❞ يقول القانون: عندما يقتل أحدهم الآخر، يُعاقب القاتل ويُسجن، حتى وإن كان المقتول قد استخدم أبشع وسائل التعذيب معه او مع غيرة. ويظل الناس يهتفون:
\"إنه مجرم وقاتل، ويجب أن يُعاقب!\"
وتبعًا لاختلاف القوانين، قد يُحكم على القاتل بالسجن المؤبد، فيقضي بقية حياته يدفع الثمن،
وقد يُحكم عليه بالإعدام شنقًا، ويُقال حينها:
\"من قتل يُقتل!\"
عبارة جميلة، أليس كذلك؟
نحن لا نقول إن من يقتل لا يُعاقب،
لكن، لماذا لا ينص القانون — أو يشترط — أن من يقتل مجرمًا يعيث في الأرض فسادًا، لا يُعد مجرمًا؟
وجهة نظر، أليس كذلك؟
ويبقى السؤال:
«هل مَن يقتل شخصًا قد نسي معنى الإنسانية، وأصبح اليد العُليا لإبليس على وجه الأرض… هل يكون مجرمًا؟!»
_______________________
أولًا:
مدّ يده نحو قبضة الباب، فتحه بهدوء ودخل إلى المكتب، ليجده جالسًا في سكينة، يقرأ كتابًا جديدًا بنظرات غارقة في التأمل. التفت إليه بطرف عينه وقال بنبرة خافتة:
– احكى.
– دي القضية الجديدة
ظل عثمان يقلب صفحات الكتاب بمللٍ خافت، دون أن تظهر عليه علامات الدهشة، تلك التي كانت ترافقه في الماضي، ثم قال بتنهيدةٍ ثقيلة:
– وبعدين؟
تحدّث رائد بحماسة مشتعلة:
– أيوه يا \"كينج بيه\"، دي قضية السفاح لغايت دلوقتي الضحايا عشرة!
لم يُعره عثمان انتباهًا، اكتفى برفع حاجبيه دون أي أثرٍ من اندهاش، ثم كرر:
– وبعدين؟
عقد رائد حاجبيه باستغراب.
– وبعدين اي؟!
تنفس عثمان بعمق، وزفره بضيق، ثم أغلق كتابه ونهض مغادرًا المكتب. لم يتفاجأ رائد، فقد اعتاد على هذا الطبع؛ فذاك الرجل، بخبرته ودهائه، لم يخسر قضية في حياته، حتى بات لا يأبه لشيء، وكأن الأحداث تمر من حوله دون أن تمسّه.
---
جلس الشباب حول أوراقهم المتناثرة، يدرسون في جوف الليل استعدادًا لامتحان الغد.
– السؤال ده مش هييجي في الامتحان، قالها أحدهم بتكاسل.
ضحك\" هشام\" بسخريةٍ ممزوجة بشفقة على نفسه...
– آه، مش بييجي غيره في الامتحان اسكت يا كامل، خليك ساكت أحسن!
نظر كامل إلى صديقه الجالس في أحد الأركان، منشغلًا بلعبته يصدر ضجيجًا طفوليًا، ثم صرخ بعينين متسعتين:
– ماهيييير!
ردّ ماهر متمايعًا مثل الراقصات:
– يا نعاااام؟
_ ذاكر يا حبيبي.
لوى ثغرة بانزعاج و تجاهل:
– ماشي، ماشي..
في ليلة الامتحان
التفت حوله بحذر، ليتأكد من خلو المكان من المراقبة، ثم همس لهشام الذي بدا مستغرقًا في ورقته بعينين متوترتين:
– هشام... ولا يا هشام...
التفت إليه هشام بحذر و صوت هامس:
– ماااهر، سيبني في حالي.
– طب قوللي دي صح ولا غلط بس.
قالها ماهر متوسلًا، لكن هشام انزعج أكثر، وردّ وهو يجز على أسنانه:
– يعني \"صح وغلط\" هي اللي عاملالك أزمة؟ Are you crazy?
لاحظ المراقب حركتهما، فتوجّه إلى هشام:
– في حاجة يا هشام؟
أجاب هشام وهو يحاول السيطرة على ملامحه:
– لا..لا... خالص.
رفع المراقب صوته محذرًا:
– فاضل عشر دقايق على نص الوقت، اللي خلص يراجع.
_________________
خرج كامل إلى الساحة يبحث عن أصدقائه:
– عملتوا إيه؟
أجابه ماهر بثقة وسذاجة:
– يا عم ده امتحان أحياء!
رفع هشام حاجبه باستنكار:
– آه، عشان بيغش مني.
التفت له كامل متفهمًا:
– أمم... ماهر؟
– نعم؟
– Go to hell.
– وأنا وأنت إن شاء الله!
ضحكت لينا على سذاجتهما:
– استغفر الله العظيم يا رب...
ثم أغمضت عينيها بخبث وقالت:
– والسؤال الأخير؟
– ماله؟
قالت رنا وقد رفعت حاجبيها:
– آه، عملت فيه إيه؟ أكيد هتقولي يا عمتو \"ده عليه خمس نقط بس، مش هيفرق\"... صح؟
اتّكأ ماهر على كتف كامل، وظل يحكّ أنفه وهو يحاول تغيير الموضوع:
– بصراحة... استحي أقولك \"يا عمتي\"، لأنك أكبر منها.
اتسعت عيناها صدمة، وانفجرت ضاحكة مع من حولها:
– إيييييييييييه! عمّتك مين اللي أنا أكبر منها؟!
زفر كامل بضيق:
– بس بقى، عايزين نمشي!
نظر هشام جانبًا، فرأى صديقه \"كريم\" يلوّح له بعد أن أنهى امتحان التاريخ. ذهب إليه تاركًا رفاقه خلفه.
ظل كامل يراقب كريم بعينٍ يملؤها الحقد، فلاحظ ماهر نظرته وقال:
– مالك؟
أجابه كامل بنبرة حاقده:
– مفيش
نظرت لينا إليه متعجبة،
ثم انتبه ماهر فجأة:
– استنى... السؤال الأخير عليه خمس درجات؟!
---
– التاريخ كان حلو.
– كان عادي.
ثم وجه أنظاره لأصدقاء هشام، وحدّق في كامل ثم عاد لينظر إلى هشام، وقال بسخرية:
– أخبار كامل إيه؟ حل كويس؟
تعجب هشام من نبرته الجديدة:
– آه، حل كويس.
وصلت سيارة هشام، ركبها ليجد شقيقه الأصغر جالسًا:
– إنت بتعمل إيه هنا؟ كنت فاكر إنك لسه نايم!
نظر إليه آدم بخبث:
– إزاي أنام وأخويا في الامتحان؟ جيت أطمن عليك... عملت إيه؟
ابتسم هشام بسخرية وهو يتذكر إزعاجه المعتاد:
– يا سلام على الكرم...
ثم تمتم وهو يلتفت عنه:
– عيل بارد.
ابتسم آدم ابتسامة صفراء:
– بتقول حاجة يا ميشو؟
– لا... سلمتك، ده أنا بكح.
_________________________
– لسه بتغلبني زي زمان يا عثمان.
قالها \"جاسر\" وهو يحرّك قطعة الشطرنج، مسلِّمًا بالخسارة.
اعتدل عثمان في جلسته بعد فوزه، وسأل بهدوء:
– الأولاد عملوا إيه في الامتحان؟
تمتم \"جاسر\" بنبرة منزعجة:
– هو أنا لسه ما كبرت على الخسارة ولا إيه؟
– بتقول إيه؟
– هاا. هشام بعتلي وقال إن الامتحان كان سهل... هتعمل إيه في القضية؟
ردّ عثمان بانزعاج:
– طيب ما هي في إيدك إنت ويحيى... أنا هعمل فيها إيه؟
نظر له \"جاسر\" بتوسُّل:
– يا عثمان، أنا مقدرش أعمل حاجة من غيرك، ولا من غير يحيى.
مال عثمان برأسه إلى الخلف، لا يزال متردِّدًا.
أعاد \"جاسر\" قطع الشطرنج إلى مكانها، وقال كأنه يسترجع زمنًا مضى:
– فاكر لما كنا إحنا الأربعة دايمًا سوا؟ أنا وإنت ويحيى وجودات؟
تغيّرت ملامح عثمان، ونظر إليه بعين مليئة بالحزن والغضب:
– أنا دلوقتي مش فارق معايا غير حاجة واحدة... عايز أعرف بنتي فين.
اتّسعت عينا \"جاسر\" من الصدمة، فتابع عثمان وهو ينهض:
– سلّملي على أريج والعيال.
خرج من الغرفة، ثم جلس علي مكتبه مغمضً عينيه، وتنهد بتعب. غرق في الذكريات...
– هي \"آرين\" لسه ما رجعتش من الامتحان؟
سأل عثمان زوجته \"سيرين\" بقلق.
– لأ... اتأخرت شوية.
بعد دقائق، فُتح الباب، ودخلت فتاة بشعر قصير وعيون بُنِّية لامعة، تقول بمرح:
– أنا جِيييييت!
ابتسمت \"سيرين\" براحة:
– تعالي، عملتي إيه؟
جلست \"آرين\" على الأريكة وسط والديها، السعادة واضحة على ملامحها، وهي تمسك ورقه الامتحان قائلة
– كان سهل!
أخذ عثمان الورقة وهو يبتسم، ثم بدأ يضحك ويدغدغها:
– يعني كان سهل وسايبانا قلقانين عليكِ؟! وامبارح كنتِ بتعيطي ومش عارفة تحلي حاجة!
توقفت ذكرياته فجأة لتعد به لليوم الذي انتهى فيه كل شيء
في سنة 2020، بعد فكّ الحظر التجول، كان عثمان يقود السيارة وبجواره سيرين وخلفه آرين.
لاحظ عثمان ان هناك سيارة لونها اسود تدبعهم منذ مده، ثم غيّر طريقه ليتأكّد من شكوكه.
– الطريق ده مش طريقنا!
قالتها سيرين بقلق.
– عارف.
اتكأت سيرين علي نافذة السيارة لتنظر في المرآة ملاحظه ان هناك سيارة خلفهم، فهمت سيرين مايحدث ثم تساءلت:
– مين دول؟
– مش عارف.
قالتها وهو يضغط على البنزين، لكن السيّارة لم تستجب.
وضعت آرين قدميها علي مقعد السيارة ونظرت من الزجاج الخلفي:
– بابا، العربيّة دي ماشيه ورانا ليه؟
– مش بتمشي ورانا ياحببتي اقعدي كويس بس. اجابتها\" سيرين\" وهي تنظر لزوجها محاولة فهم شيء
– بس أنا شايفاها من ساعة ما كنا في المول!
نظرت سيرين لعثمان قائلة بصوت غاضب:
– ايييه...و إزاي ما خدتش بالك من حاجة زي دي؟
وفجأة، ظهرت سيارات أخرى، وحاصرتهم. ضغط عثمان على البنزين بكل قوّته... لكنه لم يعمل.
أدركت سيرين خطورة الموقف، فالتفتت لابنتها:
– اربطي الحزام كويس، يلا يا حبيبتي.
همّت بالكلام وهي تنظر له بقلق ، فقاطعها عثمان:
– متقلقيش؟!
رفعت سيرين صوتها بغض:
_ مقلقش! مقلقش ازي؟
– بنتك قعدة ورا... ما تخوّفيهاش!
مدّت سيرين يدها لأرين، لكن لم تمر لحظات...
واصطدمت سيارتهم بسيارة من الجهة المقابلة، اتنهى الحادث بنقلاب سيارة عثمان من اعلى المنحدر، ذهبت تلك السيارات بعد ان نفذت مخططها
بعد دقائق قليله
فتحت آرين عينيها ببطء، لتنصدم من مشهد ابويها الملطخين بالدماء، ارتجف جسدها، ثم نادت:
– با. بابا... ماما...
وظلت تحاول ايقاظهم، ترقرقت الدموع في عينيها، ثم انفجرت بالبكاء، في تلك اللحظة فتح عثمان عينه بتعب شديد ينظر لأبنتة التي تبكي بشدة وزوجتة الملطخه بالدماء ساكنة في مكانها بلا حركه
حاول التحدث معها لتهدئتها
_ ا. ارين
توقفت ارين عن البكاء بعد سماع صوت ابيها قائله بلهفه:
– با. بابا بابا أنت كويس
ثم بكت مجدداً قائله
– بابا، ماما مش بتتنفس
حاول عثمان أن يعتدل، لكن جسده لا يساعده، مسح دموعها بصعوبة، وقال:
– متخافيش يا حبيبتي... ماما كويسة...
بدأت عينيها تغلق ببطء، ثم فسقطت أمامه. صرخ عثمان قلقاً عليها :
– آرين... آرييييييين!
لم يشعر عثمان بنفسه إلا وهو يفتح عينيه ليجد نفسه في المشفى، غير قادر علي الحراك بسبب جسده مثقّل بالجبائر، ثم وجد امامه رئيس الاطباء بنفسه، اللذي ابتسم عندما افاق من مفعول المخدر
– حمدالله على السلامة، عثمان بيه.
أول ما خطر بباله هو مشهد زوجته وابنته،ثم قال بلهفه:
– سيرين و آرين هما كويسين صح؟
– مدام سيرين لسه خارجة من العمليات، حالتها مستقرة.
تعجب عثمان عندما لم يذكر ابنته قائلاً بتوتر
– وبنتي؟
سكت الطبيب، ثم قال:
– آسف عثمان بيه بس بنت حضرتك ماكنتش موجودة معاكم.
اتسعت عينا عثمان بصدمه بمحاوله النهض:
– إيييه؟! يعني إيه ماكنتش معانا؟!
حاول الطبيب تهدئته:
– اهدى عثمان بيه هتأزي نفسك.
تنهد بصعوبه وتعب ومشاعر ممزوجه بالعجز
– آرين...!
\"الحاضر\"
عاد \"عثمان\" من محيط الذكرياته الاليم، وهو يتنفس بصعوبة، ثم وضع يديه على وجهه، غير مُصدّق أن ابنته الوحيدة قد ضاعت من بين يديه، قطع كل تلك الافكار دخول \"رائد\" علية ليُخبره بشيء يخص القضية:
– كينغ بيه...
لكن عثمان أمسك بيده، وقال بثبات:
– أنا موقّف.
بين لينا ورنا:
– شايفة كان بيبص إزاي؟!
لكن \"رنا\" لم ترفع عينها عن الهاتف:
– أول مرة أشوف كامل كده، بس عادي... إيه المشكلة؟
سحبت لينا هاتف رنا بنزعاج:
– يابنتِ كامل مش حقود.
ضحكت \"رنا\" من كلامها وقالت بخبث:
– بتقولي إيه؟! كامل مالو؟!
احرجت لينا مردفه
– الغلط غلطتي إني كلمتك أصلاً.
– غوري يابت أنتِ عارفه تعملي حاجه، روحي شوفي الاكل اللي حرقتيه جوه.
ظلت \"جيدا\" تشير بعينيها لآرين مراراً وتكراراً:
– مش بتاكلي ليه؟
– أنا اللي مش باكل برضو؟!
– عملتي إيه في الامتحان؟
– الحمد لله.
اتجهت جيدآ بالموضوع لمكان اخر
– حاولتي تفتكري حاجة؟
– حاجه زي إيه؟
– زي... أمك وأبوك مثلاً؟
وضعت \"آرين\" الملعقة، وقالت بغضب:
– لأ!.. وبلاش تفتحي الموضوع ده تاني.
– أنا بس عايزة مصلحتك... انتِ لو مكنتيش عرفتيني اسمك اليوم ده كان زمانك متعرفهوش أصلاً .
– واسمي ساعدني في إيه يعني؟
وقفت، تركت الطعام. حاولت جيدَا تهدئتها:
– طب اقعدي كمّلي أكلك.
– لا شكرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في نهارٍ قائظ، وتحت شمسٍ تلسع الأجساد، وقف كلٌّ من عثمان وجاسر ومساعديهما عند موقع أول جريمة. كان الحرُّ يذيب الصبر، والعرق يتصبب من الوجوه. أمسك فارس، مساعد جاسر، بالأوراق وبدأ يرتّبها بعناية وهو يقرأ:
• حسين محمد أبو زيد، أول الضحايا.
قُتل يوم السبت، 29 أبريل 2023، وكان يعمل موظفًا في بنك.
عقد رائد حاجبيه، وأمال رأسه بتعجب:
_ موظف؟! إيه اللي يخلي حد يقتل موظف؟!
رفع فارس عينيه ببطء، ونظر إليه بنظرة ازدراء خالية من الكلمات، وكأن حديثه لم يستحق الرد. تبادل جاسر وعثمان الحديث بانزعاج، فالحرُّ كاد يخرس أفواههم، والعرق لم يترك بقعة في أجسادهم إلا واحتلها.
قال جاسر، متنهدًا:
_ ليه لازم نروح كل الأماكن اللي حصلت فيها جرائم القتل؟ إيه لازمتها؟!
كان عثمان ينظر للأرض، يتأمل رسم الطباشير حول جسد الضحية، ثم قال بنبرة خافتة، وبدن منحنٍ إلى الأمام كأنّه يلاحق خيطًا خفيًا:
_ عايز أعرف إيه الرابط بين الأماكن دي... مش عايزين نطبّق حظر تجول والسلام، إحنا بندوّر على نمط، على دليل!
_ يعني هنلف على الكل؟
_ آه.
تمتم جاسر متذمرًا:
_ أهوه... وأنا ذنبي إيه في الحر ده؟
رمقه عثمان بنظرة جانبية وقال ببرود:
_ حد قالك تجيبني معاك؟ لو مش عاجبك... روح.
واصل فارس قراءة الأوراق:
• عماد ياسر ال. ال. الزهدي، ثاني ضحايا السفاح.
قُتل يوم الأحد، 30 أبريل.
ضحك رائد بسخرية:
_ مش عارف تقرأ ولا إيه؟!
نظر له فارس بنفاد صبر وهمّ بالرد، لكن عثمان قاطعه فجأة:
_ الساعة كام؟
رفع فارس رأسه بتساؤل:
_ نعم؟
_ يعني اتقتل الساعة كام؟
بدأ فارس يقلّب في الأوراق، يبحث عن الوقت المحدد:
_ مش مكتوب...
نظر إليه عثمان بعينين ضيّقتين ونبرة منزعجة:
_ يعني إيه \"مش مكتوب\"؟!
_ آسف، كينج، بس مقدرتش أوصل للمعلومة دي.
نظر أمامه نحو موقع الجريمة، ثم تابع:
_ رائد، عايز منك تقرير مفصّل عن كل ضحية. الميلاد، العيلة، علاقاتهم، أصدقاؤهم... كل حاجة.
ابتسم رائد ابتسامة جانبية فيها خُبث، ثم نظر إلى فارس من رأسه إلى قدمه:
_ حاضررر...
لكن فارس، وقد احمرّ وجهه من الغضب، انفجر صائحًا:
_ إهدى شوية! هو إيه اللي جابك أصلاً؟!
التفت الجميع نحوه بدهشة... فارس الهادئ دومًا، ما الذي أخرجه عن طوره؟
قال جاسر بنبرة حذرة:
_ مالك؟ إنت كويس؟
ردّ فارس وهو يحاول ضبط أعصابه:
_ لو سمحت يا جاسر بيه... أنا مبحبش أشتغل مع \"الكائن\" ده!
قهقه رائد ساخرًا:
_ كائن؟! بتجيب الألفاظ دي منين؟!
صرخ عثمان، وقد بلغ الغضب حنجرته:
_ إحنا جايين نتحقق ولا نهزر؟ رائد... استناني في العربية!
ثم التفت إلى فريقه، وقال بجديّة:
_ فرغتوا الكاميرات؟
رد جاسر:
_ لسه.
تغيّرت ملامح عثمان فجأة، وقال بنبرة حاسمة:
_ بسرعة.
ارتبك فارس، وردّ متلعثمًا:
_ حاضر... حاضر.
انتقلوا بعدها إلى كل موقع وُجدت فيه جثة، يبحثون بعناء عن أي خيط قد يرشدهم للسفاح.
زفر فارس بإرهاق وهو يقرأ آخر سطر:
_ عصام أسامة... آخر ضحية للسفاح حتى الآن.
أخذ نفسًا عميقًا، وأخرجه براحة، بينما رائد يربت على كتفه بقوة:
_ شكرًا على تعبك معانا.
في تلك اللحظة، كان مسجد مجاور يصدح بأذان العشاء. أخرج عثمان البوصلة الصغيرة من جيبه، وجعلها تشير باتجاه رأس الضحية، فوجدها تتجه إلى الجنوب الشرقي، حيث القبلة تمامًا.
ترك الجميع خلفه، واتجه نحو المسجد.
لحق به جاسر مستنكرًا:
_ رايح فين؟!
_ هصلّي العشا.
وبعد يوم طويل من التعب، توقفت سيارة عثمان أمام أحد البيوت. خرج رائد وهو يتثاءب من شدة النعاس، يحمل أوراق القضية:
_ تصبح على خير.
تنهد عثمان، وردّ بصوت متعب:
_ وإنت من أهله.
أدار المحرك، وعيناه غارقتان في تفكير. كانت خيبة الأمل تعتصر قلبه... فقد اعتاد أن ينهي القضايا بمفرده، بلا شركاء، بلا فوضى. لكن بعد تلك الحادثة المؤلمة، وبعد عزوفه عن المهنة، دفعه والده للعودة، على أمل أن يستعيد ما ضاع منه.
لكنه كان يتساءل: كيف لذلك الأخرق —رائد— أن يعيده إلى مجده؟!
---
أمام \"فيلا آل نصر\"...
فتحت الخادمة الباب فور توقّف السيارة، وانحنت قليلًا وهي تقول باحترام:
_ الحمد لله على السلامة، عثمان بيه.
أومأ لها بإيماءة خفيفة، وسألها وهو يخلع سترته:
_ سيرين جت؟
_ مدام سيرين فوق في الأوضة.
همّ بالصعود على السُلّم، لكن صوت الخادمة أوقفه:
_ عثمان بيه...
توقف ونظر لها باستفهام:
_ أمجد بيه طالب حضرتك في المكتب.
لم يلتفت، بل واصل صعوده قائلاً ببرود:
_ قولي له مش فاضي... عندي شغل.
وقبل أن يُنهي عبارته، فُتح باب المكتب ليظهر والده، صوته جهوري ونبرته آمرة:
_ عثمان... خمس دقايق، والقيك عندي.
لم يرد، بل واصل صعوده بصمت.
دخل غرفته بهدوء، ليجد سيرين، زوجته، جالسة على الأرض بجانب السرير، تحدّق في هاتفها بعينين مثقلتين بالحزن. جلس إلى جوارها، محاولًا رسم ابتسامة هادئة:
_ عاملة إي؟
ردّت دون أن ترفع عينيها عن الشاشة:
_ كويسة.
كانت تقلب صورًا قديمة... لابنتهما، ثم توقفت عند فيديو كانت فيه الصغيرة تخطو خطواتها الأولى، تتمايل بين ضحكاتهم...
ترقّر الدمع في عيني سيرين، وبدت على وشك الانهيار.
مدّ عثمان يده ليضعها على كتفها مواسيًا، لكنّها أبعدت يده سريعًا وهي تقول بنبرة منكوبة:
_ كانت أيام حلوة... صح؟
كانت.
تنهّد عثمان بحسرة:
_ آه، سيري...
لكنها لم تدعه يُكمل، فنهضت وأشاحت بوجهها قائلة:
_ مش مستنياك تشفق عليّ، عثمان.
تجمّدت ملامحه، وهمس:
_ أشفق عليكِ؟ سيرين، أنا...
قاطعته مجددًا:
_ إنت إيه؟ إيه الجديد؟ لو في حاجة جديدة، قولي...
بس مفيش، ومش هيبقى في بعد ٣ سنين، صح؟
وقف عثمان ببطء، وفتح باب الغرفة، متنهدًا:
_ معاكِ حق...
معاكِ حق.
---
دخل مكتب والده بهدوء، وجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى:
_ اتفضل، أمجد بيه... كنت عايزني؟
كان أمجد يتصفح بعض الملفات، عابس الوجه، وقال بنبرة حادة:
_ أخبار القضية إيه؟ خلصت؟
رد عثمان بصوت خافت، فيه ضيق:
_ خلصت، آه...
ثم رفع صوته، ساخرًا وهو يلوّح بقدمه:
_ جاسر اللي بيشتغل فيها... أنا لسه ما وافقتش أصلًا.
أغلق أمجد الملف بعنف، وانفجر صائحًا:
_ بس اللي أعرفه إنك وافقت! ده حتى إنت اللي أصريت تروح كل مكان حصلت فيه الجريمة!
ابتسم عثمان ابتسامة جانبية، وقال ساخرًا:
_ باين اللي بيوصّلك معلوماتي... ممتاز أوي.
ثم وقف وهو يتوجه إلى الباب بملل:
_ كان نفسي تكرّس ذكاءك ده لحاجات تستحق.
_ زي مكان بنتك، مثلًا.
توقف عثمان فورًا، يده معلّقة على مقبض الباب، صوته انخفض:
_ تقصد إيه؟
أجابه أمجد، ونبرته تضغط على أضعف موضع في قلب ابنه:
_ والله، أنا بحاول أكون أب مسؤول...
الدور على اللي مش قادر يعمل كده.
ولا إنت خلاص؟ بنتك ضاعت من زمان؟ إيه لازمة...
قاطعته قبضة عثمان التي اشتدت على مقبض الباب، وصدره يعلو وينخفض، أنفاسه متسارعة...
لكنه خرج بصمت، يهرب من الحديث كما يهرب الجريح من سكينٍ تُدار في جرحٍ قديم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اجتمعت أسرة جاسر في غرفة المعيشة، وسط سكون الليل، لا صوت يعلو فوق صوت الصغار يتشاجرون على جهاز التحكم.
كان هشام وآدم يخوضان معركة شرسة بالوسائد.
صاح آدم وهو يحاول انتزاع الريموت من يد أخيه:
_ يا بابا، خليه يديني الريموت!
ضحك هشام بوقاحة، ثم قفز على أخيه واضعًا الوسادة فوق وجهه:
_ لاااا، كان معاك طول النهار!
بدأت ملامح الانزعاج تظهر على وجه أريج، بينما رفع جاسر صوته بحزم:
_ هشام! آدم! كفاية!
تجمّد الطفلان في مكانيهما، وساد الصمت لبضع ثوانٍ، قبل أن ينغز هشام أخاه في جنبه بنظرة غيظ مكبوتة.
أدار جاسر بصره عن ولديه، ثم نظر لزوجته التي كانت مستلقية على الأريكة، وذهنها شارد:
_ هما ناويين يفرضوا حظر تجوّل صح؟
ردّت أريج بنبرة قلقة:
_ قرار مالوش معنى... هيمنع إيه؟
أسندت خدّها على يدها، وأغمضت عينيها بتفكير عميق:
_ سمعت إن عثمان وافق.
فتح جاسر عينيه باستغراب:
_ آه.
رفعت حاجبها بدهشة ممزوجة بعدم التصديق:
_ واو... عثمان وافق؟ بجد؟
وفي الطرف الآخر من الغرفة، همس آدم في أذن هشام:
_ بقلك إي؟
_ إيه؟
_ ما تيجي نلعب Basketball بدل ما إحنا قاعدين كده نتفرج على بابا وماما والشاشة مطفية؟
ضحك هشام:
_ ممم، ماشي.
لكن آدم استغل موافقته فورًا:
_ لو خسرت... هتعزمني على إندومي!
رفع هشام حاجبه بدهاء:
_ وإيه اللي يضمن لي إنك مش هتقول لماما؟
ابتسم آدم ببراءة وهو يغمز له:
• No comment.
وقف هشام فجأة، وجذب آدم من يده:
_ ماشي، بس ما تتعودش أوي على كده!
---
وفي تلك الليلة، بينما أغمض البيت أجفانه ونام كل من فيه، فُتح الباب الأمامي للمنزل بهدوء، ودخلت فتاة بخطوات متسللة، تلتفت يمينًا ويسارًا كمن يخشى أن يُضبط.
همست لنفسها بارتياح:
_ الحمد لله... نامت.
لكن صوتًا ناعمًا ممتزجًا بالغضب انبعث من الظلام:
_ كنتِ فين لحد دلوقتي؟
ارتجفت أرين، واضعة يدها على صدرها بفزع:
_ جِ... جِيدا! إنتِ لسه صاحيّة؟
أضاءت جِيدا الأنوار بضغطة سريعة، ووقفت تنظر إليها بنظرة تحمل ألف سؤال:
_ وهو مين اللي المفروض يسأل السؤال ده؟!
صمتت أرين قليلًا، تفكر في مخرج لتغيير الموضوع... ثم تهلّلت فجأة وقالت:
_ أداااا...
رمشت جِيدا باستغراب:
_ أدا إيه؟!
