█ _ مصطفى محمود 1977 حصريا كتاب ❞ نقطة الغليان ❝ عن دار المعارف 2024 الغليان: هو من تأليف الدكتور وهو عبارة مجموعة قصصية يدور محورها الرئيس حول الهداية والإيمان بالله العلي القدير وبأقداره وبما قسمه للإنسان صورت هذه القصص ما يشعر به الإنسان المعاصر ضياع وعدمية وفقدان لمعنى الحياة وجوهرها وقدمت أن لا يكون سعيدا بغير هداية الله له إلى الطريق الصحيح؛ فلا سعادة بمال أو حب سلطة دون التوجه تعالى والتقرب منه وإليه الفكر والفلسفة مجاناً PDF اونلاين ترتيب أمور معلومة للتأدي مجهول ويُستخدم الدراسات المتعلقة بالعقل البشري ويشير قدرة العقل تصحيح الاستنتاجات بشأن حقيقي واقعي وبشأن كيفية حل المشكلات ويمكن تقسيم النقاش المتعلق بالفكر مجالين واسعي النطاق وفي هذين المجالين استمر استخدام المصطلحين "الفكر" و"الذكاء" كمصطلحين مرتبطين ببعضهما البعض الفلسفة (لغويا اليونانية φιλοσοφία philosophia والتي تعني حرفيًا "حب الحكمة") هي دراسة الأسئلة العامة والأساسية الوجود والمعرفة والقيم والعقل والاستدلال واللغة غالبًا تطرح مثل كمسائل لدراستها حلها ربما صاغ مصطلح "فيلسوف (محب الحكمة)" الفيلسوف وعالم الرياضيات فيثاغورس (570 495 قبل الميلاد) تشمل الأساليب الفلسفية الاستجواب والمناقشة النقدية والحجة المنطقية والعرض المنهجي وهذا ركن خاص بكتب مجانيه للتحميل
❞ ماذا فعلت بنفسك ؟
أردت أن أقتل نفسي لأستريح.
ومن أين لك العلم بأنك سوف تستريح، أعلمت بما ينتظرك
بعد الموت؟
إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا.
هذا ظنك.. ولا يقتل الناس أنفسهم بالظن.
وماذا كنت أستطيع أن أفعل.. وماذا بقي لى ؟
أن تصبر وتنتظر أمرنا
صبرت
تصبر يوما آخر إلى غد.
سيكون غدا مشئوما مثل سالفه.
كيف علمت.. هل أنت الذي خلقت الأيام.. هل أنت الذي خلقت
نفسك؟
لا
فكيف تحكم على ما لا تعلم وكيف تتصرف فيما لا تملك
هذا عمري وقد ضقت به.
أتعلم ماذا نخفي لك غدا؟
لا.
إذن فهو ليس عمرك.
لا أريد أن أعيش.. خلوا بيني وبين الموت.. دعوني.. ارحمونی
لو تركناك فما رحمناك.. إنما نحول بينك وبين رغبتك رحمة
وفضلا ولو تخلينا عنك لهلكت.
يا مرحبا بالهلاك.. ما أريد إلا الهلاك.. يا أهلا بالهلاك.
لن يكون الهلاك رقدة مطمئنة تحت التراب كما تتصور.
أريد أن أخرج مما أنا فيه وكفی.
ولو إلى النار
وهل هناك نار غير هذه؟
اتصورت أنه لا وجود، إلا ما يقع تحت حسك من جنة ونار
أظننت أنه لا جنة ونار إلا نعيمكم وعذابكم.. أظننتنا فقراء
لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالم.. أتصورت أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي وليس عند رب العالمين غير هذه الكرة
الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء.. بئس ما خيل لك
بصرك الضرير عن فقرنا.
ضقت ذرعا مما أنا فيه.. انسدت أمامي المسالك.. انطبقت
السماء على الأرض.. اختنقت.. . أريد الخروج.. أريد الخروج.
ألا تصبر لحظات أخرى.. أترفض عطيتنا في الغد قبل أن
تراها؟
رأيت منها ما يكفيني.
هذا رفض لنا ويأس منا واتهام لحكمتنا وسوء ظن بتدبيرنا
وانتقاص لملكنا.. بئس ما قررت لنفسك.. اذهب.. رفضناك
كما رفضتنا وحرمناك ما حرمت نفسك.. خلوا بينه وبين الموت..
وفي تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش.. ومات في
هذه المحاولة الرابعة.. وفشلت كل الإسعافات في إنقاذه.
وجاء الغد..
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج
جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه.
ولكنه كان قد ذهب لم ينتظر العطية
ظلم المعطى والعطية وظلم نفسه وظلم الغد الذى لم يره واتهم الرحيم فى رحمته وأنكر على المدبر تدبيره.
وخرج إلى حيث لا رحمة .. ولا .. عودة.
. ❝
❞ أغسطس القاتل
ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام ..
ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً .. وربما يحدث الأن .
وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً .
إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح .. له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً .. ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم .
وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير .
ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات .. ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة .. فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية .
وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ ..فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان .. وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين .
هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة .
وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته .
ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية ..
ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين .. إما هو .. و إما زوجته .
وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام .. نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية .. ثم الرغبة فى النوم .. ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية .
إنها هى إذن ... و لكن ما السر ؟؟؟
و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها .. و راح يتجسس ...
و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات .. وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة .. و لم تنته من بعد .
ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ ..
كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة .. وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها :
" صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو " و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : " ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت .. مجرد لا شئ " ..
وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون ..
و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل .. وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية .. فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى .. أى أنه مات قبل زواجه منها ...
هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح .. مع ماض سحيق ..
ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر .. وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها .. وتباشر حالات حية .. وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ .. ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة .. عن السر الذى لا مس السر .. و النور الذى انطوى فى النور .. وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم .
أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟
أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟
تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية .. ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله ..
أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ ..
ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت ..
قال فى صوت متهدج :
لم فعلت هذا ؟
فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة :
أنا أعيش حياة لا تطاق ..
أنت تملكين كل شئ ..
نحن لا نحب ما نملك ..
كل ما تحلمين به تجدينه ..
نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال ..
ماذا ينقصك ؟؟
الحب ..
و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت .
و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟
حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح .
بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان ..
ما حكاية هذا الرجل .. هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله ..
فابتسمت إبتسامة باهتة .. و قالت فى هدوء :
بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة .. تبادلنا فيه بعض الكلمات .. لم يلمس يدى و لم ألمس يده .. و لم أره بعد ذلك .. و إنما كنت أقرأ له فى الصحف.. كاتبا ً مشهوراً .. ثم مات فى حادث تصادم .. وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس .. ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ ..
أنت إمرأة مجنونة ..
بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية ..
أليست حياتنا حقيقية ؟؟
إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ .. لا حب لشئ .. إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى .
إنظرى إلى ما فعلت بنفسك .. مورفين كوديين و هيروين و كوكايين .. أهذه الحياة .
أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك .
و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟
إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد .. وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك .. وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك .
ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟
لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها .. أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك .. كنت تحب المال حتى الموت بالفعل .. وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول .. أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ .. لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث .. حتى التهيت إلى تلوث كامل .
ماذا تعنين بتلوث كامل ؟
فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة .
لن أكتم عنك شيئاً .. سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح .. سوف أقول لك كل الحقيقة .
و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها :
سعاد .. أرجوك .. لا داعى .
وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه :
لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت .. وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً .. وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق .. و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب .
ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم :
أنت مجنونة .. مجنونة .
و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك .
و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه .
و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى ..
فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح .. فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ .. فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم .
نعم .. لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه .. وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله .. وبإحساس رجل فقد كل شئ .. فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه .
و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان .
وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها .
و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده :
هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك .
و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده
وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله:
إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ...و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح
كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً
و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم .. و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة ....
و لكن .. "ولكن" هذه هى جريمتنا جميعاً
. ❝
❞ ماذا فعلت بنفسك ؟
أردت أن أقتل نفسي لأستريح.
ومن أين لك العلم بأنك سوف تستريح، أعلمت بما ينتظرك
بعد الموت؟
إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا.
هذا ظنك.. ولا يقتل الناس أنفسهم بالظن.
وماذا كنت أستطيع أن أفعل.. وماذا بقي لى ؟
أن تصبر وتنتظر أمرنا
صبرت
تصبر يوما آخر إلى غد.
سيكون غدا مشئوما مثل سالفه.
كيف علمت.. هل أنت الذي خلقت الأيام.. هل أنت الذي خلقت
نفسك؟
لا
فكيف تحكم على ما لا تعلم وكيف تتصرف فيما لا تملك
هذا عمري وقد ضقت به.
أتعلم ماذا نخفي لك غدا؟
لا.
إذن فهو ليس عمرك.
لا أريد أن أعيش.. خلوا بيني وبين الموت.. دعوني.. ارحمونی
لو تركناك فما رحمناك.. إنما نحول بينك وبين رغبتك رحمة
وفضلا ولو تخلينا عنك لهلكت.
يا مرحبا بالهلاك.. ما أريد إلا الهلاك.. يا أهلا بالهلاك.
لن يكون الهلاك رقدة مطمئنة تحت التراب كما تتصور.
أريد أن أخرج مما أنا فيه وكفی.
ولو إلى النار
وهل هناك نار غير هذه؟
اتصورت أنه لا وجود، إلا ما يقع تحت حسك من جنة ونار
أظننت أنه لا جنة ونار إلا نعيمكم وعذابكم.. أظننتنا فقراء
لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالم.. أتصورت أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي وليس عند رب العالمين غير هذه الكرة
الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء.. بئس ما خيل لك
بصرك الضرير عن فقرنا.
ضقت ذرعا مما أنا فيه.. انسدت أمامي المسالك.. انطبقت
السماء على الأرض.. اختنقت.. . أريد الخروج.. أريد الخروج.
ألا تصبر لحظات أخرى.. أترفض عطيتنا في الغد قبل أن
تراها؟
رأيت منها ما يكفيني.
هذا رفض لنا ويأس منا واتهام لحكمتنا وسوء ظن بتدبيرنا
وانتقاص لملكنا.. بئس ما قررت لنفسك.. اذهب.. رفضناك
كما رفضتنا وحرمناك ما حرمت نفسك.. خلوا بينه وبين الموت..
