❞ وكان من هديه ﷺ إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه ، وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله ، أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ، وكان يأخذها من أهلها ويضعها في حقها ، وكان من هديه ﷺ تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال ، وما فضل عنهم منها حُملت إليه ، ففرقها هو ، ولذلك كان يبعث سعاته إلى البوادي ، ولم يكن يبعثهم إلى القُرى ، بل أمر معاذ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ، ويُعطيها فقراءهم ، ولم يأمره بحملها إليه ، ولم يكن من هديه ﷺ أن يبعث سعاته إلَّا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزروع والثمار ، وكان يبعث الخارِصَ فيخرص على أرباب النخيل تمر نخيلهم ، وينظر كم يجيء منه وَسْقاً ، فَيَحْسِبُ عليهم من الزكاة بقدره ، وكان يأمر الخَارِصَ أن يدع لهم الثلث أو الربع ، فلا يخرصه عليهم لما يعروُ النخيل من النوائب ، وكان هذا الخرصُ لكي تُحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمارُ وتُصْرَمَ ، وليتصرف فيها أربابها بما شاؤوا ، ويضمنوا قدر الزكاة ، ولذلك كان يبعث الخارِصَ إلى من ساقاه من أهل خيبر وزارعه فيخرص عليهم الثمار والزروع ، ويُضمِّنُهم شطرها ، وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة ، فأرادوا أن يَرشُوه ، فقال عبد الله : تُطعموني السُّحتَ ؟! والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ ، ولأنتُم أبغض إليَّ من عِدَّتِكم من القردة والخنازير ، ولا يحملني بغضي لكم وحُبي إياه ، أن لا أعدل عليكم ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض ، ولم يكن من هديه ﷺ أخذ الزكاة من الخيل ، والرقيق ، ولا البغال ولا الحمير ، ولا الخضراوات ولا المباطخ والمقاتي والفواكه التي لا تكال ولا تدَّخر ، إلَّا العنب والرُّطب فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يفرق بين ما يبس منه وما لم ييبس ، واُختلف عنه في العسل ، وكان ﷺ إذا جاءه الرجل بالزكاة دعا له فتارة يقول ( اللَّهُمَّ بَارِك فيه وفي إبله ) ، وتارة يقول ( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ) ، ولم يكن من هديه ﷺ أخذ كرائم الأموال في الزكاة ، بل وسط المال ، ولهذا نهى معاذا عن ذلك ، وكان ﷺ ينهى المتصدق أن يشتري صدقته ، وكان يبيح للغني أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير ، وأكل ﷺ من لحم تُصدِّقَ به على بريرة وقال ( هوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولنا مِنْها هَدِية ) ، وكان ﷺ أحياناً يستدين لمصالح المسلمين على الصدقة ، كما جهز جيشاً فَنَفِدَتِ الإبل ، فأمر عبد الله بن عمرو أن يأخذ من قلائص الصدقة ، وكان ﷺ يَسِمُ إبل الصَّدَقَةِ بيده ، وكان ﷺ يَسِمُها في آذانها . وكان ﷺ إذا عراه أمر ، استسلف الصدقة من أربابها ، كما استسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين. ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ وكان من هديه ﷺ إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه ، وإن سأله أحد من أهل الزكاة ولم يعرف حاله ، أعطاه بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ، وكان يأخذها من أهلها ويضعها في حقها ، وكان من هديه ﷺ تفريق الزكاة على المستحقين الذين في بلد المال ، وما فضل عنهم منها حُملت إليه ، ففرقها هو ، ولذلك كان يبعث سعاته إلى البوادي ، ولم يكن يبعثهم إلى القُرى ، بل أمر معاذ بن جبل أن يأخذ الصدقة من أغنياء أهل اليمن ، ويُعطيها فقراءهم ، ولم يأمره بحملها إليه ، ولم يكن من هديه ﷺ أن يبعث سعاته إلَّا إلى أهل الأموال الظاهرة من المواشي والزروع والثمار ، وكان يبعث الخارِصَ فيخرص على أرباب النخيل تمر نخيلهم ، وينظر كم يجيء منه وَسْقاً ، فَيَحْسِبُ عليهم من الزكاة بقدره ، وكان يأمر الخَارِصَ أن يدع لهم الثلث أو الربع ، فلا يخرصه عليهم لما يعروُ النخيل من النوائب ، وكان هذا الخرصُ لكي تُحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمارُ وتُصْرَمَ ، وليتصرف فيها أربابها بما شاؤوا ، ويضمنوا قدر الزكاة ، ولذلك كان يبعث الخارِصَ إلى من ساقاه من أهل خيبر وزارعه فيخرص عليهم الثمار والزروع ، ويُضمِّنُهم شطرها ، وكان يبعث إليهم عبد الله بن رواحة ، فأرادوا أن يَرشُوه ، فقال عبد الله : تُطعموني السُّحتَ ؟! والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ ، ولأنتُم أبغض إليَّ من عِدَّتِكم من القردة والخنازير ، ولا يحملني بغضي لكم وحُبي إياه ، أن لا أعدل عليكم ، فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض ، ولم يكن من هديه ﷺ أخذ الزكاة من الخيل ، والرقيق ، ولا البغال ولا الحمير ، ولا الخضراوات ولا المباطخ والمقاتي والفواكه التي لا تكال ولا تدَّخر ، إلَّا العنب والرُّطب فإنه كان يأخذ الزكاة منه جملة ولم يفرق بين ما يبس منه وما لم ييبس ، واُختلف عنه في العسل ، وكان ﷺ إذا جاءه الرجل بالزكاة دعا له فتارة يقول ( اللَّهُمَّ بَارِك فيه وفي إبله ) ، وتارة يقول ( اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ) ، ولم يكن من هديه ﷺ أخذ كرائم الأموال في الزكاة ، بل وسط المال ، ولهذا نهى معاذا عن ذلك ، وكان ﷺ ينهى المتصدق أن يشتري صدقته ، وكان يبيح للغني أن يأكل من الصدقة إذا أهداها إليه الفقير ، وأكل ﷺ من لحم تُصدِّقَ به على بريرة وقال ( هوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ ولنا مِنْها هَدِية ) ، وكان ﷺ أحياناً يستدين لمصالح المسلمين على الصدقة ، كما جهز جيشاً فَنَفِدَتِ الإبل ، فأمر عبد الله بن عمرو أن يأخذ من قلائص الصدقة ، وكان ﷺ يَسِمُ إبل الصَّدَقَةِ بيده ، وكان ﷺ يَسِمُها في آذانها . وكان ﷺ إذا عراه أمر ، استسلف الصدقة من أربابها ، كما استسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين. ❝
❞ نحن لم نفهم الله ؟! من كتاب \"عين الفيلسوف\" للكاتب والروائي والمفكر الإسلامي محمد نبيل كبها
يعتقد العموم أنّ هبوط أبوينا \"آدم وزوجه\" من الجنّة إلى الأرض كان عقوبة لهما لأنّهما أكلا من الشّجرة، لكن حسب تقشيري للمسألة فإني أجدها تأخذ منعطفاً آخر، فلم يكن هبوطهما إلى الأرض عقاباً لهما لعدم إمتثالهما لأمر الله! قد يتفاجئ المعظم سواء على الصعيد الإسلامي أو غيره من المدارس الأخرى، ولكن سأثبت ذلك إن شاء الله.
الجنّة في الأرض وليست في السّماء
قبل أن أوغل في الموضوع، أريد أن أعقّب على أمر مهم، وهو أن الجنّة التي كان فيها أبوينا ليست هي جنة الخلد، لقوله تعالى: \"إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ\" (الأية رقم 17 من سورة القلم).
إن \"الجنّة\" لغةً تُطلق على الأرض الخضراء وما فيها من أشجار ونخيل وغيرها، كالبستان والحديقة، والذي جعلني أتطرّق إلى هذا التفسير هو أن جنّة المأوى ليست دار تكليف ولا يوجد فيها معصية، لقوله تعالى: \"جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا\" (الأية رقم 61 من سورة مريم) ولقوله تعالى أيضاً: \"وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ\" (الأية رقم 34 من سورة فاطر).
إذن، جنّة الخلد ليس فيها تعب أو جهد، ولا ضعف أو إعياء، ولا كذب أو نميمة، بل ولقد جاءُ في موضع آخر في كتابنا الكريم قوله تعالى: \"إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى\" (الأية رقم 118 من سورة طه) وهذه مواصفات جنّة بسيطة وبِدائيّة، وليست مُواصفات جنّة الخُلد التي حدّثنا الله تعالى عنها في آيات كثيرة.
ولتأكيد ذلك سأطرح عليكم سؤالاً، كيف يُكْذَب على الله تعالى في جنة الخلد وقد قال سبحانه: \"لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا\" (الأية رقم 35 من سورة النبأ) كيف؟! كيف يُتاح في جنّة الخُلد أن يُقسم إبليس بالله كذباً لآدم كي يأكل من الشجرة؟! أليس هذا يناقض ما جاء في الآية الكريمة آنفاً!
إضافةً إلى أن من صفات جنة الخلد أنه لا يوجد فيها خطأ ولا معصية، فكيف يُعصى الله تعالى فيها!؟ قال تعالى: \"وعصى آدم ربه فغوى\" (الآية رقم 121 من سورة طه) إذن هي ليست جنّة الخُلد، وإنما جنّة على الأرض.
وبرهان آخر في قول الله تعالى مُخاطباً آدم وزوجه وإبليس: \"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ\" (الأية رقم 38 من سورة البقرة) وفي آية أخرى يقول سبحانهُ: \"قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ\" (الأية رقم 24 من سورة الأعراف) وفي آية أخرى قال جل في عُلاه: \"قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ\" (الأية رقم 123 من سورة طه).
الهبوط هو حركة على سطح الأرض، وليس من الجنّة في الأعلى إلى الأرض في الأسفل! بل هي إنتقال من مكان لآخر على سطح الأرض، بدليل قوله تعالى في نبينا موسى عليه السلام: \"اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم\" (الأية رقم 61 من سورة البقرة) إذن هو إنتقل من مدينة إلى أخرى، من فلسطين إلى مصر! ألم يقل الله سبحانه في نبينا نوح عليه السلام عندما أمره ببناء السفينة في الصحراء: \"قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَٰمٍۢ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٍۢ مِّمَّن مَّعَكَ\" (الأية رقم 48 من سورة هود).
إذن الهبوط لا يُقصد به من جنة السماء إلى الأرض، وإنما إنتقال من مكان لآخر على سطح الأرض.
وهناك معنى خطير في قوله تعالى على لسان إبليس: \"قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى\" (الأية رقم 120 من سورة طه) تعبيره في الآية الكريمة بعِبارة \"شجرة الخلد وملك لا يبلى\" يَضْوِي في عقلي فكرة، وهي أن الجنة التي كان يرتع فيها آدم يعُمُّها الفناء والموت! فقوله \"شجرة الخلد\" يعني أنه كان يرى الموت فيها، وكان يشاهد طي أعمار المخلوقات فيها! وأما قوله \"ملك لا يبلى\" يدُل على تبدل الحال والمآل، وهذا يؤكد على أنها جنة أرضية كان يأكلها الموت ويبلع من فيها.
وفي موضع آخر قال سبحانهُ على لسان هذا الملعون أيضاً: \"ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين\" (الأية رقم 20 من سورة الأعراف) عندما نطق إبليس بكلمة \"خالدين\" في هذه الآية أثناء حواره مع آدم، أكّد لي أن آدم كان يعرف الموت، وكان يراه بعينه، لأن نقيض الخلود هو الفناء والإنتهاء، وهذا يعني أنه كان في مجموعة من جنسه، أو ضمن كائنات معينة يرى الموت فيها! لذلك قال له إبليس \"بتعبيري العامّي\": \"إذا أكلت أنت وزوجك من هذه الشجرة فإنكما لن تموتا، وستصبحان من الخالدين\"، وفي جنّة الخُلد لا مكان للموت!!
ودليلي الآخر هو في قوله تعالى: \"وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين\" (الأية رقم 20 من سورة ص).
إنتبه يا عزيزي لقوله تعالى: \"وأورثنا الأرض\"، ولقوله سبحانه: \"نتبوأ من الجنة\"، إذن جنة الخلد ستكون على الأرض، وليست في السماء! حيث سيعاد بناء الكون مرّة أخرى على أنقاض هذا العالم، حينما تفجّر البحار، وتنتثر الكوكب، وتنشق السماء، وتتبعثر القبور، وتبدّل الأرض غير الأرض، ويطوي الله تعالى السماء بيمينه، كلها علامات تومئ إلى إنتهاء هذا الكون، وولادة عالم جديد.
قال تعالى: \"يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار\" (الأية رقم 48 من سورة إبراهيم) وقوله تعالى: \"يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين\" (الأية رقم 104 من سورة الأنبياء).
