█ _ محمد ابن قيم الجوزية 1998 حصريا كتاب زاد المعاد هدي خير العباد (كامل) عن مؤسسة الرسالة 2023 (كامل): من تأليف خمسة مجلدات يتناول الفقه وأصوله والسيرة والتاريخ وذكر فيه سيرة الرسول غزواته وحياته وبيّن هديه معيشته وعباداته ومعاملته لأصحابه وأعدائه وقد ألف هذا الكتب أثناء السفر ولم تكن معه أية مصادر ينقل منها ما يحتاج إليه أحاديث وأقوال وآراء تتعلق بمواضيع الكتاب ومع ذلك فقد ضمن كتابه نبوية الصحاح والسنن والمعاجم والسير وأثبت كل حديث الموضوع الذي يخصه مع العلم أن القيم كان يحفظ مسند الإمام أحمد بن حنبل يضم أكثر ثلاثين السنة النبوية الشريفة مجاناً PDF اونلاين السيرة لغة: تطلق اللغة السنّة والطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان قال تعالى ( سنعيدها سيرتها الأولى ) اصطلاحاً: هي نقل إلينا حياة النبي منذ ولادته قبل البعثة وبعدها وما رافقها أحداث ووقائع حتى موته وتشتمل ميلاده ونسبه ومكانة عشيرته وطفولته وشبابه بعثته ونزول الوحي عليه وأخلاقه وطريقة حياته ومعجزاته أجراها الله يديه ومراحل الدعوة المكية والمدنية وجهاده وغزواته تكون مرادة لمعنى عند علماء الحديث وهو أضيف إلى قول أو فعل تقرير صفة كما تعني العقيدة وأصول الدين طريقة وهديه أما التاريخ فإنها أخباره ومغازيه [2] للسيرة أهمية عظيمة مسيرة الحياة البشرية بشكل عام وفي المسلم خاص وذلك لأنها تعين أمور عديدة :
❞ وأما صلاة الظهر ، فكان ﷺ يطيل قراءتها أحياناً ، حتى قال أبو سعيد : كانت صلاة الظهر تقام ، فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته ، ثم يأتي أهله ، فيتوضأ ، ويدرك النبي ﷺ في الركعة الأولى مما يطيلها ، رواه مسلم ، وكان يقرأ فيها تارة بقدر (ألم تنزيل) وتارة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (الليل إذا يغشى) وتارة بـ (السماء ذات البروج) و (السماء والطارق) ، وأما العصر ، فعلى النصف من قراءة صلاة الظهر إذا طالت ، وبقدرها إذا قصرت ، وأما المغرب ، فكان هديه فيها خلاف عمل الناس اليوم ، فإنه صلاها مرة بـ (الأعراف) فرقها في الركعتين ، ومرة بـ (الطور) ومرة بـ (المرسلات) ، قال أبو عمر بن عبد البر : روي عن النبي ﷺ أنه قرأ في المغرب بـ (المص) وأنه قرأ فيها بـ (الصافات) وأنه قرأ فيها بـ (حم الدخان) وأنه قرأ فيها بـ (سبح اسم ربك الأعلى) وأنه قرأ فيها بـ (التين والزيتون) وأنه قرأ فيها بـ (المعوذتين) وأنه قرأ فيها بـ (المرسلات) وأنه كان يقرأ فيها بقصار المفصل ، قال : وهي کلها آثار صحاح مشهورة ، انتهى ، وأما المداومة فيها على قراءة قصار المفصل دائماً ، فهو فعل مروان بن الحكم ، ولهذا أنكر عليه زيد بن ثابت ، وقال : مالك تقرأ في المغرب بقصار المفضل؟! وقد رأيت رسول اللہ ﷺ يقرأ في المغرب بطولي الطوليين ، قال : قلت : وما طولى الطوليين؟ قال : (الأعراف) وهذا حديث صحيح رواه أهل السنن ، وذكر النسائي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قرأ في المغرب بسورة (الأعراف) فرقها في الركعتين ، فالمحافظة فيها على الآية القصيرة والسورة من قصار المفصل خلاف السُنة ، وهو من فعل مروان أبن الحكم . ❝
❞ حِجَّة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ..