وفي تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش.. ومات في
هذه المحاولة الرابعة.. وفشلت كل الإسعافات في إنقاذه.
وجاء الغد..
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج
جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه.
ولكنه كان قد ذهب لم ينتظر العطية
ظلم المعطى والعطية وظلم نفسه وظلم الغد ااذى لم يره واتهم الرحيم فى رحمته وأنكر على المدبر تدبيره.
وخرج إلى حيث لا رحمة .. ولا .. عودة.
. ❝
❞ الخـــروج . . .
كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كُرات من العجين يُلقي بها في جوفه دون تَلذُذ .. و كان الهواء راكداً ثقيلاً .. و كل شيء راكد ثقيل .. و صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم ..
و لم يكن يدري كم من الوقت قد مضى عليه و هو جالس في كُرسيه في مقهى الروف بأعلى البرج ..
ربما بِضع ساعات و هو يجلس نفس الجلسة لم يُحرك إصبعاً .. و ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة في الهواء دون أن يختلج له جفن ، و كأنما تسمرت نفسه و بات عقله مصلوباً على فكرة واحدة لا يبرحها .. أن يتخلص من حياته .
مريض بلا شفاء .. يتنقل من طبيب إلى طبيب .. و من دواء إلى دواء .. و من مُخدِر إلى مخدر .. و من أمل إلى أمل .. ثم تذوي الآمال ثم يكتشف أنه لم يبق له إلا الصبر .
و في البيت وحده .. و فِراش بارد .. و مائدة عليها عشرات العقاقير، و خِطابات لا يجف حبرها .. تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد لا يهدأ :
سوزان . . سوزان . .
عودي .. أحبك .. لا أستطيع أن أحيا بدونك .. و لا أن أموت بدونك .
حياتي ليل بدون ضوء عينيك .
و دائماً تُرسَل الخطابات و تسافر عبر البحر .. و لا يأتي لها رد ، و لا يُسمَع لها صَدى .
الزوجة الأوروبية عادت إلى بلادها بقلب ينزف ، و تركت وراءها قلباً آخر ينزف .
و في ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش ..
و في تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية يتقلب .. و كأنما يتقلب على صحراء مُوحِشة تسرح فيها الأفاعي .. ثم ينفد الصبر .. و تنقطع حِبال الإنتظار .
و لا تبقى في ذهنه إلا فكرة واحدة .. أن يتخلص من حياته .
تأتيه الفكرة في البداية زائرة ثم تصبح طَوّافة ثم تُلِح عليه ثم تُقيم في رأسه ثم تتحول إلى حصار ثم تغدو كابوساً قهرياً يحتويه و يجثم عليه و يخنقه رويداً رويداً .
و يتحرك أخيراً .. فينظر إلى ساعته .
لقد مضت أربع سنوات و هو مُتجمد في كُرسيه كتمثال ، و شيء في داخله ينخر في بنيانه و يأكل جوفه .. و بنظرة سريعة عبر الشرفة يطل على الناس الذين يبدون كالنمل الصغير أسفل البرج .. و تتسمر عيناه على الهُوّة التي تَفغُر فاها تحت قدميه .
ثم في لحظة يرمي بنفسه من شاهِق .
و يتجمع الناس أسفل البرج .. و هُم يحكون في ذهول ..
هناك رجل رمى بنفسه من أعلى البرج فسقط على كتفي عامل فقتله لساعته .. أما هو فلم يُصَب بخدش ..
و حينما أفاق الرجل من صدمته و أدرك ما فعل .. إنكَبَّ على شفرة حديد صَدِئة إلتقطها من الطريق و قطع شرايينه .
و حملوه إلى المستشفى و هو ينزف .. و أسعفوه ..
و حينما فتح عينيه و اكتشف أنه لم يمُت بعد .. إبتلع زجاجة الأقراص المنومة كلها في غفلة من الممرضة ..
و لكنهم غسلوا معدته ، و أعطوه شيئاً .. و أنقذوه ..
و فتح عينيه من جديد ليجد أنه لم يمت بعد ثلاث محاولات قاتلة .. قتل فيها رجل آخر و لم يَمُت .. و سقط مغشياً عليه ..
و في النوم و بين لحظات الخدر ، و فيما يشبه الرؤيا شاهد الرجل نوراً و سمع صوتاً يقول له :
●● ماذا فعلت بنفسك ؟
● أردت أن أقتل نفسي لأستريح .
●● و من أين لك العلم بأنك سوف تستريح .. أعلِمت بما ينتظرك بعد الموت ؟
● إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا .
●● هذا ظنك .. و لا يقتُل الناس أنفسهم بالظن .
● و ماذا كنت أستطيع أن أفعل .. و ماذا بقيَ لي ؟
●● أن تصبر و تنتظر أمرنا ..
● صبِرت .
●● تصبر يوماً آخر إلى غَد .
● سيكون غداً مشئوماً مثل سالفه .
●● كيف علمت .. هل أنت الذي خلقت الأيام .. هل أنت الذي خلقت نفسك ؟
● لا .
●● فكيف تحكم على ما لا تعلم ، و كيف تتصرف فيما لا تملك ؟
● هذا عمري و قد ضقت به .
●● أتعلم ماذا نُخفي لك غداً ؟
● لا .
●● إذاً فهو ليس عُمرك .
