنقيص منه سبحانه بل يعمد إلى مقابلتها بأفعال المخلوقين. إنها لا تطلق على الله إلا فيما سيقت فيه من الآيات كقوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾. سورة آل عمران – الآية: 54، وقوله: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 14، 15]، وقوله: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾ [النساء: 142].
ثامنها: لا يجوز التفصيل في الصفات التي نفاها الله عن ذاته لما يحمله ذلك من قلة أدب في حق الله عز وجل، ويُسمى كل ما نفاه الله عن ذاته صفاتًا سلبية لما فيها من نقص كنفي الولد والنوم؛ قال تعالى: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴾، وقال - سبحانه -: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ ﴾، فمثلاً إذا قال إنسان لملِك أنت لست فقيرًا ولا ضعيفًا ولا ذليلًا ولو كنت كذلك لما صرت ملكًا، فلا شك أن مثل هذه الأوصاف لا تُلاقى بالتَّرحاب.
تاسعها: إذا أطلقنا على الله اسم ˝الصانع˝ و˝المقصود˝، فإن ذلك يعد حقًّا في ذاته - سبحانه - لأنه في حقيقة الأمر صانع للكون، ومقصود بالعبادة والرجاء، ولو لم يرد دليل مباشر في الكتاب والسنة على ذلك؛ لذا فقد سمى العلماء ما كان حقًّا في ذات الله، ولم يرد به نصٌّ إِخبارًا.
إن لتوحيد سبعة شروط تسمى عند العلماء بأركان وشروط لا إله إله إلا الله و لا يصير المرء موحدا حتى يحققها، فالركنان هما: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله: قال تعالى: ˝ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ˝ سورة البقرة - الآية: 256
وقال أيضا: ˝ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ˝سورة الزخرف - الآيات: 26-27 فالكفر بالطاغوت متجلي في قوله عليه السلام: ˝ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ˝و الإيمان بالله متجلي في قوله: ˝ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ˝
فالكفر بالطاغوت هو نفي استحقاق العبادة عن غير الله ويدخل فيه بغض كل مدع للألوهية وجهاده إن توفرت الشروط الشرعية المبينة في كتب العقيدة والفقه.
والطاغوت لغة: هو المتجاوز لحده،
وشرعا هو كل مجاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع برضاه، وقد يعرف بكل مشارك لله في حقه على الناس الذي هو العبادة، ورؤوس الطواغيت خمسة:
الرأس الأول: الشيطان، قال تعالى: ˝ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ˝سورة النحل – الآيات: 36
الرأس الثاني: كل من دعى الناس لعبادة نفسه، كفرعون قال تعالى: ˝ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ˝ سورة الفجر، الآيات: 6-12
الرأس الثالث: كل من عبد من غير الله ورضي وسكت.
الرأس الرابع: كل من ادعى علم الغيب وتعامل مع الشياطين لإذاية الناس كالسحرة والعرافين، قال تعالى: ˝ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ˝ سورة النساء – الآية: 51
الرأس الخامس: الحاكم الذي يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، قال تعالى: ˝ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ˝سورة النساء – الآية: 60 وأما إن كان يعتقد أن شرع الله هو الحق وحكم بغيره بسبب هوى في نفسه أو حرص على مصلحة دنيوية فهو واقع في الشرك الأصغر الذي لا يخرج من الملة ولا يدخل في الطواغيت.
و أما الإيمان بالله فهو التصديق بوجوده وإفراده بما يختص به على الوجه الذي بيناه في معنى التوحيد، وهو يتضمن الإيمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبرت به عنه رسله من صفات كماله ونعوت جلاله على وجه الإجمال والتفصيل، وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص.
و أما شروط التوحيد التي تسمى عند العلماء بشروط لا إله إلاّ الله فهي سبعة: العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد.
الشرط الأول: العلم معنى التوحيد وهو إدراك معنى التوحيد بدليله. فالإنسان لا يمكن أن يعمل بشيء ويُطَبّقه في حياته حتى يعلمه. فالعلم لازم للعمل، قال الله تعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ اللَّهُ ﴾. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ˝من مات وهو يعلم لا إله إلاّ الله دخل الجنة˝
الشرط الثاني: اليقين وهو اعتقاد التوحيد من غير شك. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾سورة الحجرات – الآية: 15. وقال تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾سورة إبراهيم – الآية: 10
الشرط الثالث: الصدق وهو استقامة الظاهر والباطن على توحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته. قال سبحانه وتعالى: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وكُونُوا مَعَ الصّادِقينَ ﴾ سورة التوبة – الآية: 119. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ [ص: 38] مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ، إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . وضد الصدق النفاق، فهو من أشرَّ الكفر بالله ويعني إبطان الكفر وإظهار الإسلام. قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ﴾سورة النساء – الآية: 145
الشرط الرابع: الإخلاص، وهو الابتغاء بالتوحيد والعمل به وجَه الله تعالى وثوابه دون رياء ولا سمعة. قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ سورة البينة – الآية: 5. وقال سبحانه وتعالى أيضا: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ﴾سورة الزمر – الآية: 14. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ، أَوْ نَفْسِهِ ˝ وللإخلاص قوادح تفسده، يجب معرفتها واجتنابها.
القادح الأول: الرياء، وهو فعل العبادة أمام الناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» القادح الثاني: السمعة، وهي ذكر العبادة والعمل الصالح للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» أي من سمَّع في الدنيا أسمع الله النّاسَ عيوبه يوم القيامة. والسمعة أخطر من الرياء، لأن الإنسان قد يفعل عبادة ويُخلِص فيها ثم يفسدها بالسمعة بعد سنين.
الشرط الخامس: المحبة، وتعني حبَّ الله تعالى وحبّ ما يحبّ وكراهية ما يكره؛ لقد نعت الله عباده المؤمنين بأنهم أشد الناس حبا له، فهم لا يتخذون من دونه أنداداً كما يفعل غيرهم، قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ﴾سورة البقرة-الآية: 165 وعلامة حب العبد ربَّهُ تقديم كل ما يُحب الله على ما يحبه هو وتميل إليه نفسه، وبغض جميع ما يُبغِض ربُّه وإن مالت إليه نفسه.
الشرط السادس: القَبول، ويعني أن نقبل بالتوحيد كما هو دون أدنى تردّد أو تمنُّع. لقد حدثنا الله تعالى في كتابه عن حال الأمم التي استكبرت ورَدّت كلمة التوحيد متَّهِمَةً من دَعاها إليها بالجنون فقال: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾. سورة الصافات – الآيات: 35-36. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصحا: ˝قل آمنت بالله ثم استقم˝
الشرط السابع: الانقياد، وهو الإذعان لأمر الله تعالى بالرضى المستحق. قال تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾، وقال أيضا: ﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾سورة لقمان – الآية: 22 ومعنى ﴿ يُسْلِمْ وَجْهَهُ ﴾ أي يذعن، ﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾أي موحد، والعروة الوثقى فسّرها علماء الإسلام بـ˝لا إله إلاّ الله˝
و لا يقبل الله تعالى توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات من العبد إلا من طريق توحيد الاتباع بعد بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إفراد النبي صلى الله علي وسلم بالمتابعة في الدين فقد أجمع العلماء أن من وصلته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه فهو كافر قال تعالى: ˝ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ˝سورة النساء – الآية: 65وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ، وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» وقال أيضا: ˝ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ˝ .
و لا يحقق العبد توحيد الاتباع إلا بالشروط السبعة التالية:
الشرط الأول: العلم بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم.
إن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتم إلا بمعرفة سنته - صلى الله عليه وسلم -. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ˝ وقال أيضا: ˝طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ˝ ومِن أَوْجَبِ العلمِ تَعلُّمُ سنته - صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني: محبته - صلى الله عليه وسلم.
وتعني أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبَّ للمسلم من نفسه وولده، فعن أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» و قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب: ˝ لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ˝ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝الآنَ يَا عُمَرُ˝
الشرط الثالث: التصديق بما أخبر به - صلى الله عليه وسلم.
إنَّ كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعدّ وحيا من الله، لذا وجب تصديقه سواء كان خبراً ماضيا كقَصص الأنبياء والصالحين، أو خبراً حاضراً كأحوال الملائكة والجن، أو خبراً مستقبَلا كعلامات الساعة وأحوال أهل الجنة والنار. قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾سورة الحديد – الآية: 28.أي صدِّقوه فيما قال.
الشرط الرابع: طاعته - صلى الله عليه وسلم-.
أمر الله المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سورة الأنفال – الآية: 20. أما الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد قال: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى» ومن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾[31]. وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا˝
الشرط الخامس: تحقيق عبادة الله على منهاجه - صلى الله عليه وسلم.
إن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عبادةً حتى تكون على سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: ﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾سورة الأعراف – الآية: 158. أي تَأسَّوْا به في عبادتكم لربكم.
الشرط السادس: الإيمان بأفضليته - صلى الله عليه وسلم.
إن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أفضل الرسل دون تنقيص من رسول أو تحقير. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..˝
الشرط السابع: الإيمان بخاتَمِيَّته - صلى الله عليه وسلم.
ويعني الاعتقاد الجازم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو آخر الأنبياء والمرسلين؛ قال الله تعالى: ﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾.سورة الأحزاب – الآية: 40، فلا يقبل مسلم بِمُدَّعٍ لنُبُوَّة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما كانت مكانته. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝لا نبيّ بعدي˝ . أي لَا لِأحد أن يدَّعي النبوة بعدي.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الحمد خير ذكر بعد القرآن، لذا بدأ به سبحانه قرآنه.
- جميع المحاميد مستحقة له سبحانه لكمال ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
- من أسمائه سبحانه وتعالى ˝ الله ˝ وهو: المعبود الذي يتقرب إليه العباد بشتى الطاعات حبا وتعظيما.
- أن من أسمائه سبحانه ˝الرب˝ وهو الخالق المالك المدبر.
- اشتملت الآية على أقسام التوحيد الثلاثة وهي: توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
˝الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ˝
إعراب الآية:
الرحمان: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره، وقيل نعت تابع لمنعوته في جره.
الرحيم: لها نفس إعراب الرحمان
مر تفسيرها معنا في البسملة ووجه المناسبة والله أعلم بينها وبين الآية التي قبلها أن الله تعالى يعد موحده وحامده بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة فهي قبله في البسملة وبعده في هذه الآية قال تعالى: ˝ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ˝ سورة الأحزاب - الآيات: 43-44
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه سبحانه: ˝الرحمان˝ وهو صاحب الرحمة الواسعة التي تشمل جميع الخلق.
- أن من أسمائه سبحانه وتعالى: ˝الرحيم ˝ وهو صاحب الرحمة الخاصة بعباده المؤمنين.
- يستحب أن يقرن الرحمان بالرحيم في الدعاء وغيره لورود الآية بذلك وبيان فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الذين خصهم بالرحمة الأخروية من دون سائر الناس.
˝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ˝:
إعراب لآية:
مالك: بدل من الله تابع له في جره وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره وقيل نعت تابع لمنعوته في جره وهو مضاف.
يوم: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره.
الشرح:
˝ مَالِكِ ˝: أي المتصرف في يوم القيامة وقرئت أيضا ب ˝ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ˝ أي الحاكم المتصرف وهو أبلغ من مالك مشتق من الملك أما الأول فإنه مشتق من المِلك فكل ملك مالِك وليس كل مالِك ملك وجميع آيات القرآن تأتي بضم الميم كقوله تعالى: ˝لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ˝سورة المائدة – الآية: 120 وقوله تعالى: ˝ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ˝سورة غافر - الآية: 16
وقوله تعالى: ˝ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ˝ سورة البقرة - الآيات: 106و من أسمائه سبحانه ˝ مالك وملك ومليك ˝ قال تعالى: ˝ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ˝ سورة القمر - الآيات: 54-55
و معناه صاحب الملك الواسع.
˝ يَوْمِ الدِّينِ ˝: هو يوم الجزاء لأن الله تعالى يبعث فيه الناس ليجزيهم على أعمالهم فمن كان مسلما وغلبت حسناته سيئاته دخل الجنة، وإن غلبت سيئاته حسناته دخل النار حتى يطهر من الذنوب فيدخل الجنة إلا إذا غفر الله له أو أدركته شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد المؤمنين فإنه يدخل الجنة من أول مرة،
و أما الكافر فمآله النار خالدين فيها أبدا وبئس المصير قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) ˝ سورة البينة - الآيات: 6-8
وقيل سمي بيوم الدين: لأنه اليوم الذي ينصر فيه الإسلام ويظهر للجميع أنه الحق.
و من أسمائه ˝ يوم القيامة ˝: أي اليوم الذي يقوم فيه الخلق من قبورهم للحساب والجزاء قال تعالى: ˝ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ˝ سورة القيامة – الآية: 1
و من أسمائه: ˝ يوم الفصل ˝: قال تعالى: ˝ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ ˝سورة الدخان - الآيات: 40 أي اليوم الذي يفصل فيه الله بين الكفر والإيمان والحق والباطل والظالم والمظلوم،
و سمي أيضا ˝ بيوم التغابن ˝: أي اليوم الذي يَغبُنُ فيه أهل الجنة أهل النار قال تعالى: ˝ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ˝ سورة التغابن – الآية: 9
و سمي ˝ بيوم الجمع ˝ لأنه تعالى يجمع فيه جميع الخلق فلا يفلت منهم أحد، قال تعالى: ˝ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ˝سورة التغابن – الآية: 9
وسمي ˝ بالغاشية ˝: لأنه يُطبق على الناس ويغشاهم بحيث لا يجدون منه مفرا قال تعالى: ˝ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ˝ سورة الغاشية – الآية: 1
و سمي ˝بالقارعة ˝ لأنه يقرع القلوب بأهواله، قال تعالى: ˝ الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) ˝ سورة القارعة
و سمي بيوم الحشر: لأن الناس يحشرون فيه، قال تعالى: ˝ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ˝ سورة يونس – الآية: 28
و سمي بالواقعة: أي يقع على الناس فجأة، قال تعالى: ˝إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ˝ سورة الواقعة – الآيات: 1-2
و سمي: ˝بالحاقة ˝: أي يحق فيه ما أنكر من البعث والحساب والجزاء والقرآن، قال تعالى: ˝ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)˝سورة الحاقة – الآيات: 1-3
و سمي بيوم البعث: لأن الناس يبعثون فيه من قبورهم، قال تعالى: ˝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ˝. سورة يس– الآية: 51
و سمي بيوم الحساب: لأن الناس يحاسبون فيه على أعمالهم، قال تعالى: ˝ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ˝ سورة الانشقاق – الآيات: 7-8
و سمي˝ بالساعة˝: لأنه هو وقت تحول الناس من الدنيا إلى الآخرة، قال تعالى: ˝قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ˝ سورة الأنعام – الآية: 30
و سمي بالصاخة: قال تعالى: ˝ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ˝ سورة عبس- الآية: 33قال البغوي رحمه الله: ˝ الصاخة ˝ يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها.
و سمي بالطامة الكبرى: قال تعالى: ˝ فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ˝سورة النازعات – الآية: 34 قال البغوي في تفسيره: وسميت القيامة ˝ طامة ˝ لأنها تطم على كل هائلة من الأمور، فتعلوا فوقها وتغمر ما سواها والطامة عند العرب الداهية التي لا تستطاع .
و سمي بالمعاد: قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ˝سورة القصص – الآية: 85
و سمي بيوم التلاقي: لأن العبد يلتقي فيه بربه، قال تعالى: ˝رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ˝سورة غافر – الآية: 15
و سمي بيوم الوعيد: قال تعالى: ˝وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ˝سورة ق – الآية: 20 أي اليوم الذي يتوعد فيه الله تعالى الظالمين بأشد العذاب.
و هو تعالى مَلك ومالك ليوم القيامة وغيره، وإنما خص يوم القيامة بالمُلك في هذا السياق والله تعالى أعلم لبيان عظمت ذلك اليوم الذي ينتهي فيه ملك كل أحد ويبقى ملك الواحد الأحد سبحانه قال الله تعالى: ˝لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ˝سورة غافر – الآية: 16، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ يَطْوِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ. ثُمَّ يَطْوِي الْأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟ ˝
و فسرت هذه الآية بالقادر على إقامة يوم الدين وهو ضعيف من جهة اللغة والشرع فالمُلك منفصل عن القدرة ومن أسمائه تعالى الملك والمالك والقادر والقدير فيبعد تفسير المُلك بالقدرة.
ووجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآيتين السابقتين أنه تعالى سيرحم أهل القرآن والتوحيد والحمد يوم القيامة ويرون ذلك بأعينهم قال تعالى: ˝ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ˝سورة الحديد – الآية: 12
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من أسمائه تعالى: ˝المالك˝ وهو المتصرف.