تقدّمت أرين وأمسكت يد جِيدا، ثم أدارتها برفق لتُظهر لها ما ترتديه:
_ إيه البيجامة الحلوة دي؟!
ابتسمت جِيدا، ورفعت يدها كأنها تعرض تحفة فنية:
_ آه شُفتي؟! أنا حلوة إزاي!
ضحكت أرين، ثم مالت بجديّة مصطنعة:
_ طب... ينفع كده؟
تغيّرت ملامح جِيدا:
_ ينفع إيه؟
• ينفع الحلوة تقعد لحد دلوقتي سهرانة؟!
أومأت جِيدا برأسها، وقد فهمت مقصدها هذه المرة:
_ صح، معاكي حق... لازم أنام.
_ برافو، حبيبتي... يلا، تصبحي على خير.
ابتسمت أرين ابتسامة المنتصر، بينما دخلت جِيدا إلى غرفتها كمن قُيّد بمكر طفولي ساحر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج من المصعد ووقف أمام باب الشقة، يطرق عليه وكأنه يدق طبول مهرجان.
استيقظ كامل متثاقلاً، وهو يلعن في سرّه هذا الصوت الذي اقتحم عليه أجمل أحلامه.
فتح الباب، ليجد أمامه ماهر، مبتسمًا ببلاهة، يدخل بلا استئذان وكأن البيت بيته:
_ زيك يا أبو الصحااااب!
رمش كامل، ما زال غير مستوعب:
_ إنت بتعمل إيه هنا؟
جلس ماهر على الأريكة، ممددًا ذراعيه بتراخٍ:
_ وحشتني، قلت مقدرش أقضي الإجازة من غيرك... وبعدين في سفاح، وأنا بخاف.
رفع كامل حاجبيه:
_ نعم؟!
_ بخاااف.
نظر كامل إليه باستغراب أكبر:
_ طب... أبوك عارف إنك عندي؟
تفكّر ماهر لحظة، ثم هز رأسه نافيًا:
_ أمم... لا.
تنهد كامل بضيق، يحاول أن لا يصرخ:
_ طب رنا قاعدة عند لينا عشان مامتها مسافرة، إنما إنت جاي تتنطط فوق دماغ أمي ليه؟!
وقف ماهر ممسكًا رأسه وكأنه يقبّلها، وقال بصوت درامي:
_ ألف سلامة على دماغك يا حاجة أم كامل.
أبعده كامل عنه، وقال بنفاد صبر:
_ يلا بقى، مش هتحاضر أوضة؟ ولا هتبات على الكنبة؟
تحرك ماهر كأن الأمر نصرٌ عظيم، وأطلق همسة بصوت منخفض وهو يبتسم بخبث:
_ ابقى وريني هتنزل إزاي.
رن هاتفه، فظهر اسم \"رنا\". أجاب بكسل:
_ ألو؟
في مكانٍ آخر، كانت رنا تجلس بمفردها في أحد المقاهي، تشرب العصير وهي تنظر للشارع:
_ أنا وصلت على فكرة.
رد ماهر:
_ ماناااا مش هعرف أجي.
_ ليه؟
قال وهو يتحرك في أنحاء الشقة بخفة حتى لا يوقظ أحدًا:
_ أنا عند كامل.
زفرت رنا بغيظ، وارتدت حقيبتها بتوتر:
_ ماشي يا ماهر، برحتك.
أغلقت المكالمة بعصبية، ثم فتحت باب السيارة وألقت بالحقيبة على المقعد الآخر، تتمتم بغيظ:
_ مش عارفة كامل اي اللي قرفني بيه كل شويه !
أما ماهر، فنظر لهاتفه بعد أن أغلقت الخط، وحدّث نفسه:
_ متعرفيش تصبري شوية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، عند الفجر...
استيقظ عثمان على صوت هاتفه، أجاب بنعاس وصوت مبحوح:
_ إيه الحاجة المهمة اللي مش قادرة تستنى لحد ما أجي تقولها لي؟
جاءه صوت رائد، متوترًا وهو يجهّز حقيبته:
_ آسف، كينج بيه، بس في حاجة مفهمتهاش في الورق.
تقلب عثمان على الأريكة بضيق:
_ إيه هي؟
_ الورق بيقول إن الجرح... في \"صدى\".
رفع عثمان حاجبه باستغراب:
_ صدى؟ يعني إيه صدى؟
_ صدى... صدى حديد.
حك عثمان جبهته وهو يفكر:
_ تمام... في حاجة تانية؟
_ آه... كل التقارير بتاعة الضحايا العشرة بتقول إن الجرح في نفس المكان: أسفل يمين المعدة، يبعد عن الكبد بحوالي خمسة سنتي، والجرح هو اللي سبب الوفاة...
بس الأغرب... مفيش أي آثار خدوش، ولا مقاومة، ولا تعذيب...
يعني مش زي ما الناس قالت، ده... سفاح فعلًا.
ابتسم عثمان ابتسامة جانبية، وعيناه تحملان بريق حماسة قديمة...
كأن شيئًا ما في صدره اشتعل من جديد:
_ تمام... أنا جاي لك.
أغلق الهاتف، ونظر لزوجته النائمة.
تقدّم نحوها، وركع على ركبتيه بجوار السرير، يمرر يده على شعرها ببتسامه مكسوره، ثم نهض، وفتح الباب ليجد والدته أمامه.
_ صباح الخير، يا بني.
ابتسم، لكنه لم يخفِ التعب في صوته:
_ صباح النور... إيه اللي مصحيكي دلوقتي؟
_ كنت بصلي الفجر... إنت رايح فين؟
_ رايح الشغل.
نظرت إليه بعين قلقة:
_ إنت كويس؟
قطّب جبينه:
_ آه، كويس... ليه؟
_ سمعتك إنت وأمجد إمبارح.
تهرّب من نظراتها، وختم الحديث بجفاف:
_ سلام، يا ماما... عندي شغل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج كامل من غرفته، يحك عينيه بنعاس وانزعاج من ذلك الصوت العالي الذي شقّ سكون الصباح.
وقف مذهولًا أمام صديقه ماهر، الذي كان يشغل الموسيقى بأقصى صوت، يغني ويرقص وكأنه في حفلة.
صرخ فيه كامل، غاضبًا:
_ ماهييييييييير!
لكن ماهر لم يكن يسمعه، مستغرقًا في طربه، يهز رأسه مع النغمات.
اندفع كامل نحو الهاتف، أوقف الموسيقى وهو يصرخ بوجهه:
_ إنت اتجننت؟! الساعة سبعة الصبح! الناس نايمة، وإنت مشغّل أغاني وبتغني؟!
لوى ماهر شفتيه بانزعاج طفولي:
_ نايمين؟! النهاردة الاتنين...
قاطعته نظرات كامل، التي كانت كافية لإشعال النار.
اقترب منه بصوت مهدد:
_ ماهر، متختبرش صبري... لمّ حاجتك، واطلع برّا.
وضع ماهر يده على صدره، وبدأ يتحدث بصوت متهدّج كأنه يمثل مأساة على مسرح:
_ بتطردني؟ من بيتك؟!
بتعيرني عشان معنديش بيت اعيش فيه، وانا يتيم؟!
أبويا وأمي ماتوا في حادث توكتوك!
أخص عليك يا كامل...
ثم بدأ في البكاء الزائف، يمسح دموعًا وهمية وهو يجمع أشيائه.
نظر له كامل بدهشة، فاغرًا فمه:
_ يخرب بيتك... ده أنا صدّقتك!
وبعدين... يحيى الصياد يركب توكتوك؟!
رفع ماهر حاجبه:
_ هو ده اللي فارق معاك؟ مش فارق معاك إني يتمت؟!
أمسك كامل بيده، ساحبًا إياه للداخل:
_ خلاص، متِمشيش.
أنزل ماهر رأسه، ينظر إلى الأرض بانكسار:
_ مش هقدر... كرامتي مش هتسمحلي.
ذهب كامل إلى الثلاجة، يتمتم بغيظ:
_ كرامتك... خش اقعد يا عم.
عاد ماهر مبتسمًا بسعادة طفولية، يحتضنه:
_ حبيبي... هي دي الصداقة!
يلا روح اعملي فطار.
أبعده كامل عنه، يتنهّد من تصرفاته:
_ خايف أندم إني خليتك تبات.
مرت الساعات، وكامل لا يزال في غرفته، ينتظر نوم ماهر كمن ينتظر معجزة.
وبالفعل، دخل ماهر إلى الغرفة، جلس على طرف السرير وهو يتثاءب:
_ بقلك إيه... أنا هنام... تصبح على خير.
ابتسم له كامل بخبث:
_ وانت من أهله... يا حبيبي.
أغمض ماهر عينيه، وما إن تأكّد كامل من نومه، حتى تسلّل بهدوء وفتح باب البيت، يتمتم لنفسه:
_ نوم الظالم عبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مكتب التحقيقات، جلس جاسر على مقعده ينتظر عثمان، الذي كان يقلب في الأوراق التي أتى بها رائد.
وقف عثمان خلفه، يضع يده على كتفه وهو يبتسم:
_ باين عليه من هيرفدك.
تغيّرت ملامح رائد، وكأن سطل ماء بارد سُكب عليه:
_ إنت كنت هترفدني؟!
ضحك جاسر، بينما وضع عثمان مفاتيح سيارته على المكتب وجلس:
_ فرغتوا الكاميرات؟
فتح جاسر الحاسوب:
_ أيوه.
_ كام ساعة؟
قالها عثمان بنبرة محبطة.
رد جاسر بابتسامة ساخرة:
_ عشر كاميرات، كل كاميرا خمس ساعات.
رفع عثمان حاجبه:
_ انت بتهزر؟!
_ لا، اظن احنا متعودين علي اكتر من كده!
تنهد عثمان:
_ طب شغل.
فتح رائد الفيديوهات، ومرّ الوقت دون أي نتيجة.
نظر عثمان إلى ساعته:
_ سرّع الفيديو.
ذهب رائد لجلب القهوة، والفيديوهات تتابع... بلا جدوى.
انتهى كل شيء... بلا دليل.
نظر جاسر إلى عثمان، يبتسم بمرارة:
_ باين علينا هنتعب شوية.
لكن صوت فارس اقتحم عليهم فجأة، وهو يلهث:
_ في جريمة قتل جديدة حصلت!
نظر عثمان إلى جاسر بدهشة:
_ شوية؟!
---
اتجهوا جميعًا إلى موقع الحادث.
كانت سيارات الإسعاف والصحافة تطوّق المكان، والأضواء تومض، والوجوه مضطربة.
نظر عثمان إلى السماء وهو يمرر يده على رقبته:
_ ظابت... صح.
أومأ جاسر برأسه:
_ أيوه.
بس احنا كده مش هنعرف نشتغل، حوالينا ناس كتير.
راقب فارس صديقه رائد، الذي كان واقفًا شاردًا:
_ مالك؟
ردّ رائد، وهو يراقب الأطباء ينقلون الجثة:
_ بصراحة... في ناس تستحق تموت.
توسّعت عينا فارس، مستنكرًا:
_ إنت عبيط؟!
سفاح إيه اللي معاه حق؟!
في تلك اللحظة، كانت أرين عاجزة عن التحرّك وسط الزحام، بينما الشرطة تمنع الصحفيين من التقدم.
قال أحد الواقفين بجوارها:
_ بيقولوا في ظابط اتقتل.
أما عثمان، فكان يدور ببصره في المكان، ثم فجأة... تجمّدت عيناه.
رآها.
وجهٌ مألوف...
ملامح ابنته... نفس العينين، نفس الملامح، نفس النظرة التي لم تفارقه في الكوابيس.
تحرك نحوها كالمسحور، رافعًا الشريط الأمني، لا يشعر بأحد، لا يسمع أحدًا.
شقت أرين طريقها وسط الزحام...
لكنها اختفت.
توقف عثمان في مكانه، يضع يده على رأسه، يسحب خصلات شعره بتوتر، يتنهّد بصوتٍ ثقيلٍ يخرج من قاع قلبه، ولسانه عاجز عن البوح بما في صدره.
غابت الشمس، وغاب معها عثمان...
لاحظ جاسر تأخّره، اتصل به، لكن الهاتف لا يجيب...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت جِيدا قد وضعت طفلتها على السرير، وذهبت لتجلس أمام التلفاز، تبحث عن لحظة هدوء بعد يومٍ طويل.
استندت بيدها إلى ذراع المقعد، فسقط سوار على الأرض، سوار تعرفه جيدًا... إنه سوار أرين.
انحنت تلتقطه، وعيناها تتأمله بدهشة، ثم تقلّب السوار بين أصابعها...
كان هناك شيء غريب... نقش لم تلاحظه من قبل.
ضاقت عيناها وهي تهمس في نفسها:
_ إيه ده؟.
شعور غريب تسلل إلى قلبها...
هل أخفت أرين شيئًا؟
هل هناك ما لا تعرفه عنها بعد؟
____________________
استيقظ ماهر وهو يشعر بجفاف في حلقه، يتمتم وهو مغمض العينين:
_ كاااامل... كاااامل هاتلي كوباية ميه...
لم يرد أحد.
جلس على السرير، يتلمس الظلام، وخرج من الغرفة نحو المطبخ، فتح الثلاجة، شرب الماء، ثم بدأ يبحث في أنحاء الشقة... لكن كامل لم يكن موجودًا.
بدأ التوتر يتسلل إلى نبرته:
_ كاااامل؟... إنت فين؟!
ظل يبحث في كل الغرف، حتى فقد صبره، ألقى كوب الماء بقوة على الأرض، وتحطّم.
صرخ بعصبية:
_ ياااا حيوان!
خرج من الشقة، يغلي غيظًا، يبحث عن صديقه في كل مكان، حتى قادته قدماه إلى شارعٍ مظلم، لا يضيئه سوى مصباح يتيم يخفت ضوؤه كأنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
بدأ ماهر في الغناء، يقتل بها صمت الليل المُرعب:
_ كنت ماشي في الطريق... نانانا...
توقف فجأة، يضرب رأسه:
_ إيه الهبل اللي أنا فيه ده؟!
ثم أكمل بابتسامة ساخرة:
_ كنت ماشي في الطريق... نانانا... عديت علـ—
وقبل أن يكمل...
اصطدم بأحد المارّة.
وقع على الأرض، يرفع عينيه متأففًا:
_ مش تحاسب يا عم إنت؟!
لكن الكلمات تحجّرت في حلقه...
تحت الضوء الخافت... رأى سكينًا في يد الرجل، سكين ملطّخة بالدماء.
تراجع بجسده، وأدرك على الفور...
تحوّلت عينيه إلى جمرتين من الرعب، تجمّد الدم في عروقه.
لكن فجأة...
انفجر في الركض!
ركض بأقصى ما يملك، يتلفت خلفه، والسفاح يسير بخطى هادئة، لا يركض... كأنه يعلم أن فريسته لن تنجو.
ماهر يلهث، يرتعش، يركض بين الأزقة، إلى أن...
تعثر.
سقط على الأرض، قدمه تلتوي تحت جسده، يصرخ بألم:
_ لاااا... مش وقتك خالص!!
يحاول الوقوف... ولكن القدم لا تساعده.
نظر خلفه... السفاح يقترب... وببطءٍ قاتل.
السكين تلمع تحت الضوء، ووجه السفاح يختفي في الظلال.
اقترب منه السفاح، السكين ترتفع في الهواء...
واااااا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع.... ❝ ⏤
❞ يقول القانون: عندما يقتل أحدهم الآخر، يُعاقب القاتل ويُسجن، حتى وإن كان المقتول قد استخدم أبشع وسائل التعذيب معه او مع غيرة. ويظل الناس يهتفون:
˝إنه مجرم وقاتل، ويجب أن يُعاقب!˝
وتبعًا لاختلاف القوانين، قد يُحكم على القاتل بالسجن المؤبد، فيقضي بقية حياته يدفع الثمن،
وقد يُحكم عليه بالإعدام شنقًا، ويُقال حينها:
˝من قتل يُقتل!˝
عبارة جميلة، أليس كذلك؟
نحن لا نقول إن من يقتل لا يُعاقب،
لكن، لماذا لا ينص القانون — أو يشترط — أن من يقتل مجرمًا يعيث في الأرض فسادًا، لا يُعد مجرمًا؟
وجهة نظر، أليس كذلك؟
ويبقى السؤال:
«هل مَن يقتل شخصًا قد نسي معنى الإنسانية، وأصبح اليد العُليا لإبليس على وجه الأرض… هل يكون مجرمًا؟!»
______________________
أولًا:
مدّ يده نحو قبضة الباب، فتحه بهدوء ودخل إلى المكتب، ليجده جالسًا في سكينة، يقرأ كتابًا جديدًا بنظرات غارقة في التأمل. التفت إليه بطرف عينه وقال بنبرة خافتة:
– احكى.
– دي القضية الجديدة
ظل عثمان يقلب صفحات الكتاب بمللٍ خافت، دون أن تظهر عليه علامات الدهشة، تلك التي كانت ترافقه في الماضي، ثم قال بتنهيدةٍ ثقيلة:
– وبعدين؟
تحدّث رائد بحماسة مشتعلة:
– أيوه يا ˝كينج بيه˝، دي قضية السفاح لغايت دلوقتي الضحايا عشرة!
لم يُعره عثمان انتباهًا، اكتفى برفع حاجبيه دون أي أثرٍ من اندهاش، ثم كرر:
– وبعدين؟
عقد رائد حاجبيه باستغراب.
– وبعدين اي؟!
تنفس عثمان بعمق، وزفره بضيق، ثم أغلق كتابه ونهض مغادرًا المكتب. لم يتفاجأ رائد، فقد اعتاد على هذا الطبع؛ فذاك الرجل، بخبرته ودهائه، لم يخسر قضية في حياته، حتى بات لا يأبه لشيء، وكأن الأحداث تمر من حوله دون أن تمسّه.
-
جلس الشباب حول أوراقهم المتناثرة، يدرسون في جوف الليل استعدادًا لامتحان الغد.
– السؤال ده مش هييجي في الامتحان، قالها أحدهم بتكاسل.
ضحك˝ هشام˝ بسخريةٍ ممزوجة بشفقة على نفسه..
– آه، مش بييجي غيره في الامتحان اسكت يا كامل، خليك ساكت أحسن!
نظر كامل إلى صديقه الجالس في أحد الأركان، منشغلًا بلعبته يصدر ضجيجًا طفوليًا، ثم صرخ بعينين متسعتين:
– ماهيييير!
ردّ ماهر متمايعًا مثل الراقصات:
– يا نعاااام؟
_ ذاكر يا حبيبي.
لوى ثغرة بانزعاج و تجاهل:
– ماشي، ماشي.
في ليلة الامتحان
التفت حوله بحذر، ليتأكد من خلو المكان من المراقبة، ثم همس لهشام الذي بدا مستغرقًا في ورقته بعينين متوترتين:
– هشام.. ولا يا هشام..
التفت إليه هشام بحذر و صوت هامس:
– ماااهر، سيبني في حالي.
– طب قوللي دي صح ولا غلط بس.
قالها ماهر متوسلًا، لكن هشام انزعج أكثر، وردّ وهو يجز على أسنانه:
– يعني ˝صح وغلط˝ هي اللي عاملالك أزمة؟ Are you crazy?
لاحظ المراقب حركتهما، فتوجّه إلى هشام:
– في حاجة يا هشام؟
أجاب هشام وهو يحاول السيطرة على ملامحه:
– لا.لا.. خالص.
رفع المراقب صوته محذرًا:
– فاضل عشر دقايق على نص الوقت، اللي خلص يراجع.
________________
خرج كامل إلى الساحة يبحث عن أصدقائه:
– عملتوا إيه؟
أجابه ماهر بثقة وسذاجة:
– يا عم ده امتحان أحياء!
رفع هشام حاجبه باستنكار:
– آه، عشان بيغش مني.
التفت له كامل متفهمًا:
– أمم.. ماهر؟
– نعم؟
– Go to hell.
– وأنا وأنت إن شاء الله!
ضحكت لينا على سذاجتهما:
– استغفر الله العظيم يا رب..
ثم أغمضت عينيها بخبث وقالت:
– والسؤال الأخير؟
– ماله؟
قالت رنا وقد رفعت حاجبيها:
– آه، عملت فيه إيه؟ أكيد هتقولي يا عمتو ˝ده عليه خمس نقط بس، مش هيفرق˝.. صح؟
اتّكأ ماهر على كتف كامل، وظل يحكّ أنفه وهو يحاول تغيير الموضوع:
– بصراحة.. استحي أقولك ˝يا عمتي˝، لأنك أكبر منها.
اتسعت عيناها صدمة، وانفجرت ضاحكة مع من حولها:
– إيييييييييييه! عمّتك مين اللي أنا أكبر منها؟!
زفر كامل بضيق:
– بس بقى، عايزين نمشي!
نظر هشام جانبًا، فرأى صديقه ˝كريم˝ يلوّح له بعد أن أنهى امتحان التاريخ. ذهب إليه تاركًا رفاقه خلفه.
ظل كامل يراقب كريم بعينٍ يملؤها الحقد، فلاحظ ماهر نظرته وقال:
– مالك؟
أجابه كامل بنبرة حاقده:
– مفيش
نظرت لينا إليه متعجبة،
ثم انتبه ماهر فجأة:
– استنى.. السؤال الأخير عليه خمس درجات؟!
-
– التاريخ كان حلو.
– كان عادي.
ثم وجه أنظاره لأصدقاء هشام، وحدّق في كامل ثم عاد لينظر إلى هشام، وقال بسخرية:
– أخبار كامل إيه؟ حل كويس؟
تعجب هشام من نبرته الجديدة:
– آه، حل كويس.
وصلت سيارة هشام، ركبها ليجد شقيقه الأصغر جالسًا:
– إنت بتعمل إيه هنا؟ كنت فاكر إنك لسه نايم!
نظر إليه آدم بخبث:
– إزاي أنام وأخويا في الامتحان؟ جيت أطمن عليك.. عملت إيه؟
ابتسم هشام بسخرية وهو يتذكر إزعاجه المعتاد:
– يا سلام على الكرم..
ثم تمتم وهو يلتفت عنه:
– عيل بارد.
ابتسم آدم ابتسامة صفراء:
– بتقول حاجة يا ميشو؟
– لا.. سلمتك، ده أنا بكح.
________________________
– لسه بتغلبني زي زمان يا عثمان.
قالها ˝جاسر˝ وهو يحرّك قطعة الشطرنج، مسلِّمًا بالخسارة.
اعتدل عثمان في جلسته بعد فوزه، وسأل بهدوء:
– الأولاد عملوا إيه في الامتحان؟
تمتم ˝جاسر˝ بنبرة منزعجة:
– هو أنا لسه ما كبرت على الخسارة ولا إيه؟
– بتقول إيه؟
– هاا. هشام بعتلي وقال إن الامتحان كان سهل.. هتعمل إيه في القضية؟
ردّ عثمان بانزعاج:
– طيب ما هي في إيدك إنت ويحيى.. أنا هعمل فيها إيه؟
نظر له ˝جاسر˝ بتوسُّل:
– يا عثمان، أنا مقدرش أعمل حاجة من غيرك، ولا من غير يحيى.
مال عثمان برأسه إلى الخلف، لا يزال متردِّدًا.
أعاد ˝جاسر˝ قطع الشطرنج إلى مكانها، وقال كأنه يسترجع زمنًا مضى:
– فاكر لما كنا إحنا الأربعة دايمًا سوا؟ أنا وإنت ويحيى وجودات؟
تغيّرت ملامح عثمان، ونظر إليه بعين مليئة بالحزن والغضب:
– أنا دلوقتي مش فارق معايا غير حاجة واحدة.. عايز أعرف بنتي فين.
اتّسعت عينا ˝جاسر˝ من الصدمة، فتابع عثمان وهو ينهض:
– سلّملي على أريج والعيال.
خرج من الغرفة، ثم جلس علي مكتبه مغمضً عينيه، وتنهد بتعب. غرق في الذكريات..
– هي ˝آرين˝ لسه ما رجعتش من الامتحان؟
سأل عثمان زوجته ˝سيرين˝ بقلق.
– لأ.. اتأخرت شوية.
بعد دقائق، فُتح الباب، ودخلت فتاة بشعر قصير وعيون بُنِّية لامعة، تقول بمرح:
– أنا جِيييييت!
ابتسمت ˝سيرين˝ براحة:
– تعالي، عملتي إيه؟
جلست ˝آرين˝ على الأريكة وسط والديها، السعادة واضحة على ملامحها، وهي تمسك ورقه الامتحان قائلة
– كان سهل!
أخذ عثمان الورقة وهو يبتسم، ثم بدأ يضحك ويدغدغها:
– يعني كان سهل وسايبانا قلقانين عليكِ؟! وامبارح كنتِ بتعيطي ومش عارفة تحلي حاجة!
توقفت ذكرياته فجأة لتعد به لليوم الذي انتهى فيه كل شيء
في سنة 2020، بعد فكّ الحظر التجول، كان عثمان يقود السيارة وبجواره سيرين وخلفه آرين.
لاحظ عثمان ان هناك سيارة لونها اسود تدبعهم منذ مده، ثم غيّر طريقه ليتأكّد من شكوكه.
– الطريق ده مش طريقنا!
قالتها سيرين بقلق.
– عارف.
اتكأت سيرين علي نافذة السيارة لتنظر في المرآة ملاحظه ان هناك سيارة خلفهم، فهمت سيرين مايحدث ثم تساءلت:
– مين دول؟
– مش عارف.
قالتها وهو يضغط على البنزين، لكن السيّارة لم تستجب.
وضعت آرين قدميها علي مقعد السيارة ونظرت من الزجاج الخلفي:
– بابا، العربيّة دي ماشيه ورانا ليه؟
– مش بتمشي ورانا ياحببتي اقعدي كويس بس. اجابتها˝ سيرين˝ وهي تنظر لزوجها محاولة فهم شيء
– بس أنا شايفاها من ساعة ما كنا في المول!
نظرت سيرين لعثمان قائلة بصوت غاضب:
– ايييه..و إزاي ما خدتش بالك من حاجة زي دي؟
وفجأة، ظهرت سيارات أخرى، وحاصرتهم. ضغط عثمان على البنزين بكل قوّته.. لكنه لم يعمل.
أدركت سيرين خطورة الموقف، فالتفتت لابنتها:
– اربطي الحزام كويس، يلا يا حبيبتي.
همّت بالكلام وهي تنظر له بقلق ، فقاطعها عثمان:
– متقلقيش؟!
رفعت سيرين صوتها بغض:
_ مقلقش! مقلقش ازي؟
– بنتك قعدة ورا.. ما تخوّفيهاش!
مدّت سيرين يدها لأرين، لكن لم تمر لحظات..
واصطدمت سيارتهم بسيارة من الجهة المقابلة، اتنهى الحادث بنقلاب سيارة عثمان من اعلى المنحدر، ذهبت تلك السيارات بعد ان نفذت مخططها
بعد دقائق قليله
فتحت آرين عينيها ببطء، لتنصدم من مشهد ابويها الملطخين بالدماء، ارتجف جسدها، ثم نادت:
– با. بابا.. ماما..
وظلت تحاول ايقاظهم، ترقرقت الدموع في عينيها، ثم انفجرت بالبكاء، في تلك اللحظة فتح عثمان عينه بتعب شديد ينظر لأبنتة التي تبكي بشدة وزوجتة الملطخه بالدماء ساكنة في مكانها بلا حركه
حاول التحدث معها لتهدئتها
_ ا. ارين
توقفت ارين عن البكاء بعد سماع صوت ابيها قائله بلهفه:
– با. بابا بابا أنت كويس
ثم بكت مجدداً قائله
– بابا، ماما مش بتتنفس
حاول عثمان أن يعتدل، لكن جسده لا يساعده، مسح دموعها بصعوبة، وقال:
– متخافيش يا حبيبتي.. ماما كويسة..
بدأت عينيها تغلق ببطء، ثم فسقطت أمامه. صرخ عثمان قلقاً عليها :
– آرين.. آرييييييين!
لم يشعر عثمان بنفسه إلا وهو يفتح عينيه ليجد نفسه في المشفى، غير قادر علي الحراك بسبب جسده مثقّل بالجبائر، ثم وجد امامه رئيس الاطباء بنفسه، اللذي ابتسم عندما افاق من مفعول المخدر
– حمدالله على السلامة، عثمان بيه.
أول ما خطر بباله هو مشهد زوجته وابنته،ثم قال بلهفه:
– سيرين و آرين هما كويسين صح؟
– مدام سيرين لسه خارجة من العمليات، حالتها مستقرة.
تعجب عثمان عندما لم يذكر ابنته قائلاً بتوتر
– وبنتي؟
سكت الطبيب، ثم قال:
– آسف عثمان بيه بس بنت حضرتك ماكنتش موجودة معاكم.
اتسعت عينا عثمان بصدمه بمحاوله النهض:
– إيييه؟! يعني إيه ماكنتش معانا؟!
حاول الطبيب تهدئته:
– اهدى عثمان بيه هتأزي نفسك.