إن الواضح من هذه الآيات أن هذا الوجود بما فيه السماوات وما فيها، والأرضين وما فيها سيأتي يوم لكيّها وطيّها، وإعادة بناء كون جديد مرّة أخرى على فتات هذا العالم، وستكون لبنة البناء هي من ذرّة أزلية غير قابلة للفناء، لأن العالم الجديد والمقبلين عليه هو\"الجنة، والنار\"، وهذا يتطلّب إعدام هذا الوجود بما فيه الإنسان لتشييد آخر يكون قائماً للأبد، وموت الإنسان هو من مشمولات هذه العمليّة، لإعادة خلقه هو الآخر مرّة أخرى على نحوٍ أبدي يتكيف فيه مع العالم الجديد \"الجنة والنار\" والذي سيبعث فيه ويخلّد فيه.
هناك بشر قبل آدم
عندما قرّر الله سبحانه وتعالى خلق أبونا آدم عليه السّلام، وبعد أن فرغ من تصميمه، كانت هناك حضرة إلهيّة خاصّة به سبحانه، يجتمع فيها مع أقرب وأطهر المخلوقات إليه، ألا وهم \"الملائكة وإبليس\"، وبالمناسبة \"إبليس\" لم يكن ملكاً كما يعتقد البعض، لقوله تعالى: \"إلّا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه\" (الأية رقم 50 من سورة الكهف) إذن، إبليس كان من الجن، ولكنّه كان من الصالحين العابدين، ومن المقرّبين ذو رتبة عالية وسامية تُمكنه من حضور هذه الحضرة الملكوتيّة الإجلاليّة العظيمة لله تبارك وتعالى بجانب الملائكة.
عقد الله سبحانهُ هذا المجلس المُعظّم، والذي لا يعلم مكانه إلّا هو سبحانهُ، ودعا إليه المقربين والمطهّرين من خلقه لينبأهم بأمر عظيم، ألا وهو تنصيب خليفة في الأرض، فقال تعالى: \"إني جاعل في الأرض خليفة\" (الأية رقم 30 من سورة البقرة) فكانت ردّة فعل الملائكة أنّها إستهجنت أن الله تعالى جعل آدم الخليفة، وإستفظعت ذلك متسائلة: \"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء\" (الأية رقم 30 من سورة البقرة) وهنا يعترضنا سؤال: كيف وَضَحَ لهم عليهم السلام أنّ آدم سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ولم تطأ بعد قدمه بساط هذا الكوكب؟!
إستفسرت الملائكة عن أبونا آدم عندما عُرِض عليهم من قبل الله تعالى، ولكنها إستعجبت من قراره سبحانهُ عندما قلّد أبونا منصب \"الخليفة\" على الأرض وولّاهُ عليها، وهذا الإستفهام هو الذي جعل فكرة أن هناك بشراً قبل آدم تنقدح في ذهني!
يبدوا أن الصّورة التي رُكِّب فيها أبونا آدم، من الممكن أنّها كانت تشبه بشراً قبله كانوا يتخبّطون في صحن الأرض! لذلك كان إستهجانها وإستفهامها عندما قالت: \"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء\" (الأية رقم 30 من سورة البقرة).
توصيف الملائكة لفعل آدم في الآية عندما قالت \"ويسفك الدماء\" أكّد لي أن هناك بشراً قبله إستوطنوا الأرض! لأن الدّماء مفهوم انساني، ولا يوجد دماء في تركيب الجن أو الملائكة! إذن هي تتحدث عن بشر يشبه آدم هيكلاً وهيئةً وخِلقةً، وكان مسبوقاً في الأرض.
وليس كما لُقّنّا قديماً في المدارس والجامعات وفي كتب الأثر أن الجن عاشوا قديماً لقرابة ألفي عام على الأرض، ثم أفسدوا فيها وقتّلوا بعضهم! وليس أيضاً ما قيل لنا من خطب ودروس في المساجد أن الله كشف الغيب لهم ليشاهدوا مستقبل النوع الإنساني! وليس أيضا ما خُط من روايات حاولت الإقتراب من معنى هذه الآية، كما جاء في رواية \"الحن والبن\" هذه المخلوقات العجيبة والغريبة! وليس أيضا ما أخبرتني به إحدى النساء التي كانت تحمل شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية أن المقصود هم “الديناصورات\"! أو حتى غيرها من الحيوانات أو المخلوقات أو المسوخ! بل هي تتحدّث عن بشر مماثلين لآدم في الصورة والبناء، لأن إستفهامها وسؤالها كان مباشرة بعد أن عَرَض الله سبحانهُ آدم عليهم شكلاً، فقارنته هي بدورها بمن يشبهه الآن على الأرض.
إن الملائكة لا تعلم الغيب ولم يُكشف لها، وإنما هي في الحقيقة شاهدت مخلوقاً بشريّاً قريباً في الصّورة من أبونا آدم في الأرض، يصدُر منه فعلين، الأول هو الإفساد، والثاني هو سفك الدماء.
ولكيلا أُفهم خطأ، أنا لست من أنصار التطور، ولا من أتباع عالم الأحياء الشهير (تشارلز داروين) الذي تحدث في كتابه \"أصل الأنواع\" عن إنحدار الإنسان ومراحل تطوره، وسأكون مُنصفاً وحياديّاً بحقه، فهو لم يقل أن أصل الإنسان قرد كما نُقل لنا عنه من العامةّ والخاصّة، وإنما قال أن الإنسان والقردة جاؤوا من سلف مشترك.
أنا أعارض تماما ما جاء في هذه النظرية، ولا أوافق قول بعض العلماء الغرب والعرب بأن هناك أشباه بشر فيما يعرف \"بالأوستروبيثيكوس Australopithecus\" أو \"الإنسان البدائي Homo Neanderthalensis\"، وأن مجموعتنا والمسماة \"بالإنسان العاقل Homo SapiensSapiens\" قد إنشقت من هذا الجنس، أو إنحدرت منه، أو حصل تزاوج معهم! ولا أريد أن أخوض في هذا المبحث الآن، فهو يحتاج إلى كتاب آخر أتحدّث فيه عن نظرية التطور\"Theory of Evolution\" لدحضها علميّاً وتنكيس رايتها، ولكني سأتطرّق لها سطحيّاً في الفقرة اللّاحقة لتوضيح بعض الإشكالات.
أعود، قال تعالى: \"إني جاعل في الارض خليفة\" (الأية رقم 30 من سورة البقرة) هذا يعني أن آدم كان موجوداً! ولكن الجديد في الأمر هو أن الله \"جاعلهُ\"، بمعنى \"سيجعلهُ\" خليفة في الأرض، ودليلي على ذلك قوله تعالى لنبيّنا إبراهيم عليه السلام: \"إني جاعلك للناس إماما\" (الأية رقم 142 من سورة البقرة) هذا يعني أن إبراهيم كان موجوداً، ولكنه لم يكن إماما بعدُ!
إذن، آدم كان له وجود قبل أن يكون الخليفة، ثم جعله الله خليفة، ولكن قبل ذلك ومن وقت بعيد لم يكن له وللبشر أي وجود، فقال تعالى: \"إني خالق بشرا من طين\" (الأية رقم 71 من سورة ص).
آدم نهاية سلسلة من الأطوار
في كتاب \"حوار مع صديقي الملحد\" للدكتور المصري الراحل (مصطفى محمود) رحمه الله، ذكر فيه أن القرآن يصف مراحل خلق الانسان على فترات وأطوار في زمن إلهي ممتد، كما أنّهُ أنكر فيه أن آدم \"الإنسان\" خُلق من الطين مباشرة، وإنما من سلالة من طين، مستشهداً بقوله تعالى: \"ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين\" (الآية رقم 12 من سورة المؤمنين) وقوله تعالى: \"مالكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا\" (الآية رقم 13و14 من سورة نوح) وتم توضيح هذه الأطوار في مواضع أخرى في الكتاب في قوله تعالى: \"الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُون\"َ (الآية رقم 7 إلى 9 من سورة السجدة).
يقول د. مصطفى محمود أن البداية كانت من الطين، ثم جائت سلالة من ماء مهين، ثم سوّاهُ \"التسوية\"، ثم صوّرهُ \"التصوير\"، ثم نفخ \"الروح\" فيه، فأصبح للإنسان سمع وبصر وفؤاد \"وهي سلالة آدم\"، ولقد حدث هذا في زمن إلهي يقتضي ملايين السنين، فقال تعالى: \"وإن يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون\" (الآية رقم 47 من سورة الحج).
وخلاصة ما خرج به د. مصطفى هو أن آدم نهاية سلسلة من الأطور فصّل القرآن في ذكرها، ولم يكن بدءاً مطلقا من العدم على الطريقة التي يصفها الملاحدة، أو من الطين مباشرة على الطريقة التي يصفها المتديّنون والإسلاميّون.
يستدل د. مصطفى في قوله تعالى: \"والله أنبتكم من الأرض نباتا\" (الآية رقم 17 من سورة نوح) أن عملية الإنبات تعني وجود زمن وعدّة أطوار ومراحل تسبق خلق الإنسان بشكله النهائي، فالخلق لم يكن على مرّة واحدة، وإنما إنتقل فيه الإنسان من العدم إلى الوجود، فقال تعالى: \"هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا\" (الآية رقم 1 من سورة الإنسان).
وقد سُأِل د. مصطفى مرّة في إحدى مقابلاته من قِبل إحدى المضطّلعين: ماذا كانت تلك المراحل والأطوار بالضبط؟ هل كل شجرة الحياة جائت من أب واحد؟ وهل جاء من الطين خلية واحدة أولى تعددت وأنجبت كل تلك الأنواع والفصائل الحيوانية والنباتية بما فيها الإنسان؟ أم أن هناك بدايات متعددة؟ فالنباتات لها بدايتها الخاصة، والحيوانات والإنسان كذلك الأمر، كلُّ له جذرهُ الخاص، وأصل منوط به؟ ولا أعلم صِدقاً ماذا أجاب، ولكني سأجيب من وجهة نظري التواضعة، وهي أن لكل مخلوق جذره الخاص به، فبداية البشر من طين، والجن من نار، والملائكة من نور.
لقد تحدّث عالم الأحياء التطوري (تشارلز دارون) في كتبه أن بنية الكائنات الحيّة كلها متشابهة، وهذا ما جعله يصدع بالتطور، لكن تشابه بنية الكائنات الحيّة في نظري تدل على أن الخالق واحد وهو (الله تبارك وتعالى) كما أنها تبيّن لنا أن خطته وأسلوبه في الخلق هو واحد.
وإذا كانت نظرية التطور تفسر أن \"البقاء للأقوى\"، فهي لا تفسر \"البقاء للأجمل\"، فهذا النقش الجميل في جناحي \"الكناري\" لا يمثل أي كفائة! ولون شعر \"الهسكي\" الرّهيب لا يمثل أي فعاليّة! جُلّها عبارة عن فن ورسم، وكأن هناك يداً قامت بنحتها ورسمها وصبغها وتلوينها، وإذا دخل الجمال في التفضيل فستنهار نظرية التطور، وستبقى عاجزة عن إجابة أهم الأسئلة وهو: لماذا خرج من الوعل القوي حيوان أرق وأقل منه قوّة كالغزال!؟
إنّ من جملة الأسئلة التي ستقطع عنق التطور هو: كيف تفسر نظرية التطور ريشة الطاووس؟ عندما تشاهد هذا الطير وهو ينفش ريشه العجيب والغريب والرهيب، وكأنك أمام يد رسام وفنان وبديع يتفنن ويُبدع الأشياء! ولسنا أمام صدف وطفرات وعشوائيات وصراع على البقاء.
وكل ما هو حولك يؤكد وجود خطة مسبقة، وليس صدفة عشوائية، فلا يمكن رمي حروف مقطعة في الهواء لتشكل وحدها قصيدة لشكسبير!!
إن الضربة القاضية لداروين وللتطور ومجتمعه وعلمائه وأنصاره، أن العلماء إكتشفوا حديثاً أن لكل حيوان خريطة جينية خاصة به، ويستحيل أن يخرج نوع من نوع بسبب هذه الخريطة، والخط العام للإنسان الذي تطورت فيه أفكاره ومفاهيمه من الإنسان البدائي إلى العالم والفيزيائي يعلمه الله تعالى، لذلك قال تعالى: \"إني أعلم مالا تعلمون\" (الآية رقم 30 من سورة البقرة).
صياغة البشر من جديد حدث فيها أربعة إستثناءات ومراحل وقفزات لكي يكون آدم الخليفة
حسب مطالعتي لكتاب الله الكريم، وقفت على أنّ آدم مرّ بأربعة قفزات، وهي كالآتي:
القفزة الأولى- يد الله عجنة طينة آدم
عندما أمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم، لبُّوا جميعاً إلا إبليس، فقال تعالى: \"قَالَ يَٰٓإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ\" (الأية رقم 75 من سورة ص) تعبير الله تعالى في الآية عندما قال \"لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ\"، يدل على أنّه سبحانه إنفرد بذاته في عجن طينة أبونا آدم، فقال تعالى: \"إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ\" (الأية رقم 71 من سورة ص) لذلك يُفهم منها أن الله تعالى إنفرد بيده الشّريفة برسمه ونحته وصناعته، فلقد كان بإستطاعته جل في علاه أن يأمر الطين لفظيّاً أن يتشكّل ويتخلّق ليصبح إنساناً! ولكنّه تعالى تفرّد بذاته العظيمة وبيده الشريفة لعجن وتخليق طينة أبونا آدم.