- أن من أسماه تعالى: ˝الملك˝ وهو الحاكم المتصرف.
- أن يوم القيامة لا ريب فيه.
- أن من أصول الإيمان الإيمان بيوم القيامة التي يقوم فيها الناس ليحاسبوا ويجزوا على أعمالهم، لذا ذكره سبحانه وتعالى في أعظم سورة في القرآن الكريم.
- أن من أسماء يوم القيامة: ˝ يوم الدين ˝ أي يوم الجزاء.
˝إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ˝:
إعراب الآية:
إيا: ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم.
الكاف: حرف خطاب مبني على الفتح.
نعبد: فعل مضارع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره نحن.
الواو: واو العطف.
إياك نستعين: جملة فعلية معطوفة على الآية التي قبلها.
الشرح:
العبادة لغة: مأخوذة من قول العرب الطريق معبد أي ممهد للسير.
و شرعا: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ˝ هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ˝
أي كل قول أو فعل دل دليل على أن الله يحب أن يتقرب له به فهو داخل في مسمى العبادة، كالدعاء والركوع والسجود والذبح والصوم والحكم وغير ذلك، ولكل عبادة منها ركنان وشرطان لا تصح العبادة إلا بهما.
الركنان هما: تمام الحب وتمام الذل له سبحانه، قال تعالى: ˝ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ˝ وقال أيضا: ˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ˝سورة المائدة – الآية: 54 وقال أيضا في سورة المؤمنين: ˝ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ˝ وقال أيضا في سورة البقرة: ˝ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ˝
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
وعبادة الرحمن غاية حبه.. مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر.. ما دار حتى قامت القطبان
وأما الشرطان فهما الإخلاص لله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى ˝ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ˝ أي من كان يريد حسن اللقاء مع ربه يوم القيامة فليصلح عمله باتباع المصطفى صلى الله عليه وسلم فلا يرد به غير وجه ربه الأعلى، وقال أيضا: ˝ وما كان لمومن ولامومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ˝
فالإخلاص لغة هو الصفاء نقول: ˝ خالص ماء الورد ˝
و شرعا هو: الابتغاء بالعبادة رضوان الله وتوابه دون رياء ولا سمعة ولا مصلحة دنيوية، قال تعالى: ˝ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء..˝ وقال أيضا: ˝ قل الله أعبد مخلصا له ديني ˝
و له ثلاثة قوادح تفسده وبالتالي تفسد العبادة على صاحبها.
القادح الأول: الرياء وهو: إظهار العبادة لناس ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: ˝ أنا أغنى الشركاء عن الشرك من أشرك بي شيئا تركته وشركه˝ وقال عليه الصلاة والسلام: ˝ أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، قيل ما الشرك الخفي يا رسول الله، قال: الرياء ˝ وفي رواية: ˝ يزين الرجل صلاته ليراها الرجل ˝
القادح الثاني: السمعة وهي: تحديث الناس بالعبادة ابتغاء إعجابهم، قال صلى الله عليه وسلم: ˝ من رأى راء الله به ومن سمع سمع الله به ˝ أي من سمع في الدنيا أسمع الله عيوبه الناس يوم القيامة.
القادح الثالث: فعل العبادة ابتغاء مصلحة دنيوية: كالذي يدعي التدين ليتزوج من امرأة تقية، أو الذي يطلب العلم ليشتهر به ويحصل المال والجاه: قال تعالى: ˝ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ˝، فعن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» أما الاتباع لغة: تقفي الأثر.
و شرعا: موافقة العبادة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم في الأصل والتفاصيل والسبب والعدد والصفة والزمان والمكان والقدر والجنس.
المقصود بالأصل: أن يكون لها دليل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
و التفاصيل: أي توافق سنة النبي صلى الله عليه في الجزئيات المضمنة في الأصل.
و السبب: مثل دعاء دخول المسجد فسببه هو دخول المسجد.
و العدد: مثل عدد ركعات الصلاة.
و الصفة: كموافقة هيئة النبي صلى الله عليه والسلام في الصلاة أو في الحج.
و الزمان: كأداء الصلاة في وقتها الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و المكان: كأداء ركعتي تحية المسجد في المسجد.
و القدر: كإخراج زكاة المال من القدر الذي بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
و الجنس: كالتضحية في العيد بجنس الأنعام.
و أما الاستعانة فهي طلب العون من الله، فهي عبادة قلبية لها علاقة بالدعاء، قال تعالى: ˝ وعلى الله فليتوكل المومنون ˝ وقال أيضا: ˝ فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين ˝ وقال صلى الله عليه وسلم: ˝فإذا استعنت فاستعن بالله ˝
و لا يجوز أن تطلب في الأصل من غير الله إلا بشروط.
الشرط الأول: أن يعتقد المستعين أن المستعان به أعانه بقدر الله وتوفيقه.
الشرط الثاني أن يكون المستعان به حيا.
الشرط الثالث: أن يكون المستعان به حاضرا.
الشرط الرابع: أن يكون المستعان به قادرا على الإعانة. والدليل على هذه الشروط، قوله تعالى: ˝فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ ˝ سورة القصص – الآية: 15
و المعنى الإجمالي للآية ˝ إياك نعبد وإياك نستعين˝ ألا نتقرب بالعبادة ولا نطلب العون على ذلك وغيره إلا منك سبحانك.
ف˝إِيَّا ˝: ضمير منفصل مبني في محل نصب مفعول به مقدم والأصل في المفعول به أن يؤخر عن الفعل، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والقصر والاختصاص، أي لا نعبد غيرك ولا نستعين بغيرك، والكاف حرف خطاب يفيد وجوب حضور القلب في الصلاة لأن انتقال الخطاب من الغائب إلى الحاضر يستدعي الانتباه وحضور القلب، ويفيد أيضا قرب الله تعالى من عبده خاصة في الصلاة فمن أسمائه تعالى ˝القريب˝ قال تعالى: ˝ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ˝ سورة البقرة – الآية: 186وقال عليه الصلاة والسلام: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ» و من معاني هذه الآية الكريمة: أنه تعالى يعظم عباده الموحدين لأن نون الجمع في فعل المضارع ˝ نَعْبُدُ وَنَسْتَعِينُ ˝ تفيد التعظيم إذا أطلقت على الفرد قال تعالى: ˝ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) ˝ وفيها إشارة إلى أن المؤمنين أمة واحدة متماسكة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا لدلالة النون على الجماعة، قال تعالى: ˝ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ˝سورة الأنبياء – الآية: 92 وقال أيضا: ˝ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ˝سورة الأنعام - الآية: 159 وقال صلى الله عليه وسلم: ˝ مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ˝ وعَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» و فيها إشارة إلى أن الأصل في صلاة الرجل الجماعة لدلالة النون عليها قال سبحانه وتعالى: ˝ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ˝ وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «صَلاَةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاَةَ الفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وفي رواية: «تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» و قد اختلف العلماء في حكمها بين القول أنها شرط صحة في الصلاة وأنها واجبة وأنها سنة مؤكدة والمشهور من مذهب الإمام مالك أنها سنة مؤكدة والله تعالى أعلم.
و من معانيها أيضا أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة لأن الفعل المضارع يفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع، قال تعالى: ˝ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ ˝سورة إبراهيم – الآية: 27 وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا، وَإِنْ قَلَّ» و ينبغي الإشارة إلى تنبيه قارئ هذه الآية من خطإ شائع يحرف معناها ويبطل الصلاة إن كان بتقصير وهو نطق الياء مخففة من غير شدة ˝إيَاك˝ ف ˝الإيَا ˝ هو ضوء الشمس فيصير المعنى ضوء شمسك نعبد ونستعين.
و وجه المناسبة بين هذه الآية والآيات التي قبلها والله تعالى أعلم أن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة على العبادة لا على الخِلقة والأرزاق والآجال.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن أعظم أصل في الدين هو التوحيد.
- أن الله تعالى يعظم عباده الموحدين.
- أنه تعالى يحب أن يكون عباده جسدا واحدا كالبنيان المرصوص.
- أن صلاة الرجل مع الجماعة سنة مؤكدة.
- أنه ينبغي للعبد أن يطلب العون من الله على العبادة وغيرها.
- أن الخشوع من واجبات الصلاة.
- أن الله تعالى قريب من عباده المؤمنين.
- أنه تعالى يحب أن يستمر عباده على الطاعة.
˝اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ˝
اعراب الآية:
اهدنا: فعل أمر بمعنى الدعاء مبني على حذف الياء والفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت، نا: ضمير متصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول.
الصراط: مفعول به ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
المستقيم: نعت تابع لصراط في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
شرح الآية:
أي وفقنا وأرشدنا برحمتك ومنك وكرمك إلى طريق الجنة الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام.
اهْدِنَا: دعاء، ويكون الدعاء بصيغة الأمر ممن هو أسفل إلى من هو أعلى،
والهداية تنقسم إلى قسمين هداية توفيق وهداية دعوة وإرشاد.
فهداية التوفيق لا يملكها إلا الله سبحانه وهي في قوله تعالى: ˝ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ˝ وفي قوله تعالى: ˝ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ˝ وفي قوله تعالى: ˝ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ ˝
و أما هداية الدعوة والإرشاد فهي: إرشاد الناس إلى الحق والخير وتحذيرهم من الضلال والشر، وقد جعلها سبحانه وتعالى بيد أنبيائه ودعاته، وهي في قوله تعالى: ˝ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ˝ وفي قوله تعالى: ˝ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ ˝
و في هذه الآية الكريمة ˝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ˝ استحباب أن يكثر المؤمن من الدعاء لنفسه ولأخوانه المسلمين، قال سبحانه: ˝ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ˝ وقال أيضا: ˝ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ˝ وقال تعالى: ˝ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ˝ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ˝ إن الله يحب العبد الملحاح ˝ أي كثير الدعاء وقال أيضا: ˝ لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ˝
و قد عبر سبحانه وتعالى في هذه الآية على الإسلام بالصراط المستقيم لأنه منهاج حياة متكامل وقويم يدفع الإنسان إلى الخير ويبعده عن الشر ويوصله إلى رضوان ربه وجنته، قال تعالى: ˝ قد جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ˝ وقال تعالى: ˝ إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) ˝
الإسلام في اللغة هو الاستسلام.
وفي الشرع هو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى بالإخلاص والرضى المستحق له سبحانه. فهو مبنيّ على الاستجابة للأمر الإلهي من غير اعتراض ولا تمَنّع. وينقسم إلى قسمين: إسلام عامّ وإسلام خاص. الإسلام العام هو الاستجابة والانقياد لأمر الله تعالى في كل زمان، فهو دين جميع الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم. والدليل قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. وقال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾.
وأما الإسلام الخاص فهو اتّباع شرع محمد - صلى الله عليه وسلم -. فالله عز وجل لا يقبل شرعا ولا دينا بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلا دينه - عليه الصلاة والسلام -. قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. وفي الحديث الصحيحالذي رواه الامام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ». وقال - صلى الله عليه وسلم -: ˝لو كان أخي موسى حيّا ما وسعه إلا أن يتّبعني˝.
وضد الإسلام الكفر، ويعني في اللغة: التغطية، تُسمّي العرب الزُّرّاع بالكفار لأنهم يغطون الزرع. قال الله تعالى: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾، أي الزّراع. وفي الشرع هو رفض الإسلام وله سبعة أصول تَرجع إليها جميع شعب الكفر وصوره.
الأصل الأول: كُفر الشرك، وهو عبادة غير الله معه كدعاء الأموات والذبح لهم وحب شيء مثل حب الله والخوف من شيء مثل خوف الله والرضى بالتحاكم لغير شرع الله إلخ. قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ﴾. وقال سبحانه وتعالى في شرك المحبة: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ وينقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر. الشرك الأكبر سُمّي بالأكبر لأنه يُخرج من الإسلام، وهو الذي عرّفناه. وأما الشرك الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي بالشّرك في الشرع ولا يُخرج من الإسلام، لذا سُمّي بالأصغر، إلا أنه أقبح من كبائر الذنوب، ونذكر بعض أنواعه:
النوع الأول: الحَلِفُ بغير الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ˝من حلَف بغير الله فقد أشرك˝
النوع الثاني: الشرك اللفظي، وهو الشرك في اللّفظ دون القصد، كقول الرجل لولا الله والكلب لسُرق البيت، والصحيح أن يقول لولا الله ثم الكلب، لأن الواو تفيد المعية والتسوية وأما ثُمّ فتفيد التراخي، أي الكلب بعد الله. قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ˝لو شاء الله وشئت، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أجعلتني لله نِدّا، قل ما شاء الله وحده˝ وفي رواية: ˝قل لو شاء الله ثم محمد˝. وفي حديث آخر: ˝رأى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يمشي في طريق من طرق المدينة، فالتقى بنفر من اليهود قال نِعم القوم أنتم اليهود، لولا أنكم تقولون عُزير ابن الله، فقالت اليهود نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، ثم التقى بنفر من النصارى فقال لهم نِعم القوم أنتم النصارى لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، فقالت النصارى نِعم القوم أنتم المسلمون لولا أنكم تقولون لو شاء الله ومحمد، فلما أصبح الرجل ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فقال - صلى الله عليه وسلم - اجمَعُوا الناس ثم صعد المنبر وقال يأيها الناس لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ، وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ ˝
النوع الثالث: الرياء، وهو إظهار العبادة للناس ابتغاء ثنائهم وإعجابهم. قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟» قَالَ: قُلْنَا: بَلَى، فَقَالَ: «الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي، فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ» النوع الرابع: السمعة، وهي إخبار الناس بالعبادة ابتغاء ثنائهم وإعجابهم، وهي داخلة في الشرك الخفي.
النوع الخامس: التّطيّر، وهو التشاؤم بأشياء معينة كالرجل الأسود أو الهِرّ الأسود. وسُمّي بالتطير لأن العرب في الجاهلية كانوا إذا همّوا بالخروج إلى سفر أطلقوا طائرا، فإن طار يمينا تفاءلوا وسافروا وإن طار شمالا تشاءموا ورجعوا. قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝الطِّيَرة شرك˝. وأما التفاؤل بالخير فلا بأس به، كالتفاؤل بالأذان أو سماع القرآن أو رؤية رجل صالح، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه الفأل الحسن.
الأصل الثاني: كُفر الجحود والعناد، وهو التكذيب بالإسلام رُغم العلم بصِدقه ككفر آل فرعون، قال سبحانه وتعالى في حقهم: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾، أي كفروا بلا إله إلاّ الله رُغم علمهم بصدقها.
الأصل الثالث: كفر التكذيب، وهو الكفر بالإسلام جهلا بصِدقه، قال سبحانه وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ الأصل الرابع: كفر الإيباء والاستكبار، وهو الكفر بالإسلام بسبب احتقار أهله ككفر إبليس، قال سبحانه: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ ﴾ الأصل الخامس: كفر الشك، وهو التردد في صدق الإسلام، قال سبحانه: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ الأصل السادس: كفر الإعراض، وهو إهمال الإسلام وترك تعلّمه والعمل به، قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً ﴾ الأصل السابع: كفر النفاق، وهو إبطان الكفر وإظهار الإسلام، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾. وقال تعالى أيضا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ وينقسم الكفر إلى كفر أكبر وكفر أصغر، الكفر الأكبر هو الذي بيّنّا أصوله وأما الكفر الأصغر فهو الذنب الذي سُمّي في الشرع بالكفر ولا يُخرج من الإسلام، لذلك سُمّي بالأصغر كقتال المؤمن، قال - صلى الله عليه وسلم -: ˝سِباب المؤمن فسوق وقتاله كفر˝ والدليل الذي صَرَف الكفر في الحديث من الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾. قال الحافظ بن كثير فقد أثبت سبحانه وتعالى الإيمان لِكلا الطائفتين رُغم اقتتالهم.
وموانع اتباع الكفار للإسلام ستة:
المانع الأول: التعصب لما كان عليه الآباء والأجداد، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾سورة البقرة – الآية: 170
المانع الثاني: اتباع الهوى، وهو شهوة النفس، قال سبحانه: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾سورة ص – الآية: 26
المانع الثالث: الكِبْر، وهو احتقار الناس والتعالي عليهم، فهو السبب الذي منع إبليس من الإسلام. قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾.سورة البقرة – الآية: 35
المانع الرابع: الخوف من زوال مصلحة دُنيوية كالملك أو المال أو الجاه، قال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَة ﴾سورة التغابن الآية: 15.وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» أي الحرص على المال والجاه يُفسد الدِّين كما يفسد الذنبان الجائعان الغنم. وقد كان الحرص على المُلك سببا في ارتداد هِرقل ملك الروم بعدما آمن.