تنهد بصعوبه وتعب ومشاعر ممزوجه بالعجز
– آرين..!
˝الحاضر˝
عاد ˝عثمان˝ من محيط الذكرياته الاليم، وهو يتنفس بصعوبة، ثم وضع يديه على وجهه، غير مُصدّق أن ابنته الوحيدة قد ضاعت من بين يديه، قطع كل تلك الافكار دخول ˝رائد˝ علية ليُخبره بشيء يخص القضية:
في نهارٍ قائظ، وتحت شمسٍ تلسع الأجساد، وقف كلٌّ من عثمان وجاسر ومساعديهما عند موقع أول جريمة. كان الحرُّ يذيب الصبر، والعرق يتصبب من الوجوه. أمسك فارس، مساعد جاسر، بالأوراق وبدأ يرتّبها بعناية وهو يقرأ:
• حسين محمد أبو زيد، أول الضحايا.
قُتل يوم السبت، 29 أبريل 2023، وكان يعمل موظفًا في بنك.
عقد رائد حاجبيه، وأمال رأسه بتعجب:
_ موظف؟! إيه اللي يخلي حد يقتل موظف؟!
رفع فارس عينيه ببطء، ونظر إليه بنظرة ازدراء خالية من الكلمات، وكأن حديثه لم يستحق الرد. تبادل جاسر وعثمان الحديث بانزعاج، فالحرُّ كاد يخرس أفواههم، والعرق لم يترك بقعة في أجسادهم إلا واحتلها.
قال جاسر، متنهدًا:
_ ليه لازم نروح كل الأماكن اللي حصلت فيها جرائم القتل؟ إيه لازمتها؟!
كان عثمان ينظر للأرض، يتأمل رسم الطباشير حول جسد الضحية، ثم قال بنبرة خافتة، وبدن منحنٍ إلى الأمام كأنّه يلاحق خيطًا خفيًا:
_ عايز أعرف إيه الرابط بين الأماكن دي.. مش عايزين نطبّق حظر تجول والسلام، إحنا بندوّر على نمط، على دليل!
_ يعني هنلف على الكل؟
_ آه.
تمتم جاسر متذمرًا:
_ أهوه.. وأنا ذنبي إيه في الحر ده؟
رمقه عثمان بنظرة جانبية وقال ببرود:
_ حد قالك تجيبني معاك؟ لو مش عاجبك.. روح.
واصل فارس قراءة الأوراق:
• عماد ياسر ال. ال. الزهدي، ثاني ضحايا السفاح.
قُتل يوم الأحد، 30 أبريل.
ضحك رائد بسخرية:
_ مش عارف تقرأ ولا إيه؟!
نظر له فارس بنفاد صبر وهمّ بالرد، لكن عثمان قاطعه فجأة:
_ الساعة كام؟
رفع فارس رأسه بتساؤل:
_ نعم؟
_ يعني اتقتل الساعة كام؟
بدأ فارس يقلّب في الأوراق، يبحث عن الوقت المحدد:
_ مش مكتوب..
نظر إليه عثمان بعينين ضيّقتين ونبرة منزعجة:
_ يعني إيه ˝مش مكتوب˝؟!
_ آسف، كينج، بس مقدرتش أوصل للمعلومة دي.
نظر أمامه نحو موقع الجريمة، ثم تابع:
_ رائد، عايز منك تقرير مفصّل عن كل ضحية. الميلاد، العيلة، علاقاتهم، أصدقاؤهم.. كل حاجة.
ابتسم رائد ابتسامة جانبية فيها خُبث، ثم نظر إلى فارس من رأسه إلى قدمه:
_ حاضررر..
لكن فارس، وقد احمرّ وجهه من الغضب، انفجر صائحًا:
_ إهدى شوية! هو إيه اللي جابك أصلاً؟!
التفت الجميع نحوه بدهشة.. فارس الهادئ دومًا، ما الذي أخرجه عن طوره؟
قال جاسر بنبرة حذرة:
_ مالك؟ إنت كويس؟
ردّ فارس وهو يحاول ضبط أعصابه:
_ لو سمحت يا جاسر بيه.. أنا مبحبش أشتغل مع ˝الكائن˝ ده!
قهقه رائد ساخرًا:
_ كائن؟! بتجيب الألفاظ دي منين؟!
صرخ عثمان، وقد بلغ الغضب حنجرته:
_ إحنا جايين نتحقق ولا نهزر؟ رائد.. استناني في العربية!
ثم التفت إلى فريقه، وقال بجديّة:
_ فرغتوا الكاميرات؟
رد جاسر:
_ لسه.
تغيّرت ملامح عثمان فجأة، وقال بنبرة حاسمة:
_ بسرعة.
ارتبك فارس، وردّ متلعثمًا:
_ حاضر.. حاضر.
انتقلوا بعدها إلى كل موقع وُجدت فيه جثة، يبحثون بعناء عن أي خيط قد يرشدهم للسفاح.
زفر فارس بإرهاق وهو يقرأ آخر سطر:
_ عصام أسامة.. آخر ضحية للسفاح حتى الآن.
أخذ نفسًا عميقًا، وأخرجه براحة، بينما رائد يربت على كتفه بقوة:
_ شكرًا على تعبك معانا.
في تلك اللحظة، كان مسجد مجاور يصدح بأذان العشاء. أخرج عثمان البوصلة الصغيرة من جيبه، وجعلها تشير باتجاه رأس الضحية، فوجدها تتجه إلى الجنوب الشرقي، حيث القبلة تمامًا.
ترك الجميع خلفه، واتجه نحو المسجد.
لحق به جاسر مستنكرًا:
_ رايح فين؟!
_ هصلّي العشا.
وبعد يوم طويل من التعب، توقفت سيارة عثمان أمام أحد البيوت. خرج رائد وهو يتثاءب من شدة النعاس، يحمل أوراق القضية:
_ تصبح على خير.
تنهد عثمان، وردّ بصوت متعب:
_ وإنت من أهله.
أدار المحرك، وعيناه غارقتان في تفكير. كانت خيبة الأمل تعتصر قلبه.. فقد اعتاد أن ينهي القضايا بمفرده، بلا شركاء، بلا فوضى. لكن بعد تلك الحادثة المؤلمة، وبعد عزوفه عن المهنة، دفعه والده للعودة، على أمل أن يستعيد ما ضاع منه.
لكنه كان يتساءل: كيف لذلك الأخرق —رائد— أن يعيده إلى مجده؟!
-
أمام ˝فيلا آل نصر˝..
فتحت الخادمة الباب فور توقّف السيارة، وانحنت قليلًا وهي تقول باحترام:
_ الحمد لله على السلامة، عثمان بيه.
أومأ لها بإيماءة خفيفة، وسألها وهو يخلع سترته:
_ سيرين جت؟
_ مدام سيرين فوق في الأوضة.
همّ بالصعود على السُلّم، لكن صوت الخادمة أوقفه:
_ عثمان بيه..
توقف ونظر لها باستفهام:
_ أمجد بيه طالب حضرتك في المكتب.
لم يلتفت، بل واصل صعوده قائلاً ببرود:
_ قولي له مش فاضي.. عندي شغل.
وقبل أن يُنهي عبارته، فُتح باب المكتب ليظهر والده، صوته جهوري ونبرته آمرة:
_ عثمان.. خمس دقايق، والقيك عندي.
لم يرد، بل واصل صعوده بصمت.
دخل غرفته بهدوء، ليجد سيرين، زوجته، جالسة على الأرض بجانب السرير، تحدّق في هاتفها بعينين مثقلتين بالحزن. جلس إلى جوارها، محاولًا رسم ابتسامة هادئة:
_ عاملة إي؟
ردّت دون أن ترفع عينيها عن الشاشة:
_ كويسة.
كانت تقلب صورًا قديمة.. لابنتهما، ثم توقفت عند فيديو كانت فيه الصغيرة تخطو خطواتها الأولى، تتمايل بين ضحكاتهم..
ترقّر الدمع في عيني سيرين، وبدت على وشك الانهيار.
مدّ عثمان يده ليضعها على كتفها مواسيًا، لكنّها أبعدت يده سريعًا وهي تقول بنبرة منكوبة:
_ كانت أيام حلوة.. صح؟
كانت.
تنهّد عثمان بحسرة:
_ آه، سيري..
لكنها لم تدعه يُكمل، فنهضت وأشاحت بوجهها قائلة:
_ مش مستنياك تشفق عليّ، عثمان.
تجمّدت ملامحه، وهمس:
_ أشفق عليكِ؟ سيرين، أنا..
قاطعته مجددًا:
_ إنت إيه؟ إيه الجديد؟ لو في حاجة جديدة، قولي..
بس مفيش، ومش هيبقى في بعد ٣ سنين، صح؟
وقف عثمان ببطء، وفتح باب الغرفة، متنهدًا:
_ معاكِ حق..
معاكِ حق.
-
دخل مكتب والده بهدوء، وجلس واضعًا ساقًا فوق الأخرى:
_ اتفضل، أمجد بيه.. كنت عايزني؟
كان أمجد يتصفح بعض الملفات، عابس الوجه، وقال بنبرة حادة:
_ أخبار القضية إيه؟ خلصت؟
رد عثمان بصوت خافت، فيه ضيق:
_ خلصت، آه..
ثم رفع صوته، ساخرًا وهو يلوّح بقدمه:
_ جاسر اللي بيشتغل فيها.. أنا لسه ما وافقتش أصلًا.
أغلق أمجد الملف بعنف، وانفجر صائحًا:
_ بس اللي أعرفه إنك وافقت! ده حتى إنت اللي أصريت تروح كل مكان حصلت فيه الجريمة!
ابتسم عثمان ابتسامة جانبية، وقال ساخرًا:
_ باين اللي بيوصّلك معلوماتي.. ممتاز أوي.
ثم وقف وهو يتوجه إلى الباب بملل:
_ كان نفسي تكرّس ذكاءك ده لحاجات تستحق.
_ زي مكان بنتك، مثلًا.
توقف عثمان فورًا، يده معلّقة على مقبض الباب، صوته انخفض:
_ تقصد إيه؟
أجابه أمجد، ونبرته تضغط على أضعف موضع في قلب ابنه:
_ والله، أنا بحاول أكون أب مسؤول..
الدور على اللي مش قادر يعمل كده.
ولا إنت خلاص؟ بنتك ضاعت من زمان؟ إيه لازمة..
قاطعته قبضة عثمان التي اشتدت على مقبض الباب، وصدره يعلو وينخفض، أنفاسه متسارعة..
لكنه خرج بصمت، يهرب من الحديث كما يهرب الجريح من سكينٍ تُدار في جرحٍ قديم.
اجتمعت أسرة جاسر في غرفة المعيشة، وسط سكون الليل، لا صوت يعلو فوق صوت الصغار يتشاجرون على جهاز التحكم.
كان هشام وآدم يخوضان معركة شرسة بالوسائد.
صاح آدم وهو يحاول انتزاع الريموت من يد أخيه:
_ يا بابا، خليه يديني الريموت!
ضحك هشام بوقاحة، ثم قفز على أخيه واضعًا الوسادة فوق وجهه:
_ لاااا، كان معاك طول النهار!
بدأت ملامح الانزعاج تظهر على وجه أريج، بينما رفع جاسر صوته بحزم:
_ هشام! آدم! كفاية!
تجمّد الطفلان في مكانيهما، وساد الصمت لبضع ثوانٍ، قبل أن ينغز هشام أخاه في جنبه بنظرة غيظ مكبوتة.
أدار جاسر بصره عن ولديه، ثم نظر لزوجته التي كانت مستلقية على الأريكة، وذهنها شارد:
_ هما ناويين يفرضوا حظر تجوّل صح؟
ردّت أريج بنبرة قلقة:
_ قرار مالوش معنى.. هيمنع إيه؟
أسندت خدّها على يدها، وأغمضت عينيها بتفكير عميق:
_ سمعت إن عثمان وافق.
فتح جاسر عينيه باستغراب:
_ آه.
رفعت حاجبها بدهشة ممزوجة بعدم التصديق:
_ واو.. عثمان وافق؟ بجد؟
وفي الطرف الآخر من الغرفة، همس آدم في أذن هشام:
_ بقلك إي؟
_ إيه؟
_ ما تيجي نلعب Basketball بدل ما إحنا قاعدين كده نتفرج على بابا وماما والشاشة مطفية؟
ضحك هشام:
_ ممم، ماشي.
لكن آدم استغل موافقته فورًا:
_ لو خسرت.. هتعزمني على إندومي!
رفع هشام حاجبه بدهاء:
_ وإيه اللي يضمن لي إنك مش هتقول لماما؟
ابتسم آدم ببراءة وهو يغمز له:
• No comment.
وقف هشام فجأة، وجذب آدم من يده:
_ ماشي، بس ما تتعودش أوي على كده!
-
وفي تلك الليلة، بينما أغمض البيت أجفانه ونام كل من فيه، فُتح الباب الأمامي للمنزل بهدوء، ودخلت فتاة بخطوات متسللة، تلتفت يمينًا ويسارًا كمن يخشى أن يُضبط.
همست لنفسها بارتياح:
_ الحمد لله.. نامت.
لكن صوتًا ناعمًا ممتزجًا بالغضب انبعث من الظلام:
_ كنتِ فين لحد دلوقتي؟
ارتجفت أرين، واضعة يدها على صدرها بفزع:
_ جِ.. جِيدا! إنتِ لسه صاحيّة؟
أضاءت جِيدا الأنوار بضغطة سريعة، ووقفت تنظر إليها بنظرة تحمل ألف سؤال:
_ وهو مين اللي المفروض يسأل السؤال ده؟!
صمتت أرين قليلًا، تفكر في مخرج لتغيير الموضوع.. ثم تهلّلت فجأة وقالت:
_ أداااا..
رمشت جِيدا باستغراب:
_ أدا إيه؟!
تقدّمت أرين وأمسكت يد جِيدا، ثم أدارتها برفق لتُظهر لها ما ترتديه:
_ إيه البيجامة الحلوة دي؟!
ابتسمت جِيدا، ورفعت يدها كأنها تعرض تحفة فنية:
_ آه شُفتي؟! أنا حلوة إزاي!
ضحكت أرين، ثم مالت بجديّة مصطنعة:
_ طب.. ينفع كده؟
تغيّرت ملامح جِيدا:
_ ينفع إيه؟
• ينفع الحلوة تقعد لحد دلوقتي سهرانة؟!
أومأت جِيدا برأسها، وقد فهمت مقصدها هذه المرة:
_ صح، معاكي حق.. لازم أنام.
_ برافو، حبيبتي.. يلا، تصبحي على خير.
ابتسمت أرين ابتسامة المنتصر، بينما دخلت جِيدا إلى غرفتها كمن قُيّد بمكر طفولي ساحر.
خرج من المصعد ووقف أمام باب الشقة، يطرق عليه وكأنه يدق طبول مهرجان.
استيقظ كامل متثاقلاً، وهو يلعن في سرّه هذا الصوت الذي اقتحم عليه أجمل أحلامه.
فتح الباب، ليجد أمامه ماهر، مبتسمًا ببلاهة، يدخل بلا استئذان وكأن البيت بيته:
_ زيك يا أبو الصحااااب!
رمش كامل، ما زال غير مستوعب:
_ إنت بتعمل إيه هنا؟
جلس ماهر على الأريكة، ممددًا ذراعيه بتراخٍ:
_ وحشتني، قلت مقدرش أقضي الإجازة من غيرك.. وبعدين في سفاح، وأنا بخاف.
رفع كامل حاجبيه:
_ نعم؟!
_ بخاااف.
نظر كامل إليه باستغراب أكبر:
_ طب.. أبوك عارف إنك عندي؟
تفكّر ماهر لحظة، ثم هز رأسه نافيًا:
_ أمم.. لا.
تنهد كامل بضيق، يحاول أن لا يصرخ:
_ طب رنا قاعدة عند لينا عشان مامتها مسافرة، إنما إنت جاي تتنطط فوق دماغ أمي ليه؟!
وقف ماهر ممسكًا رأسه وكأنه يقبّلها، وقال بصوت درامي:
_ ألف سلامة على دماغك يا حاجة أم كامل.
أبعده كامل عنه، وقال بنفاد صبر:
_ يلا بقى، مش هتحاضر أوضة؟ ولا هتبات على الكنبة؟
تحرك ماهر كأن الأمر نصرٌ عظيم، وأطلق همسة بصوت منخفض وهو يبتسم بخبث:
_ ابقى وريني هتنزل إزاي.
رن هاتفه، فظهر اسم ˝رنا˝. أجاب بكسل:
_ ألو؟
في مكانٍ آخر، كانت رنا تجلس بمفردها في أحد المقاهي، تشرب العصير وهي تنظر للشارع:
_ أنا وصلت على فكرة.
رد ماهر:
_ ماناااا مش هعرف أجي.
_ ليه؟
قال وهو يتحرك في أنحاء الشقة بخفة حتى لا يوقظ أحدًا:
_ أنا عند كامل.
زفرت رنا بغيظ، وارتدت حقيبتها بتوتر:
_ ماشي يا ماهر، برحتك.
أغلقت المكالمة بعصبية، ثم فتحت باب السيارة وألقت بالحقيبة على المقعد الآخر، تتمتم بغيظ:
_ مش عارفة كامل اي اللي قرفني بيه كل شويه !
أما ماهر، فنظر لهاتفه بعد أن أغلقت الخط، وحدّث نفسه:
استيقظ عثمان على صوت هاتفه، أجاب بنعاس وصوت مبحوح:
_ إيه الحاجة المهمة اللي مش قادرة تستنى لحد ما أجي تقولها لي؟
جاءه صوت رائد، متوترًا وهو يجهّز حقيبته:
_ آسف، كينج بيه، بس في حاجة مفهمتهاش في الورق.
تقلب عثمان على الأريكة بضيق:
_ إيه هي؟
_ الورق بيقول إن الجرح.. في ˝صدى˝.
رفع عثمان حاجبه باستغراب:
_ صدى؟ يعني إيه صدى؟
_ صدى.. صدى حديد.
حك عثمان جبهته وهو يفكر:
_ تمام.. في حاجة تانية؟
_ آه.. كل التقارير بتاعة الضحايا العشرة بتقول إن الجرح في نفس المكان: أسفل يمين المعدة، يبعد عن الكبد بحوالي خمسة سنتي، والجرح هو اللي سبب الوفاة..
بس الأغرب.. مفيش أي آثار خدوش، ولا مقاومة، ولا تعذيب..
يعني مش زي ما الناس قالت، ده.. سفاح فعلًا.
ابتسم عثمان ابتسامة جانبية، وعيناه تحملان بريق حماسة قديمة..
كأن شيئًا ما في صدره اشتعل من جديد:
_ تمام.. أنا جاي لك.
أغلق الهاتف، ونظر لزوجته النائمة.
تقدّم نحوها، وركع على ركبتيه بجوار السرير، يمرر يده على شعرها ببتسامه مكسوره، ثم نهض، وفتح الباب ليجد والدته أمامه.
خرج كامل من غرفته، يحك عينيه بنعاس وانزعاج من ذلك الصوت العالي الذي شقّ سكون الصباح.
وقف مذهولًا أمام صديقه ماهر، الذي كان يشغل الموسيقى بأقصى صوت، يغني ويرقص وكأنه في حفلة.
صرخ فيه كامل، غاضبًا:
_ ماهييييييييير!
لكن ماهر لم يكن يسمعه، مستغرقًا في طربه، يهز رأسه مع النغمات.
اندفع كامل نحو الهاتف، أوقف الموسيقى وهو يصرخ بوجهه:
_ إنت اتجننت؟! الساعة سبعة الصبح! الناس نايمة، وإنت مشغّل أغاني وبتغني؟!
لوى ماهر شفتيه بانزعاج طفولي:
_ نايمين؟! النهاردة الاتنين..
قاطعته نظرات كامل، التي كانت كافية لإشعال النار.
اقترب منه بصوت مهدد:
_ ماهر، متختبرش صبري.. لمّ حاجتك، واطلع برّا.
وضع ماهر يده على صدره، وبدأ يتحدث بصوت متهدّج كأنه يمثل مأساة على مسرح:
_ بتطردني؟ من بيتك؟!
بتعيرني عشان معنديش بيت اعيش فيه، وانا يتيم؟!
أبويا وأمي ماتوا في حادث توكتوك!
أخص عليك يا كامل..
ثم بدأ في البكاء الزائف، يمسح دموعًا وهمية وهو يجمع أشيائه.
نظر له كامل بدهشة، فاغرًا فمه:
_ يخرب بيتك.. ده أنا صدّقتك!
وبعدين.. يحيى الصياد يركب توكتوك؟!
رفع ماهر حاجبه:
_ هو ده اللي فارق معاك؟ مش فارق معاك إني يتمت؟!
أمسك كامل بيده، ساحبًا إياه للداخل:
_ خلاص، متِمشيش.
أنزل ماهر رأسه، ينظر إلى الأرض بانكسار:
_ مش هقدر.. كرامتي مش هتسمحلي.
ذهب كامل إلى الثلاجة، يتمتم بغيظ:
_ كرامتك.. خش اقعد يا عم.
عاد ماهر مبتسمًا بسعادة طفولية، يحتضنه:
_ حبيبي.. هي دي الصداقة!
يلا روح اعملي فطار.
أبعده كامل عنه، يتنهّد من تصرفاته:
_ خايف أندم إني خليتك تبات.
مرت الساعات، وكامل لا يزال في غرفته، ينتظر نوم ماهر كمن ينتظر معجزة.
وبالفعل، دخل ماهر إلى الغرفة، جلس على طرف السرير وهو يتثاءب:
_ بقلك إيه.. أنا هنام.. تصبح على خير.
ابتسم له كامل بخبث:
_ وانت من أهله.. يا حبيبي.
أغمض ماهر عينيه، وما إن تأكّد كامل من نومه، حتى تسلّل بهدوء وفتح باب البيت، يتمتم لنفسه:
في تلك اللحظة، كانت أرين عاجزة عن التحرّك وسط الزحام، بينما الشرطة تمنع الصحفيين من التقدم.
قال أحد الواقفين بجوارها:
_ بيقولوا في ظابط اتقتل.
أما عثمان، فكان يدور ببصره في المكان، ثم فجأة.. تجمّدت عيناه.
رآها.
وجهٌ مألوف..
ملامح ابنته.. نفس العينين، نفس الملامح، نفس النظرة التي لم تفارقه في الكوابيس.
تحرك نحوها كالمسحور، رافعًا الشريط الأمني، لا يشعر بأحد، لا يسمع أحدًا.
شقت أرين طريقها وسط الزحام..
لكنها اختفت.
توقف عثمان في مكانه، يضع يده على رأسه، يسحب خصلات شعره بتوتر، يتنهّد بصوتٍ ثقيلٍ يخرج من قاع قلبه، ولسانه عاجز عن البوح بما في صدره.
غابت الشمس، وغاب معها عثمان..
لاحظ جاسر تأخّره، اتصل به، لكن الهاتف لا يجيب..
كانت جِيدا قد وضعت طفلتها على السرير، وذهبت لتجلس أمام التلفاز، تبحث عن لحظة هدوء بعد يومٍ طويل.
استندت بيدها إلى ذراع المقعد، فسقط سوار على الأرض، سوار تعرفه جيدًا.. إنه سوار أرين.
انحنت تلتقطه، وعيناها تتأمله بدهشة، ثم تقلّب السوار بين أصابعها..
كان هناك شيء غريب.. نقش لم تلاحظه من قبل.
ضاقت عيناها وهي تهمس في نفسها:
_ إيه ده؟.
شعور غريب تسلل إلى قلبها..
هل أخفت أرين شيئًا؟
هل هناك ما لا تعرفه عنها بعد؟
___________________
استيقظ ماهر وهو يشعر بجفاف في حلقه، يتمتم وهو مغمض العينين:
_ كاااامل.. كاااامل هاتلي كوباية ميه..
لم يرد أحد.
جلس على السرير، يتلمس الظلام، وخرج من الغرفة نحو المطبخ، فتح الثلاجة، شرب الماء، ثم بدأ يبحث في أنحاء الشقة.. لكن كامل لم يكن موجودًا.
بدأ التوتر يتسلل إلى نبرته:
_ كاااامل؟.. إنت فين؟!
ظل يبحث في كل الغرف، حتى فقد صبره، ألقى كوب الماء بقوة على الأرض، وتحطّم.
صرخ بعصبية:
_ ياااا حيوان!
خرج من الشقة، يغلي غيظًا، يبحث عن صديقه في كل مكان، حتى قادته قدماه إلى شارعٍ مظلم، لا يضيئه سوى مصباح يتيم يخفت ضوؤه كأنّه يلفظ أنفاسه الأخيرة.
بدأ ماهر في الغناء، يقتل بها صمت الليل المُرعب:
_ كنت ماشي في الطريق.. نانانا..
توقف فجأة، يضرب رأسه:
_ إيه الهبل اللي أنا فيه ده؟!
ثم أكمل بابتسامة ساخرة:
_ كنت ماشي في الطريق.. نانانا.. عديت علـ—
وقبل أن يكمل..
اصطدم بأحد المارّة.
وقع على الأرض، يرفع عينيه متأففًا:
_ مش تحاسب يا عم إنت؟!
لكن الكلمات تحجّرت في حلقه..
تحت الضوء الخافت.. رأى سكينًا في يد الرجل، سكين ملطّخة بالدماء.
تراجع بجسده، وأدرك على الفور..
تحوّلت عينيه إلى جمرتين من الرعب، تجمّد الدم في عروقه.
لكن فجأة..
انفجر في الركض!
ركض بأقصى ما يملك، يتلفت خلفه، والسفاح يسير بخطى هادئة، لا يركض.. كأنه يعلم أن فريسته لن تنجو.
ماهر يلهث، يرتعش، يركض بين الأزقة، إلى أن..
تعثر.
سقط على الأرض، قدمه تلتوي تحت جسده، يصرخ بألم:
_ لاااا.. مش وقتك خالص!!
يحاول الوقوف.. ولكن القدم لا تساعده.
نظر خلفه.. السفاح يقترب.. وببطءٍ قاتل.
السكين تلمع تحت الضوء، ووجه السفاح يختفي في الظلال.
❞ قررت أكتب الكلمات دى بدون تزيين أو تعقيد أو حتى تعديل .....
لازمتها ايه كلمة أسف بعد ما تعمل حاجة تزعلنى ؟!
لازمتها ايه ما كنتش أقصد بعد ما كنت قادر وقاصد تجرحنى ؟!
لازمتها ايه ما كنتش أعرف وانت عارف ومتأكد إن تصرفك ده بالذات هيجرحنى .
وازاى تقدروا تخونوا وتجرحوا و تخذلوا و تبيعوا العيش والملح وتسيبونا وتمشوا وبعد كده تحسوا بالذنب و تحسوا بقيمتنا ... وقد ايه كنا مخلصين و بنتعامل بأصلنا وكنا طيبين أوى وعلى نيتنا فترجعوا تانى !! وقال ايه مستنين نرجع زى زمان .. طب لو لسه فى قلبنا حب ليكم ، هنأمن تانى إزاى ؟!
كسر الخواطر مش سهل و مش هين ، المظلوم أوقات مش بيقدر ينام من كتر الوجع ولحظات الوجع والصدمة والخذلان ما بيتنسيش نعفو عن الذنب ولكن الود لن يعود ، فيه ناس بنعدى ليها أكتر من مرة وفيه ناس بنقفل وراها الباب من أول مرة لأن وجعهم علم فى قلوبنا ، أوقات بكون محتاجين ناس تفهمنا ، تحبنا زى ما احنا ، تطبطب علينا والوقت ده بالذات مش بتلاقى حد جمبك إلا نفسك .. بالله نستعين ، الكل يقولك مفيش حاجه تستاهل انسى ... عدى .. مكبر الموضوع ليه .. ولما تسكت وهما واثقين إنك مقسوم نصين يسألوك مالك ؟؟ فضفض .. اتكلم .. احكى هون على نفسك.. بس الأفضل ما تتكلمش . لأن فيه ناس بتكون عايز تتأكد إنك بتتألم .. عايزة تتطمن إنك موجوع .. سيبها على الله واقفل على نفسك و حياتك وقلل بشر علشان ترتاح وكل الصدمات اللى كنت مفكرها بتقويك تأكد إنها كانت بتقتل فيك بالبطئ .
بقلم علا سمير ✍️
......... ❝ ⏤علا سمير
❞ قررت أكتب الكلمات دى بدون تزيين أو تعقيد أو حتى تعديل ...
لازمتها ايه كلمة أسف بعد ما تعمل حاجة تزعلنى ؟!
لازمتها ايه ما كنتش أقصد بعد ما كنت قادر وقاصد تجرحنى ؟!
لازمتها ايه ما كنتش أعرف وانت عارف ومتأكد إن تصرفك ده بالذات هيجرحنى .