● لا أريد أن أعيش .. خلوا بيني و بين الموت .. دعوني .. ارحموني .
●● لو تركناك فما رحمناك .. إنما نحول بينك و بين رغبتك رحمةً مِنا و فضلاً ، و لو تخلينا عنك لهلَكت .
● يا مرحباً بالهلاك .. ما أريد إلا الهلاك .. يا أهلاً بالهلاك .
●● لن يكون الهلاك رقدة مُطمَئنة تحت التراب كما تتصور .
● أريد أن أخرج مما أنا فيه و كَفَى .
●● و لو إلى النار ؟
● و هل هناك نار غير هذه ؟
●● أتصَوَّرت أنه لا وجود إلا لما يقع تحت حسك من جنة و نار .. أظننت أنه لا جنة و لا نار إلا نعيمكم و عذابكم .. أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالَم .. أتصَوَّرتَ أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي .. و ليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء .. ؟
بئس ما خَيَّل لك بَصرُك الضرير عن فقرنا .
● ضقت ذرعاً مما أنا فيه .. إنسدت أمامي المسالك .. إنطبقت السماء على الأرض .. إختنقْت .. أريد الخروج .. أريد الخروج .
●● ألا تصبر لحظات أخرى .. أترفض عطيّتنا في الغد قبل أن تراها ؟
● رأيت منها ما يكفيني .
●● هذا رفض لنا و يأس مِنّا و اتهام لحكمتنا و سوء ظن بتدبيرنا و انتقاص لملكنا .. بئس ما قررت لنفسك .. إذهب .. رفضناك كما رفضتنا ، و حرمناك ما حرمت نفسك .. خَلّوا بينه و بين الموت ..
و في تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش .. و مات في هذه المحاولة الرابعة .. و فشلت كل الإسعافات في إنقاذه .
و جاء الغــد . .
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه .
و جاءت سوزان تدق بابه في شوق و في يدها بضع زجاجات من هذا الترياق الجديد و قلبها يطفح بالحب و الأمل .
و لكنه كان قد ذهب .
لم ينتظر العطية .
ظلم المُعطي و العَطيّة و ظلم نفسه و ظلم الغد الذي لم يره و اتهم الرحيم في رحمته و أنكر على المدبر تدبيره .
و خـــرج . .
إلى حيــث لا رحمـــة . . و لا عــودة . .
..
قصة : الخروج
من كتـــاب / نقطــة الغليـــان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ هذا شأن العالم دائما من خمسة ألاف سنة .. كانت الراقصة تكسب أكثر من الكاتب .. و الطبال يكسب أكثر من الخباز والنجار و الحداد ..
ولو أنك دعوت أينشتين اليوم لندوة علمية .. ثم دعوت امرأة عارية لحديث صحفى ، ترك الجمهور أينشتين وعلمه ولتجمعوا حول المرأة العارية بالألوف ..
وهذا ليس ذنبنا .. وأنما سببه أن أكثر الناس من البهم ومن أهل الهوى ومن عبيد الشهوات ..
وهم لذلك يشجعون التافة من الأمور و ينصرفون عن الجاد . ❝
❞ الرجل الذي عرف ربه
كان الرجل مريضاً بمرض عِضال لا يُعرَف له علاجاً .. فكلما جلس في مكان قال له الناس رائحتك كريهة .. ألا تستحم ..
و تردد على الأطباء و فحص الأنف و الجيوب و الحلق و الأسنان و اللثة و الكَبِد و الأمعاء .. و كانت النتيجة .. لا مرض في أي مكان بالجسد .. و لا سبب عضوياً مفهوم لهذه الرائحة .
و كان يتردد على الحمام عدة مرات في اليوم و يغتسل بأغلى العطور فلا تُجدي هذه الوسائل شيئاً ..
و لا يكاد يخرج إلى الناس حتى يتحول إلى قبر مُنتِن يهرب منه الصديق قبل العدو .
و ذهب يبكي لرجل صالح .. و حكى له حكايته .. فقال الرجل الصالح .. هذه ليست رائحة جسدك .. و لكن رائحة أعمالك .
● فقال الرجل مندهشاً : و هل للأعمال رائحة ؟ !
● فقال الرجل الصالح : تلك بعض الأسرار التي يكشف عنها الله الحجاب .. و يبدو أن الله أحبك و أراد لك الخير و أحب أن يُمهِد لك الطريق إلى التوبة .
● فقال الرجل معترفاً : أنا بالحق أعيش على السرقة و الإختلاس و الربا و أزني و أسكَر و أُقارِف المنكرات .
● قال الرجل الصالح : و قد رأيت .. فهذه رائحة أعمالك .
● قال الرجل : و ما الحل ؟
● قال الصالح : الحل أصبح واضحاًَ ، أن تُصلِح أعمالك و تتوب إلى الله توبة نصوحاً .
و تــاب الرجل توبة نصوحاً و أقلع عن جميع المنكرات و لكن رائحته ظلت كما هي .. فعاد يبكي إلى الرجل الصالح ..
● فقال له الرجل الصالح : لقد اصلحت أعمالك الحاضرة ، أما أعمالك الماضية فقد نفذ فيها السهم .. و لا خلاص منها إلا بمغفرة .