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله ﷺ منصرفه من تبوك بقية رمضان وشوالاً وذا القعدة ، ثم بعث أبا بكر أميراً على الحج سنة تسع ليقيم للمسلمين حَجَّهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم ، فخرج أبو بكر والمؤمنون ، قال ابن سعد : فخرج في ثلاثمئة رجل من المدينة ، وبعث معه رسول الله ﷺ بعشرين بدنة ، قلدها وأشعرها بيده عليها ناجية بن جندب الأسلمي ، وساق أبو بكر خمس بدنات ، قال ابن إسحاق : فنزلت براءة في نقض ما بين رسول الله ﷺ وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه ، فخرج علي بن أبي طالب رضي على ناقة رسول الله ﷺ العضباء ، فلما كان أبو بكر بالعرج لحقه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على العضباء ، فلما رآه قال له : أمير أو مأمور ؟ قال : لا بل مأمور ، ثم مضيا ، فقال له أبو بكر : استعملك رسولُ اللهِ ﷺ على الحج ؟ قال : لا ، ولكن بعثني أقرأ براءة على الناس ، وأنبذ إلى كل ذي عهد عهده ، فأقام أبو بكر للناس حجهم ، حتى إذا كان يوم النحر ، قام علي بن أبي طالب ، فأذن في الناس عند الجمرة بالذي أمره رسول الله ﷺ ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده وقال : أيها الناس لا يدخُلُ الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله ، فهو إلى مُدَّته . ❝
❞ ثم بعث رسول الله ﷺ خيلاً قِبَل نجد ، فجاءت بثُمَامَةَ بنِ أثال الحنيفي سيد بني حنيفة ، فربطه رسول الله ﷺ إلى سارية من سواري المسجد ، ومرَّ به ، فقال ﷺ ( مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ ؟ ) ، فقال : يا مُحَمَّدُ ! إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَم ، وإِن تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرِ ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ المالَ ، فَسُلْ تُعط منه ما شئت ، فتركه ، ثم مرَّ به ﷺ مرَّةً أخرى ، فقال له مِثْلَ ذلِكَ ، فرد عليه كما رَدَّ عليه أولاً ، ثم مر مرةً ثالثة ، فقال ﷺ ( أَطْلِقُوا تُمَامَةَ ) فأطلقوه ، فذهب إلى نخل قريب من المسجد ، فاغتسل ، ثم جاءه ، فأسلم ، وقال : والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوُجوه إليَّ ، والله ما كان على وجه الأرض دِينُ أبغَضَ عليَّ من دينك ، فقد أصبح دينك احب الأديان إليَّ ، وإن خيلك أخذتني ، وأنا أريد العمرة ، فبشره رسولُ الله ﷺ ، وأمره أن يعتمر ، فلما قدم على قريش ، قالوا : صَبَوْتَ يَا ثُمَامَةُ؟ ، قال : لا والله ، ولكني أسلمتُ مع محمد ﷺ ، ولا والله لا يأتيكم من اليمَامَةِ حَبَّةُ حِنطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فيها رسول الله ﷺ ، وكانت اليمامة ريف مكة ، فانصرف إلى بلاده ، ومنع الحمل إلى مكة حتى جَهِدَتْ ، قريش فكتبوا إلى رسول الله ﷺ يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامةَ يُخلى إليهم حمل الطعام ، ففعل رسول الله ﷺ . ❝
❞ من له أدنى تجربة وشوق ، يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح عن كثير من الغذاء الحيواني ، ولا سيما المسرور الفرحانَ الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه ، وتنعم بقربه ، والرضى عنه ، وألطاف محبوبه وهداياه وتحفه تصل إليه كُل وقت ، ومحبوبه حفي به معتن بأمره ، مُكرم له غاية الإكرام مع المحبة التامة له ، أفليس في هذا أعظمُ غِذاء لهذا المحب؟ فكيف بالحبيب الذي لا شيء أجل منه ، ولا أعظم ولا أجمل ، ولا أكمل ، ولا أعظم إحساناً إذا امتلأ قلبُ المُحِبِّ بحبه ، وملك حبُّه جميع أجزاء قلبه وجوارحه ، وتمكّن حبه منه أعظم تمك ن، وهذا حاله مع حبيبه أفليس هذا المُحِبُّ عند حبيبه يُطعمه ويَسقيه ليلاً ونهاراً؟ ولهذا قال ﷺ ( إِنِّي أَظُلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُني ويَسْقِيني ) ، ولو كان ذلك طعاماً وشراباً للفم ، لما كان صائماً فضلاً عن كونه مواصلاً ، وأيضاً فلو كان ذلك في الليل ، لم يكن مواصلاً ، ولقال لأصحابه إذ قَالُوا له : إنَّك تُواصِلُ ( لستُ أواصل ) ، ولم يقل ( لَسْتُ كَهَيْتِتِكُم ) ، بل أقرهم على نسبة الوِصال إليه ، وقطع الإلحاق بينه وبينهم في ذلك ، بما بيَّنه من الفارق كما في صحيح مسلم ، من حديث عبد الله بن عمر ، أن رسول الله ﷺ واصل في رمضان ، فواصل الناسُ ، فنهاهم ، فقيل له : أنت تُواصِلُ ، فقال ( إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُم إِنِّي أَطْعَمُ وأَسْقَى ) . ❝
❞ ذكر أبو داود عنه ﷺ أنه كان إذا دخل المسجد قال ( أَعُوذُ باللهِ العَظِيم ، وبِوَجْهِهِ الكَرِيم ، وَسُلْطَانِهِ القَدِيمِ ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، فَإِذَا قَالَ ذلِكَ قال الشَّيْطَانُ : حُفِظَ مِنِّي سَائِرَ اليَوْمِ ) ، وقال ﷺ ( إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبيِّ ، وَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ ، فَإِذَا خَرَجَ ، فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ) ، وَذُكر عنه ﷺ ( أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ صَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذنوبي وافْتَحْ لي أَبْوَابَ رَحَمَتِكَ ، فَإِذَا خَرَجَ صَلَّى عَلَى محمد وآله وسلم ، ثم يقول : اللهم إغفر لي ذنوبي وإفتح لي أبواب فضلك ) . ❝