وازاى تقدروا تخونوا وتجرحوا و تخذلوا و تبيعوا العيش والملح وتسيبونا وتمشوا وبعد كده تحسوا بالذنب و تحسوا بقيمتنا .. وقد ايه كنا مخلصين و بنتعامل بأصلنا وكنا طيبين أوى وعلى نيتنا فترجعوا تانى !! وقال ايه مستنين نرجع زى زمان . طب لو لسه فى قلبنا حب ليكم ، هنأمن تانى إزاى ؟!
كسر الخواطر مش سهل و مش هين ، المظلوم أوقات مش بيقدر ينام من كتر الوجع ولحظات الوجع والصدمة والخذلان ما بيتنسيش نعفو عن الذنب ولكن الود لن يعود ، فيه ناس بنعدى ليها أكتر من مرة وفيه ناس بنقفل وراها الباب من أول مرة لأن وجعهم علم فى قلوبنا ، أوقات بكون محتاجين ناس تفهمنا ، تحبنا زى ما احنا ، تطبطب علينا والوقت ده بالذات مش بتلاقى حد جمبك إلا نفسك . بالله نستعين ، الكل يقولك مفيش حاجه تستاهل انسى .. عدى . مكبر الموضوع ليه . ولما تسكت وهما واثقين إنك مقسوم نصين يسألوك مالك ؟؟ فضفض . اتكلم . احكى هون على نفسك. بس الأفضل ما تتكلمش . لأن فيه ناس بتكون عايز تتأكد إنك بتتألم . عايزة تتطمن إنك موجوع . سيبها على الله واقفل على نفسك و حياتك وقلل بشر علشان ترتاح وكل الصدمات اللى كنت مفكرها بتقويك تأكد إنها كانت بتقتل فيك بالبطئ .
بقلم علا سمير ✍️. ❝
❞ \"الفصل الرابع \"
بعد انا تعدت حمات نور بضرب عليها بقلبها عديم الرحمة ،حدث لنور نزيف و سقطت أرضاً جمعت نور قوتها وإتصلت بزوجها واخبرته بما حدث وأن يأتى مسرعاً لإنقذها ،قام زوجها ذو القلب القاسى بالاتصال بأخته لإنقاذ زوجته جاءت أخته بلاه مبلاه و اخبرتها بأن تذهب معاها للطيب ولكن رفضت نور ذلك .
أعرف أنك تسأل نفسك يا عزيزى لماذا لم تخبر نور أهلها او تتصل بهم ،أنتم تعرفون أن نور ذو طيبة رهيبة وقلب رحيم لم ترد ابدا أن تكسر قلب أبيها و أمها علة زيجتها وفضلت الصمت والتحمل من أجل تأسيس أسرة لها.
رجع زوج نور وحماها من السفر ولكن بطبع عندما أخبرتهم نور بما حدث نكرت حماتها ما حدث تمام ،ونور لم يحدث لها سوى نزيف لم تفقد ذالك الجنين ،وكان هذا الطفل متمسك برحم أمه عوضا لها بما مرت به من فقدن فى الحياة من رحمه مازال يريد أن يكون لها سندا وعوضا و رحمة.
وفى يوم من الايام أراد الله كشف ذالك الكذب و فتح ستائر خداع تلك الأم الكاذبة : كانت حمات نور تلقى عليها الشتائم و الضرب المبرح و فى ذلك الوقت دخل عليها حماها و زوجها و كشفوا كذب حماتها و صدق نور وأنها نقية القلب .
أنصدم الجميع من رؤيه المشهد تلك الحماه قسيه القلب تتعدى بالضرب علي زوجه أنها الحامل فى حفيدها تشتمها بأبشع الالفاظ .
ولكن هذه المره أراد الله أن يخبر نور أنه بجانبها وليست بحاجه لاخبار أهلها وكشف كذب حماتها قام حمى نور بطرد زوجته من المنزل و قال لها بأنه ليس لها مكان حتى ترجع لعقلها.
اعتذر حمى نور من نور حمدت نور ربها أن حقها قد عاد وأنها لن تتلقى الألفاظ البشعه و الضرب كل يوم.
ولكن لم ننتهي هنا يا عزيزى القارئ: فى يوم من الأيام كانت نور تجلس مع زوجها و حماها فى المنزل العائلى بالأسفل و كانت تغلى لهم اللبن و قدمته لهم، بعد ذلك تركت زوجها بالأسفل مع حماها و ذهبت لكى تعد نفسها و تأخد حمامها بعد يوم شاق و مرهق لها نور معتاده على الذهاب للحمام بملابسها ولكنها علمت أن الوقت مبكر على طلوع زوجها لمنزلهم فأخذت حمامها سريعا وونست فى ذلك اليوم أخذ ملابسها فتذكر ذلك بعد الانتهاء من الحمام فقامت بلف برنس الحمام عليها لطلوع فهى مطمئنه أن زوجها لن يأتى الآن ولكن هيهات عند خروجها انصدمت أن زوجها يقف أمام وجهها و ممسك بهاتفها ووضعه أمامها ووقال لها ما هذا ؟
اجابته نور : ماذا؟
زوجها شريف : لما تحدثين خالك على الهاتف؟
ما حدث هو أن نور تتحدث مع خالها كعادتهم فقال لها ماذا تفعلين اجابته اعد اللبن لبابا و زوجى قال لها هل ابيكى عندكم حدثتهم على الواتس اب لا بل هو اب زوجى وانا اللقبه بأبى.
فقال لها خالها : لا تلقبى حماكى بأبى فقالت له حسنا وضحكت نور ،هو هزار بينهم كعادتهم.
عند نور و زوجها الغاضب: ماذا يوجد انه خالى و دائما نتحدث ليس من حقك منعى من محادثة أسرتى؟
زوجها الغاضب: كيف تحدثينى بتلك النبره و قام بتعدى عليها بالضرب و هيا لا ترتدى سوى برنس الحمام قام بضربها كانت تبكى من الوجع من الضرب انهارت ووقالت له حسبى الله ونعم الوكيل فيك و في اهلك .
ولكن هذا لم يهدئه هذا زاد الطين باله ،قام بإحضار عصايه المقشه و قام بضربها بها كيف له أن يكون فى قلبه رحمه ؟ كسرت المقشة على زوجته إلى ٥ قطع على جسدها، عند نور ؛ نور لم تشعر بجسدها من الضرب استسلمت فهى لم تعد تشعر سوا بنزيف لم تشعر بألم هل اعتادت ؟ أم جسدها فقد الشعور ؟
بعد أن أنتهى ذو قلب أسود من الضرب قام بتركها بمفردها ملاقاه على الارض ونزل إلى منزل ابيه .
جمعت نور قوها وغسلت جسدها الملئ بالكدمات لان برنس الحمام سقط أثناء الضرب و هذا سبب لها أن يكون آثار الضرب واضح على جسدها.
بعد أن غسلت جسدها قامت بأرتداء عباية خروج و نزلت متجهه لبيت أهلها ،قابلها ذو قلب قاسى عديم الرحمه و قال اذا ذهبتى لمنزل اهلك تكونى مطلقة.
جلست نور على عتبه المنزل من العشاء حتى الخامسة فجرا تفكر ماذا تفعل؟
هل تترك المنزل و تصبح مطلقه وحامل بطفل و تعود لاهلها بولد بدون اب ؟
أم تجلس و تتحمل الإهانات و تصبر على نفسها و زوجها؟
أخذت القرار بنفسها أن تبقى و تصبر لعل العقل يعود لزوجها عديم الرحمة و لكن لا ينقصه العقل ينقصه الرحمة و الموادة.
وعند طلوعها لمنزلها قابلت حماها و قال لها هل اتصل بأهلك لكى يأخذوكى للطيب قالت لا لا اريد ان يعلم أهلى ما حدث لى.
كيف لها أن تقول له أبى وهم لم يفعل لابنه شئ عندما اذها او حتى يعاتبه؟
بعد ما حدث حاول زوجها التحدث معاها و التظاهر بأن لا شئ قد كان ولكنها لم تقبل.
بعد اسبوع ذهبت نور لمنزل أهلها لكى تبات عندهم يوم كعادتها ، نور ارتدت عباية و ذهبت و لكن لم تريد أن ترتدى بجامه كعادتها حتى لا يظهر آثار ضرب زوجها لها و اخبرتها أمها مرار أن ترتدي بجامة و لكن رد نزر انها مرتاحه أكثر فى العباية، سألت أم نور نور : ما هذا الورم اللذى يوجد فى وجهها ؟ قالت نور أنها قد اتخبطت فى وجهها ليس أكتر.
ماذا ستفعل ولدتها اذا رأت جسدها؟
بعد فتره عادت حماتها لمنزل مره آخرى و علمت بما فعله ابنها مع زوجته و كانت شامته بها و فرحه جدا كما انها كانت تسخن عليها زوجها و تشجعه على اهانتها.
وفى يوم قالت حماتها ذو قلب قاسى لنور أن تذهب و تمسح ترابزين المنزل قبل أن تفعل نور ذلك عاد زوجها لقد كان فى القاهره من أجل العمل .
تركت نور التربزبن وقالت إنها سوف تفعله و لكن بعد أن تجهز لزوجها الطعام و ملابسه.
عدت نور الطعام لزوجها و جهزت له كل شيء وانشغلت فى أعمال اخرى.
استغلت حماتها تلك الفرصه لافتعال المشاكل و المكائد لنور و أخبرت ابنها أن زوجته رفضت مسح التربزبن و قامت برد عليها بوقاحه .
ذهب زوجها إلى نور و قال لها لماذا رفضتى مسح التربزبن كما اخبرتك امى ؟
و لماذ رددت عليها بوقاحه؟
اجابته نور : لم افعل ذلك فقد إنشغلت فى أعمال اخرى
وتركته و صعدت لمنزلهم فوق و عند غلق باب منزلهم من الهواء اقفل الباب بشده .
صعد شريف خلفها : و قال هل تقفلين الباب فى وجهى أنا وامى أجابت نور اقفل فى وجهكم كيف انتم تجلسون بالأسفل وانا فى الطابق الثاني و الباب قد اقفل من الهواء ،كيف أقفلت بوجهكم؟
كانت نور تتحدث عند دولاب الغرفه ووشريف يقف عند باب الغرفة.
عندما تحدث نور هكذا فى لمح البصر لاقت شريف خلفها و امسكها من شعرها بكت نور بحرقة على كلها و قالت بقهر لماذا تتعامل معى هكذا انت وولدتك لم أفعل لكم شئ ؟ قال لها انتى المخطئة اجابته أنها لم تفعل شئ خاطئ و قالت انتم من تظلمونى ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء ، بعد تلك المقولك
لم تشعر نور سواء بكسر ذراعها اليسرى لقد خلعه من كتفها من شده غضبه ، ثم ألقى عليها بالضرب على عينها اليمنى حتى باظت من الكدمات و جسدها أصبح ملئ بالدماء و كان يضربها بقسوه و كأنه يريد التخلص منها و من ابنهم في نفس الوقت جعل جسدها ينزف و تركها كعادته قامت نور و لبست عبائه للذهاب إلى منزل اسرتها طفح الكيل لقد تخطت أقصى تحملها لم تعد تتحمل بعد وعند نزلوها لمنزل حماها و حماتها و جدت حماتها تجلس على الكنبة وتبتسم فى وجهاها بشماتة و تتلاعب بقدمها للأمام والخلف.و قالت إنها ستذهب لمنزل اسرتها، وجدت حماها امسكها من زراعها و قال يكفى انت ووزوجك كل يوم تفرجون الناس علينا يوميا بعدها وجدت زوجها يضربها من الخلف و ابيه يمكسها و كأن أب زوجها يمكسها لزوجها لكى يضربها.
تركتهم و قالت لن اجلس بعد اليوم سوف اذهب ،خرج معها حماها و قال اذهبى من ذلك الطريق ليس من الطريق العمومى لا تفرجين الناس علينا يكفى و تركها بدل ان يوصلها وهو يعلم أن نور لا تعرف شئ سوء الطريق العمومى و ان المنطقه غريبه عليها .
ذهب نور من ذلك الطريق وهيا لا تعرف كيف تهب من حوارى كلها سواد حتى عثرت فى طريقها على طفلين يلعبون و قالت لهم كيف تذهب إلى الطريق العمومى وادلها الطفلين على الطريق استغرقت نور فى الطريق وقت طويلا و أثناء سيرها قابتلها صديقه أمها وجيرانهم وهيا تعلم ما يجرى مع نور و كانت تخبر أمها من خلف نور و نور لا بذلك اتصلت تلك المرأه بوالده نور و قالت لها أن تلحق ابنتا ابنتها تسير فىالشارع و جسدها ملئ بدماء و عينها ورمه.
اتصلت أم نور برقم نور لتعرف مكانها ولكن زوجها اخد منها هاتفها قبل رحيلها رد عليها زوجها شريف قلت الأم له أين ابنتي .
قال : لا أعلم داورى على بنتك الصايعه اللى سابت البيت و قالت رايحه عندكم ومش وصلت شوفى فين ده كلوا و قام بشتمها.
ردت الأم:و قامت بشتمه هيا الاخرى ولم تسكت و ردت له الاهانه و اغلقت الخط.
خرج حماه نور للبحث عنها فى الشوارع المجاوره بمكنته و جدها تسير قال لها لماذا كل هذا التأخير لماذا تتلكعين فى المشى؟
لم ترد عليه نور فهى متعبه من شده الضرب.
اركبها توكتوك لإيصالها لمنزل أهلها.
وعندما وصلت اجتمع رجال بيت نور و جلسوا معاها و عرفوا كل شئ منذ الزواج حتى اليوم ووكيف لها تعرضت لضرب المبرح و الإهانات.
قررت نور رفع قضيه على زوجها و تعبت ولم تقدر على التظاهر بالقوه ذهبت للمشفى و شخص الدكاتره حالتها: لقد تعرضت لشرخ بالجمجمه بالاضافه لخلع فى الزراع و الكدمات و قال الدكتور انتي فى شهرك الرابع و لا يمكن ان تلدى عليكى الاستحمال قليل فقط و اعطوها مسكنات، رفعت نور قضيه على زوجها و كان سوف يسجن ولكن رجال عائلتها قالوا لها أن تتنازل لان شرط طلاقها من زوجها سريعا أن تتنازل عن القضيه و بالفعل تنازلت.
طلبت نور من أبيها بعد حصولها على فلوسها من زوجها و دهبها أن يأخد كل ممتلكاتها و أن يرحلوا من تلك البلد و يذهبون للمدينه افضل لهم و بالفعل نفذ ولدها طلبها بعد ١٠ أيام من طلاقها و قد بدأت نور شهرها الخامس من الحمل.
ذهبوا لمنزلهم الجديد فى المدينه منذ دخولهم لشهر كامل كانت نور التعب يزداد عليها يوما بعد يوم .
حتى علمت نور بخطبه محمد حبيب قلبها قرة عينها نزل عليها الخبر كالصاعقة.
اتصلت نور على محمد و حدثته وقالت الوا.
محمد قال : من
قالت : من تعبتها لمده ٣ سنوات من اذقت العذاب طوال هذه المده من كرهت حياتها منذ رحيلك.
أجاب محمد: انا ام انتى انا من تقدمت لكى اكثر من ٤ مرات و يخبرونى انك رافضه الرجوع ،انتى من بعت لها قربيتى و صديقتك مرسال لمى ترفضين المضى على القايمة و الزواج قبل وصلولى بسعات وانتى رفضتى.
أجابت نور بصدمه: لم يخبرنى احد لن اعرف بكل هذا .
قربت محمد و صديقه نور كانت خبيثه كانت تحب محمد لذلك لم تخبر نور بالرفض وان محمد قادم من أجلها لأنها كانت تريد أن يتزوجها محمد .
كانت المكالمة بين نور ومحمد مكالمه عتاب و عذاب كل منهم يخطئ الأخر.
قفلت نور مع محمد واتصلت بأعز صديقتها وقالت لها ما حدث معها و ما قاله محمد لها ووانهارت بالبكاء.ظلت تتألم و تعبت كثير حتى حل الصباح و لم تقدر على للصمود ذهبت للمشفى و قال الطيب للأسف انتى في شهرك ال ٦ مند ١٠ أيام فقط ولكن يجب أن تلدى لن تستطيعى الصمود هناك خطر على حياتك دخلت العمليات ليولد ذلك الجنين صاحب الشهر الخامس و ١٠ أيام من السادس فقط ظلت نور فى غرفه العمليات لمده ٣ سعات بدل من نصف ساعه و كانت كيسرى.
ولد طفل و كانت كل ما تقوله اريد رؤيه محمد ولكن لم يفهم أهلها أنها تقصد محمد حبييها وليس محمد ابنها للن إبنها كانت تريد تسميته محمد أيضا.
فاقت و قبل رحولها من المشفى صممت على رؤيه ابنها ولكن الدكاتره لم تسمح لها سوى رؤيته من خارج الحضانه وليس من الداخل.
بعد خمس ايام من الولاده وجدت نور عمها و باقى الاسره مجتمعه استغربت نور من التجمع حولها و التحدث معها أن إيمانهم من قوى فهمت معنى حديثهم توفى من تحملت الضرب و الاهانه و المذلة توفى إبنها قبل أن تحمله توفى قبل أن تشعر معه بالامومه توفى قبل أن تسمع منه ماما توفى قبل أن تسمع صرخات بكائه توفى من ظنت انه سيكون لديها سندا عوضا على عذابها .
قالت لهم لقد فهمت مقصدكم حسنا ظلت تبكى و تتألم على أيامها و عذابها و موت ابنها.
فهل بعد الصبر جبر و الزواج من محمد و حياة سعيدة بعد معاناه أم هناك مأساه آخرى...يتبع.
بقلمى:دنيا أشرف \"همس الليل \"
#عذاب. ❝ ⏤دنيا أشرف
❞ ˝الفصل الرابع ˝
بعد انا تعدت حمات نور بضرب عليها بقلبها عديم الرحمة ،حدث لنور نزيف و سقطت أرضاً جمعت نور قوتها وإتصلت بزوجها واخبرته بما حدث وأن يأتى مسرعاً لإنقذها ،قام زوجها ذو القلب القاسى بالاتصال بأخته لإنقاذ زوجته جاءت أخته بلاه مبلاه و اخبرتها بأن تذهب معاها للطيب ولكن رفضت نور ذلك .
أعرف أنك تسأل نفسك يا عزيزى لماذا لم تخبر نور أهلها او تتصل بهم ،أنتم تعرفون أن نور ذو طيبة رهيبة وقلب رحيم لم ترد ابدا أن تكسر قلب أبيها و أمها علة زيجتها وفضلت الصمت والتحمل من أجل تأسيس أسرة لها.
رجع زوج نور وحماها من السفر ولكن بطبع عندما أخبرتهم نور بما حدث نكرت حماتها ما حدث تمام ،ونور لم يحدث لها سوى نزيف لم تفقد ذالك الجنين ،وكان هذا الطفل متمسك برحم أمه عوضا لها بما مرت به من فقدن فى الحياة من رحمه مازال يريد أن يكون لها سندا وعوضا و رحمة.
وفى يوم من الايام أراد الله كشف ذالك الكذب و فتح ستائر خداع تلك الأم الكاذبة : كانت حمات نور تلقى عليها الشتائم و الضرب المبرح و فى ذلك الوقت دخل عليها حماها و زوجها و كشفوا كذب حماتها و صدق نور وأنها نقية القلب .
أنصدم الجميع من رؤيه المشهد تلك الحماه قسيه القلب تتعدى بالضرب علي زوجه أنها الحامل فى حفيدها تشتمها بأبشع الالفاظ .
ولكن هذه المره أراد الله أن يخبر نور أنه بجانبها وليست بحاجه لاخبار أهلها وكشف كذب حماتها قام حمى نور بطرد زوجته من المنزل و قال لها بأنه ليس لها مكان حتى ترجع لعقلها.
اعتذر حمى نور من نور حمدت نور ربها أن حقها قد عاد وأنها لن تتلقى الألفاظ البشعه و الضرب كل يوم.
ولكن لم ننتهي هنا يا عزيزى القارئ: فى يوم من الأيام كانت نور تجلس مع زوجها و حماها فى المنزل العائلى بالأسفل و كانت تغلى لهم اللبن و قدمته لهم، بعد ذلك تركت زوجها بالأسفل مع حماها و ذهبت لكى تعد نفسها و تأخد حمامها بعد يوم شاق و مرهق لها نور معتاده على الذهاب للحمام بملابسها ولكنها علمت أن الوقت مبكر على طلوع زوجها لمنزلهم فأخذت حمامها سريعا وونست فى ذلك اليوم أخذ ملابسها فتذكر ذلك بعد الانتهاء من الحمام فقامت بلف برنس الحمام عليها لطلوع فهى مطمئنه أن زوجها لن يأتى الآن ولكن هيهات عند خروجها انصدمت أن زوجها يقف أمام وجهها و ممسك بهاتفها ووضعه أمامها ووقال لها ما هذا ؟
اجابته نور : ماذا؟
زوجها شريف : لما تحدثين خالك على الهاتف؟
ما حدث هو أن نور تتحدث مع خالها كعادتهم فقال لها ماذا تفعلين اجابته اعد اللبن لبابا و زوجى قال لها هل ابيكى عندكم حدثتهم على الواتس اب لا بل هو اب زوجى وانا اللقبه بأبى.
فقال لها خالها : لا تلقبى حماكى بأبى فقالت له حسنا وضحكت نور ،هو هزار بينهم كعادتهم.
عند نور و زوجها الغاضب: ماذا يوجد انه خالى و دائما نتحدث ليس من حقك منعى من محادثة أسرتى؟
زوجها الغاضب: كيف تحدثينى بتلك النبره و قام بتعدى عليها بالضرب و هيا لا ترتدى سوى برنس الحمام قام بضربها كانت تبكى من الوجع من الضرب انهارت ووقالت له حسبى الله ونعم الوكيل فيك و في اهلك .
ولكن هذا لم يهدئه هذا زاد الطين باله ،قام بإحضار عصايه المقشه و قام بضربها بها كيف له أن يكون فى قلبه رحمه ؟ كسرت المقشة على زوجته إلى ٥ قطع على جسدها، عند نور ؛ نور لم تشعر بجسدها من الضرب استسلمت فهى لم تعد تشعر سوا بنزيف لم تشعر بألم هل اعتادت ؟ أم جسدها فقد الشعور ؟
بعد أن أنتهى ذو قلب أسود من الضرب قام بتركها بمفردها ملاقاه على الارض ونزل إلى منزل ابيه .
جمعت نور قوها وغسلت جسدها الملئ بالكدمات لان برنس الحمام سقط أثناء الضرب و هذا سبب لها أن يكون آثار الضرب واضح على جسدها.
بعد أن غسلت جسدها قامت بأرتداء عباية خروج و نزلت متجهه لبيت أهلها ،قابلها ذو قلب قاسى عديم الرحمه و قال اذا ذهبتى لمنزل اهلك تكونى مطلقة.
جلست نور على عتبه المنزل من العشاء حتى الخامسة فجرا تفكر ماذا تفعل؟
هل تترك المنزل و تصبح مطلقه وحامل بطفل و تعود لاهلها بولد بدون اب ؟
أم تجلس و تتحمل الإهانات و تصبر على نفسها و زوجها؟
أخذت القرار بنفسها أن تبقى و تصبر لعل العقل يعود لزوجها عديم الرحمة و لكن لا ينقصه العقل ينقصه الرحمة و الموادة.
وعند طلوعها لمنزلها قابلت حماها و قال لها هل اتصل بأهلك لكى يأخذوكى للطيب قالت لا لا اريد ان يعلم أهلى ما حدث لى.
كيف لها أن تقول له أبى وهم لم يفعل لابنه شئ عندما اذها او حتى يعاتبه؟
بعد ما حدث حاول زوجها التحدث معاها و التظاهر بأن لا شئ قد كان ولكنها لم تقبل.
بعد اسبوع ذهبت نور لمنزل أهلها لكى تبات عندهم يوم كعادتها ، نور ارتدت عباية و ذهبت و لكن لم تريد أن ترتدى بجامه كعادتها حتى لا يظهر آثار ضرب زوجها لها و اخبرتها أمها مرار أن ترتدي بجامة و لكن رد نزر انها مرتاحه أكثر فى العباية، سألت أم نور نور : ما هذا الورم اللذى يوجد فى وجهها ؟ قالت نور أنها قد اتخبطت فى وجهها ليس أكتر.
ماذا ستفعل ولدتها اذا رأت جسدها؟
بعد فتره عادت حماتها لمنزل مره آخرى و علمت بما فعله ابنها مع زوجته و كانت شامته بها و فرحه جدا كما انها كانت تسخن عليها زوجها و تشجعه على اهانتها.
وفى يوم قالت حماتها ذو قلب قاسى لنور أن تذهب و تمسح ترابزين المنزل قبل أن تفعل نور ذلك عاد زوجها لقد كان فى القاهره من أجل العمل .
تركت نور التربزبن وقالت إنها سوف تفعله و لكن بعد أن تجهز لزوجها الطعام و ملابسه.
عدت نور الطعام لزوجها و جهزت له كل شيء وانشغلت فى أعمال اخرى.
استغلت حماتها تلك الفرصه لافتعال المشاكل و المكائد لنور و أخبرت ابنها أن زوجته رفضت مسح التربزبن و قامت برد عليها بوقاحه .
ذهب زوجها إلى نور و قال لها لماذا رفضتى مسح التربزبن كما اخبرتك امى ؟
و لماذ رددت عليها بوقاحه؟
اجابته نور : لم افعل ذلك فقد إنشغلت فى أعمال اخرى
وتركته و صعدت لمنزلهم فوق و عند غلق باب منزلهم من الهواء اقفل الباب بشده .
صعد شريف خلفها : و قال هل تقفلين الباب فى وجهى أنا وامى أجابت نور اقفل فى وجهكم كيف انتم تجلسون بالأسفل وانا فى الطابق الثاني و الباب قد اقفل من الهواء ،كيف أقفلت بوجهكم؟
كانت نور تتحدث عند دولاب الغرفه ووشريف يقف عند باب الغرفة.
عندما تحدث نور هكذا فى لمح البصر لاقت شريف خلفها و امسكها من شعرها بكت نور بحرقة على كلها و قالت بقهر لماذا تتعامل معى هكذا انت وولدتك لم أفعل لكم شئ ؟ قال لها انتى المخطئة اجابته أنها لم تفعل شئ خاطئ و قالت انتم من تظلمونى ارحموا من فى الأرض يرحمكم من فى السماء ، بعد تلك المقولك
لم تشعر نور سواء بكسر ذراعها اليسرى لقد خلعه من كتفها من شده غضبه ، ثم ألقى عليها بالضرب على عينها اليمنى حتى باظت من الكدمات و جسدها أصبح ملئ بالدماء و كان يضربها بقسوه و كأنه يريد التخلص منها و من ابنهم في نفس الوقت جعل جسدها ينزف و تركها كعادته قامت نور و لبست عبائه للذهاب إلى منزل اسرتها طفح الكيل لقد تخطت أقصى تحملها لم تعد تتحمل بعد وعند نزلوها لمنزل حماها و حماتها و جدت حماتها تجلس على الكنبة وتبتسم فى وجهاها بشماتة و تتلاعب بقدمها للأمام والخلف.و قالت إنها ستذهب لمنزل اسرتها، وجدت حماها امسكها من زراعها و قال يكفى انت ووزوجك كل يوم تفرجون الناس علينا يوميا بعدها وجدت زوجها يضربها من الخلف و ابيه يمكسها و كأن أب زوجها يمكسها لزوجها لكى يضربها.
تركتهم و قالت لن اجلس بعد اليوم سوف اذهب ،خرج معها حماها و قال اذهبى من ذلك الطريق ليس من الطريق العمومى لا تفرجين الناس علينا يكفى و تركها بدل ان يوصلها وهو يعلم أن نور لا تعرف شئ سوء الطريق العمومى و ان المنطقه غريبه عليها .
ذهب نور من ذلك الطريق وهيا لا تعرف كيف تهب من حوارى كلها سواد حتى عثرت فى طريقها على طفلين يلعبون و قالت لهم كيف تذهب إلى الطريق العمومى وادلها الطفلين على الطريق استغرقت نور فى الطريق وقت طويلا و أثناء سيرها قابتلها صديقه أمها وجيرانهم وهيا تعلم ما يجرى مع نور و كانت تخبر أمها من خلف نور و نور لا بذلك اتصلت تلك المرأه بوالده نور و قالت لها أن تلحق ابنتا ابنتها تسير فىالشارع و جسدها ملئ بدماء و عينها ورمه.
اتصلت أم نور برقم نور لتعرف مكانها ولكن زوجها اخد منها هاتفها قبل رحيلها رد عليها زوجها شريف قلت الأم له أين ابنتي .
قال : لا أعلم داورى على بنتك الصايعه اللى سابت البيت و قالت رايحه عندكم ومش وصلت شوفى فين ده كلوا و قام بشتمها.