● قال الرجل : و كيف السبيل إلى مغفرة ؟
● قال الصالح : إن الحسنات يُذهِبنَ السيئات فتصدق بمالك .. و الحج المبرور يَخرُج منه صاحبه مغفور الذنوب كيوم ولدته أمه .. فاقصد الحج .. و اسجد لله .. و ابك على نفسك بعدد أيام عمرك ..
و تصدَّق الرجل بماله و خرج إلى الحج .. و سجد في كل ركن بالكعبة و بكى بعدد ايام عمره ..
و لكنه ظل على حاله تعافه الكلاب و تهرب منه الخنازير إلى حظائرها .. فآوَى إلى مقبرة قديمة و سكنها و صمم ألا يبرحها حتى يجعل الله له فرجاًَ من كَربِه .
و ما كاد يُغمِض عينيه لينام حتى رأى في الحلم الجُثث التي كانت في المقبرة تجمع أكفانها و ترحل هاربة .. و فتح عينيه فرأى جميع الجُثث قد رحلت بالفعل و جميع اللحود فارغة .. فخَرَ ساجداً يبكي حتى طلع الفجر .. فمر به الرجل الصالح ..
● و قال له : هذا بكاء لا ينفع .. فإن قلبك يمتلئ بالإعتراض .. و أنت لا تبكي إتهاماً لنفسك .. بل تتهم العدالة الإلهية في حقك .
● قال الرجل : لا أفهم !!
● قال الصالح : بالضبط .. إن عدل الله أصبح محل شبهة عندك .. و بهذا قَلَبتَ الأمور فجعلت الله مذنباً و تصورت نفسك بريئاً ..
و بهذا كنت طول الوقت تضيف إلى ذنوبك ذنوباً جديدة في الوقت الذي ظننت فيه أنك تُحسِن العمل .
● قال الرجل : و لكني أشعر بأني مظلوم .
● قال الصالح : لو اطلعت على الغيب لوجدت نفسك تستحق عذاباً أكبر .. و لعرفت أن الله الذي ابتلاك لطف بك .. و لكنك اعترضت على ما تجهل و اتهمت ربك بالظلم .. فاستغفر و حاول أن تُطَهِر قلبك و أسلِم وجهك ..
فإنك إلى الآن و رغم حجك و صومك و صلاتك و توبتك لم تُسلِم بعد .
● قال الرجل : كيف .. ألستُ مسلماً ؟ !
● قال الصالح : نعم لست مسلماً ، فالإسلام هو إسلام الوجه قبل كل شئ ..
و ذلك لا يكون إلا بالقبول و عدم الإعتراض و الإسترسال مع الله فى مقاديره و بأن يستوي عندك المنع و العطاء ، و أن ترى حكمة الله و رحمته في منعه كما تراه فى عطائه ، فلا تغتر بنعمة .. و لا تعترض على حرمان ..
فعدل الله لا يختلف ، و هو عادل دائماً فى جميع الأحوال و رحمته سابغة فى كل ما يُجريه من مقادير ..
فقل لا إله إلا الله ثم استقم . . ذلــك هـو الإســـلام .
● قال الرجل : إنى أقول لا إله إلا الله كل لحظة .
● قال الصــالح : تقولها بلسانك و لا تقولها بقلبك و لا تقولها بموقفك و عملك .
● قال الرجل : كيــف ؟
● قال الصــالح : إنك تناقش الله الحساب كل يوم و كأنك إله مثله ..
تقول له استغفرت فلم تغفر لى .. سجدت فلم ترحمنى .. بكيت فلم تُشفق غلىّ .. صليت و صمت و حججت إليك فما سامحتني .. أين عدلــك ؟
و ربت الرجل الصــالح على كتفيه قــائلاً : يا أخـي ليس هذا توحيداً .
التـوحيـد أن تكون إرادة الله هي عين ما تهوى و فعله عين ما تحب و كأن يدك أصبحت يده و لسانك لسانه .. التوحيد هو أن تقول نعم . و تصدع بالأمر مثل ملائكة العزائم دون أن تسأل لماذا .. لأنه لا إله إلا الله .. لا عادل و لا رحمن و لا رحيم و لا حق سواه .. هو الوجود و أنت العدم .. فكيف يناقش العدم الوجود .. إنما يتلقى العدم المدد من الوجود ساجداً حامداً شاكراً .. لأنه لا وجود غيره .. هو الإيجاب و ما عداه سلب .. هو الحق و ما عداه باطل .
فبكـى الرجل و قد أدرك أنه ما عاش قط و ما عبد ربه قط .
● قال الصــالح : الآن عرفت فالزم .. و قل لا إله إلا الله .. ثم استقـم .. قلها مرة واحدة من أحشائــك .
● فقال الرجل : لا إله إلا الله .
فتضوع الياسمين و انتشر العطر و ملأ العبير الأجواء و كأن روضة من الجنة تنزلت على الأرض .
و تلفت الناس .. و قالوا .. مَن هناك .. مَن ذلك الملاك الذى تلفه سحابة عِطر .
● قال الرجل الصــالح : بل هـو رجـل عــرف ربـه .
..
من كتاب : نقطة الغليان
للدكتور / مصطفــــى محمـــــود (رحمه الله) . ❝
❞ ماذا فعلت بنفسك ؟
أردت أن أقتل نفسي لأستريح.
ومن أين لك العلم بأنك سوف تستريح، أعلمت بما ينتظرك
بعد الموت؟
إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا.