المانع الخامس: الحسد، وهو تمنِّي زوال النعمة عن الغير، فهو من أسباب كُفر اليهود لأنهم حسدوا العرب على (النبي صلى الله عليه وسلم) وعلى القرآن. قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ سورة البقرة – الآية: 109.
المانع السادس: الجهل، وهو هنا عدم معرفة الإسلام، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ﴾. سورة التوبة – الآية: 6
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هذه الآية والآية التي قبلها أنه تعالى:
- لا يقبل عبادة من أحد حتى يكون مسلما، قال تعالى: ˝وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) ˝ سورة آل عمران – الآية: 85
- أن من آداب الدعاء أن يبدأ بالثناء على الله لأن الآيات التي قبل هذه الآية ثناء عليه سبحانه.
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن التوفيق إلى الحق بيد الله سبحانه وتعالى.
- استحباب أن يدعو المؤمن لنفسه وإخوانه.
- أن الله تعالى لا يقبل دينا غير الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
- أن الإسلام هو منهاج الحياة القويم والمتكامل الذي يدفع البشرية إلى السعادة ويبعدها عن الشقاوة في الدنيا والآخرة.
˝صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ˝
إعراب الآية:
صراط: بدل تابع للمبدل منه في نصبه وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الذين: اسم موصول مبني على الفتح في محل جر مضاف إليه.
أنعمت: فعل ماض مبني على السكون والتاء ضمير متصل مبني على الفتح في محل رفع فاعل.
عليهم: على: حرف جر، هم: ضمير متصل مبني على الكسر في محل جر اسم مجرور، وجملة صلة الموصول لا محل لها من الإعراب.
شرح الآية:
أي دين ومنهاج الذين أنعم الله عليهم بالمنهاج القويم والدين الحق والسعادة الدنيوية والجنة والنظر إلى وجه الله في الآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
قال تعالى: ˝وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)˝سورة النساء – الآيات: 69-70
والنبي هو الرجل الإنسي العاقل المعصوم من الكفر والكبائر والرذائل والمكلف بتبليغ رسالة ربه،فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول والفرق بينهما على أرجح أقوال أهل العلم،
الرسول هو: الذي أوحي إليه بشرع جديد غالبا ويبعث إلى قوم مشركين،وقلنا غالبا ليخرج من القاعدة سيدنا إسماعيل عليه السلام فهو رسول نبي أبقاه الله على شرع أبيه ابراهيم عليه السلام،وأما النبي فهو: الذي أوحي إليه بإحياء شرع من قبله غالبا ويبعث إلى قوم مؤمنين وقلنا غالبا لأنه يستثنى من القاعدة آدم عليه السلام فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبي ولا شك أن لا شرع قبله لكونه أبو البشر وقد أخطأ من عرف النبي بالذي أوحي إليه بالرسالة ولم يؤمر بالتبليغ والرسول أمر بالتبليغ لأن هذا يتنافى مع الحكمة الإلهية المطلقة ويتعارض مع قوله تعالى : ˝ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ˝سورة آل عمران – الآية: 187
فأما الصديق فهو المبالغ في الإخلاص لربه والصدق في دينه كسيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه قال تعالى: ˝ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ˝ سورة الحديد – الآية: 19
و أما الشهيد فهو الذي قتل في جهاد مشروع لتكون كلمة الله هي العليا، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (لو يشار لمن له حكم الشهيد كقوله صلى الله عليه وسلم قال: «المبطون شهيد، والمطعون شهيد» صحيح البخاري (7/ 131))
و أما الصالح هو الذي يصلح حياته وآخرته بامتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه قال تعالى: ˝ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ˝ سورة الأعراف – الآية: 170
و وجه المناسبة بين هاته الآية والله تعالى أعلم والآية التي قبلها، أن الإسلام هو الدين الحق والمنهاج القويم الذي ينعم أتباعه بالسعادة الدنيوية والأخروية، قال تعالى: ˝ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ˝. سورة القلم – الآيات: 35-36
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء والصالحين في كل مكان وزمان.
- أن الإسلام هو أقوم منهاج حياة يكفل للإنسان السعادة الدنيوية والأخروية.
- أن أعظم نعمة هي الهداية إلى العمل بالإسلام لأن الإنسان يعيش بها كريما سعيدا وينال بها السعادة الأبدية وهي الجنة،
- أن من صفاته سبحانه وتعالى ˝ الإنعام˝ وليس من أسمائه المنعم، لأن اسم الله يشتق من الاسم لا الفعل قال تعالى: ˝ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ˝ سورة النحل – الآية: 53
˝غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝
إعراب الآية:
غير: بدل تابع للمبدل منه في جره المضمر في عليهم وقيل المضمر في الذين أو نعت تابع له في جره وهو مضاف.
المغضوب: مضاف إليه
عليهم: جار ومجرور متعلق بالمغضوب
و: الواو للعطف
لا: زائدة لتأكيد والتنبيه.
وقد قرئت الراء بالفتح ˝ غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝ (وهي قراءة شاذة): أي لا تجعلنا على دين ومنهاج الذين غضب الله عليهم بسبب تركهم العمل بالعلم كإبليس واليهود ومن كان على شاكلتهم ولا الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلهم بالدين كرهبان النصارى وغلاة الخوارج والتصوف ومن كان على شاكلتهم، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وإنَّ الضَّالِّينَ النَّصَارَى» و ينقسم العمل بالعلم إلى كفر ومعصية ومكروه ومباح.
فالكفر: كترك اعتقاد أصول الإيمان والعمل بالتوحيد
و أما المعصية كشرب الخمر مع العلم أنها حرام
و أما المكروه: كترك المستحبات.
و أماالمباح: كترك العمل بسنن العادات مثل طريقة مشيته صلى الله عليه وسلم وما يحبه من المأكولات.
و الكفر والمعصية يوجبان غضبه سبحانه قال تعالى: ˝وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ˝سورة البقرة الآية: 61
وقال أيضا: ˝ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ ˝سورة البقرة – الآية: 90
و ينقسم الضلال إلى كفر وبدعة:
فالكفر هو الذي دل الدليل على أنه يخرج من الإسلام كاعتقاد إيمان وصلاح إبليس قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ˝سورة آل عمران – الآية: 90
و أما البدعة في هذا السياق: فهي التقرب بعبادة إلى الله لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كالذكر بالشطحات والرقصات الطرقية، قال تعالى: ˝ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ˝سورة النساء – الآية: 115 وقد دلت هذه الآية ˝غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝ على صفة فعلية من صفاته تعالى وهي الغضب، فهو تعالى يغضب غضبا يليق به لا كغضب الخلق،
والصفات الفعلية تابعة لمشيئته سبحانه وتعالى فهو يغضب متى شاء على من شاء بعدل مطلق وحكمة بالغة وإرادة نافذة.
و وجه المناسبة والله تعالى أعلم بين هاته الآية والآية التي قبلها:
أصل الولاء والبراء، فالولاء حب الله تعالى وحب جميع محبوباته وهو مضمن في قوله تعالى: ˝اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (5) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ˝
و البراء هو بغض جميع مبغوضاته تعالى وهو مضمن في قوله تعالى: ˝غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ˝
قال تعالى: ˝ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ˝سورة الممتحنة – الآية: 4و قال أيضا: ˝و إذ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) ˝ سورة الزخرف - الآيات: 26-27
الفوائد المستخلصة من الآية:
- أن من صفاته تعالى الفعلية الغضب.
- أن الله تعالى يغضب على من ترك العمل مع علمه به.
- لزوم وصف الضلال لكل جاهل بالإسلام.
- أن المغضوب عليهم والضالين في النار عكس المنعم عليهم.
- أن العالم التارك للعمل أشر من الجاهل لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين.
- أن من أراد أن يرض ربه عنه ويكون على صراطه المستقيم فعليه الجمع بين العلم والعمل.
آمين:
اتفق المفسرون أنها ليست من الفاتحة إنما هي جواب على الدعاء المضمن في الفاتحة ومعناها: ˝ اللهم استجب ˝
و حكمها: تجب على المأموم إن أمن الإمام لقول النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ˝
و أما إذا لم يؤمن الإمام فلا يجوز للمأموم أن يؤمن فعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ˝ إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ، ˝
و وقت تأمين المأموم بعيدة تأمين الإمام والدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال: ˝ إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا ˝
و محل الشاهد أن أمن فعل ماض يفيد الانقطاع وقيل يؤمن مع الامام والراجح القول الأول.
و يستحب التأمين للمنفرد والامام، وفي الصلاة السرية للمأموم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يؤمن في هذه الحالات، ويجهر بالتأمين في الصلاة الجهرية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: تَرَكَ النَّاسُ التَّأْمِينَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَالَ: ˝ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، قَالَ: «آمِينَ» حَتَّى يَسْمَعَهَا أَهْلُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، فَيَرْتَجُّ بِهَا الْمَسْجِدُ ˝
و يستحب أيضا أن يُمد بها الصوت فعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ: ﴿وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7] فَقَالَ: ˝ آمِينَ ˝ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ˝
و نقول في النهاية أن سورة الفاتحة بحر شاسع من العلم والحكم والمواعظ البليغة مهما درسنا وتحرينا وجمعنا وكتبنا فلن نصل إلى ساحله وأملنا في الله أن يتقبل منا ما كتبناه ويحفظه بما حفظ الذكر الحكيم ويكتب له الانتشار والقبول بين الناس ويجعله هاديا إلى الصراط المستقيم والمنهاج السليم ورضوان الرحمان الرحيم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله يوم الأحد 18رمضان 1436 بمدينة مراكش الحمراء. على الساعة السابعة مساء
و الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ
تأليف
أبي الحسن هشام المحجوبي
و
أبي مريم عبد الكريم صكاري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحمدُ لِلهِ مُبَيِّنِ القرآنِ بسنة خيرِ الآنامِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ وعلى آل بيتهِ وصحابتهِ الكرامِ.
عِلْم أُصولِ التفسيرِ
اِعلمْ وفقكَ اللهُ أنَّ أُصولَ التَّفسيرِ عِلمٌ يبحثُ في الأصولِ والقواعدِ والمناهجِ الشرعيةِ التي توصلُ المفسِّرَ إلى المعنى الصحيحِ لكتابِ اللهِ، وأولُ من ألفَ فيهِ الإمامُ أبو جعفرَ مُحمدٌ اِبنُ جريرٍ الطبريُّ في مقدمةِ تفسيرهِ ˝جَامِعُ البَيَانِ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ ˝ وحُكمهُ فرضُ كِفايةٍ، وأمَّا ثَمرتُهُ فهي صَوْنُ الفهمِ عنِ الخَطإِ في تأويلِ كتابِ اللهِ.
وَ يشتمِلُ هذا العلمُ على عدَّةِ مباحثَ.
المبحثُ الأولُ: معرفةُ المنهجيةِ الصَّحيحةِ للتفسيرِ.
فالتفسيرُ هو: الكَشفُ عن معاني القرآنِ.
و منهجيَّتُهُ الصَّحِيحةُ هي: تَفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ وتفسيرُ القرآنِ بالسنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصَّحابةِ وتفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التابعينَ وتفسيرُ القرآنِ باللغةِ العربيةِ.
المبحثُ الثَّانِي: مَعرفةُ الدَّلاَلاَتِ اللغويةِ الَّتِي يحتاجُ إِليهَا المُفسرُ.
كالخبرِ والإنشاءِ والمشتركِ المعنوي والمترادفِ.
فالخبرُ: هوَ كلُّ قولٍ يحتملُ الصِّدقَ والكذبَ ؛ كقولِكَ: ˝خليلٌ يقرأُ القرآنَ˝.و أمَّا الإنشاءُ فهوَ مَا لاَ يحتمِلُ الصدقَو لا الكذِبَ ويتضمَّنُ كلاً منَ الأمرِ والنَّهيِ والدُّعاءِ والإلْتِمَاسِ والإستفهامِ والتمنِّي و الرجاءِ والعرْضِ والتَّحْضِيضِ والقسمِ والذَّمِّ والمدحِ وصيغِ البيعِ.فالأمرُ: هو طلبُ الفعلِ مِمَّنْ هوَ أَعلى إلى مَنْ هوَ أَدْنى على سبيلِ الوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينَةٌ إلى النَّدبِ أو الإباحَةِ، ويكونُ بصيغةِ إفعلْ أو مُضَمَّنا في الخبرِ.و أمَّا النَّهْيُ: فهو طلبُ تركِ الفعلِ مِمَّنْ هو أعلى لِمَنْ هوَ أدْنَى على سبيلِ المنْعِحتَّى تَصْرِفَهُ قرينَةٌ إلى الكَراهةِ، ويكونُ على صِيغَةِ لا تفعلْ أو مضمنا في الخبر.
و أما الدُّعاءُ: فهو طلبٌ مِمَّنْ هو أدْنَى إلى مَنْ هو أَعْلى.و أمَّا الإلْتِمَاسُ: فَهُوَ طلبٌ مِنْ مُساوٍ.و أَمَّا الإسْتِفْهامُ: فهوَ تَوْجيهُ السُّؤالِ.و أمَّا التَّمَنِّي: فهو الرَّغْبَةُ في شَيْءٍ بعيدِ المنالِ.
و أمَّا الرَّجَاءُ: فهوَ الرغبة في شيء قريبِ المنالِ.و أما العرْضُ: فهو طَلَبُ الشَّيْءِ برفْقٍ ولِينٍ.و أما التَّحْضيضُ: فهو طلب الشيء بشدةٍ.و أما القَسَمُ: فهو الحلفُ.و أما الذَّمُّ: فهو ذِكْرُ المَعَايِبِ .و أما المدحُ: فهو ذكر المحاسنِ.و أما صِيَغُ البيعِ: كقولك بِعتُكَ كذا بكذا.
النوع السادس: إطلاقُ الكُلِّ على الجُزءِ ؛
كقَول الله تَعَالَى في الحديثِ القدسي: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ˝
النوع السابع: إطلاق المُسَبَّبِ على السَّبَبِ ؛ كقوله تعالى: ˝وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا ˝
النوع الثامن: إطلاق السبب على المسبب ؛ كقوله تعالى: ˝أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ˝
و أما المُشْتَرَكُ: فهو اللَّفْظُ الواحدُ الَّذي يتضمَّنُ عِدَّةَ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً مثل كلمةِ ˝اشْتَرَى ˝
وينقسمُ إلى مشتركٍ حرفيٍ ومشتركٍ اسميٍ ومشتركٍ فِعليٍ.
و أما المُترادِفُ فهو اللألْفَاظ المُخْتلِفةُ في البناءِ والمُتَّفِقةِ في المعنى كالعلْمِ والمعْرِفةِ.
المبحث الثالث: معرفةُ دَلَالَاتِ التفسيرِ
تنقسمُ دلالاتُ التَّفْسيرِ إلى دلالاتٍ يُحتَجُّ بها وإلى دلالات لا يُحتَجُّبها.
الدلالات التي يحتج بها هي: المُحْكَمُ، والظَّاهِرُ، والمُبَيَّنُ، والمَنْطوقُ، ومَفْهومُ المُوافقةِ، ومفهومُ المخالفةِ، ودلالةُ السِّيَّاقِ، ودلالةُ الإشارةِ، ودلالةُ الاِقْتِضاءِ، ودلالةُ الإيماءِ.
فالمُحْكَمُ هُوَ: النَّصُّ الواضحُ، بحيثُ لا يَحتاجُ إلى نصٍ آخرَ لِبيانِ معناهُ وأما الظَّاهر فهو: الدَّلالةُ الشَّرْعِيَّةُ المُتَضَمِّنَةُ لِمعنى راجحٍ.
وأما المُبَيَّنُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعيةُ المُفَسِّرَةُ لِلْمُتَشَابِهِ.
و أما المَنْطُوقُ فهو: دَلَالَةُ الَّلفْظِ الظَّاهِرَةِ. وأما مفهوم المُوَافَقَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عَنْهُ المُوَافِقِ لِلْمَنْطُوقِ.
و أما مفهوم المُخَالَفَةِ فهو: المعنى المَسْكُوتُ عنه المُخَالِفِ لِلْمَنْطُوقِ.و أما دَلَالَةُ السِّيَّاقِ فهي: المعنى الذي قَبْلَ الكَلَامِ وبَعْدَهُ، ويسمى الذي قَبْلَ الْكَلَامِ بالسِّبَاقِ والَّذي بعدهُ بالِّلحاقِ.
و أما دلالة الإشارةِ فهي: المعنى التَّابِعُ لِلْمَقْصُودِ مِنَ النَّصِّ.
و أما دلالة الاقْتِضَاءِ فهيَ: الَّلفْظُ المُقَدَّرُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا اسْتَقَامَ معنى النَّصِّ.و أما دلالة الايماءِ فهي: الوَصْفُ الذي لولاه لَمَا كان للدليل معنى.