ردت الأم:و قامت بشتمه هيا الاخرى ولم تسكت و ردت له الاهانه و اغلقت الخط.
خرج حماه نور للبحث عنها فى الشوارع المجاوره بمكنته و جدها تسير قال لها لماذا كل هذا التأخير لماذا تتلكعين فى المشى؟
لم ترد عليه نور فهى متعبه من شده الضرب.
اركبها توكتوك لإيصالها لمنزل أهلها.
وعندما وصلت اجتمع رجال بيت نور و جلسوا معاها و عرفوا كل شئ منذ الزواج حتى اليوم ووكيف لها تعرضت لضرب المبرح و الإهانات.
قررت نور رفع قضيه على زوجها و تعبت ولم تقدر على التظاهر بالقوه ذهبت للمشفى و شخص الدكاتره حالتها: لقد تعرضت لشرخ بالجمجمه بالاضافه لخلع فى الزراع و الكدمات و قال الدكتور انتي فى شهرك الرابع و لا يمكن ان تلدى عليكى الاستحمال قليل فقط و اعطوها مسكنات، رفعت نور قضيه على زوجها و كان سوف يسجن ولكن رجال عائلتها قالوا لها أن تتنازل لان شرط طلاقها من زوجها سريعا أن تتنازل عن القضيه و بالفعل تنازلت.
طلبت نور من أبيها بعد حصولها على فلوسها من زوجها و دهبها أن يأخد كل ممتلكاتها و أن يرحلوا من تلك البلد و يذهبون للمدينه افضل لهم و بالفعل نفذ ولدها طلبها بعد ١٠ أيام من طلاقها و قد بدأت نور شهرها الخامس من الحمل.
ذهبوا لمنزلهم الجديد فى المدينه منذ دخولهم لشهر كامل كانت نور التعب يزداد عليها يوما بعد يوم .
حتى علمت نور بخطبه محمد حبيب قلبها قرة عينها نزل عليها الخبر كالصاعقة.
اتصلت نور على محمد و حدثته وقالت الوا.
محمد قال : من
قالت : من تعبتها لمده ٣ سنوات من اذقت العذاب طوال هذه المده من كرهت حياتها منذ رحيلك.
أجاب محمد: انا ام انتى انا من تقدمت لكى اكثر من ٤ مرات و يخبرونى انك رافضه الرجوع ،انتى من بعت لها قربيتى و صديقتك مرسال لمى ترفضين المضى على القايمة و الزواج قبل وصلولى بسعات وانتى رفضتى.
أجابت نور بصدمه: لم يخبرنى احد لن اعرف بكل هذا .
قربت محمد و صديقه نور كانت خبيثه كانت تحب محمد لذلك لم تخبر نور بالرفض وان محمد قادم من أجلها لأنها كانت تريد أن يتزوجها محمد .
كانت المكالمة بين نور ومحمد مكالمه عتاب و عذاب كل منهم يخطئ الأخر.
قفلت نور مع محمد واتصلت بأعز صديقتها وقالت لها ما حدث معها و ما قاله محمد لها ووانهارت بالبكاء.ظلت تتألم و تعبت كثير حتى حل الصباح و لم تقدر على للصمود ذهبت للمشفى و قال الطيب للأسف انتى في شهرك ال ٦ مند ١٠ أيام فقط ولكن يجب أن تلدى لن تستطيعى الصمود هناك خطر على حياتك دخلت العمليات ليولد ذلك الجنين صاحب الشهر الخامس و ١٠ أيام من السادس فقط ظلت نور فى غرفه العمليات لمده ٣ سعات بدل من نصف ساعه و كانت كيسرى.
ولد طفل و كانت كل ما تقوله اريد رؤيه محمد ولكن لم يفهم أهلها أنها تقصد محمد حبييها وليس محمد ابنها للن إبنها كانت تريد تسميته محمد أيضا.
فاقت و قبل رحولها من المشفى صممت على رؤيه ابنها ولكن الدكاتره لم تسمح لها سوى رؤيته من خارج الحضانه وليس من الداخل.
بعد خمس ايام من الولاده وجدت نور عمها و باقى الاسره مجتمعه استغربت نور من التجمع حولها و التحدث معها أن إيمانهم من قوى فهمت معنى حديثهم توفى من تحملت الضرب و الاهانه و المذلة توفى إبنها قبل أن تحمله توفى قبل أن تشعر معه بالامومه توفى قبل أن تسمع منه ماما توفى قبل أن تسمع صرخات بكائه توفى من ظنت انه سيكون لديها سندا عوضا على عذابها .
قالت لهم لقد فهمت مقصدكم حسنا ظلت تبكى و تتألم على أيامها و عذابها و موت ابنها.
فهل بعد الصبر جبر و الزواج من محمد و حياة سعيدة بعد معاناه أم هناك مأساه آخرى..يتبع.
بقلمى:دنيا أشرف ˝همس الليل ˝
❞ عملت ايه عشان أتساب
كان كل همى ضحتك
كان كل همى فرحتك
حبيتك وى بقولها بكل علو صوتى حبيتك
كنت شايف من كل حاجه بتحصل انك بتحبيني بس طلعت مخدوع فيكى..اوى
فضلتك عن كل حاجه حتى نفس
ظلمت نفسى عشانك
جيت على كل حاجه فى حياتى عشانك
حتى حلمى
ميزتك عن نفسى
كنت ببيع الكل عشان ابقا معاكى وى ليكى
كنت بقول مليش غيرها كنت بقولك هو انا هاعيش غير لى مين ما اكيد ليها
كنت بقول ديه نصيبى
كنت بقولك يا ماما شبهتك بى اغالى ما ليا بعد ربنا
كنت بقول لى الكل انا محدش يقدر يبعدها عنى
تروحى انتى تسبينى
بقيت اعيش ايام محدش يعرف يعشها انا تعبان يابنت الناس
وى ندمان انى واثقت فيكى
ملعون ابو قلبى الى ندالك
شكرا... ❝ ⏤𝙃𝙆𝙈𝘿𝘼𝙍
❞ عملت ايه عشان أتساب
كان كل همى ضحتك
كان كل همى فرحتك
حبيتك وى بقولها بكل علو صوتى حبيتك
كنت شايف من كل حاجه بتحصل انك بتحبيني بس طلعت مخدوع فيكى.اوى
فضلتك عن كل حاجه حتى نفس
ظلمت نفسى عشانك
جيت على كل حاجه فى حياتى عشانك
حتى حلمى
ميزتك عن نفسى
كنت ببيع الكل عشان ابقا معاكى وى ليكى
كنت بقول مليش غيرها كنت بقولك هو انا هاعيش غير لى مين ما اكيد ليها
كنت بقول ديه نصيبى
كنت بقولك يا ماما شبهتك بى اغالى ما ليا بعد ربنا
كنت بقول لى الكل انا محدش يقدر يبعدها عنى
تروحى انتى تسبينى
بقيت اعيش ايام محدش يعرف يعشها انا تعبان يابنت الناس
وى ندمان انى واثقت فيكى
ملعون ابو قلبى الى ندالك
شكرا. ❝
❞ #ما_وراء_المحيط
🌱🌾🌱🌾🌱
لطالما تأملت مياه البحر الواسعة، وهي تمتد بلا نهاية، تلامس المحيط وكأنها تهمس بأسرارها.
تُرى، ماذا يكمن خلفها؟ هل هو الحلم المنتظر أم الكابوس المجهول؟ النجاة أم الضياع؟
في أحد الأحياء الشعبية، حيث تختلط رائحة الخبز الطازج المتصاعد من أحد المخابز بدخان المقاهي المتناثر في الهواء، وحيث الأزقة الضيقة تضج بأصوات الباعة الجائلين. على إحدى الطاولات الخشبية المهترئة داخل مقهى بسيط، الأضواء الخافتة تتراقص على وجوه الجالسين، وأحاديث الرجال تتشابك مع صوت المذياع الذي يصدح بأغنية قديمة، جلس الصديقان، سالم شابًا في منتصف العشرينيات، طويل القامة نسبيًا، بجسد نحيل لكن متماسك، كأن الحياة صقلته رغم قسوتها، وجهه ليّن الملامح، عيناه السوداوان تحملان مزيجًا من الحلم والضياع، كأنهما تبحثان عن مخرج من دوامة الفقر والقيود التي تحاصره، أما سليم، فكان شابًا في منتصف العشرينيات أيضًا، نحيل الجسد لكنه قوي الملامح، يحمل وجهه ندوب التعب وأشعة أمل خجولة كأنه إنعكاس لسنوات عمره التي تناثرت في الورش والمخابز، محاولًا شق طريقه وسط قسوة الحياة، وهما يحملان بداخلهما همومًا لاتنتهي وأحلامًا لا تحصى لا يعلمان كيف يحققونها، ظلا يتسامران سويًا عما يدور بخلدهما.
كان سالم مستندًا إلى كرسيه بإهمال، يحدق في كوب الشاي أمامه وكأنما يبحث في قاعه عن مخرج من الضيق الذي يكبّله، زفر بضيق، ثم ضرب بيده على الطاولة بخشونة وبنبرة مليئة ضيق ومرارة:
˝والله الواحد اتخنق! تعبت من القعدة من غير شغل، وكل يوم أمي تديني مصروفي زي العيال الصغيرة، وانا راجل أطول منها،
والله يا أخي بقيت حاسس إني بشحت منها وانا بمد إيدي أخد المصروف بدل ما أديها.˝
هزّ سليم رأسه بتنهيدة ثقيلة، عاقدًا ذراعيه فوق صدره، وكأن جسده يشارك روحه في التعب، حدّق في الشارع الممتد أمام المقهى، حيث الأطفال يركضون حفاة، والباعة ينادون على بضائعهم بصوت مبحوح، ثم قال بإحباط وبغصة في صوته: ˝ومين سمعك يا سالم؟ أنا لفيت على كل شغلانة ممكن اشتغلها ما خليتش... مرة في ورشة، مرة في فرن، مرة في محل ملابس، اهو بجيب مصاريفي عشان ما أطلبش من أبويا، بس الفلوس اللي بتيجي ما بتكفيش، كل حاجة بقت نـ*ـار، والعيشة بقت مستحيلة˝
أطرق سالم رأسه قليلًا، ثم رفع عينيه نحو السماء، وكأنما يحاول أن يرى مصيره بين نجومها المتناثرة، تمتم بصوت مملوء بالشوق لحياة لم يعشها بعد وبأمل ممزوج بالخيبة: ˝نفسي أهرب من هنا، أروح أى بلد، إيطاليا، أمريكا، مش فارقة، المهم ألاقي شغل وأبني نَفسي، نِفسي أتجوز هناء بنت خالي، بدل ما هي مربوطة جنبي، لا قادر أتقدملها ولا قادر أسيبها تشوف حالها!˝
نظر إليه سليم نظرة طويلة، وكأنما يزن كلماته قبل أن ينطق بها، ثم قال ببطء، وكأنه يكشف له عن كنز مخفي:
˝تصدق بالله يا سالم؟ تاهت ولقيناها! الواد عمر، ابن عم إبراهيم، كان بيقول إن فيه واحد اسمه راغب، بيسفّر الناس لإيطاليا، بس بياخد 100 ألف جنيه، ويجيبلك عقد شغل مضمون هناك، ده حتى عمر خلاص هيسافر عن طريقه، تعالى نروح له، واهو يا عم تقدر تتجوز بنت خالك اللى مجنناك دي˝
سالم، الذي كان يترنح بين الأمل واليأس، اتسعت عيناه للحظة قبل أن يطلق ضحكة ساخرة، مريرة، كمن سمع نكتة سوداء ثم قال بتهكم وحسرة: ˝هاهاا... 100 ألف؟! يا عم هو أنا لو معايا المبلغ ده كنت هبقى قاعد ع القهوة أستنى أمي تديني مصروفي؟!˝
لكن سليم لم يفقد حماسه، مال نحوه قليلًا، وكأنما يوسوس له بفكرة قد تقلب حياتهما رأسًا على عقب قائلاً بإصرار:
˝يا ابني اسمع مني، تعالى بس نروح له ونتكلم معاه، يمكن يطلع ابن حلال ويساعدنا... ممكن ياخد مقدم صغير، والباقي نبقى نبعته لما نسافر ونشتغل!˝
كان عقل سالم يعمل بسرعة، بين المنطق الذي يخبره بأن الأمر مستحيل، والرغبة العارمة التي تجعله يرى أي فرصة كطوق نجاة، لكنه سرعان ما هزّ رأسه بعناد، ثم نهض من كرسيه ودسّ يديه في جيبيه بحسم: ˝لا يا عم، عايز تروح انت، روح، أنا هرجع البيت، أكيد أمي خلصت الغدا، سلام!˝
تابعه سليم بعينيه يشاهده وهو يبتعد وسط زحام الشارع، خطواته ثقيلة، لكنها تحمل في داخلها صراعًا لا يراه أحد، زفر ببطء، ثم أسند رأسه إلى الطاولة، غارقًا في دوامة من الأفكار، ترى... هل يخاطر بنفسه ويذهب إلى راغب وحده، أم يحاول إقناع سالم مرة أخرى؟
كانت الليلة قد بدأت تسدل ستائرها على الحيّ، أما أحلامهما، فعلى الرغم من ظلام الواقع، كانت تتخبط بحثًا عن شعاع نور في أفق مجهول...
____________________
في بيت سالم
في نفس الحي الشعبي، حيث تتراص البيوت المتجاورة كأنها تشد بعضها بعضًا، وقف سالم أمام باب منزله المتواضع، الذى تتدلى ستائره القماشية فوق مدخله، بينما تعكس جدرانه القديمة حكايات العائلة التي سكنته لعقود، كان المنزل صغيرًا لكنه دافئ، يضم غرفة معيشة بسيطة بها أريكة مهترئة لكنها تحمل دفء العائلة، وطاولة خشبية في المنتصف تتوسط الغرفة وكأنها شاهد على أحاديث الأيام وذكرياتها، في الزاوية، كان هناك تلفاز قديم يعمل بصعوبة، بينما تنبعث من المطبخ رائحة الطعام المنزلي التي تحمل معها إحساسًا بالأمان رغم ضيق الحال، دلف إلى المنزل، لكن عقله ظل عالقًا في حديث سليم، تتصارع داخله الأفكار بين رغبته في الهروب من هذا الواقع الضيق، وخوفه من المجهول الذي ينتظره هناك، خلف البحار.
ما إن دخل حتى استقبلته والدته، هنادي، بلهجتها الحادة المعهودة، لكن بعينين تحملان ألف سؤال وألف قلق، قائلة: ˝طيب أرمى سلام ربنا، ولا داخل كده كأنك داخل على يهود مش مسلمين؟˝
رفع رأسه كأنما استيقظ من شروده، ثم تنهد وهو يخلع حذاءه عند الباب:
˝معلش يا أمي، سامحيني˝
تأملته للحظة، فلاحظت شروده، شحوب وجهه، شيء ما يشغل فكره، اقتربت منه ومسحت على كتفه بحنان:
˝مالك يا ضنايا؟ إيه اللي شاغل بالك؟ مصروفك خلص يا حبيبي مش كده؟˝
هزّ سالم رأسه نافيًا، ثم جلس على الأريكة مطرقًا برأسه: ˝معايا يا حبيبتي، خيرك مغرقني... بس، تعبت يا أمي من العوزة وقلة الشغل، بصراحة بفكر أسافر برة، يمكن ربنا يكرمني والحال يتبدل.˝
قطبت هنادي حاجبيها، وعقدت يديها أمام صدرها، فبدت عيناها تائهتين، كأنها تحاول استيعاب فكرة سفره، أو تبحث عن طمأنينة مفقودة بين كلماته،
قائلة بنبرة يشوبها القلق والتوجس: ˝وهتلاقي مين بس يسفرك يا ابني؟ ولا هتسافر فين وازاي؟˝
تنهّد سالم وهو يمرر يده في شعره بتوتر، ثم قال بصوت يحمل شيئًا من التردد:
˝مش عارف والله يا أمي، بس سليم بيقول إن عمر ابن عم إبراهيم جارنا هيسافر عن طريق واحد اسمه راغب، رايح إيطاليا.˝
خرج والده من الغرفة المجاورة بعد أن سمع حديثهما، ظل يستمع بصمت، حتى تحدث أخيرًا، بصوت حمل نبرة القلق أكثر من الغضب: ˝وده تبع شركة سياحة يا ابني؟ ولا تبع السفارة؟ ولا إيه بالظبط؟ فهّمني.˝
تردد سالم، ثم قال:
˝بصراحة مش عارف يا بابا، بس سليم بيقول إن الراجل ده بياخد 100 ألف جنيه مقابل العقد والسفر.˝
نظر حسن إلى ابنه طويلًا، وكأنما يحاول قراءة ما يدور في رأسه، ثم قال بجدية:
˝بص يا ابني، هقولك كلمة وعايزك تسمعها كويس... لو عايز تسافر وتشوف رزقك وتبني مستقبلك، مش همنعك، بس امشي صح، روح الشركات الحكومية، اسأل عن الطرق القانونية، وأنا معاك ف اللي انت عايزه، لكن اللي بيقول عليه صاحبك ده، لأ يا سالم... ده شكله واحد من تجار الموت اللى بياخدوا الفلوس ويسهّلوا السفر للشباب، والله أعلم هتوصل ولا هتضيع في البحر زي غيرك.˝
تسارعت نبضات قلب سالم، لم يكن يفكر في الأمر من هذه الزاوية، رفع عينيه إلى والده، كأنه يبحث عن بصيص أمل: ˝يعني أنت يا حاج، مش معترض إني أسافر؟˝
زفر حسن أنفاسه ببطء يحاول ترتيب كلماته بعناية، حدّق في وجه ابنه بنظرة حازمة تخفي خلفها مزيجًا من الخوف والرجاء قائلا بصوت هادئ يحمل ثقل خبرة السنوات:
˝لا يا حبيب أبوك، مش معترض طالما مافيش لك رزق هنا، بس امشي في النور، مش في الضلمة.˝
أغمض عينيه للحظة وكأنه يسترجع ذكريات لأشخاص فُقدوا في طرق مجهولة، قبل أن يعود لينظر إلى سالم مباشرة، متابعًا بجدية:
˝دور على فرصة سفر قانونية يا سالم، إنما الطريق اللي بتتكلم عنه ده، مش مضمون يا ابني... تفتكر اللي هياخد منك مبلغ زي ده، همه إنك توصل بالسلامة؟ لا، دول همهم الفلوس وبس، أنا مش هقف في طريقك، بس مش هسمح لك تضيع نفسك في مغامرة مش محسوبة.˝
ساد الصمت للحظة، لم يُسمع فيها سوى صوت أنفاس سالم المضطربة، بينما بدت هنادي وكأنها تحبس دموعها بصعوبة، تنظر لزوجها وكأنها تنتظر منه أن يزيد في كلامه ليمنع ولدها تمامًا، لكنه اكتفى بالصمت، تاركًا القرار في يد ابنه، في تلك الليلة، ظل سالم مستلقيًا على سريره، يفكر في كلمات والده، وفي الطريق الذي عليه أن يختاره، كان يدرك أن الفقر قاسٍ، لكنه أيضًا أدرك أن الحلم إذا لم يُبْنَ على أساس قوي، قد يتحول إلى كابوس لا نجاة منه،
وفي النهاية، قرر أن يسافر، لكنه سيفعلها بالطريقة الصحيحة، كما قال والده. فالموت في الغربة ليس أهون من الحياة في الفقر.
______________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل، لكنه لم يكن كعادته، سار ببطء وعيناه شاردتان، يحمل على كتفيه ثقل أفكاره التي لم تفارقه منذ ساعات، لم يكن المنزل سوى محطة مؤقتة لروحه القلقة، فقد أصبح يشعر بأنه محاصر بين جدرانه، كما لو أن الأبواب مغلقة أمام مستقبله، وما زالت الأفكار تتلاطم في رأسه كالأمواج، تبحث عن طريق للخلاص من هذا الواقع الخانق. وقف للحظة أمام باب منزله القديم ذو الطابقين، يعلوه بعض الشقوق التي حفرها الزمن في جدرانه، مدخله الضيق تصطف على جانبيه أحذية قديمة، ونافذته المطلة على الزقاق تكاد لا تغلق جيدًا، كأنها تعبت من مقاومة الرياح، دفع الباب بيده، فصدر عنه أزيز خافت، ثم دخل ليجد أمه تجلس على أريكة خشبية قديمة، منشغلة بطيّ بعض الملابس، ووجهها الذي خطّ عليه الزمن تجاعيد خفيفة، يضيئه نور خافت ينبعث من مصباح يتدلى من السقف، فألقى عليها السلام بصوت هادئ: السلام عليكم يا ست الكل.˝
ما إن وقع نظرها عليه حتى رفعت رأسها بسرعة، وضعت ما بيدها جانبًا، ثم تطلعت إليه بابتسامة دافئة تخفي وراءها قلقًا لم تستطع مواراته:
˝وعليكم السلام ورحمة الله، مالك يا سليم يا حبيبي؟˝
ألقى بجسده على أقرب مقعد، وأخذ يمرر يده في شعره بعصبية واضحة، زفر بضيق قبل أن يرد:
˝زهقان يا أمه... وعايز أطفش من البلد دي بأي طريقة.˝
قطّبت نادية حاجبيها، واعتدلت في جلستها، ثم قالت بصوت دافئ لكنه يحمل قلق الأم:
˝سلامتك من الزهق يا قلب أمك، مالك بس يا ضنايا؟˝
انتفض واقفًا، وقد تملّكه الغضب والإحباط، لوّح بيديه في الهواء وكأن كلماته تكاد تخنقه:
˝هيكون مالي بس يا أمه؟ زهقان ومخنوق وأنا كده عواطلي بعد سنين تعليم وشهادة جامعية بتقدير! مش لاقي حتى تمن السيجارة، وعشان أقدر اشتريها، لازم اتسحل في قهوة، ولا اتحشر تحت عربية في ورشة، ولا يطلع عيني في فرن، واتحمل غلاسة ده ورزالة ده كأني بشحت منهم!˝
في هذه اللحظة، دخل والده، محمود، رجل خمسيني، آثار التعب والحياة القاسية واضحة على وجهه، يرتدي جلبابًا رماديًا قديمًا، ويضع طاقية بيضاء فوق رأسه، فاقترب وجلس على المقعد المقابل له، هزّ رأسه بأسى وقال بنبرة يغلفها العجز: ˝ماهو ده حال الشباب كلها يا ابني، ما فيش غير القليل، هنعمل إيه يعني؟ ما باليد حيلة، يا سليم.˝
أطرق سليم برأسه، وابتلع مرارة الواقع، ثم قال بصوت خافت يشوبه الإحباط:
˝والله يا أبا تعبت والعمر بيجري! لا عارف اشتغل وأساعدك ولا حتى عارف أكفي نفسي!˝
وضعت نادية يدها على كتف ابنها بحنان، كأنها تحاول أن تخفف عنه ثقل همومه، لكنها لم تجد كلمات تشفي وجعه سوى تساؤلها العاجز:
˝وفي إيدنا إيه بس يا حبيبي نعمله؟ ما فيش غير إننا ندعيلك ربنا يرزقك، بس أنت كمان خليك صابر.˝
رفع سليم رأسه، واتخذ قراره، فقد كان الشعور بالضياع أشد عليه من أي مخاطر قد تواجهه، فقال بصوت جاد:
˝بفكر أسافر يا أمه... الواد عمر ابن عم إبراهيم هيسافر إيطاليا، في واحد اسمه راغب جاب له عقد وهيسفره، بس هياخد منه 100 ألف جنيه!˝
سكت للحظة، ثم تابع بنبرة أكثر إصرارًا:
˝هكلمه يمكن يجيب لي عقد أنا كمان.˝
نظر إليه والده باندهاش، واتكأ إلى الوراء مفكرًا، قبل أن يرد مستنكرًا:
˝يااااه! 100 ألف جنيه؟! ده مبلغ كبير أوي يا سليم، هتجيبه منين بس يا ابني؟˝
عقد سليم حاجبيه، وأخذ يفكر في طريقة لإقناع ذلك الرجل
ثم قال محاولًا طمأنة والده: ˝أنا هحاول أقنع اللي اسمه راغب ده، إنه ياخد مني أي مبلغ دلوقتي، والباقي أبعته له لما أسافر واشتغل، يمكن يوافق، يا أبا!˝
نظر محمود إلى سليم نظرة تحمل ثقل السنين، يعلم أنه لا يملك المال، ولا يملك حتى وعدًا بأن الأمور ستكون بخير، لكنه لا يستطيع أيضًا كسر جناحه وتحطيم آماله.
أما نادية، لم تكن سعيدة بهذا القرار، لكنها لم تجد في قلبها القوة لتثنيه عنه، فالحياة ضاقت عليه، وعيناه كانت تحملان رجاءً يوجع قلبها، فقالت بنبرة مستسلمة لكنها مليئة بالدعاء: ˝خلاص يا حبيبي، اتوكل على الله، شوف عمر، خليه ياخدك للراجل ده، وربنا يكتب لك الخير يا ضنايا.˝
تأثر سليم بدعم والدته، ثم أقترب منها وأمسك يدها قبّلها بحب، وتمتم بصوت يملؤه الرجاء:
˝يا رب، يا أمه، ادعي لي أنتِ بس.˝
وفي تلك الليلة، ظل سليم مستلقيًا على سريره، يحدق في السقف بعينين مثقلتين بالأفكار، وقلبه ينبض بعنف بين الحماسة والقلق، كان عقله يطوف بين احتمالات المستقبل، بين الطريق الذي يستعد لخوضه والغد الذي يلوح أمامه كضباب لا يكشف عن مكنونه، هل ستكون هذه الفرصة طوق نجاته، أم مجرد وهم يقوده إلى معاناة لا يدري مداها؟ لم يكن متأكدًا مما يخبئه له القدر، لكنه كان يعلم يقينًا شيئًا واحدًا... لم يعد بإمكانه البقاء هنا أكثر من ذلك.
______________________
في المقهى
في اليوم التالي، وكما جرت العادة، التقيا سليم وسالم بعد ساعات طويلة من التجوّل في الشوارع بحثًا عن فرصة عمل، لم يكن الهدف منها وظيفة مستقرة بقدر ما كان محاولة لتوفير ما يكفي لجلسة المساء في المقهى، حيث يقتلان الوقت بين لُعبة النّرد وأحاديث عابرة عن المستقبل الذي بدا بعيد المنال، جلسا إلى طاولتهما المعتادة، وأمامهما أكواب الشاي التي بدأ سطحها يبرد، بينما يملآن الجو بأنفاس ثقيلة، مزيج من الإرهاق والأمل الخافت، حيث تصاعد الدخان في الهواء مختلطًا بأصوات الباعة في الخارج وضجيج الحياة الرتيبة.
تنهد سالم، وأسند مرفقه على الطاولة وهو يحرّك الملعقة داخل كوبه، ينظر إلى سليم بنظرة جانبية قبل أن يقول بصوت خافت لكنه مشحون بالتردد:
˝أسكت يا سليم، بقول لأبويا عن كلامك ع السفر، وعن الراجل اللي اسمه راغب ده.˝
اعتدل سليم في جلسته على الفور، وكأن الكلمات قد نبهته من سباته، تسللت الحماسة إلى ملامحه وهو يسأل بترقب:
˝وبعدين؟ قالك إيه؟ وافق، مش كده؟˝
لم يرد سالم بسرعة، لكنه أدار الملعقة ببطء داخل الكوب قبل أن يضعها على الطاولة وهو يرمي حجر النرد:
˝أبويا ما عندوش اعتراض على السفر.. بس مش مع الراجل ده، قال لي أقدم تبع الحكومة.˝
انعقد حاجبا سليم، ونقر بأصابعه على الطاولة بإيقاع سريع ينمّ عن ضيقه:
˝يا عم، هى الحكومة بتسفّر حد الأيام دي؟˝
رفع سالم كتفيه وهو يرد بنبرة حاول أن تبدو مقنعة:
˝أيوه يا ابني، تبع وزارة القوى العاملة والهجرة، بندخل بياناتنا على النت، ونتابع لغاية ما ربنا يكرم.˝
قهقه سليم ضاحكًا وهو يلوّح بيده في الهواء:
˝ده انت رايق يا عم سالم! يوم الحكومة بسنة يا ابني، هو انت فاكر هتقدم النهارده وتسافر بكرة؟˝
هزّ سالم رأسه وارتشف رشفة صغيرة من الشاي قبل أن يرد بصبر نافذ:
˝هو احنا ورانا إيه يعني؟ أهى كده قعدة وكده قعدة، على الأقل يبقى في حاجة تشغل تفكيرنا بدل الفراغ اللي إحنا فيه ده.˝
لم يكن سليم من النوع الذي يحتمل فكرة الانتظار، زفر بحدة وهو يسحب سيجارة من علبته ويشعلها، ثم قال وهو ينفث الدخان ببطء:
˝لا يا عم، أنا ما عنديش طولة بال زيك، أنا هروح أشوف عمر يوصّلني براغب، وإن شاء الله أسافر عن طريقه.˝
قطب سالم جبينه، وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يراقب سليم بصمت لثوانٍ قبل أن يقول بنبرة مشوبة بالقلق:
˝يا ابني، اسمع مني، خليك في السليم وتعالى نقدّم تبع الحكومة أحسن، وسيبك من الراجل ده! ده على رأي أبويا، شكله واخدها تجارة وبيتاجر في الموت!˝
ضحك سليم بسخرية، وأطفأ سيجارته قبل أن يميل للأمام، مستندًا بكوعيه إلى الطاولة وهو يهمس بمكر:
˝لا يا سيدي، خليك انت في طريقك السليم ياخويا، وسيبني أنا للطريق السريع! يا ابني، ده أنا هسافر وأشتغل وأكسب، وهارجع كمان أجازة، وتكون انت لسه ما سافرتش، ولا حتى الحكومة ردّت عليك!˝
شعر سالم بوخزة في صدره، لكنه أبعدها سريعًا، يعلم أن صديقه عنيد ولا يسمع إلا ما يريد، ومع ذلك لم يستسلم، مال نحوه محاولًا إقناعه للمرة الأخيرة:
˝يا ابني اسمع مني.. سيبك من الطريق ده عشان ما تندمش في الآخر.˝
لكن سليم كان قد حسم أمره، ضرب الطاولة بكفه وهو يقول بإصرار:
˝اسمعني انت يا سالم، خليك معايا ونسافر سوا يا ابني، أسهل وأسرع!˝
هزّ سالم رأسه ببطء، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها قلقًا دفينًا:
˝لا يا عم، خليك انت في طريقك السريع، وسيبني أنا في الطريق المضمون، ده على رأي أمي، بتقول دايمًا: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.˝
ساد الصمت للحظات بينهما، قبل أن يميل كل منهما إلى الخلف، كل واحد منهما غارق في أفكاره الخاصة، وهكذا، في تلك الليلة، خرج كلٌ منهما من المقهى وقد حسم أمره، غير مدركين أن قراراتهما تلك ستحمل لهما مصائر لم يكن أيٌ منهما يتوقعها.