هذا ظنك.. ولا يقتل الناس أنفسهم بالظن.
وماذا كنت أستطيع أن أفعل.. وماذا بقي لى ؟
أن تصبر وتنتظر أمرنا
صبرت
تصبر يوما آخر إلى غد.
سيكون غدا مشئوما مثل سالفه.
كيف علمت.. هل أنت الذي خلقت الأيام.. هل أنت الذي خلقت
نفسك؟
لا
فكيف تحكم على ما لا تعلم وكيف تتصرف فيما لا تملك
هذا عمري وقد ضقت به.
أتعلم ماذا نخفي لك غدا؟
لا.
إذن فهو ليس عمرك.
لا أريد أن أعيش.. خلوا بيني وبين الموت.. دعوني.. ارحمونی
لو تركناك فما رحمناك.. إنما نحول بينك وبين رغبتك رحمة
وفضلا ولو تخلينا عنك لهلكت.
يا مرحبا بالهلاك.. ما أريد إلا الهلاك.. يا أهلا بالهلاك.
لن يكون الهلاك رقدة مطمئنة تحت التراب كما تتصور.
أريد أن أخرج مما أنا فيه وكفی.
ولو إلى النار
وهل هناك نار غير هذه؟
اتصورت أنه لا وجود، إلا ما يقع تحت حسك من جنة ونار
أظننت أنه لا جنة ونار إلا نعيمكم وعذابكم.. أظننتنا فقراء
لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالم.. أتصورت أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي وليس عند رب العالمين غير هذه الكرة
الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء.. بئس ما خيل لك
بصرك الضرير عن فقرنا.
ضقت ذرعا مما أنا فيه.. انسدت أمامي المسالك.. انطبقت
السماء على الأرض.. اختنقت.. . أريد الخروج.. أريد الخروج.
ألا تصبر لحظات أخرى.. أترفض عطيتنا في الغد قبل أن
تراها؟
رأيت منها ما يكفيني.
هذا رفض لنا ويأس منا واتهام لحكمتنا وسوء ظن بتدبيرنا
وانتقاص لملكنا.. بئس ما قررت لنفسك.. اذهب.. رفضناك
كما رفضتنا وحرمناك ما حرمت نفسك.. خلوا بينه وبين الموت..
وفي تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش.. ومات في
هذه المحاولة الرابعة.. وفشلت كل الإسعافات في إنقاذه.
وجاء الغد..
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج
جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه.
ولكنه كان قد ذهب لم ينتظر العطية
ظلم المعطى والعطية وظلم نفسه وظلم الغد ااذى لم يره واتهم الرحيم فى رحمته وأنكر على المدبر تدبيره.
وخرج إلى حيث لا رحمة .. ولا .. عودة . ❝
❞ كان التشخيص سرطانا بالثدي من الدرجة الثانية وقال لها الطبيب هناك احتمال لنجاح جراحة استئصال كامل ولا يجب ان نضيع الفرصة
قالت لخطيبها ودموعها علي خديها : اتتزوجني وانا هكذا ؟؟؟
قال في يقين : نعم حبيبتي
قالت : سوف اضع مكانه ثديا صناعيا من رغوة المطاط
قال : وهل اللحم والدم الا نوع اخر من الرغوة الخلوية نحن نصور انفسنا اوهاما وما الحق الا الروح التي تسكن البدن والنفس التي تسكن القلب
واستأصل الجراح الثدي ومعه احزمة من الغدد الليمفاوية وحاول ان يحاصر المرض بالأشعة ولكن الخلايا السرطانية كانت قد سرحت في الدم وما لبثت ان ظهرت تجمعات خلوية سرطانية في الرئتين .
وبصقت الفتاة دما
ثم ظهرت تجمعات دموية في العمود الفقري فما عادت تستطيع ان تقوم او تقف
وبدأت تعاني الاما حادة وتصحو بضع ساعات لتغيب بعد ذلك اغلب يومها وليلها في المورفين
قالت لخطيبها : لا فائدة سوف اموت ......اتحبني؟؟؟؟؟
قال ودموعه علي خديه : سوف احبك اكثر
قالت : كيف تحبني بعد ان اموت ... كيف تحبني بلا جسد ... اصلاة في غير محراب ...اطواف بدون كعبة ؟؟؟؟
قال : لقد هدموا احجار الكعبة عدة مرات في التاريخ فهل انتهي الايمان وهل انتهي الطواف ..... انما الطواف حول البقعة وليس حول الحجر انما الطواف حول نقطة في التصور حول مركز الاهتمام ....