❞ لايتم الجهاد إلا بالهِجْرَةِ ، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمَانِ ، والرَّاجُونَ رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة ، قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمُ } ، وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ، ففرض عليه هجرتان في كل وقت : هجرة إلى اللهِ عزَّ وجلَّ بالتوحيد ، والإخلاص ، والإبانة ، والتوكل ، والخوفِ ، والرَّجاءِ ، والمحبة ، والتوبة ، وهجرة إلى رسوله ﷺ بالمتابعة ، والانقياد لأمره ، والتصديقِ بخبره ، وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره ( فمن كانت هجرته إلى اللهِ وَرَسُولِهِ ، فَهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها ، أو امرأة يتزوَّجُهَا ، فَهجرته إلى ما هاجر إليه ) وفُرض عليه جهاد نفسه في ذات الله ، وجهاد شيطانه ، فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد ، وأما جهاد الكفار والمنافقين ، فقد يكتفى فيه ببعض الأمَّةِ إذا حَصَلَ منهم مقصود الجهاد . ❝
❞ الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين ، ومالك يوم الدين ، الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عِزَّ إلا في التَذلل لعظمته ، ولا غِنى إلا في الافتقار إلى رحمته ، ولا هُدى إلا في الاستهداء بنوره ، ولا حياة إلا في رِضاه ، ولا نعيم إلا في قُربه ، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له ، وتوحيد حبه ، الذي إذا أُطيع شكر ، وإذا عُصي تاب وغفر ، وإذا دُعي أجاب ، وإذا عومل أثاب . ❝
❞ ثم بدأ رسول الله ﷺ بالأموال فقسمها ، وأعطى المؤلفة قلوبهم أولَ الناس ، ثم أمر زيد بن ثابت بإحصاء الغنائم والناس ، ثم فضها على الناس ، قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله ﷺ ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم ، حتى كثرت فيهم القالَّة ،حتى قال قائلهم : لقى والله رسول الله ﷺ قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال : يا رسول الله ! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبتَ ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ، ولم يكن في هذا الأنصار منها شيء ، قال ﷺ ( فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذلِكَ يَا سَعْدُ ) قال : يا رسول الله ما أنا إلَّا قومي ، قال ( فاجْمَع لي قَوْمَكَ في هَذِهِ الحَظِيرَةِ ؟ ، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم فلما اجتمعوا أتى سعد ، فقال : قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسولُ الله ﷺ ، فَحَمِدَ اللهَ ، وأثنى عليه بما هو ثم قال ( يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُم ، وجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا في أَنْفُسِكُم ، أَلَمْ آتِكُم ضُلالاً فهداكم الله بيّ ، وعَالَةٌ فَأَغْنَاكُمُ بيّ ، وأعداءً فَأَلَّفَ اللهُ بَيْنَ قُلُوبِكُم ؟ ) قالوا : الله ورسوله أمَنُّ وأفضَّل ، ثم قال ﷺ ( أَلَا تُجِيبُوني يا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ ) قالوا : بماذا نجيبك يا رسولَ اللهِ ، لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ المَنُّ والفَضْلُ ، قال ﷺ ( أما واللهِ لَوْ شِتُم لَقُلْتُم ، فَلَصَدَقْتُم ولَصُدِّقْتُمْ : أَتَيْتَنَا مُكَذَّباً فَصَدَّقْنَاكَ ، وَمَحْذُولاً فَنَصَرْنَاكَ ، وَطَريداً فآوَيْنَاكَ ، وعائلاً فآسيناك ، أوجَدْتم عليَّ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُم فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَألَّفْتُ بِهَا قوماً لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُم إِلَى إِسْلامِكُم ، ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاء والبعير ، وتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ إلى رِحالِكم ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بهِ ، وَلَوْلَا الهِجْرَةُ ، لَكُنْتُ امْرءاً مِن الأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْباً وَوَادياً ، وسَلَكَت الأنصار شِعْباً وَوَادياً لَسَلكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ وواديها ، الأنصارُ شِعَارُ ، والنَّاسُ دِثارُ، اللَّهُمَّ ارْحَم الأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الأَنْصارِ ، وأبناء أبناء الأنصار ) ، قال : فبكى القومُ حَتَّى أخضلُوا لِحاهم ، وقالوا : رضينا برَسُولِ الله ﷺ قَسْمَاً وحظاً ، ثم انصرف رسول الله ﷺ وتفرقوا . ❝