_____________________
في بيت سالم
عاد سالم إلى منزله وجلس مع والده ليخبره بقراره بالتقديم على السفر إلى إيطاليا عبر موقع وزارة الهجرة على الإنترنت، كان يشعر بمزيج من الحماس والقلق، فهذه الخطوة قد تكون بداية جديدة لحياته، لكنها في الوقت ذاته مجهولة المصير.
رفع حسن رأسه ببطء، حدَّق في ابنه للحظات، ثم قال بصوت هادئ، لكنه يحمل الكثير من التساؤلات:
˝طيب يا ابني، كويس... بس عرفت إيه الأوراق المطلوبة عشان تعرف تقدِّم؟˝
عدل سالم جلسته، وأراح كفيه على ركبتيه، ثم أجاب بثقة:
˝حاليًا مش مطلوب غير إنِّي أدخل بياناتي الشخصية على الموقع الإلكتروني، وأحدِّد موقفي من الجيش، وأكتب رقم جواز السفر، وبعدها هستنى لحد ما يردوا عليا.˝
هزَّ حسن رأسه بتفهُّم، ثم قال بنبرة مشجعة:
˝وماله، قدِّم يا ابني، وربنا يوفقك... واللي رايده ربك هيكون إن شاء الله.˝
شعر سالم براحة غريبة تغمره، رغم التوتر الذي لم يفارقه، لكنه كان بحاجة لدعم والده أكثر من أي شيء آخر، نظر إليه بعينين ممتلئتين بالامتنان، ثم قال:
˝ادعيلي يا أبو سالم.˝
وضع حسن يده على كتف ابنه وربَّت عليه بحنان، ثم قال بصوته العميق الذي اعتاد سالم أن يستمد منه الطمأنينة:
˝داعيلك يا بني، وراضي عنك... ربنا يوفقك يا حبيبي.˝
لم يتردد سالم في الانحناء ليقبِّل يد والده بحب واحترام، وقال بحرارة:
˝ربنا يبارك لنا فيك يا حج، وما يحرمناش منك ولا من دعواتك ورضاك علينا.˝
بينما كان المشهد يسوده جو من الألفة، خرجت هنادي من المطبخ وعينيها تحملان قلق الأمهات المعتاد:
˝بس يا بني، إنت ما عندكش باسبور، هتقدِّم إزاي؟˝
ضحك سالم بخفة، محاولًا طمأنتها، وقال بثقة:
˝ما تقلقيش يا ست الكل، إن شاء الله بكرة الصبح هروح إدارة الجوازات وأطلع الباسبور وأقدِّم بيه... بس إنتِ ادعيلي، وهتفرج بإذن الله.˝
رفعت هنادي كفيها بالدعاء وهي ترد بحماس:
˝دعيالك يا بني، يسعدك، ويجعل في وشك القبول، ويفتح لك كل باب مقفول، ويهدي عليك خلقه ببركة ربنا وبركة الصلاة على الرسول... عليه أفضل الصلاة والسلام.˝
أغمض سالم عينيه للحظة، مستشعرًا بركة دعائها، ثم قال بابتسامة خاشعة:
˝الله.. يا أم سالم، أحلى دعوة.. ربنا يقبل منك يا رب، اللهم آمين.˝
نظرت هنادي إلى حسن بنظرة جانبية ماكرة، ثم قالت وهي تخفي ابتسامتها:
˝اسكت يا حسن، مش إبراهيم وعياله جايين يوم الجمعة وهياخدوا يومين عندنا.˝
انتبه حسن لما قالته زوجته، فأدار رأسه نحوها ببطء ثم قال متسائلًا وهو ينقل نظراته إلى سالم:
˝بجد؟ طيب كويس إنك قولتي، عشان نعمل حسابنا... بس يا ترى هناء جاية معاهم ولا إيه؟˝
ضحكت هنادي بخبث، وردَّت بحزم مصطنع:
˝أنا ياخويا شرطت عليه ما يجيش من غير حبيبة عمتها.˝
جلس سالم يستمع الى حديث والديه، لكن عقله كان في مكان آخر... لم يكن بحاجة إلى سماع اسمها، فهو محفور في أعماقه... تلك الفتاة التي سكنت قلبه دون إذن، وأصبحت روحه لا تعرف الطمأنينة إلا بها، لكنها كانت أيضًا الحلم البعيد، الأمنية العالقة بين ضيق الحال وقلة الفرص، الحلم الذي يخشى أن يضيع منه كما ضاع غيره،
عندما جاء ذكرها، تجمدت أنفاسه في صدره، كأن الزمن توقف للحظة، حاول أن يخفي اضطرابه، خفض رأسه ببطء، شبك أصابعه ببعضها بقوة، كأنه يحاول أن يتمسك بشيء وسط الفراغ الذي يحاصره، لكن عقله لم يرحمه، كان يعيد عليه ذات الحقيقة القاسية: لا يملك ما يكفي ليطلبها... لا يملك سوى قلبه، وهل القلب وحده يكفي؟
تنهيدة طويلة أفلتت منه، وكأنها تحمل كل الخذلان، كل الانتظار، كل الأحلام التي كاد يفقدها، رفع رأسه قليلًا، نظر إلى الفراغ أمامه وكأنه يرى مستقبلًا مجهولًا، ثم همس، بصوت لم يكن سوى وعد قطعه لنفسه:
˝هانت يا هناء... إن شاء الله ربنا يوفقني، وأول حاجة هعملها... هطلب إيدك.˝
____________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل بخطوات ثقيلة، ألقى بجسده على الأريكة، حدّق في السقف بشرود، ثم زفر بضيق لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، هذه الحياة تُخنقه، والفرص هنا تبدو وكأنها تنكمش يومًا بعد يوم حتى تكاد تختفي، مدّ يده إلى هاتفه واتصل بصديقه عمر، لعلّه يكون مفتاحه للخروج من هذا القفص:
˝ألو، عمر... عامل إيه؟˝
عمر بلهجة مرحة:
˝سليم! حبيب قلبي فينك مختفي ليه؟ وعامل ايه؟˝
سليم بصوت يحمل ضيقًا: ˝الحمد لله يا عمر، بس زهقت من قلة الشغل! بقولك إيه، ما توصّلني بالراجل اللي اسمه راغب ده؟ أنا عايز أسافر إيطاليا، أشتغل بدل القعدة اللي مالهاش آخر دي!˝
عمر:
˝تمام ياعم، وماله! أنا أصلًا رايح له كمان ساعة، تعال معايا ونكلمه عليك.˝
سليم بحماس ممزوج بالقلق: ˝تمام، يا عمور، ساعة زمن وتلاقيني عندك، يلا سلام!˝
أغلق الهاتف، لكنه ظلّ جالسًا للحظات، وكأن جسده لم يستوعب بعد أنه قد يجد فرصة حقيقية للخروج من هذا الواقع الكئيب، نهض فجأة، وكأن نارًا اشتعلت داخله، وقام بتغيير ملابسه بسرعة قبل أن يغادر، يتشبث بهذا الأمل الذي قد يكون الأخير.
في مكتب راغب
عندما دخل سليم مع عمر إلى مكتب راغب، شعر بشيء غريب، وكأن المكان نفسه ينبض بالخطر، كانت الغرفة فسيحة لكنها كئيبة، أضواؤها خافتة، وجدرانها بلون رمادي قاتم، مكتب ضخم يتوسطها، مصنوع من خشب ثقيل، تعلوه طبقة زجاجية تعكس الإضاءة الصفراء المتدلية من السقف.
خلف المكتب، جلس راغب متكئًا على كرسي جلدي أسود، ساقه فوق الأخرى، يلفّ سيجارًا ببطء بين أصابعه، رجل في منتصف الأربعينات، بشرته داكنة كأنما احترقت من شمس الصحارى، عيناه ضيقتان، تلمعان بمكر واضح، وكأنهما تزنان كل من يقف أمامه، تقرران إن كان يستحق الثقة... أو الاستغلال.
على جانبي المكتب، وقف رجلان ضخمان، بذراعين معقودتين أمام صدورهما، ملامحهما جامدة كأنهما تماثيل، لكن نظراتهما تقول إنهما جاهزان للتحرك في أي لحظة.
أقترب عمر بابتسامة حذرة وهو يمدّ يده لمصافحته:
˝مساء الخير يا راغب بيه.˝
راغب دون أن يتحرك:
˝ أهلا يا عمر، اتفضل.˝
جلس عمر، بينما بقي سليم واقفًا للحظات قبل أن يلحق به.
أخرج عمر ظرفًا مغلقًا، وضعه بهدوء أمام راغب:
˝جبت لك الفلوس والورق اللي طلبته مني، اتفضل.˝
أخذ راغب الظرف، فتحه ببطء، أخرج الأوراق، قلّبها بعينيه السريعتين، ثم أومأ برأسه برضا، قبل أن يدسّها في درج مكتبه قائلا ببرود:
˝تمام يا عمر، كده كل حاجة جاهزة، فاضل بس تعرف ميعاد السفر.˝
عمر بتردد واضح: ˝طيب يا راغب بيه... عندي طلب صغير.˝
رفع راغب حاجبًا واحدًا، وأشعل سيجاره أخيرًا، سحب نفسًا عميقًا، ثم نفث الدخان ببطء، وكأن صبره محدود:
˝خير يا عمر؟˝
عمر مشيرًا إلى سليم:
˝أخويا وصاحبي سليم عايز يسافر، بس ظروفه ع القد وطمعان فـ كرم حضرتك.˝
توجهت نظرات راغب إلى سليم مباشرة، حدّق فيه كالصياد الذي يقيّم فريسته، ثم قال ببرود: ˝أنت عارف النظام، يا عمر.˝
سليم بصوت يائس متوسلاً: ˝أرجوك يا بيه، ظروفي صعبة، مقدرش أدبر المبلغ كله دلوقتي.˝
راغب بابتسامة جانبية ساخرة: ˝وتقدر تدبر قد إيه؟˝
سليم بتردد: ˝يعني... لو نص المبلغ حتى؟ والباقي لما أسافر إن شاء الله هبقى أبعته لك.˝
ساد الصمت للحظات، تبادل راغب النظرات مع أحد رجاله الواقفين بجواره، ثم مال للأمام، واضعًا مرفقيه على المكتب، وهو يحدّق في سليم وكأنه يستطيع أن يرى من خلاله، ببطء شديد:
˝عشان خاطر عمر بس، هقبل بنص المبلغ، لكن متتأخرش عليا في الباقي، فاهمني؟˝
شعر سليم بقشعريرة تسري في عموده الفقري، لكنه أخفى ارتجافة يده وهو يمدها نحو راغب ليصافحه، بامتنان وسعادة مشوبة بالحذر:
˝فاهم، فاهم، شكرًا يا بيه، وصدقني مش هتأخر عليك، اول ما اشتغل هبعتلك الباقي ع طول.˝
راغب بابتسامة غامضة:
˝يبقى هات لي باسبورك وصورة بطاقتك، ومتقلقش... هتسافر.˝
أنهى سليم مقابلته وهمَّ بالانصراف، لكنه فجأة شعر بوخزة غامضة في صدره، كأن شيئًا ما يحاول تحذيره، توقّف للحظة عند الباب، ألقى نظرة خاطفة على راغب الجالس خلف مكتبه، بعينين تخفيان أكثر مما تُظهران، لم يستطع تفسير ذلك الشعور الثقيل الذي اجتاحه، لكنه كان أشبه بتنبيه خفي... كأن الاتفاق الذي أبرمه لم يكن كما يبدو، وكأن الثمن الذي سيدفعه قد يكون أكثر مما توقع، لكنه تجاهل هذا الشعور، مرددًا في داخله أنها مجرد اوهام.
في مصلحة الجوازات
في صباح اليوم التالي، وقف سليم أمام إدارة الجوازات، يتأمل ذلك المبنى العتيق الذي شهد آلاف الأحلام المعلّقة، أخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستعد لعبور بوابة القدر، ثم تقدم بخطوات ثابتة، كأن كل خطوة تقرّبه أكثر من مستقبله المجهول.
داخل المصلحة، لمح سالم وسط الزحام، وكأن القدر شاء أن يجمعهما مرة أخرى، كرفيقين في رحلة محفوفة بالمجهول، تبادلا نظرات صامتة، تفهّما منها ما لم تقله الكلمات، كأنهما يعلمان أن الطريق الذي يسلكانه لن يكون سهلًا، لكنه الخيار الوحيد المتاح... خيار لم يعد بإمكانهما التراجع عنه.
بعد ساعات من الانتظار، خرج سليم وهو يمسك بجواز سفره الجديد، تأمله طويلًا، ضغط عليه بقوة، وكأنه يخشى أن يستيقظ ليجد أنه كان مجرد حلم.
______________________
في بيت سالم
عندما استلم سالم جواز سفره، شعر بثقل غريب في يديه، وكأن هذه الوثيقة الصغيرة تحمل كل مستقبله، لم يكن هناك وقت للتردد، فسارع بتقديم طلبه للسفر عبر وزارة الهجرة، مترقبًا الرد بين الأمل والقلق، ومرت الأيام كأنها دهور، حتى جاءه الخبر الذي انتظره بشغف... تمت الموافقة على سفره، وحدّدوا له موعد الرحيل، لم يضيع لحظة واحدة، بدأ بحزم أمتعته، كل قطعة ملابس كان يطويها، كانت تحمل معها ذكرى من ذكرياته، كل طية تخبئ بين ثناياها جزءًا من حياته التي يوشك على تركها وراءه، الغرفة التي احتضنته منذ طفولته، صوت أمه تناديه من المطبخ، رائحة أبيه بعد عودته من العمل… كلها أشياء لم يكن يدرك قيمتها إلا الآن، وقف عند الباب، ليجد أمه تنظر إليه، ودموعها تتلألأ في عينيها، تحاول أن تتماسك لكنها تفشل، وبنبرة بصوت مرتعش: ˝خلاص يا ابني نويت؟˝
ابتلع سالم غصته، وحاول أن يبدو ثابتًا، لكنه لم يستطع منع صوته من أن يخرج دافئًا مشحونًا بالمشاعر:
˝ادعيلي يا أمي… إن شاء الله، بدعواتك ربنا يفتحها عليَّ، وأقدر أعوضك إنتي وأبويا عن كل سنين التعب والشقى اللي عشتوها˝.
أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تحاول أن تملأ رئتيها بوجوده قبل أن يغادر وبنبرة رضا:
˝دعيالك يا بني… قلبي وربي راضين عنك، يا نور عيني˝.
تردد سالم للحظة، ثم نظر إليها نظرة حاسمة، وكأن هذا القرار الذي اتخذه لم يكن كاملًا دون أن يخبرها بابتسامة خافتة: ˝يسلملى دعاكي يا أمي، ان شاء الله أول ما أظبط أموري هناك، هبعتلك تكلمي خالي... عشان هناء˝.
اتسعت عيناها، رغم الدموع التي لم تجف بعد، وكأن قلبها وجد عزاءه وسط هذا الوداع بصوت يحمل رجاءً وفرحة خجولة: فرحتني يا بني بالخبر الحلو ده، سافر يا نور عيني ولما ترجع بالسلامة ان شاء الله، مجبور الخاطر، هكون كلمت خالك، وتتجوزوا على طول.
أمسك وجه أمه بين يديه بحنان، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنما يحاول نقشها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة طويلة فوق جبينها، يُشبع روحه برائحتها الدافئة، يستنشقها وكأنه يُخزّن أنفاسها في صدره ليتزود بها في غربته، ثم، بانحناءة مُفعمة بالاحترام والحب، أمسك يدها بين راحتيه، وقبّلها ببطء، وكأنه يبث فيها آخر جزء من روحه قبل أن يرحل، يترك فيها أثره الذي لن يمحوه الزمن، يهمس في صمت بأنه سيعود، ولو بعد حين، ثم اتجه إلى والده، صافحه بقوة، وكأنما يحاول أن ينقل إليه شجاعته، لكن الأب لم يكتفِ بذلك، بل جذبه نحوه في احتضان دافئ، احتضان رجل يحاول إخفاء مشاعره بصعوبة، لكنه فشل أمام لحظة الوداع، شعر بقوة ذراعي والده التي تحمل في طياتها خوفًا خفيًا، دعوات غير منطوقة، ووصايا كثيرة لم تجد طريقها إلى الكلمات، ربّت الأب على كتفه بقوة، كأنه يخبره دون أن ينطق: ˝كن قويًا، لا تنسَ من أنت، ولا تنسَ أننا في انتظارك.˝
حمل سالم حقيبته، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم استدار نحو الباب، لم يلتفت خلفه مرة أخرى، فلم يكن قادرًا على ذلك، خرج مسرعًا إلى العالم المجهول، إلى الرحلة التي لا يعلم ما تخبئه له، لكنه سار بخطوات ثابتة، وعلى شفتيه دعاء واحد، وهو أن يعود مجبور الخاطر.
______________________
في بيت سليم
وقف سليم أمام والده بعد أن تسلّم جواز سفره، عيناه تحملان امتنانًا لا تسعه الكلمات، الرجل الذي ضحّى بكل ما يملك، باع الأرض التي أفنى عمره في زراعتها، فقط ليمنحه فرصة لحياةٍ أفضل.
نظر محمود إلى ابنه بعينين مُثقلتين بالهموم، وبصوتٍ متهدج محمل بالرجاء:
˝يا سليم، يا ابني، أنا بِعت لك قيراط الأرض اللي كنت شايله للزمن، عشان جهاز إخواتك البنات... أوعى تنسانا لما تسافر، إحنا ما لناش غيرك بعد ربنا يا ابني.˝
شعر سليم بوخز الألم في صدره، لكنه تماسك، وضع يده فوق يد والده، وضغط عليها مطمئنًا:
˝صدقني يا أبا، كل ده عشانكم، عشان نعيش كويس ونبقى مرتاحين.˝
لكن الكلمات وحدها لم تكن كافية لطمأنة قلب أمّه، التي ظلت تراقبه بعينين دامعتين، خوفها لم يكن مجرد قلق أم على ابنها المسافر، بل إحساس داخلي يشبه الفقد، تقدمت نحوه، وضعت يدها فوق صدره، وكأنها تحاول أن تحفظ دفء وجوده قبل أن يختفي، وبقبضة قلب أمّ تخشى الفقد:
˝ربنا يوسع عليك يا ابني، ويرزقك بالرزق الحلال، ويردّك لنا سالم غانم.˝
مدّ يده ليقبّل يدها، لكنه لم يستطع منع نفسه من احتضانها، غاص في دفئها للحظة، وكأن رائحتها كانت آخر خيط يربطه بهذا المكان، وبصوتٍ مختنق:
˝تسلميلي يا أما... ويسلملي دعاكي، هو اللي هيسندني في الغُربة.˝
بعدها، خرج سليم متجهًا إلى مكتب راغب، يحمل بين يديه ثمن الأرض، ثمن أحلام عائلته المعلقة على أمل سفره، حيث وضع مصيره بين يدي رجلٍ يعرف تمامًا كيف يستغل حاجات الناس.
أستقبله راغب، بابتسامة جانبية، وكأنه يُحكم قبضته على فريسته، ثم قال بثقة:
˝كدا تمام يا سليم، خلاص، كام يوم وهتكون مسافر، جهّز شنطتك، وهكلمك وقت التحرك.˝
سليم بثقة ظاهرية تُخفي قلقه: ˝تشكر يا راغب بيه، وأول ما تستقرّ أموري، هبعت لك باقي المبلغ.˝
راغب بضحكة باردة، تفضح خبثه:
˝ولا يهمك.. المهم توصل بالسلامة الأول.˝
غادر سليم المكتب، شعر أن الهواء من حوله بدا أثقل، كأن المدينة بأكملها تحاول منعه من الرحيل، لكنه تجاهل كل شيء، وعاد إلى بيته ليحزم أمتعته.
وفي الليلة التي سبقت الرحيل، جلس سليم وسط حقيبته المفتوحة، عيناه تجولان في أركان البيت الذي نشأ فيه، البيت الذي لم يكن يومًا واسعًا لكنه كان دافئًا... ترى، هل سيعود إليه يومًا؟
وفي الصباح، وقف أمام عتبة البيت، يحمل حقيبته بيديه، وقلبه بين يديّ أهله، والده تقدّم نحوه، وضع يده على كتفه، ثم جذب رأسه ليُقبّل جبينه بحنان الأب الذي يخشى أن لا يحتضن ابنه ثانيةً وبصوتٍ مكسور، يثبّت نظره في وجه ابنه وكأنه يريد أن يحفره في ذاكرته: ˝تروح وترجع بالسلامة، يا سليم.˝
لم يستطع سليم الردّ، فقط هزّ رأسه، ثم التفت إلى والدته، التي لم تعد قادرة على كبح دموعها، أمسكت بكفّه، شدّت عليه كأنها تحاول منعه من الذهاب بلهفة مخنوقة:
˝أمانة يا ضناي، لما توصل تطمني عليك.. ما تسيبنيش بالي مشغول.˝
ضمّ وجهها بين راحتيه برفق، كأنما يحاول أن يحفظ ملامحها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، قبل أن ينحني ويودع كفّها بقبلة امتزجت بحزن صامت، وكأنه يترك معها آخر نبض من قلبه قبل أن يمضي، ثم استدار، ليخطو خطواته الأولى مبتعدًا، لكن قدميه كانت ثقيلة، وكأن الأرض ترفض أن تتركه يذهب، قبل أن يختفي، ألقى نظرة أخيرة، فوجد والدته تبكي بصمت، ووالده ينظر إليه بعينين جامدتين، لكنه كان يعرف أنه يكتم دموعه بالقوة.
تجاهل سليم إحساسًا جاثمًا فوق صدره يخبره أن هذه قد تكون المرة الأخيرة التي يراهم فيها، ثم مضى في طريقه إلى النقطة التي حدّدها له راغب، حيث سينتظر هو ومجموعة أخرى، استعدادًا للرحلة التي لا يعلم هل ستكون طريقًا إلى المستقبل.. أم طريقًا بلا عودة.
انطلق كلٌّ من سالم وسليم في طريقهما نحو الهجرة، لكن شتّان بين الطريقين…
سالم سار في طريقٍ قانونيٍّ آمن، خطّط له بعناية، تحمل فيه مشقة الغربة لكنه حمل معه الأمل، أما سليم فاختار طريقًا محفوفًا بالمخاطر، طريقًا رسمه الطمع واستعجال الحلم، دون أن يدرك أنه قد يكون بلا عودة.
كلاهما حمل حقيبته، غادر وطنه، ترك خلفه أهلاً وأحبة، لكن أحدهما سار بخطوات ثابتة فوق أرض صلبة، بينما الآخر كان يسير فوق مياهٍ مضطربة، لا يعلم إن كانت ستوصله إلى برّ الأمان أم ستبتلعه إلى الأبد.
وصل سالم أخيرًا إلى وجهته، بعد رحلة طويلة حملت بين طياتها القلق والتوتر، لكنه ما إن وطأت قدماه الأرض الجديدة حتى شعر وكأنه يعبر إلى عالم مختلف تمامًا، الهواء مختلف، المدينة تعج بالحياة، والفرص تبدو وكأنها تنتظره ليقتنصها،
استلم عمله وبدأ يتأقلم شيئًا فشيئًا، رغم الحنين الذي كان يعتصر قلبه كل ليلة، إلا أن عزيمته كانت أقوى من أن يتراجع، كان يدرك أن عليه أن يصمد، أن يواجه العواصف بكل ما أوتي من قوة، أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه ليس ضعيفاً، أنه قادر ع أجتياز المحنة وتحمل مشقّات الغربة وتحقيق أحلامه.
فكان أول ما فعله بعد استقراره هو الاتصال بوالدته، صوتها المشتاق ملأ أذنيه قبل أن تنطق بكلمة واحدة وبابتسامة مطمئنة:
˝أنا بخير يا أمي، الحمد لله وصلت واستلمت الشغل، الأمور بتتحسن يومً بعد يوم، ما تقلقيش˝.
كان يعلم أنها لن تكف عن القلق مهما حاول طمأنتها، لكنها مع ذلك شعرت ببعض الراحة لسماع صوته، أما والده، فلم يكن من الرجال الذين يعبرون عن مشاعرهم بالكلمات، لكنه في تلك اللحظة، وبعد أن استلم الهاتف من زوجته، اكتفى بجملة واحدة حملت في طياتها كل شيء:
˝خليك على العهد، وافتكر إن إحنا مستنيينك.˝
أغلق سالم الهاتف، ثم نظر من نافذته إلى الشوارع المزدحمة أسفل المبنى حيث يقف، هنا، يبدأ مستقبله.. لكنه في أعماقه يعلم أن قلبه ما زال هناك، في وطنه، حيث ينتظره من يحبونه.
أما سليم عندما وطأت قدماه سطح المركب، أدرك سريعًا أنه في مأزق لا خروج منه، المركب كان مزدحمًا فوق طاقته، يتأرجح تحت ثقل الأجساد المتكدسة والحمولة الزائدة، لكن العودة لم تكن خيارًا، والخوف لم يكن رفاهية مسموحة، حاول إقناع نفسه بأن الأمور ستسير على ما يرام، رغم أن كل شيء من حوله كان يصرخ بالعكس،
الأمواج العاتية، الهواء المالح الذي يلسع وجهه، والوجوه الشاحبة من حوله كانت شاهدة على رحلة محفوفة بالمجهول، لم يكن يدرك أن الأسوأ لم يأتِ بعد، عند اقتراب المركب من الحدود الإيطالية، وقف رجال راغب أمامهم بوجوه خالية من الرحمة، يلقون الأوامر كما لو كانوا يطردون حمولة زائدة بلا قيمة، فأشار أحد الرجال بحدة إلى القارب الصغير المتأرجح وسط الأمواج، ثم التفت إلى سالم ومن معه، يعلن بصوت صارم أن عليهم النزول في هذا المكان، لم يكن هناك مجال للاعتراض، فمصيرهم بات معلقًا على أمواج البحر، من يصل إلى الشاطئ فقد كتب له النجاة، ومن تبتلعه المياه فلن يكون سوى رقم جديد في قائمة المفقودين.
تسارعت أنفاس سليم، وارتفع صوته وهو يحدّق في الرجل أمامه بعينين ممتلئتين بالذهول والذعر. جسده ارتجف رغم حرارة الموقف، وكأن صقيع البحر تسلل إلى عظامه قبل أن يلامس مياهه. خطا خطوة للأمام، يلوّح بذراعيه بانفعال، قبل أن يهتف بصوت مختنق:
˝إزاي يعني ننط فـ عرض البحر؟! دا كدا انتحار!˝
أجابه الرجل ببرود قاتل:
˝دي الأوامر.. هو كدا النظام! ويلا بقى متعطلناش، خلينا نرجع نجيب الفوج اللي بعدكم.˝
تجمّد سليم للحظة، نظراته تائهة بين البحر الواسع والقارب المهترئ، وبين الرجال المسلحين الذين لا مجال لمناقشتهم، شعر أن الموت يُحدّق به من كل جانب، لكن لم يكن أمامه سوى الامتثال، استسلم للأمر الواقع، ونزل كما نزل الآخرون، رغم أن صوته الداخلي كان يصرخ: كان لازم تسمع كلام سالم.. كان لازم تفهم أن راغب بيتاجر في الموت!