وكما يطوف القمر حول الارض وكما تطوف الارض حول الشمس وكما يطوف الاصغر حول الأكبر كذلك تطوف كل المخلوقات حول الاكبر من كل شئ وكلنا طوافون حول المشيئة الالهية اردنا ام ابينا..... وما الكعبة الا الرمز وانا اطوف حول حجارة ولو تهدمت لما تغير في نظري شئ وسأظل أطوف حول مشيئة ربي للأبد
قالت في حزن: كنت تقبل شفتي بلذة
قال : بل كنت اقبل روحك
قالت: وكيف ستقبل الروح اليوم بلا شفتين؟؟؟؟؟؟
قال: اننا لا نفقد حبنا لساكن الضريح اذا لم نقبل نحاس الضريح ؟؟؟؟
قالت: هذا شعر اخشي الا يصمد للواقع
قال: هذا حق
قالت:اصارحك بأن حبي لك يختلف كثيرا عن ذلك الحب فأنا كنت أريدك لحما ودما كنت احب ريقك يجري في دمي وعرق يديك علي وسادتي انا لا استطيع انا اصلي في غير محراب ولا استطيع ان اعبد دون ان الثم الحجر الاسود واشعر بريق شفتي علي سطحه العنبري
قال: اصدقك ربما كان هذا هو الفرق بين الرجل والمرأة فالرجل يستطيع ان يحب في تجريد والمرأة لا تستطيع ان تحب الا تجسيدا لأنها هي ذاتها رحم الحياة التي تلد الأجساد المرأة جسم الدنيا والرجل عقلها ولهذا استطاع مجنون ليلي ان يهيم في ليلي ويضيع حياته في حبها دون ان يمسها ولم تستطع هي بل تزوجت وانجبت مثل جنسها من بنات البشر .
قالت: نعم ولهذا قرأت عن الحب العذري ولم افهمه قط ولا اصدق اي امرأة تتكلم عن الحب العذري ابدا
وعادت تبكي مغمغمة يا ويلي يا ويلي من حرماني منك انه عدم انه ظلمة لا اطيقها اتوسل اليك يا حبيبي تزوجني الليلة
وتزوجا بين ضباب الأفيون والمسكنات وألام السرطان ونشوة اللقاء الجسدي العارم وكانا اشبه بحياة تعانق الموت علي شفا جرف هار
ولهذا كانت لذاتهما مضاعفة ولهفاتهما محترقة وكأنها لثمات خاطفة من خلال قضبان لسجين برئ ذاهب الي الاعدام
وكأنما احترمت قوانين الغيب هذا اللقاء فتوقفت نمو الخلايا السرطانية بضعة ايام ليتيح لهما فسحة لذلك الحوار المحترق بين الحياة والموت
وكأنما قال الحب للموت توقف لحظة فتوقف
وكانت تقول له ......كم ألعن هذا الافيون لأنه يحجبني عن الالم كما يحجبني عنك ولأنه يقيم حولي استارا من الوهم فأشعر كأنما امسكك بقفاز وليس بيدي كم اريد ان اباشرك بلا وسائط وبلا حجب فأصير انا انت بالحق والحقيقة وبالدم والجسد ويصير كلانا كائنا واحدا
فيقول لها وهو يبكي ...........
في الجنة سوف يباشر بعضنا بعض بلا وسائط وبلا حجب فنتوحد كأرواح اما في الدنيا فغلالة الاجساد والطين تفرقنا ولا امل
فتقول في يأس .......
جنتي هي انت؟؟؟؟؟؟؟ورغبتي هي ان تتوحد طينتي وطينتك لتكونا سبيكة واحدة مالي انا والارواح
فيقول مندهشا اوثنية انت؟؟؟؟؟؟؟
فتقول بل امرأة لقد ارادني الله ان اكون دنيا لك فكيف تريدني اكون لك اخرة
فيقول متذكرا تلك هي حواء فعلا التي ربطت ادم الي الارض الي قيام الساعة ما اجملك من حواء
ونزلت سطوة الغيب فانهار الجرف بين الموت والحياة واصبحت جثة لا يسمع لها صوت ولا يري لها كيان
وتحول الحوار الي كلام مبتور من طرف واحد هو يصرخ وهي لا تجيب ثم هو وحده يكلم ترابا
ثم علامة تعجب امام الباب الذي لا يعود منه احد .
ثم سؤال ... ولا جواب .
..
قصة / " الحب والموت "
كتاب / " نقطة الغليان "
للدكتور / مصطفــــى محمـــــود (رحمه الله ) . ❝
❞ الخـــروج . . .
كان يزدرد الطعام كأنه يزدرد كُرات من العجين يُلقي بها في جوفه دون تَلذُذ .. و كان الهواء راكداً ثقيلاً .. و كل شيء راكد ثقيل .. و صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم ..
و لم يكن يدري كم من الوقت قد مضى عليه و هو جالس في كُرسيه في مقهى الروف بأعلى البرج ..
ربما بِضع ساعات و هو يجلس نفس الجلسة لم يُحرك إصبعاً .. و ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة في الهواء دون أن يختلج له جفن ، و كأنما تسمرت نفسه و بات عقله مصلوباً على فكرة واحدة لا يبرحها .. أن يتخلص من حياته .
مريض بلا شفاء .. يتنقل من طبيب إلى طبيب .. و من دواء إلى دواء .. و من مُخدِر إلى مخدر .. و من أمل إلى أمل .. ثم تذوي الآمال ثم يكتشف أنه لم يبق له إلا الصبر .
و في البيت وحده .. و فِراش بارد .. و مائدة عليها عشرات العقاقير، و خِطابات لا يجف حبرها .. تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد لا يهدأ :
سوزان . . سوزان . .
عودي .. أحبك .. لا أستطيع أن أحيا بدونك .. و لا أن أموت بدونك .
حياتي ليل بدون ضوء عينيك .
و دائماً تُرسَل الخطابات و تسافر عبر البحر .. و لا يأتي لها رد ، و لا يُسمَع لها صَدى .