القفزة الثانية- تسوية آدم
أثناء خلق الله تعالى لهيكل أبونا آدم من الطّين مرّ بمراحل، الأولى \"الطين\"، فقال تعالى: \"إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ\" (الأية رقم 71 من سورة ص) والطين هو الماء الممزوج بالتراب.
والمرحلة الثانية \"طين لازب\"، فقال تعالى: \"إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ\" (الأية رقم 11 من سورة الصافات) والطين الّلازب هو الّلزج الملتصق.
والمرحلة الثالثة \"الحمئيّة\"، فقال تعالى: \"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ\" (الأية رقم 26 من سورة الحجر) والحمأ هو الطين المتغير من حال إلى حال، المتغيّر إلى صورة آدمي، قال البغوي في تفسير ذلك: \"إنّ اللَّه تعالى خمر طينة آدم، وتركه حتى صار متغير أسود، ثم خلق منه آدم عليه السلام\".
والمرحلة الرابعة \"الصّلصاليّة\"، فقال تعالى: \"خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ\" (الأية رقم 14 من سورة الرحمن) في هذه المرحلة يصبح الطين فيها يابساً جافاً من دون أن تمسه النار، حتى إذا طرقته خرج له صوتاً كصوت الفخار.
والمرحلة الخامسة هي القفزة الثانية \"التّسوية\"، وهنا كان التمييز الأوّل بين آدم ومن سبقوه، فقال تعالى: \"فإذا سوّيته\" (الأية رقم 29 من سورة الحجر) أي جعلته جميل الهيئة وكامل الخِلقة ومستوي ومنتصب القامة، فهناك كائنات خلقها الله تمشي على أربع، وهناك من يزحف على بطنه، ولكن الإنسان هو من المخلوقات المنتصبة المستوية التي تمشي على إثنتين، وهنا الحكمة أنّه تعالى أطلق يدي أبونا آدم لكي يستطيع قيادة كوكب الأرض، فهو الخليفة والمسؤول عنها، وذلك يقتضي أن تُطلق يداه لكي يبحث ويُنقّب ويقود ويكتب ويكتشف ويصنع ويخترع.
القفزة الثالثة- نفخ الرّوح وأنسنت البشر
تم نقل البشر نقلة نوعية بعد تسويته، هذه النّقلة جعلت من البشر أناسي \"تأنسن البشر\"، وكان هذا التحوّل والإنقلاب بفِعل نفخة الروح التي نفحها الله في جسد أبونا، فقال تعالى: \"فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ\" (الأية رقم 29 من سورة الحجر) وكما ذكرت آنفا أنّ حرف \"من\" هي بعضيّة وليست جزئيّة، يعني روح من عند الله وليست جزء من الله، والروح هي شيء مقدس عند الله سبحانهُ بثّهُ في آدم، ولا يوجد في مكنون الكائنات الأخرى كما أُفهمنا سابقا، لأن السجود لآدم تم بعد وضع الروح فيه، ولو كانت الروح دبّت في الحيوانات مثلاً، لأسجد الله الملائكة لها، لكنها نفخت فقط في الانسان \"آدم\"، وليس في البشر والدواب والجن والملائكة، وبسببها إنفطر الإنسان على العبوديّة، وعلى فكرة أنّ هناك خالق وأنّه عبد له، وعلى إثرها زُرع المعنى والأخلاقي والإنساني في جذره.
إختلف العلماء في الروح، فمنهم من قال إنها سر الحياة، ومنهم من قال إنها العقل، ومنهم من قال إنها الفكر والمعرفة، ومنهم من قال إنها الطاقة والوقود المحرك لأجسادنا، وغيرها من محاولة الإقتراب من ماهيّة ومفهوم الروح، وأنا أتساءل: هل سيتوصّل الإنسان في يوم من الأيام إلى معرفة ما هي الروح؟ أو الاقتراب من مفهومها؟ قال تعالى: \"ويسألونك عن الروح\" (الأية رقم 85 من سورة الإسراء) هل سَيُعلمنا الله العلم الذي نصل به إليها؟
على العموم، يبدوأ أنّ هناك خطّة لآدم كي يكون الخليفة، فلقد جرت لغة حوار جميلة بين الخالق والمخلوق، بين العبد والمعبود، بين الله والملائكة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على سعة رحمة الله؛ فلقد ناقشت الملائكة ربها، وأجرت مقارنة بين شخصها وبين آدم، فقالت: \"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك\" (الأية رقم 30 من سورة البقرة).
بلغتي الحاسوبيّة \"كوني أنا متخصص في هندسة الحاسوب\" فإن الملائكة هي مخلوقات مبرمجة، لأنهم \"لا يَعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون\" (الأية رقم 6 من سورة التحريم) ولكن هذه المرّة المسألة مختلفة، لأن آدم مختلف، فهو نسيج من خير وشر، وله القدرة على الإيمان والكفر، وهذه الحريّة هي أحد الأعمدة التي لا تمتلكها الملائكة، والتي بناءً عليها جعل الله تعالى آدم مسؤولاً عن الأرض.
إنه قادر على عمل الخير والشر، وهذا هو الهدف من وجود الشر ورمزه \"إبليس\"، لكي تُمتحن حريّة الإنسان وإختياراته، ولو لم يكن هناك شر يُلاحقنا لكنّا كالملائكة تماما، ولن يكون هناك فرق بيننا وبينهم، وهذه ليست خطّة الله عز وجل لآدم، فالمسألة ليست تسبيح وتقديس، لأن الملائكة مخلوقة لهذا الغرض أساساً، لكنه جلّ في عُلاه يريد كائن مركب من الفعل ونقيضه، وعليه تم تشييد ساحة لهذا الشر وأنصاره ورمزه \"إبليس\" للتواجد إلى جانبنا من أجل إمتحان حرّيتنا.
فردّ الله على ملائكته: \"إني أعلم ما لا تعلمون\" (الأية رقم 30 من سورة البقرة) هناك علم يعلمه الله لا تعلمه ملائكته!
القفزة الرابعة- وعلّم أدم الأسماء كلّها
بعد نفخ الرّوح في أبونا آدم، إصطفاهُ الله بالعلم والمعرفة، فقال سبحانهُ: \"وعلّم آدم الأسماء كلها\" (الأية رقم 31 من سورة البقرة) وقال تعالى: \"الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم\" (الأية رقم 4 من سورة العلق) وهنا كانت قفزة أخرى للنّوع الإنساني.
فبعد أن تفرّد الله تعالى بخلقه ومراحل تطويره، ونفخ فيه من روحه، ومنحهُ الحريّة، أهداه الله تعالى ملكة العقل وعلّمهُ، حيث أنبت فيه نظام الكلام والبيان الّلغوي، فكان آدم هو أوّل من نَطق وتكلّم.
أمّا البشر الذين كانوا قبله لم يكن لديهم بيان لغوي، لذلك كانوا أقرب إلى الهمجيّة والبربريّة، وهذه المرحلة لها وجود حقيقي في حياتنا، فالطفل الصغير قبل أن ينطق، يَغْلُب على طابعه الغضب والفظَاظه والحِدّة، وهذا ما لاحظته في ابني \"نبيل\" الذي لم ينطق لبضع سنوات وتأخر في الكلام، فكان عصبيّاً وحاد المِزاج، لأنّ وعيه كان عالٍ بسبب عدم نُطقه.
كان لا يستطيع أن يعبّر لي عن رغباته وعما يريده منّي، لذلك كانت تتملّكهُ الحِدّة ويثور، ويميل إلى التخريب والعُنف، وبقي على حاله حتى نطق، وعندما تكلّم حدث إنقلاب في شخصيّته! وأصبح هادئ ورومنسي المِزاج ولديه حسّ الفكاهة.
أحد أسباب إنفراد الله تعالى بأبونا آدم بوضع النظام البياني الكلامي والّلغوي فيه وتعليمه، لأنه لا يستطيع أن يعالج أي مسألة إلا عندما يُسمّيها ويُعرّفها، فعادة عند إكتشاف الإنسان لشيء جديد أو جسم غريب فإنه يُسمّيه، وهو يَعمَد إلى ذلك لكي يستطيع التعامل معه، فمثلا، عند إجتياح الوباء عام 2019م، فإنّ أول عمل قام به الإنسان هو أنه قام بتسميته \"فيروس كورونا\"، لكي يستطيع التعامل معهُ ومعالجته وتفاديه. وعند إختراعه لآله أو دواء مثلا، فإنه يسمّيه قبل أن يستخدمه، لكي يتعامل معه، وبالتالي ليسيطر عليه ويمتلكه.
لذلك قال أحد أشهر علماء الاجتماع العالم الفرنسي (كلود ليفي شتراوس) في كتابه \"التفكير الوحشي\" أنّ الإنسان بدأ \"صائتا\"، بمعنى أنّه بدأ \"بالصوت\" بالمقاطع الصّوتيّة، ولم يكن يعرف تركيب الجمل في البداية، أو المعاني، والسبب في نظري أن البشر كانوا ضمن المملكة الحيوانيّة، ثمّ إنفصلوا عنها بنفخة الرّوح، ثم جاء بعدها تعليمهُ الأسماء كلّها، وهذا يعني أن الله تعالى أنسن البشر فصار إنسانًا، وهذه هي القفزة الكبرى بالإنقلاب الروحي والتي صار البشر على إثرها إنسان، وتميّز عن الحيوان.
إن إبتعاد الإنسان عن المملكة الحيوانية هو من جعل الأخلاق تنبثق وتنبعث، وكلما إقتربنا من المملكة الحيوانية كلما إنعدمت الأخلاق وتجرّد الإنسان منها، فلا يوجد هناك معنى أخلاقي لفهد يقتل غزالًا ويأكله.
إن مشهد الدراما العجيب لخلق أبونا آدم، وتمييزه عما سبقوه من كائنات، والتي كانت بداية عواملها وإطلاقها على يد الله تعالى بخلقه بيديه الشريفتين \"إني خالق بشرا من طين\"، ومن ثم تسويته وعدله \"الذي خلقك فسواك فعدلك\"، ومن ثم نفخ الروح في جذرهِ \"فإذا سويته ونفخت فيه من روحي\"، ومن ثم إنبات البيان اللغوي في عقله وتعليمه \"وعلم آدم الأسماء كلها\"، ولكنه مع كل هذا ما زال يفسد ويقتل!! بل إن معظم حياة الانسان هي عبارة عن حروب وتدمير وسفك دماء!!
وهنا يأتي جوابي على هذه المشكلة، وهو أن هذه النشأة مخلوقة للإبتلاء وللإختبار وللإمتحان، فلو لاحظنا أن الإنسان في الإجرام والإفساد يتدلى الى الافق البهيمي، وينزلق الى المرحلة الأولى من الخليقة والتي أشارت إليها الملائكة \"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء\"، ولكن عندما يرتقي يصبح شبيهاً للملائكة ونظيراً لها سلوكيّاً.
في الخليقة الجديدة جاءت الأخلاق والضمير والأنفس، \"الأنفس الثلاثة: الأمارة بالسوء، اللوامة، المطمئنة\"، والتي مزجت في نفس واحدة، وعليه جاء جهاد النفس بالإرتقاء بها من الامارة بالسوء الى المطمئنة \"وهنا الملائكية\"، أو الإنزلاق بها من المطمئنة الى الأمارة بالسوء \"وهنا الشيطانية\"، وهذا هو التنوع الإنساني.
نكمل، أحد مفاهيم \"وعلّم آدم الأسماء كلّها\" ومسوّغات إستخلافنا للأرض، هو أنّه سبحانهُ علّمه كل ما يلزمهُ من العلوم لكي يكون الخليفة، فلو أمعنّا النظر في قوله سبحانهُ \"كلّها\" في الآية، والتي تَنْصب في كل الأسماء والمفهومات وتحت جناحها أنواع العلوم، كالكوزمولوجي \"علم الكونيات\"، والأسترونومي \"علم الفلك\"، والأنتولوجي \"علم الطبيعة\"، والأنثروبولوجي \"علم الإنسان\"، والبيولوجي \"علم الأحياء\"، والإيرونومي \"علم دراسة جو الأرض والكواكب\"، والإيكولوجي \"علم البيئة\"، والميتافيزيق \"علم ما وراء الطبيعة\"، وغيرها من العلوم والمسمّيات، والتي وضُعت في عقل أبونا آدم عليه السّلام، وكانت في حالة سكون حتّى جاء من حوضِه ومن نسله المخترع والعالم والأديب والمهندس والطبيب والنجار والحداد والطباخ والعامل والبناء \" ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ\".
إن كل هذه العلوم الجزئيّة والبسيطة والتي وُضعت في عقل أبونا آدم كانت من أصل المعلومة ألا وهو الله تبارك وتعالى، فهو سبحانهُ صاحب العقل المطلق السّرمدي، ومالك العلم الأبدي الأزلي.