❞ هديه ﷺ في حَجّهِ وعُمَرِهِ
اعتمر ﷺ بعد الهجرة أَرْبَعَ عُمَرٍ ، كُلُّهُنَّ فِي ذِي القعدة 🔸️الأولى عُمرة الحديبية ، وهي أولاهن سنةَ ست ، فصده المشركون عن البيت ، فنحرَ البُدْنَ حيثُ صد بالحديبية ، وحَلَق هو وأصحابه رؤوسهم ، وحلوا من إحرامهم ورجع من عامه إلى المدينة ، 🔸️ الثانية عُمْرَةُ القَضِيَّةِ في العام المقبل ، دخل مكة فأقام بها ثلاثاً ، ثمَّ خَرجَ بعد إكمال عُمرته ، 🔸️الثالثة عمرته التي قرنها مع حجته ، 🔸️الرابعة عُمرتُه من الجِعْرَانَةِ ، لما خرج إلى حُنين ، ثم رجع إلى مكة فاعتمر من الجغرانَةِ داخلاً إليها ، ولم يكن ﷺ في عَمَرِهِ عُمرَّةً واحدة خارجا من مكة ، كما يفعل كثير من الناس اليوم ، وإنما كانت عُمَرُهُ كُلُّها داخلاً إلى مكة ، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم يُنقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة في تلك المدة أصلاً ، فالعمرة التي فعلها رسول الله ﷺ وشرعها ، هي عمرة الداخل إلى مكة ، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر ، ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها بين سائر من كان معه ، لأنها كانت قد أهلت بالعُمرة فحاضت ، فأمرها ، فأدخلت الحج على العمرة ، وصارت قارنة ، وأخبرها أنَّ طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها ، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلين فإنهنَّ كنَّ متمتعات ولم يحضن ولم يقرن ، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها ، فأمر أخاها أن يُعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها ، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه ، وكانت عُمَرَهُ ﷺ كلها في أشهر الحج ، مخالفة لهدي المشركين ، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ، ويقولون هي من أفجر الفجور ، وهذا دليل على أن الاعتمار في أشهر الحج أفضلُ منه في رجب بلا شك ، وأما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان ، فموضع نظر ، فقد صح عنه ﷺ أنه أمر أم معقل لما فاتها الحج معه ، أن تعتمر في رمضان ، وأخبرها أَنَّ عُمْرَةً في رَمَضَان تَعْدِلُ حَجَّة ، وأيضاً فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان ، وأفضل البقاع ، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه في عُمَرِهِ إلَّا أولى الأوقات وأحقها بها ، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره ، وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة ، وجعلها وقتاً لها ، والعمرة حج أصغر ، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج ، وذو القعدة أوسطها ، ولم يُحفظ عنه ﷺ أنه إعتمر في السنة إلا مرة واحدة ، ولم يعتمر في السنة مرتين . ❝
❞ سرية خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ..
ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العُزَّي ، ورسول الله ﷺ مقيم بمكة ، بعثه إلى بني جذيمة داعياً إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلاً ، فخرج في ثلاثمئة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصار وبني سليم ، فانتهى إليهم ، فقال : ما أنتم ؟ قالوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد في ساحتنا ، وأذنا فيها ، قال : فما بال السلاح عليكم ؟ قالوا : إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة ، فخفنا أن تكونوا هم ، وقد قيل : أنهم قالوا صبأنا ، ولم يُحسِنُوا أن يقولُوا : أسلمنا ، قال : فضعُوا السلاح ، فوضعوه ، فقال لهم : استأسروا ، فاستأسر القوم ، فأمر بعضهم فكتف بعضاً ، وفرقهم في أصحابه ، فلما كان في السحر ، نادى خالد بن الوليد : من كان معه أسير ، فليضرب عنقه ، فأما بنو سليم ، فقتلوا من كان في أيديهم ، وأما المهاجرون والأنصار ، فأرسلوا أسراهم ، فبلغ النبي ﷺ ما صنع خالد ، فقال ﷺ ( اللهم إِنِّي أَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ ) ، وبعث علياً يُودي لهم قتلاهم وما ذهب منهم ، وكان بين خالد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك ، فبلغ النبي ﷺ ، فقال ﷺ ( مَهْلاً يَا خَالِدُ دَعْ عَنْكَ أَصْحَابِي فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكَ مثل أُحُدٌ ذَهَبَاً ثُمَّ أَنْفَقْتَهُ في سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْتَ غَدْوَةً رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا
رَوْحَتَه ) . ❝
❞ في قصة الحُديبية ...