و أما الدلالات التي لا يُحْتَجُّ بها فهي: المُتَشَابِهُ، والمُؤَوَّلُ.
فالمُتَشَابِهُ هُوَ: النَّصُّ الَّذِي خَفِيَ مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلى نَصٍّ آخَرَ لِبَيَانِهِ أو يَحْتَمِلُ عِدَّةَ أَوْجُهٍ، ومَنْهَجُ أَهْلِ الحَقِّ تَفْسِيرُهُ بِالمُحْكَمِ.
و أما المُؤَوَّلُ فهو: الدَّلَالَةُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَحْتَمِلُ مَعْنًى مَرْجُوحاً.
المبحث الرابع: مَعْرِفَةُ الإِسْرائيلِياتُ في التَّفْسِيرِ.
فالإسرائيلياتُ هي: قَصَصُ بَنِي إسرائيلَ وتنقسم إلى ثلاثة أنواعٍ.
النوع الأول: إسرائيلياتٌ جاءَ بها القرآنُ والسنَّةُ فهذه حجةٌ في التفسيرِ.
النوع الثاني: إسرائيليات جاءتْ في كتب بني إسرائيلَ ووَافَقَتْ شرعنا فهذه لا تُصدَّقُ ولا تُكذَّبُ، ويُستأنسُ بها في التفسيرِ.
النوع الثالث: إسرائيليات جاءت في كتب بني إسرائيل وخالفت شرعنا، فهذه تُرد باتِّفاقِ المُفَسِّرِينَ
المبحث الخامس: معرفة العَامِّ والخاصِّ، والمُطْلَقِ والمُقَيَّدِ
فالعامُّ هو: اللفظ المُسْتَغْرِقُ الشَّامِلُ كقوله تعالى: ˝ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ˝ و صيغُ العمومِ في اللغة كثيرة كلفظ ˝ كلٍّ˝، و˝ال˝ للجنس والاستغراقِ، و˝النَّكِرةُ˝ في سياق النفيِ أوِ النهيِ أو الشرطِ أو الاستفهامِ، و˝متى˝ في عموم الزمان، و˝أينما˝ في عموم المكان،و ˝مَنْ˝ للعاقل و، ˝ما˝ لغير العاقل، والمفرد المضاف.و أما الخَاصُّ فهو: اللفظُ المُسْتَثْنِي لبعض أفرادِ العمومِ كقوله تعالى: ˝ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ˝ .
و ينقسم التَّخْصِيصُ إلى تخْصيصٍ بالعقل، وتخصيصٍ بالحسِّ، و تخصيصٍ بالعرف وتخصيصٍ بالوصف، وتخصيصٍ بالنَّصِّ
و أما المُطْلَقُ فهو: ما دَلَّ على ذاتٍ غيرَ مُقَيَّدَةٍ بوصف، كقوله تعالى في كفارة اليمين: ˝ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ˝
و أما المُقَيَّدُ فهو: الوصف الذي يُقَيِّدُ مُطْلَقَ الذَّاتِ كقوله تعالى في كفارة القتل الخطإ: ˝ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ˝ .و يُحمل المُطْلَقُ على المُقَيَّدِ إن اتفقا في السببِ والحُكْمِ أو اتفقا في الحُكْمِ واختلفا في السبب.
المبحثُ السادسِ: مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالمَنْسُوخُ.
النَّسْخُ هو: تَعْويضُ لَفْظٍ أو حُكْمٍ شَرْعِيٍ سَابِقٍ بدليلٍ شرعيٍ لاحقٍ،و ينقسم إلى أربعة أقسام: نسخُ القرآنِ للقرآنِ، ونسخُ السنةِ للقرآنِ،و نسخُ القرآنِ للسنةِ، ونسخُ السنةِ للسنةِ.
وينقسم النسخ في القرآن إلى ثلاثة أقسامٍ:
القسم الأول: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وحُكْمُهُ.
القسم الثاني: ما نُسِخَ حُكْمُهُ وبَقِيَ رَسْمُهُ.
القسم الثالثِ: ما نُسِخَ رَسْمُهُ وبَقِيَ حُكْمُهُ.
المبحث السابع: مَعْرِفَةُ القُرْآنِ المَكِيِّ والمَدَنِيِّ.
فالقرآنُ المكيُّ هو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرةِ ويعرفُ بإخبارِ الصَّحابي ونبذِ الشِّرْكِ، وتأصيلِ العقيدةِ، وبلفظ ˝يَا أَيُّهَا النَّاس˝، وذكر قَصَصِ الأمم السَّابِقَة وقوَّة الخطابِ.و أما القرآنُ المَدَنِيُّ فهو: الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهِجرةِ ويعرف بإخبار الصحابي، وبذكر الأحكام الفقهية، وبفضح المنافقينَ، وذكر بعض الغزوات، وانتقال الخطاب إلى أهل الكتاب، ولفظ ˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ˝.و الفائدة من معرفة المكيِّ والمدنيِّ هي: تعميقُ الفهمِ لكتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ ومعرفةِ الناسخِ والمنسوخِ
المبحث الثامن: مَعْرِفَةُ أَسْبَابِ النُّزولِ.
فأسباب النزولِ هي: الأسئلةُ والحوادثُ التي كانت سبَباً في نزول القرآن زمن النبوَّةِ .
فقد يتعدَّدُ النَّازِلُ والسَّبَبُ واحدٌ، وقد تتعدد الأسباب والنازل واحد.و فائدة معرفتِها الوصول إلى المعنى الصحيح للقرآن الكريم، والسَّعة في الإطلاع على معانيه.
المبحث التاسع: مَعْرِفَةُ اخْتِلافِ التَّنَوُّعِ واختلافِ التَّضَادِ.
فاختلاف التَّنَوُّعِ هو: اتفاق المفسرينَ على معنى الآية مع اختلافِهم في التعبيرِ، أو تفسيرِهم للآية بمعاني مختلفة يسوغ الجمع بينهما.
و أما اختلافُ التَّضادِ فهو: تفسير الآيةِ بمعنيين أحدُهما راجحٌ والآخر مرجوحٌ.
المبحث العاشر: معرفة شروطِ المفسرِ.
شروطِ المفسرِ ثمانيةٌ:
الشرطُ الأولُ: التَّقْوَى والسَّمْتُ الحسن عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» الشرط الثاني: سلامة العقل والنَّفس من الأمراض.
الشرط الثالث: أن يكون مُلِمًّا بعلوم الآلة كاللغة وأصول الفقه ومصطلح الحديث.
الشرط الرابع: أن يكون مُلِمًّا بأصول العقيدة الصحيحة.
الشرط الخامس: أن يكون مُطَّلِعاً على كتب الحديث كالصحيحين، والسنن الأربعة، وموطأ الإمام مالك، ومسند الإمام أحمد.
الشرط السادس: أن يكون له علم بفقه المذاهب الأربعة
الشرط السابع: أن يكون له علم بالتاريخ والسِّيَّر والمغازي.
الشرط الثامن: أن يكون له اطلاع واسع على تفاسير المتقدمين والمتأخرين.
تم بحمد الله
قائمة المصادر والمراجع
- كتاب رب العالمين: القرآن الكريم
- الكتاب: تفسير القرآن العظيم (ابن كثير)
المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: 774هـ)
المحقق: محمد حسين شمس الدين
الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون - بيروت
الطبعة: الأولى - 1419 هـ
- الكتاب: تفسير الجلالين
المؤلف: جلال الدين محمد بن أحمد المحلي (المتوفى: 864هـ) وجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (المتوفى: 911هـ)
الناشر: دار الحديث - القاهرة
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: فتح القدير
المؤلف: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ)
الناشر: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1414 هـ
- الكتاب: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: 1376هـ)
المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى 1420هـ -2000 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»
المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393هـ)
الناشر: الدار التونسية للنشر - تونس
سنة النشر: 1984 هـ
عدد الأجزاء: 30 (والجزء رقم 8 في قسمين)
- الكتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
المؤلف: جابر بن موسى بن عبدالقادر بن جابر أبوبكرالجزائري
الناشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
الطبعة: الخامسة، 1424هـ/2003م
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج
المؤلف: دوهبة بن مصطفى الزحيلي
الناشر: دار الفكر المعاصر - دمشق
الطبعة: الثانية، 1418 هـ
عدد الأجزاء: 30
- الكتاب: جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبوجعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
المحقق: أحمد محمد شاكر
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1420 هـ - 2000 م
عدد الأجزاء: 24
- الكتاب: التيسير في القراءات السبع
المؤلف: عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر أبوعمر والداني (المتوفى: 444هـ ) المحقق: اوتوتريزل
الناشر: دارالكتاب العربي - بيروت
الطبعة: الثانية، 1404هـ/ 1984م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أسباب نزول القرآن
المؤلف: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي (المتوفى: 468هـ)
المحقق: عصام بن عبدالمحسن الحميدان
قال المحقق: قمت بتوفيق الله وحده بتخريج أحاديث الكتاب تخريجا مستوفى على ما ذكر العلماء أو ما توصلت إليه من خلال نقد تلك الأسانيد
الناشر: دار الإصلاح - الدمام
الطبعة: الثانية، 1412 هـ - 1992 م
المؤلف: القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي (المتوفى: 590هـ)
المحقق: محمد تميم الزعبي
الناشر: مكتبة دار الهدى ودار الغوثاني للدراسات القرآنية
الطبعة: الرابعة، 1426 هـ - 2005 م
عددالأجزاء: 1
- الكتاب: مناهل العرفان في علوم القرآن
المؤلف: محمد عبدالعظيم الزُّرْقاني (المتوفى: 1367هـ)
الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه
الطبعة: الطبعة الثالثة
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير
المؤلف: محمد بن محمد بن سويلم أبوشُهبة المتوفى: 1403هـ))
الناشر: مكتبة السنة
الطبعة: الرابعة
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: أصول في التفسير
المؤلف: محمد بن صالح بن محمد العثيمين(المتوفى: 1421هـ)
أشرف على تحقيقه: قسم التحقيق بالمكتبة الإسلامية
الناشر: المكتبة الإسلامية
الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني
المؤلف: أحمد جمال العمري
الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الطبعة: السنة العاشرة – العدد الثاني - 1397هـ - 1977 م
عدد الأجزاء: 1
- الكتاب: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه = صحيح البخاري
المؤلف: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي
المحقق: محمد زهير بن ناصر الناصر
الناشر: دار طوق النجاة
الطبعة: الأولى، 1422هـ
عدد الأجزاء: 9
الكتاب: المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المؤلف: مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261هـ)
المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء: 5
- الكتاب: سنن أبي داود
المؤلف: أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو الأزدي السِّجِسْتاني (المتوفى: 275هـ)
المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد
الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بيروت
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: سنن الترمذي
المؤلف: محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)
تحقيق وتعليق:
أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)
ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3)
وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف (جـ 4، 5)
الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر
الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م
عدد الأجزاء: 5 أجزاء
- الكتاب: المجتبى من السنن = السنن الصغرى للنسائي
المؤلف: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي (المتوفى: 303هـ)
تحقيق: عبد الفتاح أبو غدة
الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب
الطبعة: الثانية، 1406 - 1986
عدد الأجزاء: 8
- الكتاب: سنن ابن ماجه
المؤلف: ابن ماجة أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، وماجة اسم أبيه يزيد (المتوفى: 273هـ)
تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي
الناشر: دار إحياء الكتب العربية - فيصل عيسى البابي الحلبي
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: الموطأ
المؤلف: مالك بن أنس بن مالك بن عامر الأصبحي المدني (المتوفى: 179هـ)
المحقق: محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية - أبو ظبي - الإمارات
الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 8 (منهم مجلد للمقدمة، و3 للفهارس)
- الكتاب: مسند ابن أبي شيبة
المؤلف: أبو بكر بن أبي شيبة، عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي (المتوفى: 235هـ)
المحقق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فريد المزيدي
الناشر: دار الوطن - الرياض
الطبعة: الأولى، 1997م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: مسند الإمام أحمد بن حنبل
المؤلف: أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون
إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي
الناشر: مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1421 هـ - 2001 م
- الكتاب: صحيحُ ابن خُزَيمة
المؤلف: أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري (المتوفى: 311هـ)
حَققهُ وعَلّق عَلَيه وَخَرّجَ أحَاديثه وَقدَّم له: الدكتور محمد مصطفى الأعظمي
الناشر: المكتب الإسلامي
الطبعة: الثالثة، 1424 هـ - 2003 م
عدد الأجزاء: 2
- الكتاب: المعجم الكبير
المؤلف: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني (المتوفى: 360هـ)
المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي
دار النشر: مكتبة ابن تيمية - القاهرة
الطبعة: الثانية
عدد الأجزاء: 25
- الكتاب: صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان
المؤلف: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ)
المحقق: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت
الطبعة: الثانية، 1414 - 1993
عدد الأجزاء: 18 (17 جزء ومجلد فهارس)
- الكتاب: المستدرك على الصحيحين
المؤلف: أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبيالطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405هـ)
تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة: الأولى، 1411 - 1990
عدد الأجزاء: 4
- الكتاب: العبودية
المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ)
المحقق: محمد زهير الشاويش
الناشر: المكتب الإسلامي - بيروت
الطبعة: الطبعة السابعة المجددة 1426هـ - 2005م
(هذه الرسالة مطبوعة أيضًا ضمن ˝مجموع الفتاوى˝ 10/149، وفي ˝الفتاوى الكبرى˝ 5/155)
- الكتاب: متن القصيدة النونية
المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)
الناشر: مكتبة ابن تيمية، القاهرة
الطبعة: الثانية، 1417هـ
عدد الأجزاء: 1
الفهرس
المقدمة 3
تفسير الاستعاذة: 7
تفسير البسملة 10
مَتْنُ طَاِلبِ التَّفْسِيرِ 47
قائمة المصادر والمراجع 54
الفهرس 63. ❝
❞ سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
وتم الكلام ثم ابتدأ فقال : سلام على نوح أي سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين . قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود " سلاما " منصوب ب " تركنا " أي : تركنا عليه ثناء حسنا سلاما . وقيل : في الآخرين أي : في أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الأنبياء ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به ، قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وقال سعيد بن المسيب : وبلغني أنه من قال حين يمسي : سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب . ذكره أبو عمر في التمهيد . وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من نزل منزلا فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل . وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال : ما نمت هذه الليلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أي شيء ؟ . فقال : لدغتني عقرب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما إنك لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك .. ❝ ⏤محمد بن صالح العثيمين
❞ سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
وتم الكلام ثم ابتدأ فقال : سلام على نوح أي سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين . قال الكسائي : وفي قراءة ابن مسعود ˝ سلاما ˝ منصوب ب ˝ تركنا ˝ أي : تركنا عليه ثناء حسنا سلاما . وقيل : في الآخرين أي : في أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : في الأنبياء ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به ، قال الله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا وقال سعيد بن المسيب : وبلغني أنه من قال حين يمسي : سلام على نوح في العالمين لم تلدغه عقرب . ذكره أبو عمر في التمهيد . وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من نزل منزلا فليقل : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل . وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال : ما نمت هذه الليلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من أي شيء ؟ . فقال : لدغتني عقرب ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أما إنك لو قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك. ❝
❞ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)
القول في الاستعاذة
وفيها اثنتا عشرة مسألة :
الأولى : أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل : 98 ] أي إذا أردت أن تقرأ ; فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر :
وإني لآتيكم لذكري الذي مضى من الود واستئناف ما كان في غد
أراد ما يكون في غد ; وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت ; كما قال تعالى : ثم دنا فتدلى [ النجم : 8 ] المعنى فتدلى ثم دنا ; ومثله : اقتربت الساعة وانشق القمر [ القمر : 1 ] وهو كثير .
الثانية : هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة . واختلفوا فيه في الصلاة . حكى النقاش عن عطاء : أن الاستعاذة واجبة ، وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة ، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم ، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة ; ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان .
الثالثة : أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه ، وهو قول القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى . وروي عن ابن مسعود أنه قال : قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ; فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم .
الرابعة : روى أبو داود وابن ماجه في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو : لا أدري أي صلاة هي ؟ فقال : " الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا - ثلاثا - الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا - ثلاثا - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثا - أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه . قال عمرو : همزه المؤتة ، ونفثه الشعر ، ونفخه الكبر . وقال ابن ماجه : المؤتة يعني الجنون . والنفث : نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه . والكبر : التيه . وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول : لا إله إلا الله - ثلاثا ثم يقول : - الله أكبر كبيرا - ثلاثا - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ثم يقرأ . وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم رحمه الله أن الاستعاذة : أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم . قال ابن عطية : " وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى ، كقول بعضهم : أعوذ بالله المجيد ، من الشيطان المريد ; ونحو هذا مما لا أقول فيه : نعمت البدعة ، ولا أقول : إنه لا يجوز " .