ولتعلم يا عزيزي أن لكل عِلم مُعلّم، هناك أستاذ لكل طالب علم في هذه الحياة، سواء كان يتلقى العلوم الأكادميّة والعلميّة، أو المهنيّة والحرفيّة، فحتماً هناك من علّمهُ ليتخرّج من تلك المدرسة والجامعة، وأنت أيها الإنسان المُتكبّر والمُتعجرف، هناك من علّمك! هناك من فهّمك! إنّه الله سبحانهُ، هو بنفسه بذاته بجلاله من أشرف على ذلك، ثم تأتي بكل صفاقة ووقاحة لتتكبّر على من علّمك وفهّمك وكبّرك ورزقك ومن يحميك ويشفيك!؟ ثم بعد كل هذا تعصيه وتخالف أوامره!؟ ثم بعد كل هذا تنساه وتلحد به وتكفر به!؟ تبّا لنا!! تبّا لنا ولعلمنا إن لم يكن لله وفي سبيل الله وفي مرضاة الله، ولكي نصل به إلى الله، ونتعرّف عليه، قال تعالى: \"إنّما يخشى الله من عباده العلماء\" (الأية رقم 28 من سورة فاطر).
نُكمل، \"ثم عرضهم على الملائكة\" (الأية رقم 31 من سورة البقرة) أي عرض هذه الأسماء والعلوم التي لقّنها لآدم على الملائكة، وقال لهم: \"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين\" (الأية رقم 31 من سورة البقرة) أي أخبروني بأسماء هذه العلوم ومسمياتها إن كنتم أحق بالخلافة منه على الأرض؟!
لكن الملائكة عجزت، لأن العلم الذي لديها مبرمج ومحدود، فقالت: \"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم\" (الأية رقم 32 من سورة البقرة) أي: يا ربنا، إنّا نجهلها، وإنك لم تُعلّمنا إياها؟!
فطلب سبحانهُ من آدم المِثل: \"قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ\" (الأية رقم 33 من سورة البقرة) فما كان من آدم إلا أنه سمّى للملائكة كل شيء بإسمه، وذكر حكمته التي خُلق لها.
ثم وجّه سبحانهُ خطابهُ للملائكة قائلاً: \"قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّىٓ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ\" (الأية رقم 33 من سورة البقرة) وكأنه سبحانهُ يقول للملائكة بتعبيري: \"ألم أخبركم أني أعلم أن آدم هو الأحق بالخلافة منكم وهو ما أظهرتموه\"، أما عن قوله تعالى: \"وما كنتم تكتمون\"، لأنه جاء عن الملائكة في الأثر أنها قالت: \"لن يخلق الله مخلوقا أكرم منّا عليه\"، لقد كانت مُفاضلة الملائكة بدافع حبها لله تبارك وتعالى.
نُكمل، قال تعالى: \"وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ\" (الأية رقم 34 من سورة البقرة) يا الله! إلى هذه الدّرجة يُحبّنا رب العالمين! يبدوا أنّنا لم نفهم الله! لقد أمر سبحانهُ أطهر خَلقه وأكرمهم وأحبهم إليه \"الملائكة وإبليس\" أن يسجدوا لآدم! أن يسجدوا لنا! فامتثلوا لأمر الله تعالى وسجدوا لآدم، سجدت لمحبوب الله، سجدت لي ولك! فإنظر يا عزيزي كم قدرك عند الله، فكم قدر الله عندك؟
إبليس وحده من أبى، واستكبر وامتنع عن السجود، وكانت هذه أوّل معصية في الوجود، التكبّر يا أصحاب المقامات والمناصب! يا أصحاب الكراسي والمعالي! يا زعماء ويا مسؤولين! التكبّر هي أوّل معصية في وجه الله تعالى.
ولقد جرى في هذه الجزئيّة حوار جميل ولا أروع بين الله سبحانهُ، وبين عبده المُتكبّر والعاصي إبليس، فقال تعالى: \"قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ\" (الأية رقم 75 من سورة ص) سأله الله وهو أعلمُ بما يُحيك في صدره ويثور في عقله، ولكنّه تعالى يريد أن يضع الحُجّة عليه، وكأنه سبحانهُ بتعبيري يقول: لماذا لا تريد أن تسجد لهذا المخلوق الذي شرّفته وكرّمته وإخْتَصَصتهُ بهذه الخِصِّيصة عن سائر الخلق؟
ويستوضح الله تعالى منه: \"أَستَكبَرتَ أَم كنتَ منَ العالينَ \"(الأية رقم 75 من سورة ص) يا إبليس \"أستكبرت\"، أهو الكِبرعلى آدم من ناحية الخلقيّة والمصنوعيّة، لأنه من تراب وأنت من نار، وخصائص النار أفضل؟ \"أم كنت من العالين\"، أم أنّهُ العُلو يا إبليس لأنّك عبد مُقرب مني، وذا رتبة عالية وسامية تستطيع من خلالها حضور مجلسنا هذا؟
ليجيب إبليس مبيّناً رفضهُ للسجود قائلاً: \"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين\" (الآية رقم 12 من سورة الأعراف) إنّهُ الكِبر! التكبّر!
فوبّخهُ الله تعالى قائلا: \"قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ\" (الأية رقم 13 من سورة الأعراف) صدر القرار بهبوطه وحرمانه من حضور هذه الجلسات المُقدّسة، وكأن الله تعالى أزال عنه هذه الرّتبة وصغّره لأقل منها، لأنه تكبر على من خلقه وأمر.
وبالمُناسبة، لقد أُهبط إبليس هبوطين، الأول وهو هذه المرّة عندما أزال الله عنه هذه الرُّتبه فأصبح ذا شأن صغير، ولا يستطيع أن يَحضُر حضرات الملأ الأعلى \" فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ \"، ولكنّهُ ما زال في الجنّة \"وهذه الجنّة ليست جنّة الخلد كما أسلفت سابقا، وإنما الخشبة التي رويت عليها هذه القصّة.
والهبوط الثاني عندما أغوى أبوينا فأكلا من الشجرة، فقال الله عز وجل: \"اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا\" (الأية رقم 38 من سورة البقرة) إذن، هذا هو الهبوط الثاني لإبليس من الجنّة \"مكان الحدث والقصّة\" إلى آخر على الأرض.
وهنا تَتَعَالى وتَتَجلّى حكمة الله كما أسلفت، بجعل هذا الملعون على الأرض إلى جانب آدم، لامتحان حريته وقرارته.
نُكمل..
\"وَقُلْنَايَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ\" (الأية رقم 38 من سورة البقرة) أطلقهُ الله لفعل ما يشاء، وأكل ما يريد، ولكن حذّره من أمر واحد، وهو الإقتراب من شجرة! هذه الشجرة التي اختلف فيها العلماء، هي في تحليلي \"الحرام\"، أعتقد أن الله تعالى جسّد \"الحرام\" على هيئة هذه الشّجرة، تماماً كما سيحدث في يوم الدين عندما سيجسّد الله تعالى الموت بعجل سمين ليذبح، ويُقال: \"يا أهل الجنة خلود فيها، ويا أهل النار خلود فيها\"، لذلك لا يَهُم ما ثَمَرها أو ما نوعها، المهم أنّها \"حرام\".
أنذر الله تعالى آدم وحذّرهُ من إبليس، لأنّه سبحانهُ يعلم نواياه وقلبه المليء بالحقد والكره والغِيره إتجاه أبونا آدم، فقال تعالى: \"فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ\" (الأية رقم 117 من سورة ص) بيّن الله تعالى لآدم أن إبليس هو عدوّهُ، ووعظهُ بالحذر منه، لأنّهُ يعلم أنه سيكون السبب في خروجه من النعيم للشّقاء.
ثم قال تعالى: \"فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ\" (الأية رقم 20 من سورة الأعراف) وسوس لهما هذا الملعون، فقال له ولزوجه \"بتعبيري\": إن سبب منع الله تعالى لكما لكيلا تأكلا من هذه الشجرة هو أنكم إذا أكلتم منها ستَتحوّلان إلى ملكين، أو سَتحُولا من الخالدين ولن يفترسكم الموت؛ \"وقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ\" (الأية رقم 21 من سورة الأعراف) لقد حلف إبليس بالله كذبا على ذلك! فأكلا منها.
ثم قال تعالى: \"فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ\" (الأية رقم 36 من سورة البقرة) سبّب لهما إبليس ما يزلّان من أجله في دينهما، فهفا آدم وأخطأ، ونال منهما إبليس، وأوقعهما في الخطيئة التي كانت العِلّة بإخراجهما من الجنة.
تنبيه، يَظْهَر لنا من سياق الآيات أن المخاطب هو آدم، فهو الذي ناداهُ الله، وهو الذي حذّرهُ بأن لا يستمع لإبليس، وهو الذي أكل من الشجرة، وهو الذي وقع في الذنب، وزوجه \"حوّاء\" ليست لها أي عُروة بما جرى، لأنها كانت تَبَعاً له.
نقف هنا....
الخطيئة ليست هي السبب المباشر في إخراج أبونا آدم من الجنة، لماذا؟ لأن الله يعلم مُسبقا أنّ آدم سوف يُخطِأ، وأنّه سيأكل من هذه الشّجرة، ومع ذلك أراد له سبحانهُ من البداية أن يكون الخليفة! إذن المسألة ليست عقاب.
آدم صاحب القلب الطّفولي الطّاهر بلا ذنب، وبسذاجة الطفل البرىء لم يكن يَعلَم أنّهُ يوجد من سَيقسم بالله كذباً! ولكنّه في الوقت ذاته هو صاحب ملكة العقل والفكر والحريّة، وعلى إبّانها تَعرّض لأول إختبار يخُصّ النوع الإنساني بعد الخلق رأساً، وبعد أن علّمهُ الله وأطلقهُ حُرّ التصرّف.
وهذا الإمتحان هو الشجرة التي جسّد الله الحرام بها، وأتاح للشر أن يكون له حضور على يد ابليس، وعلى النقيض فقد علّم الله آدم، وبيّن له الصراط المستقيم، وحذّره من إبليس، وتركه حرّ التصرّف، لامتحان الحريّة المتمثّلة بالخيريّة والشريّة المركبة فيه.
الله عز وجل كان يُراقب محبوبهُ، وكان يَعلَم سبحانهُ أنه سيأكل من الحرام، لكن ما أرادهُ الله تعالى من وجهة نظري هو أن يتّخذ آدم أوّل قرار حُرّ في حياته بدون تدخّل إلهي، وبناءً عليه سيكون حُكم الله لآدم هو الهبوط على الأرض ليكون الخليفة، وهذا يعني أن آدم سواء أكل من الشجرة، أم لم يأكل منها، أي كان إختيارهُ فمصيرهُ على كل الحالات أنه سيُهوى به على الأرض ليكون الخليفة، فلقد خُلق مِنها ولها ومن أجلها.
إنني أعتقد أن أبونا آدم بعد إتخاذه القرار سواء بالصّواب أو بالخطأ، سيكون بكامل جاهزيّته ليقود الأرض، فهو بتلك القفزات الأربعة سيكون قادراً على إتخاذ قرارته بدون إنضمام الإله إليه مباشرة، وبالتّالي يستطيع إدارة هذا الكوكب الأزرق، فأخطأ الخطيئة التى أخرجته وأخرجتنا من عالم الطّهراة والبراءة، إلى عالم الإمتحان والإختبار بين الخطأ والصواب والذنوب والإستغفار، بمعنى آخر هو أقصانا إلى عالم الحريّة، إلى عالم المعنى وضدّ المعنى، إلى عالم الخير الممزوج مع الشّر، لكي تصل بعد إنصهارك مع نفسك وصراع الخير والشر على ساحة جسدك إلى الله تبارك وتعالى، \"لكي تَنتَهي إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله بإختيارك وإنتخاب عقلك وإيمان قلبك وتوجيه روحك\".
لقد كانت القضيّة من الفاتحة هو أنّ الله لا يريد أن يجبر محبوبه على عبادته، لأنه يريدك أن تأتيه حبّاً، فهو يحبّنا، ولهذا تركنا أحراراً، لكي نبحث عنه ونصل إليه ونتعرّف عليه، وهذا هو خلاصة مُراد الله تعالى مِنّا! أعمالنا وعباداتنا لا تزيد الله شيئاً، وهو بغنى عنها وعنّا، لأنهُ سبحانهُ يريدنا نحن! هو يريدك أنت...
وأحد المعاني في مسألة الهبوط، وأن هذه الأطروحة ليست عقوبة كما عُلّمنا وفَهُّمنا سابقا، هو أن الله تعالى علّم آدم أن يستغفر عُقبها ليتوب عليه مباشرة، قال تعالى: \"فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ\" (الأية رقم 37 من سورة البقرة) لقد غفر الله له ذنبه، لأنّه كان كالطفل الصّغير لا يعرف كيف يعتذر عن الخطأ! ومن وقتها عرفت البشريّة لأول مرة معنى الإعتذار، وهو فى التعبير الدِّيني \"توبة\"، والدُّنيوي \"إعتذار\"، فعلّم الله محبوبه آدم كيف يتوب ويعتذر له سبحانه، وتاب عليه.