قلبه يخفق بقوة، وكأن ضلوعه تضيق على روحه، وعقله يرفض استيعاب المصير الذي يُدفع إليه قسرًا، كان الندم ينهش قلبه كلما تذكر كلمة صديقه، لكنه لم يعد يجدي نفعًا الآن، عليه أن يقاتل من أجل حياته، أن يتمسك ولو بخيط واهٍ من الأمل، وما إن أبحر القارب الصغير حتى بدأ يتمايل بجنون مع الأمواج الهائجة، وكأن البحر يرفض حملهم، أو ربما كان يعاقبهم على سعيهم خلف الحلم بطريقة خاطئة،
لم تمر سوى لحظات حتى تسللت المياه إلى داخله، باردة كالموت، غادرة كالوهم، تعالت صرخات الركاب، كل منهم يحاول التشبث بالحياة كيفما استطاع، لكن الفوضى كانت أسبق منهم، في غمضة عين، انقلب القارب، وابتلع البحر الجميع في جوفه المظلم.
راح سليم يعافر، يحاول أن يعوم، لكن الرعب شلّ أطرافه، والماء البارد صار كيدٍ جبارة تسحبه إلى القاع، الهواء يضيق في رئتيه، والموج يصفعه بلا رحمة، من حوله أجساد تتخبط، بعضها يستسلم سريعًا، وبعضها ما زال يحاول النجاة، لكنهم جميعًا يعلمون أن المصير واحد.
في تلك اللحظة، لم يكن الموت فكرة بعيدة، ولا احتمالًا مستبعدًا، بل كان حاضرًا أمامه، يحدّق في عينيه بلا هوادة، يقترب منه كما لو أنه يعرفه منذ زمن، أدرك حينها فقط أنه ارتكب أكبر خطأ في حياته، وأن النهاية كانت محتومة منذ اللحظة التي اختار فيها الطريق الخطأ، وعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق وصولًا الى الهدف، لكنه لم يدرك ذلك.. إلا وهو يغرق.
وبذلك عزيزي القارئ،
إن لكل طريق نختاره في الحياة عواقبه الحتمية، فحينما تسير في دربٍ خاطئ، لا تتوقع أن تصل إلى نهاية مختلفة عن الفشل أو الضياع، قد لا يكون الموت دائمًا نهاية جسدية، لكنه قد يكون موتًا من نوع آخر، موت الضمير حين تعتاد الخطأ حتى يصبح جزءًا منك، أو موت الروح حين تفقد ذاتك وسط زحام الندم والخيبات، فتعيش جسدًا بلا معنى، تتنفس لكنك لا تحيا، وعلى النقيض، فإن الطريق المستقيم، وإن بدا أطول أو أكثر صعوبة، هو السبيل الوحيد إلى النجاة، هو الذي يمنحك راحة الضمير، وسكينة القلب، والطمأنينة بأنك لم تظلم أحدًا، ولم تظلم نفسك. فلا تستسهل الطرق الملتوية، فإنها وإن بدت مغرية في البداية، لن تقودك إلا إلى الهاوية.
كما يقولون: ˝امشِ عدل، يحتار عدوك فيك.˝ فالنقاء في المسير هو ما يمنحك القوة، وما يبني لك طريقًا لا تخشاه العثرات.
ما وراء المحيط بقلمي✍️____لبنى دراز
تمت بحمد الله. ❝ ⏤Lobna Draz
لطالما تأملت مياه البحر الواسعة، وهي تمتد بلا نهاية، تلامس المحيط وكأنها تهمس بأسرارها.
تُرى، ماذا يكمن خلفها؟ هل هو الحلم المنتظر أم الكابوس المجهول؟ النجاة أم الضياع؟
في أحد الأحياء الشعبية، حيث تختلط رائحة الخبز الطازج المتصاعد من أحد المخابز بدخان المقاهي المتناثر في الهواء، وحيث الأزقة الضيقة تضج بأصوات الباعة الجائلين. على إحدى الطاولات الخشبية المهترئة داخل مقهى بسيط، الأضواء الخافتة تتراقص على وجوه الجالسين، وأحاديث الرجال تتشابك مع صوت المذياع الذي يصدح بأغنية قديمة، جلس الصديقان، سالم شابًا في منتصف العشرينيات، طويل القامة نسبيًا، بجسد نحيل لكن متماسك، كأن الحياة صقلته رغم قسوتها، وجهه ليّن الملامح، عيناه السوداوان تحملان مزيجًا من الحلم والضياع، كأنهما تبحثان عن مخرج من دوامة الفقر والقيود التي تحاصره، أما سليم، فكان شابًا في منتصف العشرينيات أيضًا، نحيل الجسد لكنه قوي الملامح، يحمل وجهه ندوب التعب وأشعة أمل خجولة كأنه إنعكاس لسنوات عمره التي تناثرت في الورش والمخابز، محاولًا شق طريقه وسط قسوة الحياة، وهما يحملان بداخلهما همومًا لاتنتهي وأحلامًا لا تحصى لا يعلمان كيف يحققونها، ظلا يتسامران سويًا عما يدور بخلدهما.
كان سالم مستندًا إلى كرسيه بإهمال، يحدق في كوب الشاي أمامه وكأنما يبحث في قاعه عن مخرج من الضيق الذي يكبّله، زفر بضيق، ثم ضرب بيده على الطاولة بخشونة وبنبرة مليئة ضيق ومرارة:
˝والله الواحد اتخنق! تعبت من القعدة من غير شغل، وكل يوم أمي تديني مصروفي زي العيال الصغيرة، وانا راجل أطول منها،
والله يا أخي بقيت حاسس إني بشحت منها وانا بمد إيدي أخد المصروف بدل ما أديها.˝
هزّ سليم رأسه بتنهيدة ثقيلة، عاقدًا ذراعيه فوق صدره، وكأن جسده يشارك روحه في التعب، حدّق في الشارع الممتد أمام المقهى، حيث الأطفال يركضون حفاة، والباعة ينادون على بضائعهم بصوت مبحوح، ثم قال بإحباط وبغصة في صوته: ˝ومين سمعك يا سالم؟ أنا لفيت على كل شغلانة ممكن اشتغلها ما خليتش.. مرة في ورشة، مرة في فرن، مرة في محل ملابس، اهو بجيب مصاريفي عشان ما أطلبش من أبويا، بس الفلوس اللي بتيجي ما بتكفيش، كل حاجة بقت نـ*ـار، والعيشة بقت مستحيلة˝
أطرق سالم رأسه قليلًا، ثم رفع عينيه نحو السماء، وكأنما يحاول أن يرى مصيره بين نجومها المتناثرة، تمتم بصوت مملوء بالشوق لحياة لم يعشها بعد وبأمل ممزوج بالخيبة: ˝نفسي أهرب من هنا، أروح أى بلد، إيطاليا، أمريكا، مش فارقة، المهم ألاقي شغل وأبني نَفسي، نِفسي أتجوز هناء بنت خالي، بدل ما هي مربوطة جنبي، لا قادر أتقدملها ولا قادر أسيبها تشوف حالها!˝
نظر إليه سليم نظرة طويلة، وكأنما يزن كلماته قبل أن ينطق بها، ثم قال ببطء، وكأنه يكشف له عن كنز مخفي:
˝تصدق بالله يا سالم؟ تاهت ولقيناها! الواد عمر، ابن عم إبراهيم، كان بيقول إن فيه واحد اسمه راغب، بيسفّر الناس لإيطاليا، بس بياخد 100 ألف جنيه، ويجيبلك عقد شغل مضمون هناك، ده حتى عمر خلاص هيسافر عن طريقه، تعالى نروح له، واهو يا عم تقدر تتجوز بنت خالك اللى مجنناك دي˝
سالم، الذي كان يترنح بين الأمل واليأس، اتسعت عيناه للحظة قبل أن يطلق ضحكة ساخرة، مريرة، كمن سمع نكتة سوداء ثم قال بتهكم وحسرة: ˝هاهاا.. 100 ألف؟! يا عم هو أنا لو معايا المبلغ ده كنت هبقى قاعد ع القهوة أستنى أمي تديني مصروفي؟!˝
لكن سليم لم يفقد حماسه، مال نحوه قليلًا، وكأنما يوسوس له بفكرة قد تقلب حياتهما رأسًا على عقب قائلاً بإصرار:
˝يا ابني اسمع مني، تعالى بس نروح له ونتكلم معاه، يمكن يطلع ابن حلال ويساعدنا.. ممكن ياخد مقدم صغير، والباقي نبقى نبعته لما نسافر ونشتغل!˝
كان عقل سالم يعمل بسرعة، بين المنطق الذي يخبره بأن الأمر مستحيل، والرغبة العارمة التي تجعله يرى أي فرصة كطوق نجاة، لكنه سرعان ما هزّ رأسه بعناد، ثم نهض من كرسيه ودسّ يديه في جيبيه بحسم: ˝لا يا عم، عايز تروح انت، روح، أنا هرجع البيت، أكيد أمي خلصت الغدا، سلام!˝
تابعه سليم بعينيه يشاهده وهو يبتعد وسط زحام الشارع، خطواته ثقيلة، لكنها تحمل في داخلها صراعًا لا يراه أحد، زفر ببطء، ثم أسند رأسه إلى الطاولة، غارقًا في دوامة من الأفكار، ترى.. هل يخاطر بنفسه ويذهب إلى راغب وحده، أم يحاول إقناع سالم مرة أخرى؟
كانت الليلة قد بدأت تسدل ستائرها على الحيّ، أما أحلامهما، فعلى الرغم من ظلام الواقع، كانت تتخبط بحثًا عن شعاع نور في أفق مجهول..
___________________
في بيت سالم
في نفس الحي الشعبي، حيث تتراص البيوت المتجاورة كأنها تشد بعضها بعضًا، وقف سالم أمام باب منزله المتواضع، الذى تتدلى ستائره القماشية فوق مدخله، بينما تعكس جدرانه القديمة حكايات العائلة التي سكنته لعقود، كان المنزل صغيرًا لكنه دافئ، يضم غرفة معيشة بسيطة بها أريكة مهترئة لكنها تحمل دفء العائلة، وطاولة خشبية في المنتصف تتوسط الغرفة وكأنها شاهد على أحاديث الأيام وذكرياتها، في الزاوية، كان هناك تلفاز قديم يعمل بصعوبة، بينما تنبعث من المطبخ رائحة الطعام المنزلي التي تحمل معها إحساسًا بالأمان رغم ضيق الحال، دلف إلى المنزل، لكن عقله ظل عالقًا في حديث سليم، تتصارع داخله الأفكار بين رغبته في الهروب من هذا الواقع الضيق، وخوفه من المجهول الذي ينتظره هناك، خلف البحار.
ما إن دخل حتى استقبلته والدته، هنادي، بلهجتها الحادة المعهودة، لكن بعينين تحملان ألف سؤال وألف قلق، قائلة: ˝طيب أرمى سلام ربنا، ولا داخل كده كأنك داخل على يهود مش مسلمين؟˝
رفع رأسه كأنما استيقظ من شروده، ثم تنهد وهو يخلع حذاءه عند الباب:
˝معلش يا أمي، سامحيني˝
تأملته للحظة، فلاحظت شروده، شحوب وجهه، شيء ما يشغل فكره، اقتربت منه ومسحت على كتفه بحنان:
˝مالك يا ضنايا؟ إيه اللي شاغل بالك؟ مصروفك خلص يا حبيبي مش كده؟˝
هزّ سالم رأسه نافيًا، ثم جلس على الأريكة مطرقًا برأسه: ˝معايا يا حبيبتي، خيرك مغرقني.. بس، تعبت يا أمي من العوزة وقلة الشغل، بصراحة بفكر أسافر برة، يمكن ربنا يكرمني والحال يتبدل.˝
قطبت هنادي حاجبيها، وعقدت يديها أمام صدرها، فبدت عيناها تائهتين، كأنها تحاول استيعاب فكرة سفره، أو تبحث عن طمأنينة مفقودة بين كلماته،
قائلة بنبرة يشوبها القلق والتوجس: ˝وهتلاقي مين بس يسفرك يا ابني؟ ولا هتسافر فين وازاي؟˝
تنهّد سالم وهو يمرر يده في شعره بتوتر، ثم قال بصوت يحمل شيئًا من التردد:
˝مش عارف والله يا أمي، بس سليم بيقول إن عمر ابن عم إبراهيم جارنا هيسافر عن طريق واحد اسمه راغب، رايح إيطاليا.˝
خرج والده من الغرفة المجاورة بعد أن سمع حديثهما، ظل يستمع بصمت، حتى تحدث أخيرًا، بصوت حمل نبرة القلق أكثر من الغضب: ˝وده تبع شركة سياحة يا ابني؟ ولا تبع السفارة؟ ولا إيه بالظبط؟ فهّمني.˝
تردد سالم، ثم قال:
˝بصراحة مش عارف يا بابا، بس سليم بيقول إن الراجل ده بياخد 100 ألف جنيه مقابل العقد والسفر.˝
نظر حسن إلى ابنه طويلًا، وكأنما يحاول قراءة ما يدور في رأسه، ثم قال بجدية:
˝بص يا ابني، هقولك كلمة وعايزك تسمعها كويس.. لو عايز تسافر وتشوف رزقك وتبني مستقبلك، مش همنعك، بس امشي صح، روح الشركات الحكومية، اسأل عن الطرق القانونية، وأنا معاك ف اللي انت عايزه، لكن اللي بيقول عليه صاحبك ده، لأ يا سالم.. ده شكله واحد من تجار الموت اللى بياخدوا الفلوس ويسهّلوا السفر للشباب، والله أعلم هتوصل ولا هتضيع في البحر زي غيرك.˝
تسارعت نبضات قلب سالم، لم يكن يفكر في الأمر من هذه الزاوية، رفع عينيه إلى والده، كأنه يبحث عن بصيص أمل: ˝يعني أنت يا حاج، مش معترض إني أسافر؟˝
زفر حسن أنفاسه ببطء يحاول ترتيب كلماته بعناية، حدّق في وجه ابنه بنظرة حازمة تخفي خلفها مزيجًا من الخوف والرجاء قائلا بصوت هادئ يحمل ثقل خبرة السنوات:
˝لا يا حبيب أبوك، مش معترض طالما مافيش لك رزق هنا، بس امشي في النور، مش في الضلمة.˝
أغمض عينيه للحظة وكأنه يسترجع ذكريات لأشخاص فُقدوا في طرق مجهولة، قبل أن يعود لينظر إلى سالم مباشرة، متابعًا بجدية:
˝دور على فرصة سفر قانونية يا سالم، إنما الطريق اللي بتتكلم عنه ده، مش مضمون يا ابني.. تفتكر اللي هياخد منك مبلغ زي ده، همه إنك توصل بالسلامة؟ لا، دول همهم الفلوس وبس، أنا مش هقف في طريقك، بس مش هسمح لك تضيع نفسك في مغامرة مش محسوبة.˝
ساد الصمت للحظة، لم يُسمع فيها سوى صوت أنفاس سالم المضطربة، بينما بدت هنادي وكأنها تحبس دموعها بصعوبة، تنظر لزوجها وكأنها تنتظر منه أن يزيد في كلامه ليمنع ولدها تمامًا، لكنه اكتفى بالصمت، تاركًا القرار في يد ابنه، في تلك الليلة، ظل سالم مستلقيًا على سريره، يفكر في كلمات والده، وفي الطريق الذي عليه أن يختاره، كان يدرك أن الفقر قاسٍ، لكنه أيضًا أدرك أن الحلم إذا لم يُبْنَ على أساس قوي، قد يتحول إلى كابوس لا نجاة منه،
وفي النهاية، قرر أن يسافر، لكنه سيفعلها بالطريقة الصحيحة، كما قال والده. فالموت في الغربة ليس أهون من الحياة في الفقر.
_____________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل، لكنه لم يكن كعادته، سار ببطء وعيناه شاردتان، يحمل على كتفيه ثقل أفكاره التي لم تفارقه منذ ساعات، لم يكن المنزل سوى محطة مؤقتة لروحه القلقة، فقد أصبح يشعر بأنه محاصر بين جدرانه، كما لو أن الأبواب مغلقة أمام مستقبله، وما زالت الأفكار تتلاطم في رأسه كالأمواج، تبحث عن طريق للخلاص من هذا الواقع الخانق. وقف للحظة أمام باب منزله القديم ذو الطابقين، يعلوه بعض الشقوق التي حفرها الزمن في جدرانه، مدخله الضيق تصطف على جانبيه أحذية قديمة، ونافذته المطلة على الزقاق تكاد لا تغلق جيدًا، كأنها تعبت من مقاومة الرياح، دفع الباب بيده، فصدر عنه أزيز خافت، ثم دخل ليجد أمه تجلس على أريكة خشبية قديمة، منشغلة بطيّ بعض الملابس، ووجهها الذي خطّ عليه الزمن تجاعيد خفيفة، يضيئه نور خافت ينبعث من مصباح يتدلى من السقف، فألقى عليها السلام بصوت هادئ: السلام عليكم يا ست الكل.˝
ما إن وقع نظرها عليه حتى رفعت رأسها بسرعة، وضعت ما بيدها جانبًا، ثم تطلعت إليه بابتسامة دافئة تخفي وراءها قلقًا لم تستطع مواراته:
˝وعليكم السلام ورحمة الله، مالك يا سليم يا حبيبي؟˝
ألقى بجسده على أقرب مقعد، وأخذ يمرر يده في شعره بعصبية واضحة، زفر بضيق قبل أن يرد:
˝زهقان يا أمه.. وعايز أطفش من البلد دي بأي طريقة.˝
قطّبت نادية حاجبيها، واعتدلت في جلستها، ثم قالت بصوت دافئ لكنه يحمل قلق الأم:
˝سلامتك من الزهق يا قلب أمك، مالك بس يا ضنايا؟˝
انتفض واقفًا، وقد تملّكه الغضب والإحباط، لوّح بيديه في الهواء وكأن كلماته تكاد تخنقه:
˝هيكون مالي بس يا أمه؟ زهقان ومخنوق وأنا كده عواطلي بعد سنين تعليم وشهادة جامعية بتقدير! مش لاقي حتى تمن السيجارة، وعشان أقدر اشتريها، لازم اتسحل في قهوة، ولا اتحشر تحت عربية في ورشة، ولا يطلع عيني في فرن، واتحمل غلاسة ده ورزالة ده كأني بشحت منهم!˝
في هذه اللحظة، دخل والده، محمود، رجل خمسيني، آثار التعب والحياة القاسية واضحة على وجهه، يرتدي جلبابًا رماديًا قديمًا، ويضع طاقية بيضاء فوق رأسه، فاقترب وجلس على المقعد المقابل له، هزّ رأسه بأسى وقال بنبرة يغلفها العجز: ˝ماهو ده حال الشباب كلها يا ابني، ما فيش غير القليل، هنعمل إيه يعني؟ ما باليد حيلة، يا سليم.˝
أطرق سليم برأسه، وابتلع مرارة الواقع، ثم قال بصوت خافت يشوبه الإحباط:
˝والله يا أبا تعبت والعمر بيجري! لا عارف اشتغل وأساعدك ولا حتى عارف أكفي نفسي!˝
وضعت نادية يدها على كتف ابنها بحنان، كأنها تحاول أن تخفف عنه ثقل همومه، لكنها لم تجد كلمات تشفي وجعه سوى تساؤلها العاجز:
˝وفي إيدنا إيه بس يا حبيبي نعمله؟ ما فيش غير إننا ندعيلك ربنا يرزقك، بس أنت كمان خليك صابر.˝
رفع سليم رأسه، واتخذ قراره، فقد كان الشعور بالضياع أشد عليه من أي مخاطر قد تواجهه، فقال بصوت جاد:
˝بفكر أسافر يا أمه.. الواد عمر ابن عم إبراهيم هيسافر إيطاليا، في واحد اسمه راغب جاب له عقد وهيسفره، بس هياخد منه 100 ألف جنيه!˝
سكت للحظة، ثم تابع بنبرة أكثر إصرارًا:
˝هكلمه يمكن يجيب لي عقد أنا كمان.˝
نظر إليه والده باندهاش، واتكأ إلى الوراء مفكرًا، قبل أن يرد مستنكرًا:
˝يااااه! 100 ألف جنيه؟! ده مبلغ كبير أوي يا سليم، هتجيبه منين بس يا ابني؟˝
عقد سليم حاجبيه، وأخذ يفكر في طريقة لإقناع ذلك الرجل
ثم قال محاولًا طمأنة والده: ˝أنا هحاول أقنع اللي اسمه راغب ده، إنه ياخد مني أي مبلغ دلوقتي، والباقي أبعته له لما أسافر واشتغل، يمكن يوافق، يا أبا!˝
نظر محمود إلى سليم نظرة تحمل ثقل السنين، يعلم أنه لا يملك المال، ولا يملك حتى وعدًا بأن الأمور ستكون بخير، لكنه لا يستطيع أيضًا كسر جناحه وتحطيم آماله.
أما نادية، لم تكن سعيدة بهذا القرار، لكنها لم تجد في قلبها القوة لتثنيه عنه، فالحياة ضاقت عليه، وعيناه كانت تحملان رجاءً يوجع قلبها، فقالت بنبرة مستسلمة لكنها مليئة بالدعاء: ˝خلاص يا حبيبي، اتوكل على الله، شوف عمر، خليه ياخدك للراجل ده، وربنا يكتب لك الخير يا ضنايا.˝
تأثر سليم بدعم والدته، ثم أقترب منها وأمسك يدها قبّلها بحب، وتمتم بصوت يملؤه الرجاء:
˝يا رب، يا أمه، ادعي لي أنتِ بس.˝
وفي تلك الليلة، ظل سليم مستلقيًا على سريره، يحدق في السقف بعينين مثقلتين بالأفكار، وقلبه ينبض بعنف بين الحماسة والقلق، كان عقله يطوف بين احتمالات المستقبل، بين الطريق الذي يستعد لخوضه والغد الذي يلوح أمامه كضباب لا يكشف عن مكنونه، هل ستكون هذه الفرصة طوق نجاته، أم مجرد وهم يقوده إلى معاناة لا يدري مداها؟ لم يكن متأكدًا مما يخبئه له القدر، لكنه كان يعلم يقينًا شيئًا واحدًا.. لم يعد بإمكانه البقاء هنا أكثر من ذلك.
_____________________
في المقهى
في اليوم التالي، وكما جرت العادة، التقيا سليم وسالم بعد ساعات طويلة من التجوّل في الشوارع بحثًا عن فرصة عمل، لم يكن الهدف منها وظيفة مستقرة بقدر ما كان محاولة لتوفير ما يكفي لجلسة المساء في المقهى، حيث يقتلان الوقت بين لُعبة النّرد وأحاديث عابرة عن المستقبل الذي بدا بعيد المنال، جلسا إلى طاولتهما المعتادة، وأمامهما أكواب الشاي التي بدأ سطحها يبرد، بينما يملآن الجو بأنفاس ثقيلة، مزيج من الإرهاق والأمل الخافت، حيث تصاعد الدخان في الهواء مختلطًا بأصوات الباعة في الخارج وضجيج الحياة الرتيبة.
تنهد سالم، وأسند مرفقه على الطاولة وهو يحرّك الملعقة داخل كوبه، ينظر إلى سليم بنظرة جانبية قبل أن يقول بصوت خافت لكنه مشحون بالتردد:
˝أسكت يا سليم، بقول لأبويا عن كلامك ع السفر، وعن الراجل اللي اسمه راغب ده.˝
اعتدل سليم في جلسته على الفور، وكأن الكلمات قد نبهته من سباته، تسللت الحماسة إلى ملامحه وهو يسأل بترقب:
˝وبعدين؟ قالك إيه؟ وافق، مش كده؟˝
لم يرد سالم بسرعة، لكنه أدار الملعقة ببطء داخل الكوب قبل أن يضعها على الطاولة وهو يرمي حجر النرد:
˝أبويا ما عندوش اعتراض على السفر. بس مش مع الراجل ده، قال لي أقدم تبع الحكومة.˝
انعقد حاجبا سليم، ونقر بأصابعه على الطاولة بإيقاع سريع ينمّ عن ضيقه:
˝يا عم، هى الحكومة بتسفّر حد الأيام دي؟˝
رفع سالم كتفيه وهو يرد بنبرة حاول أن تبدو مقنعة:
˝أيوه يا ابني، تبع وزارة القوى العاملة والهجرة، بندخل بياناتنا على النت، ونتابع لغاية ما ربنا يكرم.˝
قهقه سليم ضاحكًا وهو يلوّح بيده في الهواء:
˝ده انت رايق يا عم سالم! يوم الحكومة بسنة يا ابني، هو انت فاكر هتقدم النهارده وتسافر بكرة؟˝
هزّ سالم رأسه وارتشف رشفة صغيرة من الشاي قبل أن يرد بصبر نافذ:
˝هو احنا ورانا إيه يعني؟ أهى كده قعدة وكده قعدة، على الأقل يبقى في حاجة تشغل تفكيرنا بدل الفراغ اللي إحنا فيه ده.˝
لم يكن سليم من النوع الذي يحتمل فكرة الانتظار، زفر بحدة وهو يسحب سيجارة من علبته ويشعلها، ثم قال وهو ينفث الدخان ببطء:
˝لا يا عم، أنا ما عنديش طولة بال زيك، أنا هروح أشوف عمر يوصّلني براغب، وإن شاء الله أسافر عن طريقه.˝
قطب سالم جبينه، وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يراقب سليم بصمت لثوانٍ قبل أن يقول بنبرة مشوبة بالقلق:
˝يا ابني، اسمع مني، خليك في السليم وتعالى نقدّم تبع الحكومة أحسن، وسيبك من الراجل ده! ده على رأي أبويا، شكله واخدها تجارة وبيتاجر في الموت!˝
ضحك سليم بسخرية، وأطفأ سيجارته قبل أن يميل للأمام، مستندًا بكوعيه إلى الطاولة وهو يهمس بمكر:
˝لا يا سيدي، خليك انت في طريقك السليم ياخويا، وسيبني أنا للطريق السريع! يا ابني، ده أنا هسافر وأشتغل وأكسب، وهارجع كمان أجازة، وتكون انت لسه ما سافرتش، ولا حتى الحكومة ردّت عليك!˝
شعر سالم بوخزة في صدره، لكنه أبعدها سريعًا، يعلم أن صديقه عنيد ولا يسمع إلا ما يريد، ومع ذلك لم يستسلم، مال نحوه محاولًا إقناعه للمرة الأخيرة:
˝يا ابني اسمع مني. سيبك من الطريق ده عشان ما تندمش في الآخر.˝
لكن سليم كان قد حسم أمره، ضرب الطاولة بكفه وهو يقول بإصرار:
˝اسمعني انت يا سالم، خليك معايا ونسافر سوا يا ابني، أسهل وأسرع!˝
هزّ سالم رأسه ببطء، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها قلقًا دفينًا:
˝لا يا عم، خليك انت في طريقك السريع، وسيبني أنا في الطريق المضمون، ده على رأي أمي، بتقول دايمًا: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.˝
ساد الصمت للحظات بينهما، قبل أن يميل كل منهما إلى الخلف، كل واحد منهما غارق في أفكاره الخاصة، وهكذا، في تلك الليلة، خرج كلٌ منهما من المقهى وقد حسم أمره، غير مدركين أن قراراتهما تلك ستحمل لهما مصائر لم يكن أيٌ منهما يتوقعها.
____________________
في بيت سالم
عاد سالم إلى منزله وجلس مع والده ليخبره بقراره بالتقديم على السفر إلى إيطاليا عبر موقع وزارة الهجرة على الإنترنت، كان يشعر بمزيج من الحماس والقلق، فهذه الخطوة قد تكون بداية جديدة لحياته، لكنها في الوقت ذاته مجهولة المصير.