الخامسة : قال المهدوي : أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة " الحمد " إلا حمزة فإنه أسرها . وروى السدي عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة . وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض ، فإذا نسيه القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ ، ثم ابتدأ من أوله . وبعضهم يقول : يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه ; وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق ; وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر .
السادسة : حكى الزهراوي قال : نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض . قال غيره : كانت فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم تأسينا به .
السابعة : روي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة ; وقاله داود . قال أبو بكر بن العربي : انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة ، وهذا نص . فإن قيل : فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة ؟ قلنا : فائدتها امتثال الأمر ، وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا ; وقد قيل : فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة ; كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته [ الحج : 52 ] . قال ابن العربي : ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل : 98 ] قال : ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة ، وهذا قول لم يرد به أثر ، ولا يعضده نظر ; فإن كان هذا كما قال بعض الناس : إن الاستعاذة بعد القراءة ، كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة ، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه ; فالله أعلم بسر هذه الرواية .
الثامنة : في فضل التعوذ . روى مسلم عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل تدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا ؟ قال : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال له الرجل : أمجنونا تراني ! أخرجه البخاري أيضا . وروى مسلم أيضا عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا قال : ففعلت فأذهبه الله عني . وروى أبو داود عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال : يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك [ وشر ما فيك ] [ و ] شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك [ وأعوذ بالله ] من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن [ ساكن ] البلد ووالد وما ولد وروت خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل . أخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال : حديث حسن غريب صحيح . وما يتعوذ منه كثير ثابت في الأخبار ، والله المستعان .
التاسعة : معنى الاستعاذة في كلام العرب : الاستجارة والتحيز إلى الشيء ، على معنى الامتناع به من المكروه ; يقال : عذت بفلان واستعذت به ; أي لجأت إليه . وهو عياذي ; أي ملجئي . وأعذت غيري به وعوذته بمعنى . ويقال : عوذ بالله منك ; أي أعوذ بالله منك ; قال الراجز
قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربي منكم وحجر
والعرب تقول عند الأمر تنكره : حجرا له ، بالضم ، أي دفعا ، وهو استعاذة من الأمر . والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى . وأصل أعوذ : أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت .
العاشرة : الشيطان واحد الشياطين ; على التكسير والنون أصلية ; لأنه من شطن إذا بعد عن الخير . وشطنت داره أي بعدت ; قال الشاعر [ النابغة الذبياني ] :
نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين
وبئر شطون أي بعيدة القعر . والشطن : الحبل ; سمي به لبعد طرفيه وامتداده . ووصف أعرابي فرسا لا يحفى فقال : كأنه شيطان في أشطان . وسمي الشيطان شيطانا لبعده عن الحق وتمرده ; وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان ; قال جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزل وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
وقيل : إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك ، فالنون زائدة . وشاط إذا احترق وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه . واشتاط الرجل إذا احتد غضبا . وناقة مشياط التي يطير فيها السمن . واشتاط إذا هلك ; قال الأعشى :
قد نخضب العير من مكنون فائله وقد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك . ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول : تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين ، فهذا بين أنه تفيعل من شطن ، ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ، ويرد عليهم أيضا بيت أمية بن أبي الصلت :
أيما شاطن عصاه عكاه ورماه في السجن والأغلال
فهذا شاطن من شطن لا شك فيه .
الحادية عشرة : الرجيم أي المبعد من الخير المهان . وأصل الرجم : الرمي بالحجارة ، وقد رجمته أرجمه ، فهو رجيم ومرجوم . والرجم : القتل واللعن والطرد والشتم ، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى : لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين [ الشعراء : 116 ] . وقول أبي إبراهيم : لئن لم تنته لأرجمنك [ مريم : 46 ] . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
الثانية عشرة : روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال علي بن أبي طالب عليه السلام : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه ، قلت : ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله ؟ قال هذا الشيطان الرجيم فقلت : يا عدو الله ، والله لأقتلنك والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك ; قال : ما هذا جزائي منك ; قلت : وما جزاؤك مني يا عدو الله ؟ قال : والله ما أبغضك أحد قط إلا شركت أباه في رحم أمه .
وفيها سبع وعشرون مسألة :
الأولى : قال العلماء : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة ، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق ، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري . و ( بسم الله الرحمن الرحيم ) مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام . وقال بعض العلماء : إن بسم الله الرحمن الرحيم تضمنت جميع الشرع ، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات ; وهذا صحيح .
الثانية : قال سعيد بن أبي سكينة : بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى رجل يكتب : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال له : جودها فإن رجلا جودها فغفر له . قال سعيد : وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقبله ووضعه على عينيه فغفر له . ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي ، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه ، ذكره القشيري . وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صرعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب . وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى : وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [ الإسراء : 46 ] قال معناه : إذا قلت : بسم الله الرحمن الرحيم . وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد . فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] وهم يقولون في كل أفعالهم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فمن هنالك هي قوتهم ، وببسم الله استضلعوا . قال ابن عطية : ونظير هذا قولهم في ليلة القدر : إنها ليلة سبع وعشرين ، مراعاة للفظة ( هي ) من كلمات سورة : إنا أنزلناه [ القدر : 1 ] . ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فإنها بضعة وثلاثون حرفا ; فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول . قال ابن عطية : وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم .
الثالثة : روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب ( باسمك اللهم ) حتى أمر أن يكتب ( بسم الله ) فكتبها ; فلما نزلت : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن [ الإسراء : 110 ] كتب ( بسم الله الرحمن ) فلما نزلت : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [ النمل : 30 ] كتبها . وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله حتى نزلت سورة " النمل " .
الرابعة : روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور .
قلت : وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها . وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال :
( الأول ) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها ; وهو قول مالك . ( الثاني ) أنها آية من كل سورة ; وهو قول عبد الله بن المبارك . ( الثالث ) قال الشافعي : هي آية في الفاتحة ; وتردد قوله في سائر السور ; فمرة قال : هي آية من كل سورة ، ومرة قال : ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها . ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل .
واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قرأتم " الحمد لله رب العالمين " فاقرءوا " بسم الله الرحمن الرحيم " إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني و " بسم الله الرحمن الرحيم " ، إحداها . رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر وعبد الحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين ; وأبو حاتم يقول فيه : محله الصدق ; وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه . ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور .
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما ; فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر وذكر الحديث ، وسيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى .
الخامسة : الصحيح من هذه الأقوال قول مالك ; لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه . قال ابن العربي : ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها . روى مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال [ تعالى ] : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى : أثنى علي عبدي وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلى عبدي - فإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل . فقوله سبحانه : " قسمت الصلاة " يريد الفاتحة ، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ; فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه ، واختص بها تبارك اسمه ، ولم يختلف المسلمون فيها . ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده ; لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه ، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى ، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات . ومما يدل على أنها ثلاث قوله : " هؤلاء لعبدي " أخرجه مالك ; ولم يقل : هاتان ; فهذا يدل على أن ( أنعمت عليهم ) آية . قال ابن بكير قال مالك : " أنعمت عليهم " آية ، ثم الآية السابعة إلى آخرها . فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال : فقرأت : الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها ، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة ; وأكثر القراء عدوا : ( أنعمت عليهم ) آية ، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال : الآية السادسة : ( أنعمت عليهم ) . وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ولم يعدوا ( أنعمت عليهم ) .
فإن قيل : فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله ، كما نقلت في النمل ، وذلك متواتر عنهم . قلنا : ما ذكرتموه صحيح ; ولكن لكونها قرآنا ، أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة : كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه أبو داود - أو تبركا بها ، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل ؟ كل ذلك محتمل . وقد قال الجريري : سئل الحسن عن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال : في صدور الرسائل . وقال الحسن أيضا : لم تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في شيء من القرآن إلا في " طس " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . والفيصل أن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال ، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري . ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة ; والحمد لله .
فإن قيل : فقد روى جماعة قرآنيتها ، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه . قلنا : لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها ، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها ، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات . روت عائشة في صحيح مسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب " الحمد لله رب العالمين " ، الحديث . وسيأتي بكماله . وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ; لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول قراءة ولا في آخرها .
ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم ، وهو المعقول ; وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرت عليه الأزمنة والدهور ، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قط " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ اتباعا للسنة ، وهذا يرد أحاديثكم .
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ; وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك . قال مالك : ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا .
وجملة مذهب مالك وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سرا ولا جهرا ; ويجوز أن يقرأها في النوافل . هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه . وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن . وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال . ومن أهل المدينة من يقول : إنه لابد فيها من ( بسم الله الرحمن الرحيم ) منهم ابن عمر ، وابن شهاب ; وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد . وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية ، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ; وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ; والحمد لله .
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ; منهم : أبو حنيفة والثوري ; وروى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير ; وهو قول الحكم وحماد ; وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ; وروي عن الأوزاعي مثل ذلك ; حكاه أبو عمر بن عبد البر في ( الاستذكار ) . واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . وما رواه عمار بن زريق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم .
قلت : هذا قول حسن ، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة . وقد روي عن سعيد بن جبير قال : كان المشركون يحضرون بالمسجد ; فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قالوا : هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ب " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ونزل : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة ، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة ، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة .
السادسة : اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل ; فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال : أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر : بسم الله الرحمن الرحيم . وقال الزهري : مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير ، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين . قال أبو بكر الخطيب : وهو الذي نختاره ونستحبه .
السابعة : قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله : مبسمل ، وهي لغة مولدة ، وقد جاءت في الشعر ; قال عمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
قلت : المشهور عن أهل اللغة بسمل . قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة : بسمل الرجل ، إذا قال : بسم الله . يقال : قد أكثرت من البسملة ; أي من قول بسم الله ، ومثله : حوقل الرجل ، إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهلل ، إذا قال : لا إله إلا الله ، وسبحل ، إذا قال : سبحان الله ، وحمدل ، إذا قال : الحمد لله ، وحيصل ، إذا قال : حي على الصلاة ، وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك . وطبقل ، إذا قال : أطال الله بقاءك . ودمعز ، إذا قال أدام الله عزك . وحيفل ، إذا قال : حي على الفلاح . ولم يذكر المطرز : الحيصلة ، إذا قال : حي على الصلاة . وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك . وطبقل ، إذا قال أطال الله بقاءك . ودمعز إذا قال : أدام الله عزك .
الثامنة : ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل ; كالأكل والشرب والنحر ; والجماع والطهارة وركوب البحر ، إلى غير ذلك من الأفعال ; قال الله تعالى : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله . وقال لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا . وقال لعمر بن أبي سلمة يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك وقال : إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وقال : من لم يذبح فليذبح باسم الله . وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة [ بالله ] وقدرته من شر ما أجد وأحاذر . هذا كله ثابت في الصحيح . وروى ابن ماجه والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول : بسم الله . وروى الدارقطني عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى ، ثم يفرغ الماء على يديه .
التاسعة : قال علماؤنا : وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول : إن أفعالهم مقدورة لهم ، وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك ، كما ذكرنا .
فمعنى بسم الله ، أي بالله . ومعنى ( بالله ) أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى . وقال بعضهم : معنى قوله ( بسم الله ) يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته ; وهذا تعليم من الله تعالى عباده ، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها ، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز .
العاشرة : ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن ( اسم ) صلة زائدة ، واستشهد بقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر ( اسم ) زيادة ، وإنما أراد : ثم السلام عليكما .
وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى . وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره ، إن شاء الله تعالى .
الحادية عشرة : اختلف في معنى زيادة : " اسم " ; فقال قطرب : زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه . وقال الأخفش : زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك ; لأن أصل الكلام : بالله .
الثانية عشرة : اختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه ، هل دخلت على معنى الأمر ؟ والتقدير : ابدأ بسم الله . أو على معنى الخبر ؟ والتقدير : ابتدأت بسم الله ; قولان : الأول للفراء ، والثاني للزجاج . ف ( باسم ) في موضع نصب على التأويلين . وقيل : المعنى ابتدائي بسم الله ; ف ( بسم الله ) في موضع رفع خبر الابتداء . وقيل : الخبر محذوف ; أي ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله ; فإذا أظهرته كان " بسم الله " في موضع نصب بثابت أو مستقر ، وكان بمنزلة قولك : زيد في الدار . وفي التنزيل : فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ف ( عنده ) في موضع نصب ; روي هذا عن نحاة أهل البصرة . وقيل : التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت ، ف ( باسم ) في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي .
الثالثة عشرة : بسم الله ، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال ، بخلاف قوله : اقرأ باسم ربك فإنها لم تحذف ؛ لقلة الاستعمال . واختلفوا في حذفها مع الرحمن والقاهر ; فقال الكسائي وسعيد الأخفش : تحذف الألف . وقال يحيى بن وثاب : لا تحذف إلا مع بسم الله فقط ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه .
الرابعة عشر : واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان ; فقيل : ليناسب لفظها عملها . وقيل : لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء . الثالث : ليفرق بينهما وبين ما قد يكون من الحروف اسما ; نحو الكاف في قول الشاعر :
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله .
الخامسة عشرة : اسم ، وزنه افع ، والذاهب منه الواو ; لأنه من سموت ، وجمعه أسماء ، وتصغيره سمي . واختلف في تقدير أصله ، فقيل : فعل ، وقيل : فعل . قال الجوهري : وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن ، وهو مثل جذع وأجذاع ، وقفل وأقفال ; وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع . وفيه أربع لغات : إسم بالكسر ، وأسم بالضم . قال أحمد بن يحيى : من ضم الألف أخذه من سموت أسمو ، ومن كسر أخذه من سميت أسمي . ويقال : سم وسم ، وينشد :
والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا
وقال آخر :
وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
مبتركا كل عظم يلحمه
قرضب الرجل : إذا أكل شيئا يابسا ، فهو قرضاب . ( سمه ) بالضم والكسر جميعا .
ومنه قول الآخر :
باسم الذي في كل سورة سمه
وسكنت السين من ( باسم ) اعتلالا على غير قياس ، وألفه ألف وصل ، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة ; كقول الأحوص :
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ولا من تسمى ثم يلتزم الإسما
السادسة عشرة : تقول العرب في النسب إلى الاسم : سموي ، وإن شئت " اسمي " ، تركته على حاله ، وجمعه أسماء ، وجمع الأسماء أسام . وحكى الفراء : أعيذك بأسماوات الله .
السابعة عشرة : اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين : فقال البصريون : هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة ، فقيل : اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به . وقيل : لأن الاسم يسموا بالمسمى فيرفعه عن غيره . وقيل : إنما سمي الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام : الحرف والفعل ; والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل ; فلعلوه عليهما سمي اسما ; فهذه ثلاثة أقوال .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهي العلامة ; لأن الاسم علامة لمن وضع له ; فأصل اسم على هذا ( وسم ) . والأول أصح ; لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء ; والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها ; فلا يقال : وسيم ولا أوسام . ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي :
الثامنة عشرة : فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول : لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم ، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته ; وهذا قول أهل السنة . ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة ، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات ، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة ; وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة ، وهو أعظم في الخطأ من قولهم : إن كلامه مخلوق ، تعالى الله عن ذلك ! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي :
التاسعة عشرة : فذهب أهل الحق - فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب - إلى أن الاسم هو المسمى ، وارتضاه ابن فورك ; وهو قول أبي عبيدة وسيبويه . فإذا قال قائل : الله عالم ; فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما ، فالاسم لكونه عالما وهو المسمى بعينه . وكذلك إذا قال : الله خالق ; فالخالق هو الرب ، وهو بعينه الاسم . فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل .
قال ابن الحصار : من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات ، ولذلك يقولون : الاسم غير المسمى ، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولات هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم . وسيأتي لهذه مزيد بيان في ( البقرة ) و ( الأعراف ) إن شاء الله تعالى .