إذن، الموضوع أبدا لم يكن الخطيئة، بل كانت جاهزيّة آدم عليه السلام لخلافة وعمارة الأرض، فهل كنتم أهلا للخلافة؟ هل كنتم أهلا للعمارة؟ هل كنتم أهلا للعبادة؟ هل كنتم أهلا للرّسالة؟. ❝ ⏤محمد نبيل كبها
❞ نحن لم نفهم الله ؟! من كتاب ˝عين الفيلسوف˝ للكاتب والروائي والمفكر الإسلامي محمد نبيل كبها
يعتقد العموم أنّ هبوط أبوينا ˝آدم وزوجه˝ من الجنّة إلى الأرض كان عقوبة لهما لأنّهما أكلا من الشّجرة، لكن حسب تقشيري للمسألة فإني أجدها تأخذ منعطفاً آخر، فلم يكن هبوطهما إلى الأرض عقاباً لهما لعدم إمتثالهما لأمر الله! قد يتفاجئ المعظم سواء على الصعيد الإسلامي أو غيره من المدارس الأخرى، ولكن سأثبت ذلك إن شاء الله.
الجنّة في الأرض وليست في السّماء
قبل أن أوغل في الموضوع، أريد أن أعقّب على أمر مهم، وهو أن الجنّة التي كان فيها أبوينا ليست هي جنة الخلد، لقوله تعالى: ˝إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ˝ (الأية رقم 17 من سورة القلم).
إن ˝الجنّة˝ لغةً تُطلق على الأرض الخضراء وما فيها من أشجار ونخيل وغيرها، كالبستان والحديقة، والذي جعلني أتطرّق إلى هذا التفسير هو أن جنّة المأوى ليست دار تكليف ولا يوجد فيها معصية، لقوله تعالى: ˝جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا˝ (الأية رقم 61 من سورة مريم) ولقوله تعالى أيضاً: ˝وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ˝ (الأية رقم 34 من سورة فاطر).
إذن، جنّة الخلد ليس فيها تعب أو جهد، ولا ضعف أو إعياء، ولا كذب أو نميمة، بل ولقد جاءُ في موضع آخر في كتابنا الكريم قوله تعالى: ˝إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى˝ (الأية رقم 118 من سورة طه) وهذه مواصفات جنّة بسيطة وبِدائيّة، وليست مُواصفات جنّة الخُلد التي حدّثنا الله تعالى عنها في آيات كثيرة.
ولتأكيد ذلك سأطرح عليكم سؤالاً، كيف يُكْذَب على الله تعالى في جنة الخلد وقد قال سبحانه: ˝لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا˝ (الأية رقم 35 من سورة النبأ) كيف؟! كيف يُتاح في جنّة الخُلد أن يُقسم إبليس بالله كذباً لآدم كي يأكل من الشجرة؟! أليس هذا يناقض ما جاء في الآية الكريمة آنفاً!
إضافةً إلى أن من صفات جنة الخلد أنه لا يوجد فيها خطأ ولا معصية، فكيف يُعصى الله تعالى فيها!؟ قال تعالى: ˝وعصى آدم ربه فغوى˝ (الآية رقم 121 من سورة طه) إذن هي ليست جنّة الخُلد، وإنما جنّة على الأرض.
وبرهان آخر في قول الله تعالى مُخاطباً آدم وزوجه وإبليس: ˝قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ˝ (الأية رقم 38 من سورة البقرة) وفي آية أخرى يقول سبحانهُ: ˝قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ˝ (الأية رقم 24 من سورة الأعراف) وفي آية أخرى قال جل في عُلاه: ˝قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ˝ (الأية رقم 123 من سورة طه).
الهبوط هو حركة على سطح الأرض، وليس من الجنّة في الأعلى إلى الأرض في الأسفل! بل هي إنتقال من مكان لآخر على سطح الأرض، بدليل قوله تعالى في نبينا موسى عليه السلام: ˝اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم˝ (الأية رقم 61 من سورة البقرة) إذن هو إنتقل من مدينة إلى أخرى، من فلسطين إلى مصر! ألم يقل الله سبحانه في نبينا نوح عليه السلام عندما أمره ببناء السفينة في الصحراء: ˝قِيلَ يَٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَٰمٍۢ مِّنَّا وَبَرَكَٰتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰٓ أُمَمٍۢ مِّمَّن مَّعَكَ˝ (الأية رقم 48 من سورة هود).
إذن الهبوط لا يُقصد به من جنة السماء إلى الأرض، وإنما إنتقال من مكان لآخر على سطح الأرض.
وهناك معنى خطير في قوله تعالى على لسان إبليس: ˝قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى˝ (الأية رقم 120 من سورة طه) تعبيره في الآية الكريمة بعِبارة ˝شجرة الخلد وملك لا يبلى˝ يَضْوِي في عقلي فكرة، وهي أن الجنة التي كان يرتع فيها آدم يعُمُّها الفناء والموت! فقوله ˝شجرة الخلد˝ يعني أنه كان يرى الموت فيها، وكان يشاهد طي أعمار المخلوقات فيها! وأما قوله ˝ملك لا يبلى˝ يدُل على تبدل الحال والمآل، وهذا يؤكد على أنها جنة أرضية كان يأكلها الموت ويبلع من فيها.
وفي موضع آخر قال سبحانهُ على لسان هذا الملعون أيضاً: ˝ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين˝ (الأية رقم 20 من سورة الأعراف) عندما نطق إبليس بكلمة ˝خالدين˝ في هذه الآية أثناء حواره مع آدم، أكّد لي أن آدم كان يعرف الموت، وكان يراه بعينه، لأن نقيض الخلود هو الفناء والإنتهاء، وهذا يعني أنه كان في مجموعة من جنسه، أو ضمن كائنات معينة يرى الموت فيها! لذلك قال له إبليس ˝بتعبيري العامّي˝: ˝إذا أكلت أنت وزوجك من هذه الشجرة فإنكما لن تموتا، وستصبحان من الخالدين˝، وفي جنّة الخُلد لا مكان للموت!!
ودليلي الآخر هو في قوله تعالى: ˝وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين˝ (الأية رقم 20 من سورة ص).
إنتبه يا عزيزي لقوله تعالى: ˝وأورثنا الأرض˝، ولقوله سبحانه: ˝نتبوأ من الجنة˝، إذن جنة الخلد ستكون على الأرض، وليست في السماء! حيث سيعاد بناء الكون مرّة أخرى على أنقاض هذا العالم، حينما تفجّر البحار، وتنتثر الكوكب، وتنشق السماء، وتتبعثر القبور، وتبدّل الأرض غير الأرض، ويطوي الله تعالى السماء بيمينه، كلها علامات تومئ إلى إنتهاء هذا الكون، وولادة عالم جديد.
قال تعالى: ˝يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار˝ (الأية رقم 48 من سورة إبراهيم) وقوله تعالى: ˝يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين˝ (الأية رقم 104 من سورة الأنبياء).
إن الواضح من هذه الآيات أن هذا الوجود بما فيه السماوات وما فيها، والأرضين وما فيها سيأتي يوم لكيّها وطيّها، وإعادة بناء كون جديد مرّة أخرى على فتات هذا العالم، وستكون لبنة البناء هي من ذرّة أزلية غير قابلة للفناء، لأن العالم الجديد والمقبلين عليه هو˝الجنة، والنار˝، وهذا يتطلّب إعدام هذا الوجود بما فيه الإنسان لتشييد آخر يكون قائماً للأبد، وموت الإنسان هو من مشمولات هذه العمليّة، لإعادة خلقه هو الآخر مرّة أخرى على نحوٍ أبدي يتكيف فيه مع العالم الجديد ˝الجنة والنار˝ والذي سيبعث فيه ويخلّد فيه.
هناك بشر قبل آدم
عندما قرّر الله سبحانه وتعالى خلق أبونا آدم عليه السّلام، وبعد أن فرغ من تصميمه، كانت هناك حضرة إلهيّة خاصّة به سبحانه، يجتمع فيها مع أقرب وأطهر المخلوقات إليه، ألا وهم ˝الملائكة وإبليس˝، وبالمناسبة ˝إبليس˝ لم يكن ملكاً كما يعتقد البعض، لقوله تعالى: ˝إلّا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه˝ (الأية رقم 50 من سورة الكهف) إذن، إبليس كان من الجن، ولكنّه كان من الصالحين العابدين، ومن المقرّبين ذو رتبة عالية وسامية تُمكنه من حضور هذه الحضرة الملكوتيّة الإجلاليّة العظيمة لله تبارك وتعالى بجانب الملائكة.
عقد الله سبحانهُ هذا المجلس المُعظّم، والذي لا يعلم مكانه إلّا هو سبحانهُ، ودعا إليه المقربين والمطهّرين من خلقه لينبأهم بأمر عظيم، ألا وهو تنصيب خليفة في الأرض، فقال تعالى: ˝إني جاعل في الأرض خليفة˝ (الأية رقم 30 من سورة البقرة) فكانت ردّة فعل الملائكة أنّها إستهجنت أن الله تعالى جعل آدم الخليفة، وإستفظعت ذلك متسائلة: ˝أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء˝ (الأية رقم 30 من سورة البقرة) وهنا يعترضنا سؤال: كيف وَضَحَ لهم عليهم السلام أنّ آدم سيفسد في الأرض ويسفك الدماء ولم تطأ بعد قدمه بساط هذا الكوكب؟!
إستفسرت الملائكة عن أبونا آدم عندما عُرِض عليهم من قبل الله تعالى، ولكنها إستعجبت من قراره سبحانهُ عندما قلّد أبونا منصب ˝الخليفة˝ على الأرض وولّاهُ عليها، وهذا الإستفهام هو الذي جعل فكرة أن هناك بشراً قبل آدم تنقدح في ذهني!
يبدوا أن الصّورة التي رُكِّب فيها أبونا آدم، من الممكن أنّها كانت تشبه بشراً قبله كانوا يتخبّطون في صحن الأرض! لذلك كان إستهجانها وإستفهامها عندما قالت: ˝أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء˝ (الأية رقم 30 من سورة البقرة).
توصيف الملائكة لفعل آدم في الآية عندما قالت ˝ويسفك الدماء˝ أكّد لي أن هناك بشراً قبله إستوطنوا الأرض! لأن الدّماء مفهوم انساني، ولا يوجد دماء في تركيب الجن أو الملائكة! إذن هي تتحدث عن بشر يشبه آدم هيكلاً وهيئةً وخِلقةً، وكان مسبوقاً في الأرض.
وليس كما لُقّنّا قديماً في المدارس والجامعات وفي كتب الأثر أن الجن عاشوا قديماً لقرابة ألفي عام على الأرض، ثم أفسدوا فيها وقتّلوا بعضهم! وليس أيضاً ما قيل لنا من خطب ودروس في المساجد أن الله كشف الغيب لهم ليشاهدوا مستقبل النوع الإنساني! وليس أيضا ما خُط من روايات حاولت الإقتراب من معنى هذه الآية، كما جاء في رواية ˝الحن والبن˝ هذه المخلوقات العجيبة والغريبة! وليس أيضا ما أخبرتني به إحدى النساء التي كانت تحمل شهادة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية أن المقصود هم “الديناصورات˝! أو حتى غيرها من الحيوانات أو المخلوقات أو المسوخ! بل هي تتحدّث عن بشر مماثلين لآدم في الصورة والبناء، لأن إستفهامها وسؤالها كان مباشرة بعد أن عَرَض الله سبحانهُ آدم عليهم شكلاً، فقارنته هي بدورها بمن يشبهه الآن على الأرض.
إن الملائكة لا تعلم الغيب ولم يُكشف لها، وإنما هي في الحقيقة شاهدت مخلوقاً بشريّاً قريباً في الصّورة من أبونا آدم في الأرض، يصدُر منه فعلين، الأول هو الإفساد، والثاني هو سفك الدماء.
ولكيلا أُفهم خطأ، أنا لست من أنصار التطور، ولا من أتباع عالم الأحياء الشهير (تشارلز داروين) الذي تحدث في كتابه ˝أصل الأنواع˝ عن إنحدار الإنسان ومراحل تطوره، وسأكون مُنصفاً وحياديّاً بحقه، فهو لم يقل أن أصل الإنسان قرد كما نُقل لنا عنه من العامةّ والخاصّة، وإنما قال أن الإنسان والقردة جاؤوا من سلف مشترك.
أنا أعارض تماما ما جاء في هذه النظرية، ولا أوافق قول بعض العلماء الغرب والعرب بأن هناك أشباه بشر فيما يعرف ˝بالأوستروبيثيكوس Australopithecus˝ أو ˝الإنسان البدائي Homo Neanderthalensis˝، وأن مجموعتنا والمسماة ˝بالإنسان العاقل Homo SapiensSapiens˝ قد إنشقت من هذا الجنس، أو إنحدرت منه، أو حصل تزاوج معهم! ولا أريد أن أخوض في هذا المبحث الآن، فهو يحتاج إلى كتاب آخر أتحدّث فيه عن نظرية التطور˝Theory of Evolution˝ لدحضها علميّاً وتنكيس رايتها، ولكني سأتطرّق لها سطحيّاً في الفقرة اللّاحقة لتوضيح بعض الإشكالات.