فبينما هم كذلك ، إذ جاء بُدَيْلُ بنُ ورقاءَ الخُزاعي في نَفرٍ من خُزاعة ، وكانُوا عَيْبَةَ نُصْح رسول الله ﷺ من أهل تهامة ، فقال : إني تركتُ كعبَ بنَ لُؤَي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العُوذُ المطافيل، وهم مقاتِلُوك ، وصادوك عن البيت ، قال رسول الله ﷺ ( إِنَّا لَمْ نَجِيءُ لِقِتَالِ أَحَدٍ ، ولكِنْ جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ ، وَإِنَّ قُرَيْشَاً قَدْ نَهَكَتْهُمُ الحَرْبُ ، وَأَضَرَّتْ بِهِمْ ، فَإِنْ شَاؤُوا مَادَدْتُهُم ، ويُخَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَإِنْ شَاؤُوا أَنْ يَدْخُلُوا فيما دخل فيه الناس ، فَعَلُوا وإِلَّا فَقَدْ جَمُوا ، وإِنْ هُم أَبَوْا إِلَّا القِتَالَ ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لأَقَاتِلَنَّهُم عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَردَ سالِفَتِي ، أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ ) ، قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال : إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وقد سمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تُحدّثنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هاتِ ما سمعته ، قال : سمعته يقول كذا وكذا ، فحدثهم بما قال النبي ﷺ ، فقال عُروة بن مسعود الثقفي : إن هذا قد عَرَضَ عليكم خُطَّةَ رُشد فاقبلوها ودعوني آته ، فقالوا : إئته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي ﷺ نحواً من قوله لبديل ، فقال له عروة عند ذلك : أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى وجوهاً ، وأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يَفِرُّوا ويدعوك ، فقال له أبو بكر : امْصُصْ بَظْرَ اللَّاتِ ، أنحنُ نَفِرُّ عنه وندعه ، قال : من ذا؟ ، قالوا : أبو بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده ، لولا يَد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وجعل يكلم النبي ﷺ وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة عِند رأس النبي ، ومعه السيف ، وعليه المغفر ، فكلما أهوى عُروة إلى لحية النبي ، ضرب يده بِنَعْلِ السيف ، وقال : أَخْرْ يَدَكَ عَنْ لِحية رسول الله ، فرفع عروة رأسه وقال : من ذا ؟ ، قالوا : المغيرة بن شعبة ، فقال : أي غُدَرُ ، أو لستُ أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة صحب قوماً في الجاهلية ، فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبي ﷺ ( أما الإسلام فأَقْبَلُ ، وأمَّا المالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شيء ) . ❝
❞ ثم نهض بنفسه صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه بسبعةِ أَيَّام من شأن بدر إلى غَزوِ بني سُليم ، واستعمل على المدينةِ سِبَاعَ بنَ عُرْفطَةَ ، وقيل : ابن أم مكتوم ، فبلغ ماء يُقال له : الكُدرُ ، فأقام عليه ثلاثاً ، ثم انصرف ﷺ ،
ولم يلق كيداً ، ولما رجعت فَلول المشركين إلى مكة موتورين محزونين لما أصابهم في بدر ، نَذَرَ أبو سفيان أن لا يَمَسَّ رأسه ماءً حتى يغزو رسول الله ، فخرج في مائتي راكب ، حتى أتى العُرَيْضَ في طرف المدينة ، وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكّم اليهودي ، فسقاه الخمر ، وبَطَن له من خبر الناس ، فلما أصبح ، قطع أضواراً مِنَ النخل ، وقتل رجلاً من الأنصار وحليفاً له ، ثم كرّ راجعاً ، ونَذِرَ به رسولُ الله ، فخرج في طلبه ، فبلغ قَرْقَرَةَ الكُدْرِ ، وفاته أبو سفيان ، وطرح الكفار سويقاً كثيراً من أزوادهم يتخفَّفُونَ به ، فأخذها المسلمون ، فَسُمِّيَتْ غزوة السويق ، وكان ذلك بعد بدر بشهرين ، فأقام رسول الله ﷺ بالمدينة بقيَّةَ ذِي الحجة ، ثم غزا نجداً يُرِيدُ غطفان ، واستعمل على المدينة عُثمان بن عفان رضي الله عنه ، فأقام هناك صَفَراً كله من السنة الثالثة ، ثم انصرف ﷺ ، ولم يلق حرباً ، فأقام بالمدينة ربيعاً الأول ، ثم خرجَ يُريدُ قريشاً ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، فبلغ بحران مَعْدِناً بالحِجَازِ من ناحية الفُرْع ، ولم يَلْقَ حَرباً ، فأقام هنالك ربيعاً الآخر ، وجُمادَى الأولى ، ثم انصرف ﷺ إلى المدينة . ❝
❞ وذكر ابن عائذ في مغازيه ، أن رسول الله ﷺ نزل تبوك في زمان قل ماؤها فيه ، فاغترف رسول الله ﷺ غَرفة بيده من ماء ، فمضمض بها فاه ، ثم بصقه فيها ، ففارت عينها حتى امتلات ، فهي كذلك حتى الساعة ، قلت : في صحيح مسلم أنه ﷺ قال قبل وصوله إليها ( إِنَّكُم سَتَأْتُونَ غداً إِنْ شَاء اللَّهُ تَعَالَى عَيْنَ تبوك ، وإنَّكُم لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ ، فمن جَاءَها فلا يَمَسنُ مِنْ مائِها شَيئاً حتى آتي ) ، قال : فجئناها وقَد سَبَقَ إليها رَجُلانِ ، والعين مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُ بشيء من ماء ، فسألهما رسول الله ﷺ ( هل مسستما من مائها شيئاً ؟ ) قالا : نَعم ، فسبَّهُمَا النبي ﷺ ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول ، ثُمَّ غرفُوا من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء ، وغسل رسول الله ﷺ فيه وجهه ويَدَيْه ، ثم أعاده فيها ، فجرت العين بماء منهمر ، حتى استقى النَّاسُ ، ثم قال رسول الله ﷺ ( يُوشِكَ يا مُعَاذُ إن طالت بك حياةٌ أن ترى ما ههنا قَدْ مُلىء جناناً ) . ❝