الموفية عشرين - قوله : ( الله ) هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها ، حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ; ولذلك لم يثن ولم يجمع ، وهو أحد تأويلي قوله تعالى : هل تعلم له سميا أي من تسمى باسمه الذي هو ( الله ) . فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو سبحانه . وقيل : معناه الذي يستحق أن يعبد . وقيل : معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال ; والمعنى واحد .
الحادية والعشرون : واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم ؟ فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم . واختلفوا في اشتقاقه وأصله ; فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه ، مثل فعال ; فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة . قال سيبويه : مثل الناس أصله أناس . وقيل : أصل الكلمة ( لاه ) وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم ، وهذا اختيار سيبويه . وأنشد :
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني
كذا الرواية : فتخزوني ، بالخاء المعجمة ومعناه : تسوسني .
وقال الكسائي والفراء : معنى " بسم الله " بسم الإله ; فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة ; كما قال عز وجل : لكنا هو الله ربي ومعناه : لكن أنا ، كذلك قرأها الحسن . ثم قيل : هو مشتق من ( وله ) إذا تحير ; والوله : ذهاب العقل . يقال : رجل واله وامرأة والهة وواله ، وماء موله : أرسل في الصحاري . فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته . فعلى هذا أصل : ( إلاه ) ، ( ولاه ) وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح ، وإسادة ووسادة ، وروي عن الخليل . وروي عن الضحاك أنه قال : إنما سمي : ( الله ) إلها ، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم ، ويتضرعون إليه عند شدائدهم ، وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال : لأن الخلق يألهون إليه ( بنصب اللام ) ويألهون أيضا ( بكسرها ) وهما لغتان . وقيل : إنه مشتق من الارتفاع ، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع لاها ، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس : لاهت . وقيل : هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد . وتأله إذا تنسك ، ومن ذلك قوله تعالى : ( ويذرك وإلاهتك ) على هذه القراءة ; فإن ابن عباس وغيره قالوا : وعبادتك .
قالوا : فاسم الله مشتق من هذا ، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة ، ومنه قول الموحدين : لا إله إلا الله ، معناه لا معبود غير الله . و ( إلا ) في الكلمة بمعنى غير ، لا بمعنى الاستثناء . وزعم بعضهم أن الأصل فيه ( الهاء ) التي هي الكناية عن الغائب ، وذلك أنهم أثبتوه موجودا في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار ( له ) ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما .
القول الثاني : ذهب إليه جماعة من العلماء أيضا منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم ، وروي عن الخليل وسيبويه : أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه . قال الخطابي : والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ، ولم يدخلا للتعريف : دخول حرف النداء عليه ; كقولك : يا الله ، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف ; ألا ترى أنك لا تقول : يا الرحمن ولا : يا الرحيم ، كما تقول : يا الله ، فدل على أنهما من بنية الاسم . والله أعلم .
الثانية والعشرون : واختلفوا أيضا في اشتقاق اسمه الرحمن ; فقال بعضهم : لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه ، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لاتصل بذكر المرحوم ، فجاز أن يقال : الله رحمن بعباده ، كما يقال : رحيم بعباده . وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه ، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم ، وقد قال الله عز وجل : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الآية . ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : أما ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فما ندري ما ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ! ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، الحديث . قال ابن العربي : إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ، واستدل على ذلك بقولهم : وما الرحمن ؟ ولم يقولوا : ومن الرحمن ؟ قال ابن الحصار : وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى : " وهم يكفرون بالرحمن " . وذهب الجمهور من الناس إلى أن ( الرحمن ) مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ; ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ؛ فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى ( الرحيم ) ويجمع .
قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته . وهذا نص في الاشتقاق ، فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له .
الثالثة والعشرون : زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب ( الزاهر ) له : أن ( الرحمن ) اسم عبراني فجاء معه ب ( الرحيم ) وأنشد :
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا أو تتركون إلى القسين هجرتكم
ومسحكم صلبهم رحمان قربانا
قال أبو إسحاق الزجاج في ( معاني القرآن ) : وقال أحمد بن يحيى : " الرحيم " عربي و " الرحمان " عبراني ، فلهذا جمع بينهما . وهذا القول مرغوب عنه .
وقال أبو العباس : النعت قد يقع للمدح ; كما تقول : قال جرير الشاعر : وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال : مدح نفسه . قال أبو إسحاق : وهذا قول حسن . وقال قطرب : يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد . قال أبو إسحاق : وهذا قول حسن ، وفي التوكيد أعظم الفائدة ، وهو كثير في كلام العرب ، ويستغنى عن الاستشهاد ; والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد : إنه تفضل بعد تفضل ، وإنعام بعد إنعام ، وتقوية لمطامع الراغبين ، ووعد لا يخيب آمله .
الرابعة والعشرون : واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟ فقيل : هما بمعنى واحد ; كندمان ونديم . قالهأبو عبيدة . وقيل : ليس بناء فعلان كفعيل ، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل ; نحو قولك : رجل غضبان ، للممتلئ غضبا . وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول . قال عملس :
فأما إذا عضت بك الحرب عضة فإنك معطوف عليك رحيم
ف ( الرحمن ) خاص الاسم عام الفعل . و ( الرحيم ) عام الاسم خاص الفعل . هذا قول الجمهور .
قال أبو علي الفارسي : ( الرحمن ) اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله . ( والرحيم ) إنما هو في جهة المؤمنين ; كما قال تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما . وقال العرزمي ( الرحمن ) بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة ، و ( الرحيم ) بالمؤمنين في الهداية لهم ، واللطف بهم . وقال ابن المبارك : ( الرحمن ) إذا سئل أعطى ، و ( الرحيم ) إذا لم يسأل غضب . وروى ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه لفظ الترمذي . وقال ابن ماجه : من لم يدع الله سبحانه غضب عليه . وقال : سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا ، فقال : هو الذي يقال له : الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه . وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة .
قال الخطابي : وهذا مشكل ; لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى .
وقال الحسين بن الفضل البجلي : هذا وهم من الراوي ، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر ، والرفق من صفات الله عز وجل ; قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف .
الخامسة والعشرون : أكثر العلماء على أن ( الرحمن ) مختص بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمى به غيره ، ألا تراه قال : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره . وقال : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون فأخبر أن الرحمن هو المستحق للعبادة جل وعز . وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة ، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك ، وإن كان كل كافر كاذبا ، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به ، ألزمه الله إياه . وقد قيل في اسمه " الرحمن " : إنه اسم الله الأعظم ذكره ابن العربي .
السادسة والعشرون : الرحيم صفة مطلقة للمخلوقين ، ولما في الرحمن من العموم قدم في كلامنا على الرحيم مع موافقة التنزيل ; قاله المهدوي . وقيل : إن معنى الرحيم أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن ، ف ( الرحيم ) نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد نعته تعالى بذلك فقال : ( رؤوف رحيم ) فكأن المعنى أن يقول بسم الله الرحمن وبالرحيم ، أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلي ، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي والله أعلم .
السابعة والعشرون : روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله ( بسم الله ) : إنه شفاء من كل داء ، وعون على كل دواء . وأما الرحمن فهو عون لكل من آمن به ، وهو اسم لم يسم به غيره . وأما الرحيم فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا .
وقد فسره بعضهم على الحروف ; فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال : أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه . وقد قيل : إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه ; فالباء مفتاح اسمه " بصير " ، والسين مفتاح اسمه " سميع " ، والميم مفتاح اسمه " مليك " ، والألف مفتاح اسمه " الله " ، واللام مفتاح اسمه " لطيف " ، والهاء مفتاح اسمه هاد ، والراء مفتاح اسمه " رازق " ، والحاء مفتاح اسمه " حليم " ، والنون مفتاح اسمه " نور " ; ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء .
الثامنة والعشرون : واختلف في وصل ( الرحيم ) ب ( الحمد لله ) ; فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرحيم ألحمد ) يسكن الميم ويقف عليها ، ويبتدئ بألف مقطوعة . وقرأ به قوم من الكوفيين . وقرأ جمهور الناس : ( الرحيم الحمد ) تعرب الرحيم بالخفض وبوصل الألف من ( الحمد ) . وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ ( الرحيم الحمد ) ، بفتح الميم وصلة الألف ; كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت . قال ابن عطية : ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت . وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى : الم الله .. ❝ ⏤عبدالعزيز بن داخل المطيري
❞ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1)
القول في الاستعاذة
وفيها اثنتا عشرة مسألة :
الأولى : أمر الله تعالى بالاستعاذة عند أول كل قراءة فقال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل : 98 ] أي إذا أردت أن تقرأ ; فأوقع الماضي موقع المستقبل كما قال الشاعر :
وإني لآتيكم لذكري الذي مضى من الود واستئناف ما كان في غد
أراد ما يكون في غد ; وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، وأن كل فعلين تقاربا في المعنى جاز تقديم أيهما شئت ; كما قال تعالى : ثم دنا فتدلى [ النجم : 8 ] المعنى فتدلى ثم دنا ; ومثله : اقتربت الساعة وانشق القمر [ القمر : 1 ] وهو كثير .
الثانية : هذا الأمر على الندب في قول الجمهور في كل قراءة في غير الصلاة . واختلفوا فيه في الصلاة . حكى النقاش عن عطاء : أن الاستعاذة واجبة ، وكان ابن سيرين والنخعي وقوم يتعوذون في الصلاة كل ركعة ، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم ، وأبو حنيفة والشافعي يتعوذان في الركعة الأولى من الصلاة ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة ; ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في قيام رمضان .
الثالثة : أجمع العلماء على أن التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه ، وهو قول القارئ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . وهذا اللفظ هو الذي عليه الجمهور من العلماء في التعوذ لأنه لفظ كتاب الله تعالى . وروي عن ابن مسعود أنه قال : قلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ; فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن أم عبد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأني جبريل عن اللوح المحفوظ عن القلم .
الرابعة : روى أبو داود وابن ماجه في سننهما عن جبير بن مطعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة فقال عمرو : لا أدري أي صلاة هي ؟ فقال : " الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا - ثلاثا - الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا - ثلاثا - وسبحان الله بكرة وأصيلا - ثلاثا - أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه . قال عمرو : همزه المؤتة ، ونفثه الشعر ، ونفخه الكبر . وقال ابن ماجه : المؤتة يعني الجنون . والنفث : نفخ الرجل من فيه من غير أن يخرج ريقه . والكبر : التيه . وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل كبر ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك - ثم يقول : لا إله إلا الله - ثلاثا ثم يقول : - الله أكبر كبيرا - ثلاثا - أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه ثم يقرأ . وروى سليمان بن سالم عن ابن القاسم رحمه الله أن الاستعاذة : أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم . قال ابن عطية : " وأما المقرئون فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله تعالى وفي الجهة الأخرى ، كقول بعضهم : أعوذ بالله المجيد ، من الشيطان المريد ; ونحو هذا مما لا أقول فيه : نعمت البدعة ، ولا أقول : إنه لا يجوز " .
الخامسة : قال المهدوي : أجمع القراء على إظهار الاستعاذة في أول قراءة سورة " الحمد " إلا حمزة فإنه أسرها . وروى السدي عن أهل المدينة أنهم كانوا يفتتحون القراءة بالبسملة . وذكر أبو الليث السمرقندي عن بعض المفسرين أن التعوذ فرض ، فإذا نسيه القارئ وذكره في بعض الحزب قطع وتعوذ ، ثم ابتدأ من أوله . وبعضهم يقول : يستعيذ ثم يرجع إلى موضعه الذي وقف فيه ; وبالأول قال أسانيد الحجاز والعراق ; وبالثاني قال أسانيد الشام ومصر .
السادسة : حكى الزهراوي قال : نزلت الآية في الصلاة وندبنا إلى الاستعاذة في غير الصلاة وليس بفرض . قال غيره : كانت فرضا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم تأسينا به .
السابعة : روي عن أبي هريرة أن الاستعاذة بعد القراءة ; وقاله داود . قال أبو بكر بن العربي : انتهى العي بقوم إلى أن قالوا : إذا فرغ القارئ من قراءة القرآن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . وقد روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة ، وهذا نص . فإن قيل : فما الفائدة في الاستعاذة من الشيطان الرجيم وقت القراءة ؟ قلنا : فائدتها امتثال الأمر ، وليس للشرعيات فائدة إلا القيام بحق الوفاء لها في امتثالها أمرا أو اجتنابها نهيا ; وقد قيل : فائدتها امتثال الأمر بالاستعاذة من وسوسة الشيطان عند القراءة ; كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته [ الحج : 52 ] . قال ابن العربي : ومن أغرب ما وجدناه قول مالك في المجموعة في تفسير هذه الآية : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ النحل : 98 ] قال : ذلك بعد قراءة أم القرآن لمن قرأ في الصلاة ، وهذا قول لم يرد به أثر ، ولا يعضده نظر ; فإن كان هذا كما قال بعض الناس : إن الاستعاذة بعد القراءة ، كان تخصيص ذلك بقراءة أم القرآن في الصلاة دعوى عريضة ، ولا تشبه أصل مالك ولا فهمه ; فالله أعلم بسر هذه الرواية .
الثامنة : في فضل التعوذ . روى مسلم عن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . فقام إلى الرجل رجل ممن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل تدري ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا ؟ قال : إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب ذا عنه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال له الرجل : أمجنونا تراني ! أخرجه البخاري أيضا . وروى مسلم أيضا عن عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا قال : ففعلت فأذهبه الله عني . وروى أبو داود عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل عليه الليل قال : يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك [ وشر ما فيك ] [ و ] شر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك [ وأعوذ بالله ] من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن [ ساكن ] البلد ووالد وما ولد وروت خولة بنت حكيم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من نزل منزلا ثم قال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل . أخرجه الموطأ ومسلم والترمذي وقال : حديث حسن غريب صحيح . وما يتعوذ منه كثير ثابت في الأخبار ، والله المستعان .
التاسعة : معنى الاستعاذة في كلام العرب : الاستجارة والتحيز إلى الشيء ، على معنى الامتناع به من المكروه ; يقال : عذت بفلان واستعذت به ; أي لجأت إليه . وهو عياذي ; أي ملجئي . وأعذت غيري به وعوذته بمعنى . ويقال : عوذ بالله منك ; أي أعوذ بالله منك ; قال الراجز
قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربي منكم وحجر
والعرب تقول عند الأمر تنكره : حجرا له ، بالضم ، أي دفعا ، وهو استعاذة من الأمر . والعوذة والمعاذة والتعويذ كله بمعنى . وأصل أعوذ : أعوذ نقلت الضمة إلى العين لاستثقالها على الواو فسكنت .
العاشرة : الشيطان واحد الشياطين ; على التكسير والنون أصلية ; لأنه من شطن إذا بعد عن الخير . وشطنت داره أي بعدت ; قال الشاعر [ النابغة الذبياني ] :
نأت بسعاد عنك نوى شطون فبانت والفؤاد بها رهين
وبئر شطون أي بعيدة القعر . والشطن : الحبل ; سمي به لبعد طرفيه وامتداده . ووصف أعرابي فرسا لا يحفى فقال : كأنه شيطان في أشطان . وسمي الشيطان شيطانا لبعده عن الحق وتمرده ; وذلك أن كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان ; قال جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزل وهن يهوينني إذ كنت شيطانا
وقيل : إن شيطانا مأخوذ من شاط يشيط إذا هلك ، فالنون زائدة . وشاط إذا احترق وشيطت اللحم إذا دخنته ولم تنضجه . واشتاط الرجل إذا احتد غضبا . وناقة مشياط التي يطير فيها السمن . واشتاط إذا هلك ; قال الأعشى :
قد نخضب العير من مكنون فائله وقد يشيط على أرماحنا البطل
أي يهلك . ويرد على هذه الفرقة أن سيبويه حكى أن العرب تقول : تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين ، فهذا بين أنه تفيعل من شطن ، ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ، ويرد عليهم أيضا بيت أمية بن أبي الصلت :
أيما شاطن عصاه عكاه ورماه في السجن والأغلال
فهذا شاطن من شطن لا شك فيه .
الحادية عشرة : الرجيم أي المبعد من الخير المهان . وأصل الرجم : الرمي بالحجارة ، وقد رجمته أرجمه ، فهو رجيم ومرجوم . والرجم : القتل واللعن والطرد والشتم ، وقد قيل هذا كله في قوله تعالى : لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين [ الشعراء : 116 ] . وقول أبي إبراهيم : لئن لم تنته لأرجمنك [ مريم : 46 ] . وسيأتي إن شاء الله تعالى .