أعود، قال تعالى: ˝إني جاعل في الارض خليفة˝ (الأية رقم 30 من سورة البقرة) هذا يعني أن آدم كان موجوداً! ولكن الجديد في الأمر هو أن الله ˝جاعلهُ˝، بمعنى ˝سيجعلهُ˝ خليفة في الأرض، ودليلي على ذلك قوله تعالى لنبيّنا إبراهيم عليه السلام: ˝إني جاعلك للناس إماما˝ (الأية رقم 142 من سورة البقرة) هذا يعني أن إبراهيم كان موجوداً، ولكنه لم يكن إماما بعدُ!
إذن، آدم كان له وجود قبل أن يكون الخليفة، ثم جعله الله خليفة، ولكن قبل ذلك ومن وقت بعيد لم يكن له وللبشر أي وجود، فقال تعالى: ˝إني خالق بشرا من طين˝ (الأية رقم 71 من سورة ص).
آدم نهاية سلسلة من الأطوار
في كتاب ˝حوار مع صديقي الملحد˝ للدكتور المصري الراحل (مصطفى محمود) رحمه الله، ذكر فيه أن القرآن يصف مراحل خلق الانسان على فترات وأطوار في زمن إلهي ممتد، كما أنّهُ أنكر فيه أن آدم ˝الإنسان˝ خُلق من الطين مباشرة، وإنما من سلالة من طين، مستشهداً بقوله تعالى: ˝ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين˝ (الآية رقم 12 من سورة المؤمنين) وقوله تعالى: ˝مالكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا˝ (الآية رقم 13و14 من سورة نوح) وتم توضيح هذه الأطوار في مواضع أخرى في الكتاب في قوله تعالى: ˝الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُون˝َ (الآية رقم 7 إلى 9 من سورة السجدة).
يقول د. مصطفى محمود أن البداية كانت من الطين، ثم جائت سلالة من ماء مهين، ثم سوّاهُ ˝التسوية˝، ثم صوّرهُ ˝التصوير˝، ثم نفخ ˝الروح˝ فيه، فأصبح للإنسان سمع وبصر وفؤاد ˝وهي سلالة آدم˝، ولقد حدث هذا في زمن إلهي يقتضي ملايين السنين، فقال تعالى: ˝وإن يوم عند ربك كألف سنة مما تعدون˝ (الآية رقم 47 من سورة الحج).
وخلاصة ما خرج به د. مصطفى هو أن آدم نهاية سلسلة من الأطور فصّل القرآن في ذكرها، ولم يكن بدءاً مطلقا من العدم على الطريقة التي يصفها الملاحدة، أو من الطين مباشرة على الطريقة التي يصفها المتديّنون والإسلاميّون.
يستدل د. مصطفى في قوله تعالى: ˝والله أنبتكم من الأرض نباتا˝ (الآية رقم 17 من سورة نوح) أن عملية الإنبات تعني وجود زمن وعدّة أطوار ومراحل تسبق خلق الإنسان بشكله النهائي، فالخلق لم يكن على مرّة واحدة، وإنما إنتقل فيه الإنسان من العدم إلى الوجود، فقال تعالى: ˝هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا˝ (الآية رقم 1 من سورة الإنسان).
وقد سُأِل د. مصطفى مرّة في إحدى مقابلاته من قِبل إحدى المضطّلعين: ماذا كانت تلك المراحل والأطوار بالضبط؟ هل كل شجرة الحياة جائت من أب واحد؟ وهل جاء من الطين خلية واحدة أولى تعددت وأنجبت كل تلك الأنواع والفصائل الحيوانية والنباتية بما فيها الإنسان؟ أم أن هناك بدايات متعددة؟ فالنباتات لها بدايتها الخاصة، والحيوانات والإنسان كذلك الأمر، كلُّ له جذرهُ الخاص، وأصل منوط به؟ ولا أعلم صِدقاً ماذا أجاب، ولكني سأجيب من وجهة نظري التواضعة، وهي أن لكل مخلوق جذره الخاص به، فبداية البشر من طين، والجن من نار، والملائكة من نور.
لقد تحدّث عالم الأحياء التطوري (تشارلز دارون) في كتبه أن بنية الكائنات الحيّة كلها متشابهة، وهذا ما جعله يصدع بالتطور، لكن تشابه بنية الكائنات الحيّة في نظري تدل على أن الخالق واحد وهو (الله تبارك وتعالى) كما أنها تبيّن لنا أن خطته وأسلوبه في الخلق هو واحد.
وإذا كانت نظرية التطور تفسر أن ˝البقاء للأقوى˝، فهي لا تفسر ˝البقاء للأجمل˝، فهذا النقش الجميل في جناحي ˝الكناري˝ لا يمثل أي كفائة! ولون شعر ˝الهسكي˝ الرّهيب لا يمثل أي فعاليّة! جُلّها عبارة عن فن ورسم، وكأن هناك يداً قامت بنحتها ورسمها وصبغها وتلوينها، وإذا دخل الجمال في التفضيل فستنهار نظرية التطور، وستبقى عاجزة عن إجابة أهم الأسئلة وهو: لماذا خرج من الوعل القوي حيوان أرق وأقل منه قوّة كالغزال!؟
إنّ من جملة الأسئلة التي ستقطع عنق التطور هو: كيف تفسر نظرية التطور ريشة الطاووس؟ عندما تشاهد هذا الطير وهو ينفش ريشه العجيب والغريب والرهيب، وكأنك أمام يد رسام وفنان وبديع يتفنن ويُبدع الأشياء! ولسنا أمام صدف وطفرات وعشوائيات وصراع على البقاء.
وكل ما هو حولك يؤكد وجود خطة مسبقة، وليس صدفة عشوائية، فلا يمكن رمي حروف مقطعة في الهواء لتشكل وحدها قصيدة لشكسبير!!
إن الضربة القاضية لداروين وللتطور ومجتمعه وعلمائه وأنصاره، أن العلماء إكتشفوا حديثاً أن لكل حيوان خريطة جينية خاصة به، ويستحيل أن يخرج نوع من نوع بسبب هذه الخريطة، والخط العام للإنسان الذي تطورت فيه أفكاره ومفاهيمه من الإنسان البدائي إلى العالم والفيزيائي يعلمه الله تعالى، لذلك قال تعالى: ˝إني أعلم مالا تعلمون˝ (الآية رقم 30 من سورة البقرة).
صياغة البشر من جديد حدث فيها أربعة إستثناءات ومراحل وقفزات لكي يكون آدم الخليفة
حسب مطالعتي لكتاب الله الكريم، وقفت على أنّ آدم مرّ بأربعة قفزات، وهي كالآتي:
القفزة الأولى- يد الله عجنة طينة آدم
عندما أمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم، لبُّوا جميعاً إلا إبليس، فقال تعالى: ˝قَالَ يَٰٓإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ˝ (الأية رقم 75 من سورة ص) تعبير الله تعالى في الآية عندما قال ˝لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ˝، يدل على أنّه سبحانه إنفرد بذاته في عجن طينة أبونا آدم، فقال تعالى: ˝إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ˝ (الأية رقم 71 من سورة ص) لذلك يُفهم منها أن الله تعالى إنفرد بيده الشّريفة برسمه ونحته وصناعته، فلقد كان بإستطاعته جل في علاه أن يأمر الطين لفظيّاً أن يتشكّل ويتخلّق ليصبح إنساناً! ولكنّه تعالى تفرّد بذاته العظيمة وبيده الشريفة لعجن وتخليق طينة أبونا آدم.
القفزة الثانية- تسوية آدم
أثناء خلق الله تعالى لهيكل أبونا آدم من الطّين مرّ بمراحل، الأولى ˝الطين˝، فقال تعالى: ˝إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ˝ (الأية رقم 71 من سورة ص) والطين هو الماء الممزوج بالتراب.
والمرحلة الثانية ˝طين لازب˝، فقال تعالى: ˝إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ˝ (الأية رقم 11 من سورة الصافات) والطين الّلازب هو الّلزج الملتصق.
والمرحلة الثالثة ˝الحمئيّة˝، فقال تعالى: ˝وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ˝ (الأية رقم 26 من سورة الحجر) والحمأ هو الطين المتغير من حال إلى حال، المتغيّر إلى صورة آدمي، قال البغوي في تفسير ذلك: ˝إنّ اللَّه تعالى خمر طينة آدم، وتركه حتى صار متغير أسود، ثم خلق منه آدم عليه السلام˝.
والمرحلة الرابعة ˝الصّلصاليّة˝، فقال تعالى: ˝خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ˝ (الأية رقم 14 من سورة الرحمن) في هذه المرحلة يصبح الطين فيها يابساً جافاً من دون أن تمسه النار، حتى إذا طرقته خرج له صوتاً كصوت الفخار.
والمرحلة الخامسة هي القفزة الثانية ˝التّسوية˝، وهنا كان التمييز الأوّل بين آدم ومن سبقوه، فقال تعالى: ˝فإذا سوّيته˝ (الأية رقم 29 من سورة الحجر) أي جعلته جميل الهيئة وكامل الخِلقة ومستوي ومنتصب القامة، فهناك كائنات خلقها الله تمشي على أربع، وهناك من يزحف على بطنه، ولكن الإنسان هو من المخلوقات المنتصبة المستوية التي تمشي على إثنتين، وهنا الحكمة أنّه تعالى أطلق يدي أبونا آدم لكي يستطيع قيادة كوكب الأرض، فهو الخليفة والمسؤول عنها، وذلك يقتضي أن تُطلق يداه لكي يبحث ويُنقّب ويقود ويكتب ويكتشف ويصنع ويخترع.
القفزة الثالثة- نفخ الرّوح وأنسنت البشر
تم نقل البشر نقلة نوعية بعد تسويته، هذه النّقلة جعلت من البشر أناسي ˝تأنسن البشر˝، وكان هذا التحوّل والإنقلاب بفِعل نفخة الروح التي نفحها الله في جسد أبونا، فقال تعالى: ˝فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ˝ (الأية رقم 29 من سورة الحجر) وكما ذكرت آنفا أنّ حرف ˝من˝ هي بعضيّة وليست جزئيّة، يعني روح من عند الله وليست جزء من الله، والروح هي شيء مقدس عند الله سبحانهُ بثّهُ في آدم، ولا يوجد في مكنون الكائنات الأخرى كما أُفهمنا سابقا، لأن السجود لآدم تم بعد وضع الروح فيه، ولو كانت الروح دبّت في الحيوانات مثلاً، لأسجد الله الملائكة لها، لكنها نفخت فقط في الانسان ˝آدم˝، وليس في البشر والدواب والجن والملائكة، وبسببها إنفطر الإنسان على العبوديّة، وعلى فكرة أنّ هناك خالق وأنّه عبد له، وعلى إثرها زُرع المعنى والأخلاقي والإنساني في جذره.
إختلف العلماء في الروح، فمنهم من قال إنها سر الحياة، ومنهم من قال إنها العقل، ومنهم من قال إنها الفكر والمعرفة، ومنهم من قال إنها الطاقة والوقود المحرك لأجسادنا، وغيرها من محاولة الإقتراب من ماهيّة ومفهوم الروح، وأنا أتساءل: هل سيتوصّل الإنسان في يوم من الأيام إلى معرفة ما هي الروح؟ أو الاقتراب من مفهومها؟ قال تعالى: ˝ويسألونك عن الروح˝ (الأية رقم 85 من سورة الإسراء) هل سَيُعلمنا الله العلم الذي نصل به إليها؟
على العموم، يبدوأ أنّ هناك خطّة لآدم كي يكون الخليفة، فلقد جرت لغة حوار جميلة بين الخالق والمخلوق، بين العبد والمعبود، بين الله والملائكة، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على سعة رحمة الله؛ فلقد ناقشت الملائكة ربها، وأجرت مقارنة بين شخصها وبين آدم، فقالت: ˝أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك˝ (الأية رقم 30 من سورة البقرة).
بلغتي الحاسوبيّة ˝كوني أنا متخصص في هندسة الحاسوب˝ فإن الملائكة هي مخلوقات مبرمجة، لأنهم ˝لا يَعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون˝ (الأية رقم 6 من سورة التحريم) ولكن هذه المرّة المسألة مختلفة، لأن آدم مختلف، فهو نسيج من خير وشر، وله القدرة على الإيمان والكفر، وهذه الحريّة هي أحد الأعمدة التي لا تمتلكها الملائكة، والتي بناءً عليها جعل الله تعالى آدم مسؤولاً عن الأرض.
إنه قادر على عمل الخير والشر، وهذا هو الهدف من وجود الشر ورمزه ˝إبليس˝، لكي تُمتحن حريّة الإنسان وإختياراته، ولو لم يكن هناك شر يُلاحقنا لكنّا كالملائكة تماما، ولن يكون هناك فرق بيننا وبينهم، وهذه ليست خطّة الله عز وجل لآدم، فالمسألة ليست تسبيح وتقديس، لأن الملائكة مخلوقة لهذا الغرض أساساً، لكنه جلّ في عُلاه يريد كائن مركب من الفعل ونقيضه، وعليه تم تشييد ساحة لهذا الشر وأنصاره ورمزه ˝إبليس˝ للتواجد إلى جانبنا من أجل إمتحان حرّيتنا.
فردّ الله على ملائكته: ˝إني أعلم ما لا تعلمون˝ (الأية رقم 30 من سورة البقرة) هناك علم يعلمه الله لا تعلمه ملائكته!