❞ لما قَدِمَ النبي ﷺ المدينة ، صارَ الكفار معه ثلاثة أقسام 🔸️قسم صالحهم ووادعهم على ألا يُحاربوه ، ولا يُظاهروا عليه ولا يُوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمِنُونَ على دمائهم وأموالهم 🔸️وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة 🔸️ وقسم تاركوه ، فلم يُصالِحوه ، ولم يُحاربوه ، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره ، وأمرُ أعدائه ، ثم من هؤلاء مَن كان يُحِبُّ ظهوره ، وانتصاره في الباطن ، ومنهم من كان يُحِبُّ ظهور عدوه عليه وانتصارهم ومنهم من دخل معه في الظاهر ، وهو مع عدوه في الباطن ، ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون ، فعامَلَ كُلَّ طَائِفَةٍ من هذه الطوائف بما أمره به ربُّه تبارك وتعالى ، فصالح يهود المدينة ، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن ، وكانوا ثلاثَ طوائف حول المدينة : بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدرٍ ، وشَرَقُوا بوقعة بدر ، وأظهروا البغي والحَسَدَ ، فسارت إليهم جنود يَقْدَمُهم عبد الله ورسوله ﷺ يوم السبت للنصف من شوال على رأس مِن مُهاجَرِه ، وكان حلفاء عبد الله أبي بن سلول رئيس المنافقين ، وكانوا أشجع يهود المدينة ، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب ، واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر ، وحاصرهم خمسة عشر ليلة إلى هلال ذي القَعْدَةِ ، وهم أَوَّلُ من حارب من اليهود ، وتحصَّنُوا في حصونهم ، فحاصرهم أشدَّ الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم أنزله عليهم ، وقذفه في قلوبهم ، فنزلوا على حكم رسول الله ﷺ في رقابهم وأموالهم ، ونسائهم وذريتهم ، فأمر بهم فكُتُفُوا ، وكلَّم عبد الله ابن أبي فيهم رسول الله ﷺ ، وألح عليه ، فوهبهم له ، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ، ولا يُجاوِرُوه بها ، فخرجوا إلى أُذرِعَاتٍ من أرض الشام ، فقل أن لَبِثُوا فيها حتى هَلَكَ أكثرهم ، وكانوا صاغة وتُجاراً ، وكانوا نحو الستمئة مقاتل ، وكانت دارهم في طرفِ المدينة ، وقبض منهم أموالهم ، فأخذ منها رسول الله ﷺ ثلاث قسي ودرعين ، وثلاثة أسياف وثلاثَةَ رماح وخَمْس غَنَائِمهم ، وكان الذي تولى جمع الغنائم محمد بن مسلمة . ❝
❞ فلما انصَرَف رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى المدينة ، لم يكن إلا أن وضع سلاحه ، فجاءه جبريل ، فقال : أوضعت السلاح ، والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها ؟! فانهض بمن معك إلى بني قريظة ، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب ، فسار جبريل في موكبه من الملائكة ، ورسول الله ﷺ على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار ، وقال ﷺ لأصحابه يومئذ ( لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُم العَصْرَ إِلَّا في بني قُرَيْظَةَ ) ، فبادروا إلى امتثال أمره ونهضوا من فورهم ، فأدركتهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصليها إلا في بني قريظة كما أمرنا ، فصلوها بعد عشاء الآخرة ، وقال بعضُهم : لم يُرِدْ ﷺ منا ذلك ، وإنما أراد سُرعة الخروج ، فَصَلَّوْها في الطريق ، فلم يُعنف واحدة من الطائفتين ، وأعطى رسول الله ﷺ الراية علي بن أبي طالب ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم ، ونازل حصون بني قريظة ، وحصرهم خمساً وعشرين ليلة ، ولما اشتد عليهم الحِصَارُ ، عرض عليهم رئيسهم كعب بن أسد ثلاث خصال🔸️إما أن يُسْلِمُوا ويدخُلوا مع محمد في دينه🔸️وإما أن يقتلوا ذراريهم ، ويخرجوا إليه بالسيوف مُصلتة يناجِزُونه حتى يظفروا به ، ️أو يُقتلوا عن آخرهم🔸️وإما أن يهجموا على رسول الله ﷺ وأصحابه ويكبسوهم يوم السبت ، لأنهم قد أمِنُوا أن يُقاتلوهم فيه ، فأبوا عليه أن يُجِيبُوهُ إلى واحدة منهن ، فبعثوا إليه أن أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر نستشيره ، فلما رأوه ، قاموا في وجهه يبكون ، وقالوا : يا أبا لُبابة ! كيف ترى لنا أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه يقول : إنه الذبح ، ثم عَلِمَ مِن فوره أنه قد خان الله ورسوله ، فمضى على وجهه ، ولم يَرْجع إلى رسول الله ﷺ حتى أتى مسجد المدينة ، فربط نفسه بسارية المسجد ، وحلف ألا يحله إلا رسول الله ﷺ بيده ، وأنه لا يدخل أرض بني قريظة أبداً ، فلما بلغ رسول الله ﷺ ذلك ، قال ( دَعُوهُ حَتَّى يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ) ، ثم تاب الله عليه ، وحله رسول الله ﷺ بيده ، ثم إنهم نزلوا على حكم رسول الله ﷺ فقامت إليه الأوس ، فقالوا : يا رَسُولَ الله ! قد فعلت في بني قَيْنُقاع ما قد عَلِمْتَ وهم حلفاء إخواننا الخزرج ، وهؤلاء موالينا ، فأحسن فيهم فقال ﷺ ( أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَحْكُم فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُم؟ ) قالوا : بلى قال ( فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعَاذ ) قالوا : قد رضينا ، فأرسل إلى سعد بن معاذ وكان في المدينة لم يخرج معهم لجُرح به ، فأُرْكِبَ حماراً وجاء إلى رسول الله ﷺ فجعلوا يقولون له وهم كَنَفتَاهُ ، يا سَعْدًا أجمل إلى مواليك ، فأحسن فيهم ، فإن رسول الله ﷺ قد حكمك في فِيهِم لِتُحْسِنَ فيهم ، وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً ، فلما أكثروا عليه ، قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ، فلما سَمِعُوا ذلِكَ رجع بعضهم إلى المدينة ، فنعى إليهم القوم ، فلما انتهى سعد إلى النبي ﷺ قال ﷺ للصحابة ( قُومُوا إِلَى سَيِّدكُم ) فلما أنزلوه ، قالوا : يا سعدا إن هؤلاء القوم قد نزلوا على حكمك ، قال : وحكمي نافذ عليهم ؟ قالوا : نعم ، قال : وعلى المسلمين ؟ قالوا : نعم ، قال : على من ها هنا وأعرض بوجهه ، وأشار إلى ناحية رسول الله ﷺ إجلالاً له وتعظيماً؟ قال ﷺ ( نعم ، وعَليَّ ) قال : فإني أحكم فيهم أن يُقتل الرِّجَالُ ، وتُسْبَى الذَّرِّيَّةُ ، وتُقسم الأموال ، فقال رسول الله ﷺ ( لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَات ) ، وأسلم منهم تلك الليلة نفر قبل النزول ، وهرب عمرو بن سعد ، فانطلق فلم يُعلم أين ذهب ، وكان قد أبي الدخول معهم في نقض العهد ، فلما حكم فيهم بذلك ، أمر رسول الله ﷺ بقتل كُلِّ من جرت عليه الموسى منهم ، ومن لم يُنبتُ اُلحق بالذرية ، فحفر لهم خنادق في سوق المدينة ، وضُرِبَتْ أعناقهم ، وكانوا ما بين الستمئة إلى السبعمئة ، ولم يقتل من النساء أحد سوى امرأة واحدة كانت طَرَحَتْ على رأس سويد بن الصامت رُحى ، فقتلته ، وجعل يُذهب بهم إلى الخنادق أرسالاً أرسالاً ، فقالوا لرئيسهم كعب بن أسد يا كعب ما تراه يُصنع بنا ؟ فقال : أفي كل موطن لا تعقِلُونَ ؟ أما ترون الداعي لا يَنزِعُ ، والذاهب منكم لا يرجعُ ، هو والله القتل ، فهذا كُلُّه في يهود المدينة ، وكانت غزوة كل طائفة منهم عَقِبَ كُلِّ غزوة من الغزوات الكبار ، فغزوة بني قينقاع عقب بدر ، وغزوة بني النضير عقب غزوة أُحد ، وغزوة بني قريظة عقب الخندق . ❝
❞ إن الإنسان مدني بالطبع ، لا بد له أن يعيش مع الناس والناسُ لهم إرادات وتصورات ، فيطلبون منه أن يُوافقهم عليها ، فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه ، وإن وافقهم حَصَلَ له الأذى والعذاب ، تارةً منهم ، وتارةً من غيرهم كمن عنده دين وتُقى حل بين قوم فجارٍ ظَلَمَةٍ ، ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم ، أو سكوته عنهم ، فإن وافقهم أو سكت عنهم ، سَلِمَ مِن شرهم في الابتداء ، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم ، فلا بد أن يُهان ويُعاقب على يد غيرهم ، فالحزم كُلُّ الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لمعاوية ( مَنْ أَرْضِيَ اللَّهَ بِسَخَطِ النَّاسِ ، كَفَاهُ اللَّهُ مُؤنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّهِ ، لم يُغْنِوا عَنْهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) ، ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيراً فيمن يُعينُ الرؤساء على أغراضهم الفاسدة ، وفيمن يُعينُ أهل البِدَعِ على بدعهم هَرَباً من عُقوبتهم ، فمن هداه الله ، وألهمه رُشده ، ووقاه شرَّ نفسه ، امتنع من الموافقة على فعل المحرم ، وصَبَرَ على عُدوانهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما كانت للرسل وأتباعهم ، كالمهاجرين والأنصار ، ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة ، والتجار ، وغيرهم . ❝
❞ قدوم وفد صُدَاء على رسول الله ﷺ ..
وقَدِمَ عليه وفد صُدَاء سنة ثمان للهجرة ، وذلك أنه ﷺ لما انصرف من الجِعْرَانَةِ ، بعث بعوثاً ، وهيا بعثاً ، استعمل عليه قيس بن سعد بن عبادة ، وعقد له لواء أبيض ، ودفع إليه راية سوداء ، وعسكر بناحية قناة في أربعمئة من المسلمين وأمره أن يطأ ناحية من اليمن كان فيها صُدَاء ، فقدم على رسول الله ﷺ رجل منهم ، وعلم بالجيش ، فأتى رسول الله ﷺ فقال : يا رسولَ اللَّهِ ! جئتك وافداً على من روائي فاردُدِ الجيش ، وأنا لك بقومي ، فرد رسول الله ﷺ قيس بن سعد من صَدرِ قناة ، وخرج الصدائي إلى قومه ، فقدم على رسول الله ﷺ بخمسة عشر رجلاً منهم ، فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله ! دعهم ينزلوا عليَّ ، فنزلوا عليه ، فحيَّاهم وأكرمهم ، وكساهم ، ثم راح بهم إلى رسول الله ﷺ ، فبايعوه على الإسلام ، فقالوا : نحنُ لك على من وراءنا من قومنا ، فرجعوا إلى قومهم ، ففشا فيهم الإسلام ، فوافى رسول الله ﷺ منهم مئة رجل في حجة الوداع . ❝
❞ هديه ﷺ في أذكار الطعام قبله وبعده .