الثانية عشرة : روى الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال علي بن أبي طالب عليه السلام : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل وهو يلعنه ، قلت : ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله ؟ قال هذا الشيطان الرجيم فقلت : يا عدو الله ، والله لأقتلنك والله لأقتلنك ولأريحن الأمة منك ; قال : ما هذا جزائي منك ; قلت : وما جزاؤك مني يا عدو الله ؟ قال : والله ما أبغضك أحد قط إلا شركت أباه في رحم أمه .
وفيها سبع وعشرون مسألة :
الأولى : قال العلماء : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قسم من ربنا أنزله عند رأس كل سورة ، يقسم لعباده إن هذا الذي وضعت لكم يا عبادي في هذه السورة حق ، وإني أفي لكم بجميع ما ضمنت في هذه السورة من وعدي ولطفي وبري . و ( بسم الله الرحمن الرحيم ) مما أنزله الله تعالى في كتابنا وعلى هذه الأمة خصوصا بعد سليمان عليه السلام . وقال بعض العلماء : إن بسم الله الرحمن الرحيم تضمنت جميع الشرع ، لأنها تدل على الذات وعلى الصفات ; وهذا صحيح .
الثانية : قال سعيد بن أبي سكينة : بلغني أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى رجل يكتب : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال له : جودها فإن رجلا جودها فغفر له . قال سعيد : وبلغني أن رجلا نظر إلى قرطاس فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقبله ووضعه على عينيه فغفر له . ومن هذا المعنى قصة بشر الحافي ، فإنه لما رفع الرقعة التي فيها اسم الله وطيبها طيب اسمه ، ذكره القشيري . وروى النسائي عن أبي المليح عن ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا عثرت بك الدابة فلا تقل تعس الشيطان فإنه يتعاظم حتى يصير مثل البيت ويقول بقوته صرعته ولكن قل بسم الله الرحمن الرحيم فإنه يتصاغر حتى يصير مثل الذباب . وقال علي بن الحسين في تفسير قوله تعالى : وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [ الإسراء : 46 ] قال معناه : إذا قلت : بسم الله الرحمن الرحيم . وروى وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم ليجعل الله تعالى له بكل حرف منها جنة من كل واحد . فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار الذين قال الله فيهم : عليها تسعة عشر [ المدثر : 30 ] وهم يقولون في كل أفعالهم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فمن هنالك هي قوتهم ، وببسم الله استضلعوا . قال ابن عطية : ونظير هذا قولهم في ليلة القدر : إنها ليلة سبع وعشرين ، مراعاة للفظة ( هي ) من كلمات سورة : إنا أنزلناه [ القدر : 1 ] . ونظيره أيضا قولهم في عدد الملائكة الذين ابتدروا قول القائل : ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، فإنها بضعة وثلاثون حرفا ; فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول . قال ابن عطية : وهذا من ملح التفسير وليس من متين العلم .
الثالثة : روى الشعبي والأعمش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكتب ( باسمك اللهم ) حتى أمر أن يكتب ( بسم الله ) فكتبها ; فلما نزلت : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن [ الإسراء : 110 ] كتب ( بسم الله الرحمن ) فلما نزلت : إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [ النمل : 30 ] كتبها . وفي مصنف أبي داود قال الشعبي وأبو مالك وقتادة وثابت بن عمارة : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب بسم الله حتى نزلت سورة " النمل " .
الرابعة : روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أنه قال : البسملة تيجان السور .
قلت : وهذا يدل على أنها ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها . وقد اختلف العلماء في هذا المعنى على ثلاثة أقوال :
( الأول ) ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها ; وهو قول مالك . ( الثاني ) أنها آية من كل سورة ; وهو قول عبد الله بن المبارك . ( الثالث ) قال الشافعي : هي آية في الفاتحة ; وتردد قوله في سائر السور ; فمرة قال : هي آية من كل سورة ، ومرة قال : ليست بآية إلا في الفاتحة وحدها . ولا خلاف بينهم في أنها آية من القرآن في سورة النمل .
واحتج الشافعي بما رواه الدارقطني من حديث أبي بكر الحنفي عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قرأتم " الحمد لله رب العالمين " فاقرءوا " بسم الله الرحمن الرحيم " إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني و " بسم الله الرحمن الرحيم " ، إحداها . رفع هذا الحديث عبد الحميد بن جعفر وعبد الحميد هذا وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد ويحيى بن معين ; وأبو حاتم يقول فيه : محله الصدق ; وكان سفيان الثوري يضعفه ويحمل عليه . ونوح بن أبي بلال ثقة مشهور .
وحجة ابن المبارك وأحد قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما ; فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر وذكر الحديث ، وسيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى .
الخامسة : الصحيح من هذه الأقوال قول مالك ; لأن القرآن لا يثبت بأخبار الآحاد وإنما طريقه التواتر القطعي الذي لا يختلف فيه . قال ابن العربي : ويكفيك أنها ليست من القرآن اختلاف الناس فيها ، والقرآن لا يختلف فيه . والأخبار الصحاح التي لا مطعن فيها دالة على أن البسملة ليست بآية من الفاتحة ولا غيرها إلا في النمل وحدها . روى مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال [ تعالى ] : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : ( الحمد لله رب العالمين ) قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى : أثنى علي عبدي وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال مجدني عبدي - وقال مرة : فوض إلى عبدي - فإذا قال : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل . فقوله سبحانه : " قسمت الصلاة " يريد الفاتحة ، وسماها صلاة لأن الصلاة لا تصح إلا بها ; فجعل الثلاث الآيات الأول لنفسه ، واختص بها تبارك اسمه ، ولم يختلف المسلمون فيها . ثم الآية الرابعة جعلها بينه وبين عبده ; لأنها تضمنت تذلل العبد وطلب الاستعانة منه ، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى ، ثم ثلاث آيات تتمة سبع آيات . ومما يدل على أنها ثلاث قوله : " هؤلاء لعبدي " أخرجه مالك ; ولم يقل : هاتان ; فهذا يدل على أن ( أنعمت عليهم ) آية . قال ابن بكير قال مالك : " أنعمت عليهم " آية ، ثم الآية السابعة إلى آخرها . فثبت بهذه القسمة التي قسمها الله تعالى وبقوله عليه السلام لأبي : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة قال : فقرأت : الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها - أن البسملة ليست بآية منها ، وكذا عد أهل المدينة وأهل الشام وأهل البصرة ; وأكثر القراء عدوا : ( أنعمت عليهم ) آية ، وكذا روى قتادة عن أبي نضرة عن أبي هريرة قال : الآية السادسة : ( أنعمت عليهم ) . وأما أهل الكوفة من القراء والفقهاء فإنهم عدوا فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ولم يعدوا ( أنعمت عليهم ) .
فإن قيل : فإنها ثبتت في المصحف وهي مكتوبة بخطه ونقلت نقله ، كما نقلت في النمل ، وذلك متواتر عنهم . قلنا : ما ذكرتموه صحيح ; ولكن لكونها قرآنا ، أو لكونها فاصلة بين السور - كما روي عن الصحابة : كنا لا نعرف انقضاء السورة حتى تنزل " بسم الله الرحمن الرحيم " أخرجه أبو داود - أو تبركا بها ، كما قد اتفقت الأمة على كتبها في أوائل الكتب والرسائل ؟ كل ذلك محتمل . وقد قال الجريري : سئل الحسن عن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال : في صدور الرسائل . وقال الحسن أيضا : لم تنزل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في شيء من القرآن إلا في " طس " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم . والفيصل أن القرآن لا يثبت بالنظر والاستدلال ، وإنما يثبت بالنقل المتواتر القطعي الاضطراري . ثم قد اضطرب قول الشافعي فيها في أول كل سورة فدل على أنها ليست بآية من كل سورة ; والحمد لله .
فإن قيل : فقد روى جماعة قرآنيتها ، وقد تولى الدارقطني جمع ذلك في جزء صححه . قلنا : لسنا ننكر الرواية بذلك وقد أشرنا إليها ، ولنا أخبار ثابتة في مقابلتها ، رواها الأئمة الثقات والفقهاء الأثبات . روت عائشة في صحيح مسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب " الحمد لله رب العالمين " ، الحديث . وسيأتي بكماله . وروى مسلم أيضا عن أنس بن مالك قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ; لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " في أول قراءة ولا في آخرها .
ثم إن مذهبنا يترجح في ذلك بوجه عظيم ، وهو المعقول ; وذلك أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة انقضت عليه العصور ، ومرت عليه الأزمنة والدهور ، من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زمان مالك ، ولم يقرأ أحد فيه قط " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ اتباعا للسنة ، وهذا يرد أحاديثكم .
بيد أن أصحابنا استحبوا قراءتها في النفل ; وعليه تحمل الآثار الواردة في قراءتها أو على السعة في ذلك . قال مالك : ولا بأس أن يقرأ بها في النافلة ومن يعرض القرآن عرضا .
وجملة مذهب مالك وأصحابه : أنها ليست عندهم آية من فاتحة الكتاب ولا غيرها ، ولا يقرأ بها المصلي في المكتوبة ولا في غيرها سرا ولا جهرا ; ويجوز أن يقرأها في النوافل . هذا هو المشهور من مذهبه عند أصحابه . وعنه رواية أخرى أنها تقرأ أول السورة في النوافل ، ولا تقرأ أول أم القرآن . وروى عنه ابن نافع ابتداء القراءة بها في الصلاة الفرض والنفل ولا تترك بحال . ومن أهل المدينة من يقول : إنه لابد فيها من ( بسم الله الرحمن الرحيم ) منهم ابن عمر ، وابن شهاب ; وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد . وهذا يدل على أن المسألة مسألة اجتهادية لا قطعية ، كما ظنه بعض الجهال من المتفقهة الذي يلزم على قوله تكفير المسلمين ; وليس كما ظن لوجود الاختلاف المذكور ; والحمد لله .
وقد ذهب جمع من العلماء إلى الإسرار بها مع الفاتحة ; منهم : أبو حنيفة والثوري ; وروى ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وعمار وابن الزبير ; وهو قول الحكم وحماد ; وبه قال أحمد بن حنبل وأبو عبيد ; وروي عن الأوزاعي مثل ذلك ; حكاه أبو عمر بن عبد البر في ( الاستذكار ) . واحتجوا من الأثر في ذلك بما رواه منصور بن زاذان عن أنس بن مالك قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . وما رواه عمار بن زريق عن الأعمش عن شعبة عن ثابت عن أنس قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم .
قلت : هذا قول حسن ، وعليه تتفق الآثار عن أنس ولا تتضاد ويخرج به من الخلاف في قراءة البسملة . وقد روي عن سعيد بن جبير قال : كان المشركون يحضرون بالمسجد ; فإذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قالوا : هذا محمد يذكر رحمان اليمامة - يعنون مسيلمة - فأمر أن يخافت ب " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ونزل : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . قال الترمذي الحكيم أبو عبد الله : فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذلك الرسم وإن زالت العلة ، كما بقي الرمل في الطواف وإن زالت العلة ، وبقيت المخافتة في صلاة النهار وإن زالت العلة .
السادسة : اتفقت الأمة على جواز كتبها في أول كل كتاب من كتب العلم والرسائل ; فإن كان الكتاب ديوان شعر فروى مجالد عن الشعبي قال : أجمعوا ألا يكتبوا أمام الشعر : بسم الله الرحمن الرحيم . وقال الزهري : مضت السنة ألا يكتبوا في الشعر : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . وذهب إلى رسم التسمية في أول كتب الشعر سعيد بن جبير ، وتابعه على ذلك أكثر المتأخرين . قال أبو بكر الخطيب : وهو الذي نختاره ونستحبه .
السابعة : قال الماوردي ويقال لمن قال بسم الله : مبسمل ، وهي لغة مولدة ، وقد جاءت في الشعر ; قال عمر بن أبي ربيعة :
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
قلت : المشهور عن أهل اللغة بسمل . قال يعقوب بن السكيت والمطرز والثعالبي وغيرهم من أهل اللغة : بسمل الرجل ، إذا قال : بسم الله . يقال : قد أكثرت من البسملة ; أي من قول بسم الله ، ومثله : حوقل الرجل ، إذا قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وهلل ، إذا قال : لا إله إلا الله ، وسبحل ، إذا قال : سبحان الله ، وحمدل ، إذا قال : الحمد لله ، وحيصل ، إذا قال : حي على الصلاة ، وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك . وطبقل ، إذا قال : أطال الله بقاءك . ودمعز ، إذا قال أدام الله عزك . وحيفل ، إذا قال : حي على الفلاح . ولم يذكر المطرز : الحيصلة ، إذا قال : حي على الصلاة . وجعفل ، إذا قال : جعلت فداك . وطبقل ، إذا قال أطال الله بقاءك . ودمعز إذا قال : أدام الله عزك .
الثامنة : ندب الشرع إلى ذكر البسملة في أول كل فعل ; كالأكل والشرب والنحر ; والجماع والطهارة وركوب البحر ، إلى غير ذلك من الأفعال ; قال الله تعالى : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه . وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أغلق بابك واذكر اسم الله وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله وخمر إناءك واذكر اسم الله وأوك سقاءك واذكر اسم الله . وقال لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبدا . وقال لعمر بن أبي سلمة يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك وقال : إن الشيطان يستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه وقال : من لم يذبح فليذبح باسم الله . وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل بسم الله ثلاثا وقل سبع مرات أعوذ بعزة [ بالله ] وقدرته من شر ما أجد وأحاذر . هذا كله ثابت في الصحيح . وروى ابن ماجه والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول : بسم الله . وروى الدارقطني عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مس طهوره سمى الله تعالى ، ثم يفرغ الماء على يديه .
التاسعة : قال علماؤنا : وفيها رد على القدرية وغيرهم ممن يقول : إن أفعالهم مقدورة لهم ، وموضع الاحتجاج عليهم من ذلك أن الله سبحانه أمرنا عند الابتداء بكل فعل أن نفتتح بذلك ، كما ذكرنا .
فمعنى بسم الله ، أي بالله . ومعنى ( بالله ) أي بخلقه وتقديره يوصل إلى ما يوصل إليه . وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى . وقال بعضهم : معنى قوله ( بسم الله ) يعني بدأت بعون الله وتوفيقه وبركته ; وهذا تعليم من الله تعالى عباده ، ليذكروا اسمه عند افتتاح القراءة وغيرها ، حتى يكون الافتتاح ببركة الله جل وعز .
العاشرة : ذهب أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أن ( اسم ) صلة زائدة ، واستشهد بقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فذكر ( اسم ) زيادة ، وإنما أراد : ثم السلام عليكما .
وقد استدل علماؤنا بقول لبيد هذا على أن الاسم هو المسمى . وسيأتي الكلام فيه في هذا الباب وغيره ، إن شاء الله تعالى .
الحادية عشرة : اختلف في معنى زيادة : " اسم " ; فقال قطرب : زيدت لإجلال ذكره تعالى وتعظيمه . وقال الأخفش : زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرك ; لأن أصل الكلام : بالله .
الثانية عشرة : اختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه ، هل دخلت على معنى الأمر ؟ والتقدير : ابدأ بسم الله . أو على معنى الخبر ؟ والتقدير : ابتدأت بسم الله ; قولان : الأول للفراء ، والثاني للزجاج . ف ( باسم ) في موضع نصب على التأويلين . وقيل : المعنى ابتدائي بسم الله ; ف ( بسم الله ) في موضع رفع خبر الابتداء . وقيل : الخبر محذوف ; أي ابتدائي مستقر أو ثابت بسم الله ; فإذا أظهرته كان " بسم الله " في موضع نصب بثابت أو مستقر ، وكان بمنزلة قولك : زيد في الدار . وفي التنزيل : فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ف ( عنده ) في موضع نصب ; روي هذا عن نحاة أهل البصرة . وقيل : التقدير ابتدائي ببسم الله موجود أو ثابت ، ف ( باسم ) في موضع نصب بالمصدر الذي هو ابتدائي .
الثالثة عشرة : بسم الله ، تكتب بغير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط لكثرة الاستعمال ، بخلاف قوله : اقرأ باسم ربك فإنها لم تحذف ؛ لقلة الاستعمال . واختلفوا في حذفها مع الرحمن والقاهر ; فقال الكسائي وسعيد الأخفش : تحذف الألف . وقال يحيى بن وثاب : لا تحذف إلا مع بسم الله فقط ، لأن الاستعمال إنما كثر فيه .