القفزة الرابعة- وعلّم أدم الأسماء كلّها
بعد نفخ الرّوح في أبونا آدم، إصطفاهُ الله بالعلم والمعرفة، فقال سبحانهُ: ˝وعلّم آدم الأسماء كلها˝ (الأية رقم 31 من سورة البقرة) وقال تعالى: ˝الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم˝ (الأية رقم 4 من سورة العلق) وهنا كانت قفزة أخرى للنّوع الإنساني.
فبعد أن تفرّد الله تعالى بخلقه ومراحل تطويره، ونفخ فيه من روحه، ومنحهُ الحريّة، أهداه الله تعالى ملكة العقل وعلّمهُ، حيث أنبت فيه نظام الكلام والبيان الّلغوي، فكان آدم هو أوّل من نَطق وتكلّم.
أمّا البشر الذين كانوا قبله لم يكن لديهم بيان لغوي، لذلك كانوا أقرب إلى الهمجيّة والبربريّة، وهذه المرحلة لها وجود حقيقي في حياتنا، فالطفل الصغير قبل أن ينطق، يَغْلُب على طابعه الغضب والفظَاظه والحِدّة، وهذا ما لاحظته في ابني ˝نبيل˝ الذي لم ينطق لبضع سنوات وتأخر في الكلام، فكان عصبيّاً وحاد المِزاج، لأنّ وعيه كان عالٍ بسبب عدم نُطقه.
كان لا يستطيع أن يعبّر لي عن رغباته وعما يريده منّي، لذلك كانت تتملّكهُ الحِدّة ويثور، ويميل إلى التخريب والعُنف، وبقي على حاله حتى نطق، وعندما تكلّم حدث إنقلاب في شخصيّته! وأصبح هادئ ورومنسي المِزاج ولديه حسّ الفكاهة.
أحد أسباب إنفراد الله تعالى بأبونا آدم بوضع النظام البياني الكلامي والّلغوي فيه وتعليمه، لأنه لا يستطيع أن يعالج أي مسألة إلا عندما يُسمّيها ويُعرّفها، فعادة عند إكتشاف الإنسان لشيء جديد أو جسم غريب فإنه يُسمّيه، وهو يَعمَد إلى ذلك لكي يستطيع التعامل معه، فمثلا، عند إجتياح الوباء عام 2019م، فإنّ أول عمل قام به الإنسان هو أنه قام بتسميته ˝فيروس كورونا˝، لكي يستطيع التعامل معهُ ومعالجته وتفاديه. وعند إختراعه لآله أو دواء مثلا، فإنه يسمّيه قبل أن يستخدمه، لكي يتعامل معه، وبالتالي ليسيطر عليه ويمتلكه.
لذلك قال أحد أشهر علماء الاجتماع العالم الفرنسي (كلود ليفي شتراوس) في كتابه ˝التفكير الوحشي˝ أنّ الإنسان بدأ ˝صائتا˝، بمعنى أنّه بدأ ˝بالصوت˝ بالمقاطع الصّوتيّة، ولم يكن يعرف تركيب الجمل في البداية، أو المعاني، والسبب في نظري أن البشر كانوا ضمن المملكة الحيوانيّة، ثمّ إنفصلوا عنها بنفخة الرّوح، ثم جاء بعدها تعليمهُ الأسماء كلّها، وهذا يعني أن الله تعالى أنسن البشر فصار إنسانًا، وهذه هي القفزة الكبرى بالإنقلاب الروحي والتي صار البشر على إثرها إنسان، وتميّز عن الحيوان.
إن إبتعاد الإنسان عن المملكة الحيوانية هو من جعل الأخلاق تنبثق وتنبعث، وكلما إقتربنا من المملكة الحيوانية كلما إنعدمت الأخلاق وتجرّد الإنسان منها، فلا يوجد هناك معنى أخلاقي لفهد يقتل غزالًا ويأكله.
إن مشهد الدراما العجيب لخلق أبونا آدم، وتمييزه عما سبقوه من كائنات، والتي كانت بداية عواملها وإطلاقها على يد الله تعالى بخلقه بيديه الشريفتين ˝إني خالق بشرا من طين˝، ومن ثم تسويته وعدله ˝الذي خلقك فسواك فعدلك˝، ومن ثم نفخ الروح في جذرهِ ˝فإذا سويته ونفخت فيه من روحي˝، ومن ثم إنبات البيان اللغوي في عقله وتعليمه ˝وعلم آدم الأسماء كلها˝، ولكنه مع كل هذا ما زال يفسد ويقتل!! بل إن معظم حياة الانسان هي عبارة عن حروب وتدمير وسفك دماء!!
وهنا يأتي جوابي على هذه المشكلة، وهو أن هذه النشأة مخلوقة للإبتلاء وللإختبار وللإمتحان، فلو لاحظنا أن الإنسان في الإجرام والإفساد يتدلى الى الافق البهيمي، وينزلق الى المرحلة الأولى من الخليقة والتي أشارت إليها الملائكة ˝أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء˝، ولكن عندما يرتقي يصبح شبيهاً للملائكة ونظيراً لها سلوكيّاً.
في الخليقة الجديدة جاءت الأخلاق والضمير والأنفس، ˝الأنفس الثلاثة: الأمارة بالسوء، اللوامة، المطمئنة˝، والتي مزجت في نفس واحدة، وعليه جاء جهاد النفس بالإرتقاء بها من الامارة بالسوء الى المطمئنة ˝وهنا الملائكية˝، أو الإنزلاق بها من المطمئنة الى الأمارة بالسوء ˝وهنا الشيطانية˝، وهذا هو التنوع الإنساني.
نكمل، أحد مفاهيم ˝وعلّم آدم الأسماء كلّها˝ ومسوّغات إستخلافنا للأرض، هو أنّه سبحانهُ علّمه كل ما يلزمهُ من العلوم لكي يكون الخليفة، فلو أمعنّا النظر في قوله سبحانهُ ˝كلّها˝ في الآية، والتي تَنْصب في كل الأسماء والمفهومات وتحت جناحها أنواع العلوم، كالكوزمولوجي ˝علم الكونيات˝، والأسترونومي ˝علم الفلك˝، والأنتولوجي ˝علم الطبيعة˝، والأنثروبولوجي ˝علم الإنسان˝، والبيولوجي ˝علم الأحياء˝، والإيرونومي ˝علم دراسة جو الأرض والكواكب˝، والإيكولوجي ˝علم البيئة˝، والميتافيزيق ˝علم ما وراء الطبيعة˝، وغيرها من العلوم والمسمّيات، والتي وضُعت في عقل أبونا آدم عليه السّلام، وكانت في حالة سكون حتّى جاء من حوضِه ومن نسله المخترع والعالم والأديب والمهندس والطبيب والنجار والحداد والطباخ والعامل والبناء ˝ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ˝.
إن كل هذه العلوم الجزئيّة والبسيطة والتي وُضعت في عقل أبونا آدم كانت من أصل المعلومة ألا وهو الله تبارك وتعالى، فهو سبحانهُ صاحب العقل المطلق السّرمدي، ومالك العلم الأبدي الأزلي.
ولتعلم يا عزيزي أن لكل عِلم مُعلّم، هناك أستاذ لكل طالب علم في هذه الحياة، سواء كان يتلقى العلوم الأكادميّة والعلميّة، أو المهنيّة والحرفيّة، فحتماً هناك من علّمهُ ليتخرّج من تلك المدرسة والجامعة، وأنت أيها الإنسان المُتكبّر والمُتعجرف، هناك من علّمك! هناك من فهّمك! إنّه الله سبحانهُ، هو بنفسه بذاته بجلاله من أشرف على ذلك، ثم تأتي بكل صفاقة ووقاحة لتتكبّر على من علّمك وفهّمك وكبّرك ورزقك ومن يحميك ويشفيك!؟ ثم بعد كل هذا تعصيه وتخالف أوامره!؟ ثم بعد كل هذا تنساه وتلحد به وتكفر به!؟ تبّا لنا!! تبّا لنا ولعلمنا إن لم يكن لله وفي سبيل الله وفي مرضاة الله، ولكي نصل به إلى الله، ونتعرّف عليه، قال تعالى: ˝إنّما يخشى الله من عباده العلماء˝ (الأية رقم 28 من سورة فاطر).
نُكمل، ˝ثم عرضهم على الملائكة˝ (الأية رقم 31 من سورة البقرة) أي عرض هذه الأسماء والعلوم التي لقّنها لآدم على الملائكة، وقال لهم: ˝أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين˝ (الأية رقم 31 من سورة البقرة) أي أخبروني بأسماء هذه العلوم ومسمياتها إن كنتم أحق بالخلافة منه على الأرض؟!
لكن الملائكة عجزت، لأن العلم الذي لديها مبرمج ومحدود، فقالت: ˝سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم˝ (الأية رقم 32 من سورة البقرة) أي: يا ربنا، إنّا نجهلها، وإنك لم تُعلّمنا إياها؟!
فطلب سبحانهُ من آدم المِثل: ˝قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ ۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِمْ˝ (الأية رقم 33 من سورة البقرة) فما كان من آدم إلا أنه سمّى للملائكة كل شيء بإسمه، وذكر حكمته التي خُلق لها.
ثم وجّه سبحانهُ خطابهُ للملائكة قائلاً: ˝قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّىٓ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ˝ (الأية رقم 33 من سورة البقرة) وكأنه سبحانهُ يقول للملائكة بتعبيري: ˝ألم أخبركم أني أعلم أن آدم هو الأحق بالخلافة منكم وهو ما أظهرتموه˝، أما عن قوله تعالى: ˝وما كنتم تكتمون˝، لأنه جاء عن الملائكة في الأثر أنها قالت: ˝لن يخلق الله مخلوقا أكرم منّا عليه˝، لقد كانت مُفاضلة الملائكة بدافع حبها لله تبارك وتعالى.
نُكمل، قال تعالى: ˝وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ˝ (الأية رقم 34 من سورة البقرة) يا الله! إلى هذه الدّرجة يُحبّنا رب العالمين! يبدوا أنّنا لم نفهم الله! لقد أمر سبحانهُ أطهر خَلقه وأكرمهم وأحبهم إليه ˝الملائكة وإبليس˝ أن يسجدوا لآدم! أن يسجدوا لنا! فامتثلوا لأمر الله تعالى وسجدوا لآدم، سجدت لمحبوب الله، سجدت لي ولك! فإنظر يا عزيزي كم قدرك عند الله، فكم قدر الله عندك؟
إبليس وحده من أبى، واستكبر وامتنع عن السجود، وكانت هذه أوّل معصية في الوجود، التكبّر يا أصحاب المقامات والمناصب! يا أصحاب الكراسي والمعالي! يا زعماء ويا مسؤولين! التكبّر هي أوّل معصية في وجه الله تعالى.
ولقد جرى في هذه الجزئيّة حوار جميل ولا أروع بين الله سبحانهُ، وبين عبده المُتكبّر والعاصي إبليس، فقال تعالى: ˝قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ۖ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ˝ (الأية رقم 75 من سورة ص) سأله الله وهو أعلمُ بما يُحيك في صدره ويثور في عقله، ولكنّه تعالى يريد أن يضع الحُجّة عليه، وكأنه سبحانهُ بتعبيري يقول: لماذا لا تريد أن تسجد لهذا المخلوق الذي شرّفته وكرّمته وإخْتَصَصتهُ بهذه الخِصِّيصة عن سائر الخلق؟
ويستوضح الله تعالى منه: ˝أَستَكبَرتَ أَم كنتَ منَ العالينَ ˝(الأية رقم 75 من سورة ص) يا إبليس ˝أستكبرت˝، أهو الكِبرعلى آدم من ناحية الخلقيّة والمصنوعيّة، لأنه من تراب وأنت من نار، وخصائص النار أفضل؟ ˝أم كنت من العالين˝، أم أنّهُ العُلو يا إبليس لأنّك عبد مُقرب مني، وذا رتبة عالية وسامية تستطيع من خلالها حضور مجلسنا هذا؟
ليجيب إبليس مبيّناً رفضهُ للسجود قائلاً: ˝أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين˝ (الآية رقم 12 من سورة الأعراف) إنّهُ الكِبر! التكبّر!
فوبّخهُ الله تعالى قائلا: ˝قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ˝ (الأية رقم 13 من سورة الأعراف) صدر القرار بهبوطه وحرمانه من حضور هذه الجلسات المُقدّسة، وكأن الله تعالى أزال عنه هذه الرّتبة وصغّره لأقل منها، لأنه تكبر على من خلقه وأمر.
وبالمُناسبة، لقد أُهبط إبليس هبوطين، الأول وهو هذه المرّة عندما أزال الله عنه هذه الرُّتبه فأصبح ذا شأن صغير، ولا يستطيع أن يَحضُر حضرات الملأ الأعلى ˝ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ˝، ولكنّهُ ما زال في الجنّة ˝وهذه الجنّة ليست جنّة الخلد كما أسلفت سابقا، وإنما الخشبة التي رويت عليها هذه القصّة.