كان ﷺ إذا وضع يده في الطعام قال ( بسم الله ) ، ويأمر الآكل بالتسمية ، ويقول ( إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُم ، فَلْيَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالى فَإِنْ نَسِيَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ في أَوَّلِهِ ، فَلْيَقُلْ : بِسم الله في أوَّلِه وَآخِرِه ) ، وكان ﷺ إذا رُفِعَ الطعام من بين يديه يقول ( الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثِيراً طيباً مُبَارَكاً فِيهِ ، غيرَ مَكْفِي ولَا مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنِّى عَنْهُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ ) وربما كان يقول ( الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ) ، وكان يقول ( الحمد لله الذي أطعم وسقى وسَوَّغَهُ وَجَعَلَ لَهُ مَخْرَجَاً ) ، وذكر الترمذي عنه ﷺ أنه قال ( مَنْ أكَلَ طَعَاماً فَقَالَ : الحَمْدُ للهِ الَّذِي أَطْعَمَني هَذَا مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ ، غَفَر اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، ويُذكر عنه ﷺ أنه كان إِذَا قُرِّبَ إليه الطعامُ قال ( بِسْمِ اللَّهِ ) فَإِذَا فَرَغَ مِن طعامه قال ( اللَّهُمَّ أَطْعَمتَ وَسَفَيْتَ ، وَأَغْنَيْتَ وَأَقْنَيْتَ ، وَهَدَيْتَ وَأَحْيَيْتَ ، فَلَكَ الحَمْدُ عَلَى مَا أَعْطَيْتَ ) . ❝
❞ يقول عثمان بن أبي العاص : استعملني رسول الله ﷺ وأنا أصغرُ السِّتَة الذين وفدوا عليه من ثقيف ، وذلك أني كنتُ قرأت سورة البقرة ، فقلت : يا رسول الله ! إن القرآن يتفلَّتُ مني ، فوضع ﷺ يده على صدري وقال ( يا شَيْطَانُ اخْرُجْ مِنْ صَدْرِ عُثمان ) ، فما نسيتُ شيئاً بعده أريد حفظه ، وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص ، قلتُ : يا رسول الله ! إن الشيطان قد حَالَ بيني وبَيْنَ صلاتي وقراءتي فقال ﷺ ( ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ : خِنْزِبَ ، فإذا أَحْسَسْتَهُ ، فَتَعَوَّذُ باللهِ مِنْهُ ، وَاتْفِلْ عَنْ يَسَارِكَ ثلاث ) ، ففعلتُ ، فأذهبه اللهُ عنِّي . ❝
❞ ولما انقضت الحرب في بدر ، أقبلَ رسولُ الله ﷺ حَتَّى وَقَفَ عَلَى القَتْلَى فقال ( بِئْسَ عَشيرة النبي كُنتُمْ لِنَبِيكُم ، كَذَّبْتُمُونِي ، وصَدَّقَني النَّاسُ ، وخذَلْتَموني ، ونَصَرني النَّاسُ ، وأَخْرَجْتُموني ، وأواني النَّاسُ ) ، ثم أمر بهم ، فسُحِبوا إلى قَليبٍ مِن قُلب بدر ، فطرِحوا فيه ، ثم وقف عليهم ﷺ فقال ( يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، ويا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَة ، ويا فلانُ ، ويا فُلانُ ، هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُم حَقَّاً ، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقَّاً ، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب : يا رَسُولَ اللَّهِ ! ما تُخَاطِبُ مِنْ أقوام قَدْ جَيْفُوا؟ فقالَ ﷺ ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الجَوابَ ) ، ثم أقام رسول الله ﷺ بِالعَرْصَةِ ثَلاثاً ، وَكَانَ إِذا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِم ثلاثاً ، ثم ارتحل مؤيداً منصوراً ، قرير العين بنصر الله له ، ومعه الأسارى والمغانم ، فلما كان بالصفراء ، قسم الغنائم ، وضرب عُنُقَ النَّضْرِ بن الحارث بن كلدة، ثُمَّ لما نَزَلَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ ، ضرب عُنُق عُقبَةَ بن أبي معيط ، ودخل النبي ﷺ المدينة مؤيداً مظفراً منصوراً قد خافه كُل عدو له المدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبيِّ المُنافق وأصحابه في الإسلام ظاهراً ، وجملة من حضر بدراً من المسلمين ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا ، من المهاجرين ستة وثمانون ، ومن الأوس أحدٌ وستون ، ومن الخزرج مئة وسبعون ، وإنما قل عدد الأوس عن الخزرج ، وإن كانوا أشدَّ منهم ، وأقوى شوكة ، وأصبر عند اللقاء ، لأن منازلهم كانت في عوالي المدينة ، وجاء النفير بغتةً ، وقال النَّبِيُّ ﷺ وقتها ( لا يَتْبَعُنَا إِلَّا مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِراً ) ، فاستأذنه رِجالٌ ظُهورهم في عُلو المدينة أن يستأني بهم حتى يذهبوا إلى ظهورهم ، فأبى ﷺ ، ولم يَكُن عَزْمُهُم عَلَى اللّقَاءِ ، ولا أعدُّوا لَهُ عُدته ، ولا تأهبوا له أهبته ، ولكن جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . واستشهد من المسلمين يومئذ أربعة عشر رجلاً من المهاجرين ، وستة من الخزرج ، واثنان من الأوس ، وفرغ رسول الله ﷺ من شأن بدر والأسارى في شوال . ❝