رفع حسن رأسه ببطء، حدَّق في ابنه للحظات، ثم قال بصوت هادئ، لكنه يحمل الكثير من التساؤلات:
˝طيب يا ابني، كويس.. بس عرفت إيه الأوراق المطلوبة عشان تعرف تقدِّم؟˝
عدل سالم جلسته، وأراح كفيه على ركبتيه، ثم أجاب بثقة:
˝حاليًا مش مطلوب غير إنِّي أدخل بياناتي الشخصية على الموقع الإلكتروني، وأحدِّد موقفي من الجيش، وأكتب رقم جواز السفر، وبعدها هستنى لحد ما يردوا عليا.˝
هزَّ حسن رأسه بتفهُّم، ثم قال بنبرة مشجعة:
˝وماله، قدِّم يا ابني، وربنا يوفقك.. واللي رايده ربك هيكون إن شاء الله.˝
شعر سالم براحة غريبة تغمره، رغم التوتر الذي لم يفارقه، لكنه كان بحاجة لدعم والده أكثر من أي شيء آخر، نظر إليه بعينين ممتلئتين بالامتنان، ثم قال:
˝ادعيلي يا أبو سالم.˝
وضع حسن يده على كتف ابنه وربَّت عليه بحنان، ثم قال بصوته العميق الذي اعتاد سالم أن يستمد منه الطمأنينة:
˝داعيلك يا بني، وراضي عنك.. ربنا يوفقك يا حبيبي.˝
لم يتردد سالم في الانحناء ليقبِّل يد والده بحب واحترام، وقال بحرارة:
˝ربنا يبارك لنا فيك يا حج، وما يحرمناش منك ولا من دعواتك ورضاك علينا.˝
بينما كان المشهد يسوده جو من الألفة، خرجت هنادي من المطبخ وعينيها تحملان قلق الأمهات المعتاد:
˝بس يا بني، إنت ما عندكش باسبور، هتقدِّم إزاي؟˝
ضحك سالم بخفة، محاولًا طمأنتها، وقال بثقة:
˝ما تقلقيش يا ست الكل، إن شاء الله بكرة الصبح هروح إدارة الجوازات وأطلع الباسبور وأقدِّم بيه.. بس إنتِ ادعيلي، وهتفرج بإذن الله.˝
رفعت هنادي كفيها بالدعاء وهي ترد بحماس:
˝دعيالك يا بني، يسعدك، ويجعل في وشك القبول، ويفتح لك كل باب مقفول، ويهدي عليك خلقه ببركة ربنا وبركة الصلاة على الرسول.. عليه أفضل الصلاة والسلام.˝
أغمض سالم عينيه للحظة، مستشعرًا بركة دعائها، ثم قال بابتسامة خاشعة:
˝الله. يا أم سالم، أحلى دعوة. ربنا يقبل منك يا رب، اللهم آمين.˝
نظرت هنادي إلى حسن بنظرة جانبية ماكرة، ثم قالت وهي تخفي ابتسامتها:
˝اسكت يا حسن، مش إبراهيم وعياله جايين يوم الجمعة وهياخدوا يومين عندنا.˝
انتبه حسن لما قالته زوجته، فأدار رأسه نحوها ببطء ثم قال متسائلًا وهو ينقل نظراته إلى سالم:
˝بجد؟ طيب كويس إنك قولتي، عشان نعمل حسابنا.. بس يا ترى هناء جاية معاهم ولا إيه؟˝
ضحكت هنادي بخبث، وردَّت بحزم مصطنع:
˝أنا ياخويا شرطت عليه ما يجيش من غير حبيبة عمتها.˝
جلس سالم يستمع الى حديث والديه، لكن عقله كان في مكان آخر.. لم يكن بحاجة إلى سماع اسمها، فهو محفور في أعماقه.. تلك الفتاة التي سكنت قلبه دون إذن، وأصبحت روحه لا تعرف الطمأنينة إلا بها، لكنها كانت أيضًا الحلم البعيد، الأمنية العالقة بين ضيق الحال وقلة الفرص، الحلم الذي يخشى أن يضيع منه كما ضاع غيره،
عندما جاء ذكرها، تجمدت أنفاسه في صدره، كأن الزمن توقف للحظة، حاول أن يخفي اضطرابه، خفض رأسه ببطء، شبك أصابعه ببعضها بقوة، كأنه يحاول أن يتمسك بشيء وسط الفراغ الذي يحاصره، لكن عقله لم يرحمه، كان يعيد عليه ذات الحقيقة القاسية: لا يملك ما يكفي ليطلبها.. لا يملك سوى قلبه، وهل القلب وحده يكفي؟
تنهيدة طويلة أفلتت منه، وكأنها تحمل كل الخذلان، كل الانتظار، كل الأحلام التي كاد يفقدها، رفع رأسه قليلًا، نظر إلى الفراغ أمامه وكأنه يرى مستقبلًا مجهولًا، ثم همس، بصوت لم يكن سوى وعد قطعه لنفسه:
˝هانت يا هناء.. إن شاء الله ربنا يوفقني، وأول حاجة هعملها.. هطلب إيدك.˝
___________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل بخطوات ثقيلة، ألقى بجسده على الأريكة، حدّق في السقف بشرود، ثم زفر بضيق لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، هذه الحياة تُخنقه، والفرص هنا تبدو وكأنها تنكمش يومًا بعد يوم حتى تكاد تختفي، مدّ يده إلى هاتفه واتصل بصديقه عمر، لعلّه يكون مفتاحه للخروج من هذا القفص:
˝ألو، عمر.. عامل إيه؟˝
سليم بصوت يحمل ضيقًا: ˝الحمد لله يا عمر، بس زهقت من قلة الشغل! بقولك إيه، ما توصّلني بالراجل اللي اسمه راغب ده؟ أنا عايز أسافر إيطاليا، أشتغل بدل القعدة اللي مالهاش آخر دي!˝
عمر:
˝تمام ياعم، وماله! أنا أصلًا رايح له كمان ساعة، تعال معايا ونكلمه عليك.˝
سليم بحماس ممزوج بالقلق: ˝تمام، يا عمور، ساعة زمن وتلاقيني عندك، يلا سلام!˝
أغلق الهاتف، لكنه ظلّ جالسًا للحظات، وكأن جسده لم يستوعب بعد أنه قد يجد فرصة حقيقية للخروج من هذا الواقع الكئيب، نهض فجأة، وكأن نارًا اشتعلت داخله، وقام بتغيير ملابسه بسرعة قبل أن يغادر، يتشبث بهذا الأمل الذي قد يكون الأخير.
في مكتب راغب
عندما دخل سليم مع عمر إلى مكتب راغب، شعر بشيء غريب، وكأن المكان نفسه ينبض بالخطر، كانت الغرفة فسيحة لكنها كئيبة، أضواؤها خافتة، وجدرانها بلون رمادي قاتم، مكتب ضخم يتوسطها، مصنوع من خشب ثقيل، تعلوه طبقة زجاجية تعكس الإضاءة الصفراء المتدلية من السقف.
خلف المكتب، جلس راغب متكئًا على كرسي جلدي أسود، ساقه فوق الأخرى، يلفّ سيجارًا ببطء بين أصابعه، رجل في منتصف الأربعينات، بشرته داكنة كأنما احترقت من شمس الصحارى، عيناه ضيقتان، تلمعان بمكر واضح، وكأنهما تزنان كل من يقف أمامه، تقرران إن كان يستحق الثقة.. أو الاستغلال.
على جانبي المكتب، وقف رجلان ضخمان، بذراعين معقودتين أمام صدورهما، ملامحهما جامدة كأنهما تماثيل، لكن نظراتهما تقول إنهما جاهزان للتحرك في أي لحظة.
أقترب عمر بابتسامة حذرة وهو يمدّ يده لمصافحته:
˝مساء الخير يا راغب بيه.˝
راغب دون أن يتحرك:
˝ أهلا يا عمر، اتفضل.˝
جلس عمر، بينما بقي سليم واقفًا للحظات قبل أن يلحق به.
أخرج عمر ظرفًا مغلقًا، وضعه بهدوء أمام راغب:
˝جبت لك الفلوس والورق اللي طلبته مني، اتفضل.˝
أخذ راغب الظرف، فتحه ببطء، أخرج الأوراق، قلّبها بعينيه السريعتين، ثم أومأ برأسه برضا، قبل أن يدسّها في درج مكتبه قائلا ببرود:
˝تمام يا عمر، كده كل حاجة جاهزة، فاضل بس تعرف ميعاد السفر.˝
عمر بتردد واضح: ˝طيب يا راغب بيه.. عندي طلب صغير.˝
رفع راغب حاجبًا واحدًا، وأشعل سيجاره أخيرًا، سحب نفسًا عميقًا، ثم نفث الدخان ببطء، وكأن صبره محدود:
˝خير يا عمر؟˝
عمر مشيرًا إلى سليم:
˝أخويا وصاحبي سليم عايز يسافر، بس ظروفه ع القد وطمعان فـ كرم حضرتك.˝
توجهت نظرات راغب إلى سليم مباشرة، حدّق فيه كالصياد الذي يقيّم فريسته، ثم قال ببرود: ˝أنت عارف النظام، يا عمر.˝
سليم بصوت يائس متوسلاً: ˝أرجوك يا بيه، ظروفي صعبة، مقدرش أدبر المبلغ كله دلوقتي.˝
راغب بابتسامة جانبية ساخرة: ˝وتقدر تدبر قد إيه؟˝
سليم بتردد: ˝يعني.. لو نص المبلغ حتى؟ والباقي لما أسافر إن شاء الله هبقى أبعته لك.˝
ساد الصمت للحظات، تبادل راغب النظرات مع أحد رجاله الواقفين بجواره، ثم مال للأمام، واضعًا مرفقيه على المكتب، وهو يحدّق في سليم وكأنه يستطيع أن يرى من خلاله، ببطء شديد:
˝عشان خاطر عمر بس، هقبل بنص المبلغ، لكن متتأخرش عليا في الباقي، فاهمني؟˝
شعر سليم بقشعريرة تسري في عموده الفقري، لكنه أخفى ارتجافة يده وهو يمدها نحو راغب ليصافحه، بامتنان وسعادة مشوبة بالحذر:
˝فاهم، فاهم، شكرًا يا بيه، وصدقني مش هتأخر عليك، اول ما اشتغل هبعتلك الباقي ع طول.˝
أنهى سليم مقابلته وهمَّ بالانصراف، لكنه فجأة شعر بوخزة غامضة في صدره، كأن شيئًا ما يحاول تحذيره، توقّف للحظة عند الباب، ألقى نظرة خاطفة على راغب الجالس خلف مكتبه، بعينين تخفيان أكثر مما تُظهران، لم يستطع تفسير ذلك الشعور الثقيل الذي اجتاحه، لكنه كان أشبه بتنبيه خفي.. كأن الاتفاق الذي أبرمه لم يكن كما يبدو، وكأن الثمن الذي سيدفعه قد يكون أكثر مما توقع، لكنه تجاهل هذا الشعور، مرددًا في داخله أنها مجرد اوهام.
في مصلحة الجوازات
في صباح اليوم التالي، وقف سليم أمام إدارة الجوازات، يتأمل ذلك المبنى العتيق الذي شهد آلاف الأحلام المعلّقة، أخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستعد لعبور بوابة القدر، ثم تقدم بخطوات ثابتة، كأن كل خطوة تقرّبه أكثر من مستقبله المجهول.
داخل المصلحة، لمح سالم وسط الزحام، وكأن القدر شاء أن يجمعهما مرة أخرى، كرفيقين في رحلة محفوفة بالمجهول، تبادلا نظرات صامتة، تفهّما منها ما لم تقله الكلمات، كأنهما يعلمان أن الطريق الذي يسلكانه لن يكون سهلًا، لكنه الخيار الوحيد المتاح.. خيار لم يعد بإمكانهما التراجع عنه.
بعد ساعات من الانتظار، خرج سليم وهو يمسك بجواز سفره الجديد، تأمله طويلًا، ضغط عليه بقوة، وكأنه يخشى أن يستيقظ ليجد أنه كان مجرد حلم.
_____________________
في بيت سالم
عندما استلم سالم جواز سفره، شعر بثقل غريب في يديه، وكأن هذه الوثيقة الصغيرة تحمل كل مستقبله، لم يكن هناك وقت للتردد، فسارع بتقديم طلبه للسفر عبر وزارة الهجرة، مترقبًا الرد بين الأمل والقلق، ومرت الأيام كأنها دهور، حتى جاءه الخبر الذي انتظره بشغف.. تمت الموافقة على سفره، وحدّدوا له موعد الرحيل، لم يضيع لحظة واحدة، بدأ بحزم أمتعته، كل قطعة ملابس كان يطويها، كانت تحمل معها ذكرى من ذكرياته، كل طية تخبئ بين ثناياها جزءًا من حياته التي يوشك على تركها وراءه، الغرفة التي احتضنته منذ طفولته، صوت أمه تناديه من المطبخ، رائحة أبيه بعد عودته من العمل… كلها أشياء لم يكن يدرك قيمتها إلا الآن، وقف عند الباب، ليجد أمه تنظر إليه، ودموعها تتلألأ في عينيها، تحاول أن تتماسك لكنها تفشل، وبنبرة بصوت مرتعش: ˝خلاص يا ابني نويت؟˝
ابتلع سالم غصته، وحاول أن يبدو ثابتًا، لكنه لم يستطع منع صوته من أن يخرج دافئًا مشحونًا بالمشاعر:
˝ادعيلي يا أمي… إن شاء الله، بدعواتك ربنا يفتحها عليَّ، وأقدر أعوضك إنتي وأبويا عن كل سنين التعب والشقى اللي عشتوها˝.
أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تحاول أن تملأ رئتيها بوجوده قبل أن يغادر وبنبرة رضا:
˝دعيالك يا بني… قلبي وربي راضين عنك، يا نور عيني˝.
تردد سالم للحظة، ثم نظر إليها نظرة حاسمة، وكأن هذا القرار الذي اتخذه لم يكن كاملًا دون أن يخبرها بابتسامة خافتة: ˝يسلملى دعاكي يا أمي، ان شاء الله أول ما أظبط أموري هناك، هبعتلك تكلمي خالي.. عشان هناء˝.
اتسعت عيناها، رغم الدموع التي لم تجف بعد، وكأن قلبها وجد عزاءه وسط هذا الوداع بصوت يحمل رجاءً وفرحة خجولة: فرحتني يا بني بالخبر الحلو ده، سافر يا نور عيني ولما ترجع بالسلامة ان شاء الله، مجبور الخاطر، هكون كلمت خالك، وتتجوزوا على طول.
أمسك وجه أمه بين يديه بحنان، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنما يحاول نقشها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة طويلة فوق جبينها، يُشبع روحه برائحتها الدافئة، يستنشقها وكأنه يُخزّن أنفاسها في صدره ليتزود بها في غربته، ثم، بانحناءة مُفعمة بالاحترام والحب، أمسك يدها بين راحتيه، وقبّلها ببطء، وكأنه يبث فيها آخر جزء من روحه قبل أن يرحل، يترك فيها أثره الذي لن يمحوه الزمن، يهمس في صمت بأنه سيعود، ولو بعد حين، ثم اتجه إلى والده، صافحه بقوة، وكأنما يحاول أن ينقل إليه شجاعته، لكن الأب لم يكتفِ بذلك، بل جذبه نحوه في احتضان دافئ، احتضان رجل يحاول إخفاء مشاعره بصعوبة، لكنه فشل أمام لحظة الوداع، شعر بقوة ذراعي والده التي تحمل في طياتها خوفًا خفيًا، دعوات غير منطوقة، ووصايا كثيرة لم تجد طريقها إلى الكلمات، ربّت الأب على كتفه بقوة، كأنه يخبره دون أن ينطق: ˝كن قويًا، لا تنسَ من أنت، ولا تنسَ أننا في انتظارك.˝
حمل سالم حقيبته، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم استدار نحو الباب، لم يلتفت خلفه مرة أخرى، فلم يكن قادرًا على ذلك، خرج مسرعًا إلى العالم المجهول، إلى الرحلة التي لا يعلم ما تخبئه له، لكنه سار بخطوات ثابتة، وعلى شفتيه دعاء واحد، وهو أن يعود مجبور الخاطر.
_____________________
في بيت سليم
وقف سليم أمام والده بعد أن تسلّم جواز سفره، عيناه تحملان امتنانًا لا تسعه الكلمات، الرجل الذي ضحّى بكل ما يملك، باع الأرض التي أفنى عمره في زراعتها، فقط ليمنحه فرصة لحياةٍ أفضل.
نظر محمود إلى ابنه بعينين مُثقلتين بالهموم، وبصوتٍ متهدج محمل بالرجاء:
˝يا سليم، يا ابني، أنا بِعت لك قيراط الأرض اللي كنت شايله للزمن، عشان جهاز إخواتك البنات.. أوعى تنسانا لما تسافر، إحنا ما لناش غيرك بعد ربنا يا ابني.˝
شعر سليم بوخز الألم في صدره، لكنه تماسك، وضع يده فوق يد والده، وضغط عليها مطمئنًا:
˝صدقني يا أبا، كل ده عشانكم، عشان نعيش كويس ونبقى مرتاحين.˝
لكن الكلمات وحدها لم تكن كافية لطمأنة قلب أمّه، التي ظلت تراقبه بعينين دامعتين، خوفها لم يكن مجرد قلق أم على ابنها المسافر، بل إحساس داخلي يشبه الفقد، تقدمت نحوه، وضعت يدها فوق صدره، وكأنها تحاول أن تحفظ دفء وجوده قبل أن يختفي، وبقبضة قلب أمّ تخشى الفقد:
˝ربنا يوسع عليك يا ابني، ويرزقك بالرزق الحلال، ويردّك لنا سالم غانم.˝
مدّ يده ليقبّل يدها، لكنه لم يستطع منع نفسه من احتضانها، غاص في دفئها للحظة، وكأن رائحتها كانت آخر خيط يربطه بهذا المكان، وبصوتٍ مختنق:
˝تسلميلي يا أما.. ويسلملي دعاكي، هو اللي هيسندني في الغُربة.˝
بعدها، خرج سليم متجهًا إلى مكتب راغب، يحمل بين يديه ثمن الأرض، ثمن أحلام عائلته المعلقة على أمل سفره، حيث وضع مصيره بين يدي رجلٍ يعرف تمامًا كيف يستغل حاجات الناس.
أستقبله راغب، بابتسامة جانبية، وكأنه يُحكم قبضته على فريسته، ثم قال بثقة:
˝كدا تمام يا سليم، خلاص، كام يوم وهتكون مسافر، جهّز شنطتك، وهكلمك وقت التحرك.˝
سليم بثقة ظاهرية تُخفي قلقه: ˝تشكر يا راغب بيه، وأول ما تستقرّ أموري، هبعت لك باقي المبلغ.˝
غادر سليم المكتب، شعر أن الهواء من حوله بدا أثقل، كأن المدينة بأكملها تحاول منعه من الرحيل، لكنه تجاهل كل شيء، وعاد إلى بيته ليحزم أمتعته.
وفي الليلة التي سبقت الرحيل، جلس سليم وسط حقيبته المفتوحة، عيناه تجولان في أركان البيت الذي نشأ فيه، البيت الذي لم يكن يومًا واسعًا لكنه كان دافئًا.. ترى، هل سيعود إليه يومًا؟
وفي الصباح، وقف أمام عتبة البيت، يحمل حقيبته بيديه، وقلبه بين يديّ أهله، والده تقدّم نحوه، وضع يده على كتفه، ثم جذب رأسه ليُقبّل جبينه بحنان الأب الذي يخشى أن لا يحتضن ابنه ثانيةً وبصوتٍ مكسور، يثبّت نظره في وجه ابنه وكأنه يريد أن يحفره في ذاكرته: ˝تروح وترجع بالسلامة، يا سليم.˝
لم يستطع سليم الردّ، فقط هزّ رأسه، ثم التفت إلى والدته، التي لم تعد قادرة على كبح دموعها، أمسكت بكفّه، شدّت عليه كأنها تحاول منعه من الذهاب بلهفة مخنوقة:
˝أمانة يا ضناي، لما توصل تطمني عليك. ما تسيبنيش بالي مشغول.˝
ضمّ وجهها بين راحتيه برفق، كأنما يحاول أن يحفظ ملامحها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، قبل أن ينحني ويودع كفّها بقبلة امتزجت بحزن صامت، وكأنه يترك معها آخر نبض من قلبه قبل أن يمضي، ثم استدار، ليخطو خطواته الأولى مبتعدًا، لكن قدميه كانت ثقيلة، وكأن الأرض ترفض أن تتركه يذهب، قبل أن يختفي، ألقى نظرة أخيرة، فوجد والدته تبكي بصمت، ووالده ينظر إليه بعينين جامدتين، لكنه كان يعرف أنه يكتم دموعه بالقوة.
تجاهل سليم إحساسًا جاثمًا فوق صدره يخبره أن هذه قد تكون المرة الأخيرة التي يراهم فيها، ثم مضى في طريقه إلى النقطة التي حدّدها له راغب، حيث سينتظر هو ومجموعة أخرى، استعدادًا للرحلة التي لا يعلم هل ستكون طريقًا إلى المستقبل. أم طريقًا بلا عودة.
انطلق كلٌّ من سالم وسليم في طريقهما نحو الهجرة، لكن شتّان بين الطريقين…
سالم سار في طريقٍ قانونيٍّ آمن، خطّط له بعناية، تحمل فيه مشقة الغربة لكنه حمل معه الأمل، أما سليم فاختار طريقًا محفوفًا بالمخاطر، طريقًا رسمه الطمع واستعجال الحلم، دون أن يدرك أنه قد يكون بلا عودة.
كلاهما حمل حقيبته، غادر وطنه، ترك خلفه أهلاً وأحبة، لكن أحدهما سار بخطوات ثابتة فوق أرض صلبة، بينما الآخر كان يسير فوق مياهٍ مضطربة، لا يعلم إن كانت ستوصله إلى برّ الأمان أم ستبتلعه إلى الأبد.
وصل سالم أخيرًا إلى وجهته، بعد رحلة طويلة حملت بين طياتها القلق والتوتر، لكنه ما إن وطأت قدماه الأرض الجديدة حتى شعر وكأنه يعبر إلى عالم مختلف تمامًا، الهواء مختلف، المدينة تعج بالحياة، والفرص تبدو وكأنها تنتظره ليقتنصها،
استلم عمله وبدأ يتأقلم شيئًا فشيئًا، رغم الحنين الذي كان يعتصر قلبه كل ليلة، إلا أن عزيمته كانت أقوى من أن يتراجع، كان يدرك أن عليه أن يصمد، أن يواجه العواصف بكل ما أوتي من قوة، أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه ليس ضعيفاً، أنه قادر ع أجتياز المحنة وتحمل مشقّات الغربة وتحقيق أحلامه.
فكان أول ما فعله بعد استقراره هو الاتصال بوالدته، صوتها المشتاق ملأ أذنيه قبل أن تنطق بكلمة واحدة وبابتسامة مطمئنة:
˝أنا بخير يا أمي، الحمد لله وصلت واستلمت الشغل، الأمور بتتحسن يومً بعد يوم، ما تقلقيش˝.
كان يعلم أنها لن تكف عن القلق مهما حاول طمأنتها، لكنها مع ذلك شعرت ببعض الراحة لسماع صوته، أما والده، فلم يكن من الرجال الذين يعبرون عن مشاعرهم بالكلمات، لكنه في تلك اللحظة، وبعد أن استلم الهاتف من زوجته، اكتفى بجملة واحدة حملت في طياتها كل شيء:
˝خليك على العهد، وافتكر إن إحنا مستنيينك.˝
أغلق سالم الهاتف، ثم نظر من نافذته إلى الشوارع المزدحمة أسفل المبنى حيث يقف، هنا، يبدأ مستقبله. لكنه في أعماقه يعلم أن قلبه ما زال هناك، في وطنه، حيث ينتظره من يحبونه.
أما سليم عندما وطأت قدماه سطح المركب، أدرك سريعًا أنه في مأزق لا خروج منه، المركب كان مزدحمًا فوق طاقته، يتأرجح تحت ثقل الأجساد المتكدسة والحمولة الزائدة، لكن العودة لم تكن خيارًا، والخوف لم يكن رفاهية مسموحة، حاول إقناع نفسه بأن الأمور ستسير على ما يرام، رغم أن كل شيء من حوله كان يصرخ بالعكس،
الأمواج العاتية، الهواء المالح الذي يلسع وجهه، والوجوه الشاحبة من حوله كانت شاهدة على رحلة محفوفة بالمجهول، لم يكن يدرك أن الأسوأ لم يأتِ بعد، عند اقتراب المركب من الحدود الإيطالية، وقف رجال راغب أمامهم بوجوه خالية من الرحمة، يلقون الأوامر كما لو كانوا يطردون حمولة زائدة بلا قيمة، فأشار أحد الرجال بحدة إلى القارب الصغير المتأرجح وسط الأمواج، ثم التفت إلى سالم ومن معه، يعلن بصوت صارم أن عليهم النزول في هذا المكان، لم يكن هناك مجال للاعتراض، فمصيرهم بات معلقًا على أمواج البحر، من يصل إلى الشاطئ فقد كتب له النجاة، ومن تبتلعه المياه فلن يكون سوى رقم جديد في قائمة المفقودين.
تسارعت أنفاس سليم، وارتفع صوته وهو يحدّق في الرجل أمامه بعينين ممتلئتين بالذهول والذعر. جسده ارتجف رغم حرارة الموقف، وكأن صقيع البحر تسلل إلى عظامه قبل أن يلامس مياهه. خطا خطوة للأمام، يلوّح بذراعيه بانفعال، قبل أن يهتف بصوت مختنق:
˝إزاي يعني ننط فـ عرض البحر؟! دا كدا انتحار!˝
أجابه الرجل ببرود قاتل:
˝دي الأوامر. هو كدا النظام! ويلا بقى متعطلناش، خلينا نرجع نجيب الفوج اللي بعدكم.˝
تجمّد سليم للحظة، نظراته تائهة بين البحر الواسع والقارب المهترئ، وبين الرجال المسلحين الذين لا مجال لمناقشتهم، شعر أن الموت يُحدّق به من كل جانب، لكن لم يكن أمامه سوى الامتثال، استسلم للأمر الواقع، ونزل كما نزل الآخرون، رغم أن صوته الداخلي كان يصرخ: كان لازم تسمع كلام سالم. كان لازم تفهم أن راغب بيتاجر في الموت!
قلبه يخفق بقوة، وكأن ضلوعه تضيق على روحه، وعقله يرفض استيعاب المصير الذي يُدفع إليه قسرًا، كان الندم ينهش قلبه كلما تذكر كلمة صديقه، لكنه لم يعد يجدي نفعًا الآن، عليه أن يقاتل من أجل حياته، أن يتمسك ولو بخيط واهٍ من الأمل، وما إن أبحر القارب الصغير حتى بدأ يتمايل بجنون مع الأمواج الهائجة، وكأن البحر يرفض حملهم، أو ربما كان يعاقبهم على سعيهم خلف الحلم بطريقة خاطئة،
لم تمر سوى لحظات حتى تسللت المياه إلى داخله، باردة كالموت، غادرة كالوهم، تعالت صرخات الركاب، كل منهم يحاول التشبث بالحياة كيفما استطاع، لكن الفوضى كانت أسبق منهم، في غمضة عين، انقلب القارب، وابتلع البحر الجميع في جوفه المظلم.
راح سليم يعافر، يحاول أن يعوم، لكن الرعب شلّ أطرافه، والماء البارد صار كيدٍ جبارة تسحبه إلى القاع، الهواء يضيق في رئتيه، والموج يصفعه بلا رحمة، من حوله أجساد تتخبط، بعضها يستسلم سريعًا، وبعضها ما زال يحاول النجاة، لكنهم جميعًا يعلمون أن المصير واحد.
في تلك اللحظة، لم يكن الموت فكرة بعيدة، ولا احتمالًا مستبعدًا، بل كان حاضرًا أمامه، يحدّق في عينيه بلا هوادة، يقترب منه كما لو أنه يعرفه منذ زمن، أدرك حينها فقط أنه ارتكب أكبر خطأ في حياته، وأن النهاية كانت محتومة منذ اللحظة التي اختار فيها الطريق الخطأ، وعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق وصولًا الى الهدف، لكنه لم يدرك ذلك. إلا وهو يغرق.
وبذلك عزيزي القارئ،
إن لكل طريق نختاره في الحياة عواقبه الحتمية، فحينما تسير في دربٍ خاطئ، لا تتوقع أن تصل إلى نهاية مختلفة عن الفشل أو الضياع، قد لا يكون الموت دائمًا نهاية جسدية، لكنه قد يكون موتًا من نوع آخر، موت الضمير حين تعتاد الخطأ حتى يصبح جزءًا منك، أو موت الروح حين تفقد ذاتك وسط زحام الندم والخيبات، فتعيش جسدًا بلا معنى، تتنفس لكنك لا تحيا، وعلى النقيض، فإن الطريق المستقيم، وإن بدا أطول أو أكثر صعوبة، هو السبيل الوحيد إلى النجاة، هو الذي يمنحك راحة الضمير، وسكينة القلب، والطمأنينة بأنك لم تظلم أحدًا، ولم تظلم نفسك. فلا تستسهل الطرق الملتوية، فإنها وإن بدت مغرية في البداية، لن تقودك إلا إلى الهاوية.
كما يقولون: ˝امشِ عدل، يحتار عدوك فيك.˝ فالنقاء في المسير هو ما يمنحك القوة، وما يبني لك طريقًا لا تخشاه العثرات.