والهبوط الثاني عندما أغوى أبوينا فأكلا من الشجرة، فقال الله عز وجل: ˝اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا˝ (الأية رقم 38 من سورة البقرة) إذن، هذا هو الهبوط الثاني لإبليس من الجنّة ˝مكان الحدث والقصّة˝ إلى آخر على الأرض.
وهنا تَتَعَالى وتَتَجلّى حكمة الله كما أسلفت، بجعل هذا الملعون على الأرض إلى جانب آدم، لامتحان حريته وقرارته.
نُكمل.
˝وَقُلْنَايَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ˝ (الأية رقم 38 من سورة البقرة) أطلقهُ الله لفعل ما يشاء، وأكل ما يريد، ولكن حذّره من أمر واحد، وهو الإقتراب من شجرة! هذه الشجرة التي اختلف فيها العلماء، هي في تحليلي ˝الحرام˝، أعتقد أن الله تعالى جسّد ˝الحرام˝ على هيئة هذه الشّجرة، تماماً كما سيحدث في يوم الدين عندما سيجسّد الله تعالى الموت بعجل سمين ليذبح، ويُقال: ˝يا أهل الجنة خلود فيها، ويا أهل النار خلود فيها˝، لذلك لا يَهُم ما ثَمَرها أو ما نوعها، المهم أنّها ˝حرام˝.
أنذر الله تعالى آدم وحذّرهُ من إبليس، لأنّه سبحانهُ يعلم نواياه وقلبه المليء بالحقد والكره والغِيره إتجاه أبونا آدم، فقال تعالى: ˝فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ˝ (الأية رقم 117 من سورة ص) بيّن الله تعالى لآدم أن إبليس هو عدوّهُ، ووعظهُ بالحذر منه، لأنّهُ يعلم أنه سيكون السبب في خروجه من النعيم للشّقاء.
ثم قال تعالى: ˝فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ˝ (الأية رقم 20 من سورة الأعراف) وسوس لهما هذا الملعون، فقال له ولزوجه ˝بتعبيري˝: إن سبب منع الله تعالى لكما لكيلا تأكلا من هذه الشجرة هو أنكم إذا أكلتم منها ستَتحوّلان إلى ملكين، أو سَتحُولا من الخالدين ولن يفترسكم الموت؛ ˝وقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ˝ (الأية رقم 21 من سورة الأعراف) لقد حلف إبليس بالله كذبا على ذلك! فأكلا منها.
ثم قال تعالى: ˝فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ˝ (الأية رقم 36 من سورة البقرة) سبّب لهما إبليس ما يزلّان من أجله في دينهما، فهفا آدم وأخطأ، ونال منهما إبليس، وأوقعهما في الخطيئة التي كانت العِلّة بإخراجهما من الجنة.
تنبيه، يَظْهَر لنا من سياق الآيات أن المخاطب هو آدم، فهو الذي ناداهُ الله، وهو الذي حذّرهُ بأن لا يستمع لإبليس، وهو الذي أكل من الشجرة، وهو الذي وقع في الذنب، وزوجه ˝حوّاء˝ ليست لها أي عُروة بما جرى، لأنها كانت تَبَعاً له.
نقف هنا..
الخطيئة ليست هي السبب المباشر في إخراج أبونا آدم من الجنة، لماذا؟ لأن الله يعلم مُسبقا أنّ آدم سوف يُخطِأ، وأنّه سيأكل من هذه الشّجرة، ومع ذلك أراد له سبحانهُ من البداية أن يكون الخليفة! إذن المسألة ليست عقاب.
آدم صاحب القلب الطّفولي الطّاهر بلا ذنب، وبسذاجة الطفل البرىء لم يكن يَعلَم أنّهُ يوجد من سَيقسم بالله كذباً! ولكنّه في الوقت ذاته هو صاحب ملكة العقل والفكر والحريّة، وعلى إبّانها تَعرّض لأول إختبار يخُصّ النوع الإنساني بعد الخلق رأساً، وبعد أن علّمهُ الله وأطلقهُ حُرّ التصرّف.
وهذا الإمتحان هو الشجرة التي جسّد الله الحرام بها، وأتاح للشر أن يكون له حضور على يد ابليس، وعلى النقيض فقد علّم الله آدم، وبيّن له الصراط المستقيم، وحذّره من إبليس، وتركه حرّ التصرّف، لامتحان الحريّة المتمثّلة بالخيريّة والشريّة المركبة فيه.
الله عز وجل كان يُراقب محبوبهُ، وكان يَعلَم سبحانهُ أنه سيأكل من الحرام، لكن ما أرادهُ الله تعالى من وجهة نظري هو أن يتّخذ آدم أوّل قرار حُرّ في حياته بدون تدخّل إلهي، وبناءً عليه سيكون حُكم الله لآدم هو الهبوط على الأرض ليكون الخليفة، وهذا يعني أن آدم سواء أكل من الشجرة، أم لم يأكل منها، أي كان إختيارهُ فمصيرهُ على كل الحالات أنه سيُهوى به على الأرض ليكون الخليفة، فلقد خُلق مِنها ولها ومن أجلها.
إنني أعتقد أن أبونا آدم بعد إتخاذه القرار سواء بالصّواب أو بالخطأ، سيكون بكامل جاهزيّته ليقود الأرض، فهو بتلك القفزات الأربعة سيكون قادراً على إتخاذ قرارته بدون إنضمام الإله إليه مباشرة، وبالتّالي يستطيع إدارة هذا الكوكب الأزرق، فأخطأ الخطيئة التى أخرجته وأخرجتنا من عالم الطّهراة والبراءة، إلى عالم الإمتحان والإختبار بين الخطأ والصواب والذنوب والإستغفار، بمعنى آخر هو أقصانا إلى عالم الحريّة، إلى عالم المعنى وضدّ المعنى، إلى عالم الخير الممزوج مع الشّر، لكي تصل بعد إنصهارك مع نفسك وصراع الخير والشر على ساحة جسدك إلى الله تبارك وتعالى، ˝لكي تَنتَهي إلى لا إله إلا الله محمد رسول الله بإختيارك وإنتخاب عقلك وإيمان قلبك وتوجيه روحك˝.
لقد كانت القضيّة من الفاتحة هو أنّ الله لا يريد أن يجبر محبوبه على عبادته، لأنه يريدك أن تأتيه حبّاً، فهو يحبّنا، ولهذا تركنا أحراراً، لكي نبحث عنه ونصل إليه ونتعرّف عليه، وهذا هو خلاصة مُراد الله تعالى مِنّا! أعمالنا وعباداتنا لا تزيد الله شيئاً، وهو بغنى عنها وعنّا، لأنهُ سبحانهُ يريدنا نحن! هو يريدك أنت..
وأحد المعاني في مسألة الهبوط، وأن هذه الأطروحة ليست عقوبة كما عُلّمنا وفَهُّمنا سابقا، هو أن الله تعالى علّم آدم أن يستغفر عُقبها ليتوب عليه مباشرة، قال تعالى: ˝فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ˝ (الأية رقم 37 من سورة البقرة) لقد غفر الله له ذنبه، لأنّه كان كالطفل الصّغير لا يعرف كيف يعتذر عن الخطأ! ومن وقتها عرفت البشريّة لأول مرة معنى الإعتذار، وهو فى التعبير الدِّيني ˝توبة˝، والدُّنيوي ˝إعتذار˝، فعلّم الله محبوبه آدم كيف يتوب ويعتذر له سبحانه، وتاب عليه.
إذن، الموضوع أبدا لم يكن الخطيئة، بل كانت جاهزيّة آدم عليه السلام لخلافة وعمارة الأرض، فهل كنتم أهلا للخلافة؟ هل كنتم أهلا للعمارة؟ هل كنتم أهلا للعبادة؟ هل كنتم أهلا للرّسالة؟. ❝
❞ 📘 اسم الكتاب: الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب
✍️ اسم الكاتب: هانى الميهى
الفصل الرابع: الخيط الرفيع بين الحب والتعلّق
🔹 الجزء الأول
هناك خيطٌ لا تراه العين، لكنه يلتفّ حول القلوب،
خيطٌ شفاف بين الحب والتعلّق،
رفيعٌ إلى حدّ أن القلب لا يفرّق بين دفئه وبين قيده.
ذلك الخيط هو الذي يجعلنا نتمسّك بما يؤلمنا،
ونبرّر لأنفسنا البقاء في ما ينهكنا،
ونسمّي الألم “وفاءً”، والانتظار “إخلاصًا”،
ونُغلف خوفنا من الفقد بورقٍ ملوّنٍ من المشاعر.
يا صديقي،
الحب شعورٌ حرّ، يُنبت في القلب خفةً وطمأنينة،
بينما التعلّق قيدٌ ناعم، يُضيّق على الروح حتى تختنق.
الأول يمنحك ذاتك، والثاني يسرقها منك باسم العاطفة.
كم من عاشقٍ ظنّ أنه يحب، بينما هو فقط يخاف أن يكون وحيدًا؟
وكم من هاربٍ تخيّل أنه تحرّر، بينما هو في الحقيقة يهرب من نفسه لا من الآخر؟
إنّ التعلّق ليس حبًا زائدًا كما نُخيّل،
بل خوفٌ متخفٍّ في هيئة محبة.
خوفٌ من الفقد، من الرفض، من التكرار،
خوفٌ من أن نكتشف أننا لسنا كما كنا نظنّ.
فالمطارد لا يسعى خلف من يحب، بل خلف “فكرته عن الحب”،
والهارب لا يبتعد عن الآخر، بل عن “صورته في أعين الآخرين”.
الحب، يا صديقي، يراك كما أنت،
ويترك لك مساحة أن تكون،
أما التعلّق، فيراك كما يحتاجك أن تكون،
ويأخذ منك شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى منك إلا ما يريده هو.
وهنا، يبدأ الخيط في الالتفاف، لا حول القلب، بل حول الحريّة ذاتها.
إننا لا نُدمن الأشخاص، بل نُدمن إحساسنا بهم،
نُدمن الطريقة التي يُنعشنا بها حضورهم،
فنظنّ أننا لا نستطيع التنفس بدونهم،
بينما في الحقيقة ما نفتقده هو الجزء الذي كنا نُخفيه فيهم من أنفسنا.
❞ 📘 اسم الكتاب: الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب
✍️ اسم الكاتب: هانى الميهى
الفصل الرابع: الخيط الرفيع بين الحب والتعلّق
🔹 الجزء الأول
هناك خيطٌ لا تراه العين، لكنه يلتفّ حول القلوب،
خيطٌ شفاف بين الحب والتعلّق،
رفيعٌ إلى حدّ أن القلب لا يفرّق بين دفئه وبين قيده.
ذلك الخيط هو الذي يجعلنا نتمسّك بما يؤلمنا،
ونبرّر لأنفسنا البقاء في ما ينهكنا،
ونسمّي الألم “وفاءً”، والانتظار “إخلاصًا”،
ونُغلف خوفنا من الفقد بورقٍ ملوّنٍ من المشاعر.
يا صديقي،
الحب شعورٌ حرّ، يُنبت في القلب خفةً وطمأنينة،
بينما التعلّق قيدٌ ناعم، يُضيّق على الروح حتى تختنق.
الأول يمنحك ذاتك، والثاني يسرقها منك باسم العاطفة.
كم من عاشقٍ ظنّ أنه يحب، بينما هو فقط يخاف أن يكون وحيدًا؟
وكم من هاربٍ تخيّل أنه تحرّر، بينما هو في الحقيقة يهرب من نفسه لا من الآخر؟
إنّ التعلّق ليس حبًا زائدًا كما نُخيّل،
بل خوفٌ متخفٍّ في هيئة محبة.
خوفٌ من الفقد، من الرفض، من التكرار،
خوفٌ من أن نكتشف أننا لسنا كما كنا نظنّ.
فالمطارد لا يسعى خلف من يحب، بل خلف “فكرته عن الحب”،
والهارب لا يبتعد عن الآخر، بل عن “صورته في أعين الآخرين”.
الحب، يا صديقي، يراك كما أنت،
ويترك لك مساحة أن تكون،
أما التعلّق، فيراك كما يحتاجك أن تكون،
ويأخذ منك شيئًا فشيئًا حتى لا يبقى منك إلا ما يريده هو.
وهنا، يبدأ الخيط في الالتفاف، لا حول القلب، بل حول الحريّة ذاتها.
إننا لا نُدمن الأشخاص، بل نُدمن إحساسنا بهم،
نُدمن الطريقة التي يُنعشنا بها حضورهم،
فنظنّ أننا لا نستطيع التنفس بدونهم،
بينما في الحقيقة ما نفتقده هو الجزء الذي كنا نُخفيه فيهم من أنفسنا.
❞ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
" وجعلنا فيها " أي في الأرض . " جنات " أي بساتين . " من نخيل وأعناب " وخصصهما بالذكر ، لأنهما أعلى الثمار . وفجرنا فيها من العيون أي في البساتين .. ❝ ⏤محمد بن صالح العثيمين
❞ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
˝ وجعلنا فيها ˝ أي في الأرض . ˝ جنات ˝ أي بساتين . ˝ من نخيل وأعناب ˝ وخصصهما بالذكر ، لأنهما أعلى الثمار . وفجرنا فيها من العيون أي في البساتين. ❝