الرابعة عشر : واختلف في تخصيص باء الجر بالكسر على ثلاثة معان ; فقيل : ليناسب لفظها عملها . وقيل : لما كانت الباء لا تدخل إلا على الأسماء خصت بالخفض الذي لا يكون إلا في الأسماء . الثالث : ليفرق بينهما وبين ما قد يكون من الحروف اسما ; نحو الكاف في قول الشاعر :
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا
أي بمثل ابن الماء أو ما كان مثله .
الخامسة عشرة : اسم ، وزنه افع ، والذاهب منه الواو ; لأنه من سموت ، وجمعه أسماء ، وتصغيره سمي . واختلف في تقدير أصله ، فقيل : فعل ، وقيل : فعل . قال الجوهري : وأسماء يكون جمعا لهذا الوزن ، وهو مثل جذع وأجذاع ، وقفل وأقفال ; وهذا لا تدرك صيغته إلا بالسماع . وفيه أربع لغات : إسم بالكسر ، وأسم بالضم . قال أحمد بن يحيى : من ضم الألف أخذه من سموت أسمو ، ومن كسر أخذه من سميت أسمي . ويقال : سم وسم ، وينشد :
والله أسماك سما مباركا آثرك الله به إيثاركا
وقال آخر :
وعامنا أعجبنا مقدمه يدعى أبا السمح وقرضاب سمه
مبتركا كل عظم يلحمه
قرضب الرجل : إذا أكل شيئا يابسا ، فهو قرضاب . ( سمه ) بالضم والكسر جميعا .
ومنه قول الآخر :
باسم الذي في كل سورة سمه
وسكنت السين من ( باسم ) اعتلالا على غير قياس ، وألفه ألف وصل ، وربما جعلها الشاعر ألف قطع للضرورة ; كقول الأحوص :
وما أنا بالمخسوس في جذم مالك ولا من تسمى ثم يلتزم الإسما
السادسة عشرة : تقول العرب في النسب إلى الاسم : سموي ، وإن شئت " اسمي " ، تركته على حاله ، وجمعه أسماء ، وجمع الأسماء أسام . وحكى الفراء : أعيذك بأسماوات الله .
السابعة عشرة : اختلفوا في اشتقاق الاسم على وجهين : فقال البصريون : هو مشتق من السمو وهو العلو والرفعة ، فقيل : اسم لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به . وقيل : لأن الاسم يسموا بالمسمى فيرفعه عن غيره . وقيل : إنما سمي الاسم اسما لأنه علا بقوته على قسمي الكلام : الحرف والفعل ; والاسم أقوى منهما بالإجماع لأنه الأصل ; فلعلوه عليهما سمي اسما ; فهذه ثلاثة أقوال .
وقال الكوفيون : إنه مشتق من السمة وهي العلامة ; لأن الاسم علامة لمن وضع له ; فأصل اسم على هذا ( وسم ) . والأول أصح ; لأنه يقال في التصغير سمي وفي الجمع أسماء ; والجمع والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها ; فلا يقال : وسيم ولا أوسام . ويدل على صحته أيضا فائدة الخلاف وهي :
الثامنة عشرة : فإن من قال الاسم مشتق من العلو يقول : لم يزل الله سبحانه موصوفا قبل وجود الخلق وبعد وجودهم وعند فنائهم ، ولا تأثير لهم في أسمائه ولا صفاته ; وهذا قول أهل السنة . ومن قال الاسم مشتق من السمة يقول : كان الله في الأزل بلا اسم ولا صفة ، فلما خلق الخلق جعلوا له أسماء وصفات ، فإذا أفناهم بقي بلا اسم ولا صفة ; وهذا قول المعتزلة وهو خلاف ما أجمعت عليه الأمة ، وهو أعظم في الخطأ من قولهم : إن كلامه مخلوق ، تعالى الله عن ذلك ! وعلى هذا الخلاف وقع الكلام في الاسم والمسمى وهي :
التاسعة عشرة : فذهب أهل الحق - فيما نقل القاضي أبو بكر بن الطيب - إلى أن الاسم هو المسمى ، وارتضاه ابن فورك ; وهو قول أبي عبيدة وسيبويه . فإذا قال قائل : الله عالم ; فقوله دال على الذات الموصوفة بكونه عالما ، فالاسم لكونه عالما وهو المسمى بعينه . وكذلك إذا قال : الله خالق ; فالخالق هو الرب ، وهو بعينه الاسم . فالاسم عندهم هو المسمى بعينه من غير تفصيل .
قال ابن الحصار : من ينفي الصفات من المبتدعة يزعم أن لا مدلول للتسميات إلا الذات ، ولذلك يقولون : الاسم غير المسمى ، ومن يثبت الصفات يثبت للتسميات مدلولات هي أوصاف الذات وهي غير العبارات وهي الأسماء عندهم . وسيأتي لهذه مزيد بيان في ( البقرة ) و ( الأعراف ) إن شاء الله تعالى .
الموفية عشرين - قوله : ( الله ) هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها ، حتى قال بعض العلماء : إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ; ولذلك لم يثن ولم يجمع ، وهو أحد تأويلي قوله تعالى : هل تعلم له سميا أي من تسمى باسمه الذي هو ( الله ) . فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإلهية ، المنعوت بنعوت الربوبية ، المنفرد بالوجود الحقيقي ، لا إله إلا هو سبحانه . وقيل : معناه الذي يستحق أن يعبد . وقيل : معناه واجب الوجود الذي لم يزل ولا يزال ; والمعنى واحد .
الحادية والعشرون : واختلفوا في هذا الاسم هل هو مشتق أو موضوع للذات علم ؟ فذهب إلى الأول كثير من أهل العلم . واختلفوا في اشتقاقه وأصله ; فروى سيبويه عن الخليل أن أصله إلاه ، مثل فعال ; فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة . قال سيبويه : مثل الناس أصله أناس . وقيل : أصل الكلمة ( لاه ) وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم ، وهذا اختيار سيبويه . وأنشد :
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني
كذا الرواية : فتخزوني ، بالخاء المعجمة ومعناه : تسوسني .
وقال الكسائي والفراء : معنى " بسم الله " بسم الإله ; فحذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في الثانية فصارتا لاما مشددة ; كما قال عز وجل : لكنا هو الله ربي ومعناه : لكن أنا ، كذلك قرأها الحسن . ثم قيل : هو مشتق من ( وله ) إذا تحير ; والوله : ذهاب العقل . يقال : رجل واله وامرأة والهة وواله ، وماء موله : أرسل في الصحاري . فالله سبحانه تتحير الألباب وتذهب في حقائق صفاته والفكر في معرفته . فعلى هذا أصل : ( إلاه ) ، ( ولاه ) وأن الهمزة مبدلة من واو كما أبدلت في إشاح ووشاح ، وإسادة ووسادة ، وروي عن الخليل . وروي عن الضحاك أنه قال : إنما سمي : ( الله ) إلها ، لأن الخلق يتألهون إليه في حوائجهم ، ويتضرعون إليه عند شدائدهم ، وذكر عن الخليل بن أحمد أنه قال : لأن الخلق يألهون إليه ( بنصب اللام ) ويألهون أيضا ( بكسرها ) وهما لغتان . وقيل : إنه مشتق من الارتفاع ، فكانت العرب تقول لكل شيء مرتفع لاها ، فكانوا يقولون إذا طلعت الشمس : لاهت . وقيل : هو مشتق من أله الرجل إذا تعبد . وتأله إذا تنسك ، ومن ذلك قوله تعالى : ( ويذرك وإلاهتك ) على هذه القراءة ; فإن ابن عباس وغيره قالوا : وعبادتك .
قالوا : فاسم الله مشتق من هذا ، فالله سبحانه معناه المقصود بالعبادة ، ومنه قول الموحدين : لا إله إلا الله ، معناه لا معبود غير الله . و ( إلا ) في الكلمة بمعنى غير ، لا بمعنى الاستثناء . وزعم بعضهم أن الأصل فيه ( الهاء ) التي هي الكناية عن الغائب ، وذلك أنهم أثبتوه موجودا في فطر عقولهم فأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زيدت فيه لام الملك إذ قد علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار ( له ) ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما وتفخيما .
القول الثاني : ذهب إليه جماعة من العلماء أيضا منهم الشافعي وأبو المعالي والخطابي والغزالي والمفضل وغيرهم ، وروي عن الخليل وسيبويه : أن الألف واللام لازمة له لا يجوز حذفهما منه . قال الخطابي : والدليل على أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ، ولم يدخلا للتعريف : دخول حرف النداء عليه ; كقولك : يا الله ، وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام للتعريف ; ألا ترى أنك لا تقول : يا الرحمن ولا : يا الرحيم ، كما تقول : يا الله ، فدل على أنهما من بنية الاسم . والله أعلم .
الثانية والعشرون : واختلفوا أيضا في اشتقاق اسمه الرحمن ; فقال بعضهم : لا اشتقاق له لأنه من الأسماء المختصة به سبحانه ، ولأنه لو كان مشتقا من الرحمة لاتصل بذكر المرحوم ، فجاز أن يقال : الله رحمن بعباده ، كما يقال : رحيم بعباده . وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعوه ، إذ كانوا لا ينكرون رحمة ربهم ، وقد قال الله عز وجل : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الآية . ولما كتب علي رضي الله عنه في صلح الحديبية بأمر النبي صلى الله عليه وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو : أما ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فما ندري ما ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ! ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، الحديث . قال ابن العربي˝ : إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ، واستدل على ذلك بقولهم : وما الرحمن ؟ ولم يقولوا : ومن الرحمن ؟ قال ابن الحصار : وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى : " وهم يكفرون بالرحمن " . وذهب الجمهور من الناس إلى أن ( الرحمن ) مشتق من الرحمة مبني على المبالغة ; ومعناه ذو الرحمة الذي لا نظير له فيها ؛ فلذلك لا يثنى ولا يجمع كما يثنى ( الرحيم ) ويجمع .
قال ابن الحصار : ومما يدل على الاشتقاق ما خرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته . وهذا نص في الاشتقاق ، فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب له لجهلهم بالله وبما وجب له .
الثالثة والعشرون : زعم المبرد فيما ذكر ابن الأنباري في كتاب ( الزاهر ) له : أن ( الرحمن ) اسم عبراني فجاء معه ب ( الرحيم ) وأنشد :
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا أو تتركون إلى القسين هجرتكم
ومسحكم صلبهم رحمان قربانا
قال أبو إسحاق الزجاج في ( معاني القرآن ) : وقال أحمد بن يحيى : " الرحيم " عربي و " الرحمان " عبراني ، فلهذا جمع بينهما . وهذا القول مرغوب عنه .
وقال أبو العباس : النعت قد يقع للمدح ; كما تقول : قال جرير الشاعر : وروى مطرف عن قتادة في قول الله عز وجل ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قال : مدح نفسه . قال أبو إسحاق : وهذا قول حسن . وقال قطرب : يجوز أن يكون جمع بينهما للتوكيد . قال أبو إسحاق : وهذا قول حسن ، وفي التوكيد أعظم الفائدة ، وهو كثير في كلام العرب ، ويستغنى عن الاستشهاد ; والفائدة في ذلك ما قاله محمد بن يزيد : إنه تفضل بعد تفضل ، وإنعام بعد إنعام ، وتقوية لمطامع الراغبين ، ووعد لا يخيب آمله .
الرابعة والعشرون : واختلفوا هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟ فقيل : هما بمعنى واحد ; كندمان ونديم . قالهأبو عبيدة . وقيل : ليس بناء فعلان كفعيل ، فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل ; نحو قولك : رجل غضبان ، للممتلئ غضبا . وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول . قال عملس :
فأما إذا عضت بك الحرب عضة فإنك معطوف عليك رحيم
ف ( الرحمن ) خاص الاسم عام الفعل . و ( الرحيم ) عام الاسم خاص الفعل . هذا قول الجمهور .
قال أبو علي الفارسي : ( الرحمن ) اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله . ( والرحيم ) إنما هو في جهة المؤمنين ; كما قال تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما . وقال العرزمي ( الرحمن ) بجميع خلقه في الأمطار ونعم الحواس والنعم العامة ، و ( الرحيم ) بالمؤمنين في الهداية لهم ، واللطف بهم . وقال ابن المبارك : ( الرحمن ) إذا سئل أعطى ، و ( الرحيم ) إذا لم يسأل غضب . وروى ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يسأل الله يغضب عليه لفظ الترمذي . وقال ابن ماجه : من لم يدع الله سبحانه غضب عليه . وقال : سألت أبا زرعة عن أبي صالح هذا ، فقال : هو الذي يقال له : الفارسي وهو خوزي ولا أعرف اسمه . وقد أخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال :
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن عباس : هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ، أي أكثر رحمة .
قال الخطابي : وهذا مشكل ; لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله تعالى .
وقال الحسين بن الفضل البجلي : هذا وهم من الراوي ، لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء ، وإنما هما اسمان رفيقان أحدهما أرفق من الآخر ، والرفق من صفات الله عز وجل ; قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف .
الخامسة والعشرون : أكثر العلماء على أن ( الرحمن ) مختص بالله عز وجل ، لا يجوز أن يسمى به غيره ، ألا تراه قال : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فعادل الاسم الذي لا يشركه فيه غيره . وقال : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون فأخبر أن الرحمن هو المستحق للعبادة جل وعز . وقد تجاسر مسيلمة الكذاب - لعنه الله - فتسمى برحمان اليمامة ، ولم يتسم به حتى قرع مسامعه نعت الكذاب فألزمه الله تعالى نعت الكذاب لذلك ، وإن كان كل كافر كاذبا ، فقد صار هذا الوصف لمسيلمة علما يعرف به ، ألزمه الله إياه . وقد قيل في اسمه " الرحمن " : إنه اسم الله الأعظم ذكره ابن العربي .
السادسة والعشرون : الرحيم صفة مطلقة للمخلوقين ، ولما في الرحمن من العموم قدم في كلامنا على الرحيم مع موافقة التنزيل ; قاله المهدوي . وقيل : إن معنى الرحيم أي بالرحيم وصلتم إلى الله وإلى الرحمن ، ف ( الرحيم ) نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد نعته تعالى بذلك فقال : ( رؤوف رحيم ) فكأن المعنى أن يقول بسم الله الرحمن وبالرحيم ، أي وبمحمد صلى الله عليه وسلم وصلتم إلي ، أي باتباعه وبما جاء به وصلتم إلى ثوابي وكرامتي والنظر إلى وجهي والله أعلم .
السابعة والعشرون : روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في قوله ( بسم الله ) : إنه شفاء من كل داء ، وعون على كل دواء . وأما الرحمن فهو عون لكل من آمن به ، وهو اسم لم يسم به غيره . وأما الرحيم فهو لمن تاب وآمن وعمل صالحا .
وقد فسره بعضهم على الحروف ; فروي عن عثمان بن عفان أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فقال : أما الباء فبلاء الله وروحه ونضرته وبهاؤه وأما السين فسناء الله وأما الميم فملك الله وأما الله فلا إله غيره وأما الرحمن فالعاطف على البر والفاجر من خلقه وأما الرحيم فالرفيق بالمؤمنين خاصة . وروي عن كعب الأحبار أنه قال : الباء بهاؤه والسين سناؤه فلا شيء أعلى منه والميم ملكه وهو على كل شيء قدير فلا شيء يعازه . وقد قيل : إن كل حرف هو افتتاح اسم من أسمائه ; فالباء مفتاح اسمه " بصير " ، والسين مفتاح اسمه " سميع " ، والميم مفتاح اسمه " مليك " ، والألف مفتاح اسمه " الله " ، واللام مفتاح اسمه " لطيف " ، والهاء مفتاح اسمه هاد ، والراء مفتاح اسمه " رازق " ، والحاء مفتاح اسمه " حليم " ، والنون مفتاح اسمه " نور " ; ومعنى هذا كله دعاء الله تعالى عند افتتاح كل شيء .
الثامنة والعشرون : واختلف في وصل ( الرحيم ) ب ( الحمد لله ) ; فروي عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرحيم ألحمد ) يسكن الميم ويقف عليها ، ويبتدئ بألف مقطوعة . وقرأ به قوم من الكوفيين . وقرأ جمهور الناس : ( الرحيم الحمد ) تعرب الرحيم بالخفض وبوصل الألف من ( الحمد ) . وحكى الكسائي عن بعض العرب أنها تقرأ ( الرحيم الحمد ) ، بفتح الميم وصلة الألف ; كأنه سكنت الميم وقطعت الألف ثم ألقيت حركتها على الميم وحذفت . قال ابن عطية : ولم ترو هذه قراءة عن أحد فيما علمت . وهذا نظر يحيى بن زياد في قوله تعالى : الم الله. ❝