الزوجة الأوروبية عادت إلى بلادها بقلب ينزف ، و تركت وراءها قلباً آخر ينزف .
و في ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش ..
و في تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية يتقلب .. و كأنما يتقلب على صحراء مُوحِشة تسرح فيها الأفاعي .. ثم ينفد الصبر .. و تنقطع حِبال الإنتظار .
و لا تبقى في ذهنه إلا فكرة واحدة .. أن يتخلص من حياته .
تأتيه الفكرة في البداية زائرة ثم تصبح طَوّافة ثم تُلِح عليه ثم تُقيم في رأسه ثم تتحول إلى حصار ثم تغدو كابوساً قهرياً يحتويه و يجثم عليه و يخنقه رويداً رويداً .
و يتحرك أخيراً .. فينظر إلى ساعته .
لقد مضت أربع سنوات و هو مُتجمد في كُرسيه كتمثال ، و شيء في داخله ينخر في بنيانه و يأكل جوفه .. و بنظرة سريعة عبر الشرفة يطل على الناس الذين يبدون كالنمل الصغير أسفل البرج .. و تتسمر عيناه على الهُوّة التي تَفغُر فاها تحت قدميه .
ثم في لحظة يرمي بنفسه من شاهِق .
و يتجمع الناس أسفل البرج .. و هُم يحكون في ذهول ..
هناك رجل رمى بنفسه من أعلى البرج فسقط على كتفي عامل فقتله لساعته .. أما هو فلم يُصَب بخدش ..
و حينما أفاق الرجل من صدمته و أدرك ما فعل .. إنكَبَّ على شفرة حديد صَدِئة إلتقطها من الطريق و قطع شرايينه .
و حملوه إلى المستشفى و هو ينزف .. و أسعفوه ..
و حينما فتح عينيه و اكتشف أنه لم يمُت بعد .. إبتلع زجاجة الأقراص المنومة كلها في غفلة من الممرضة ..
و لكنهم غسلوا معدته ، و أعطوه شيئاً .. و أنقذوه ..
و فتح عينيه من جديد ليجد أنه لم يمت بعد ثلاث محاولات قاتلة .. قتل فيها رجل آخر و لم يَمُت .. و سقط مغشياً عليه ..
و في النوم و بين لحظات الخدر ، و فيما يشبه الرؤيا شاهد الرجل نوراً و سمع صوتاً يقول له :
●● ماذا فعلت بنفسك ؟
● أردت أن أقتل نفسي لأستريح .
●● و من أين لك العلم بأنك سوف تستريح .. أعلِمت بما ينتظرك بعد الموت ؟
● إنه على أي حال أفضل من حالي في الدنيا .
●● هذا ظنك .. و لا يقتُل الناس أنفسهم بالظن .
● و ماذا كنت أستطيع أن أفعل .. و ماذا بقيَ لي ؟
●● أن تصبر و تنتظر أمرنا ..
● صبِرت .
●● تصبر يوماً آخر إلى غَد .
● سيكون غداً مشئوماً مثل سالفه .
●● كيف علمت .. هل أنت الذي خلقت الأيام .. هل أنت الذي خلقت نفسك ؟
● لا .
●● فكيف تحكم على ما لا تعلم ، و كيف تتصرف فيما لا تملك ؟
● هذا عمري و قد ضقت به .
●● أتعلم ماذا نُخفي لك غداً ؟
● لا .
●● إذاً فهو ليس عُمرك .
● لا أريد أن أعيش .. خلوا بيني و بين الموت .. دعوني .. ارحموني .
●● لو تركناك فما رحمناك .. إنما نحول بينك و بين رغبتك رحمةً مِنا و فضلاً ، و لو تخلينا عنك لهلَكت .
● يا مرحباً بالهلاك .. ما أريد إلا الهلاك .. يا أهلاً بالهلاك .
●● لن يكون الهلاك رقدة مُطمَئنة تحت التراب كما تتصور .
● أريد أن أخرج مما أنا فيه و كَفَى .
●● و لو إلى النار ؟
● و هل هناك نار غير هذه ؟
●● أتصَوَّرت أنه لا وجود إلا لما يقع تحت حسك من جنة و نار .. أظننت أنه لا جنة و لا نار إلا نعيمكم و عذابكم .. أظننتنا فقراء لا يتسع ملكنا إلا لهذا العالَم .. أتصَوَّرتَ أنه ليس عندنا لك إلا هذه الشقة في المعادي .. و ليس عند رب العالمين غير هذه الكرة الأرضية المعلقة كذرة غبار في الفضاء .. ؟
بئس ما خَيَّل لك بَصرُك الضرير عن فقرنا .
● ضقت ذرعاً مما أنا فيه .. إنسدت أمامي المسالك .. إنطبقت السماء على الأرض .. إختنقْت .. أريد الخروج .. أريد الخروج .
●● ألا تصبر لحظات أخرى .. أترفض عطيّتنا في الغد قبل أن تراها ؟
● رأيت منها ما يكفيني .
●● هذا رفض لنا و يأس مِنّا و اتهام لحكمتنا و سوء ظن بتدبيرنا و انتقاص لملكنا .. بئس ما قررت لنفسك .. إذهب .. رفضناك كما رفضتنا ، و حرمناك ما حرمت نفسك .. خَلّوا بينه و بين الموت ..
و في تلك الليلة شنق الرجل نفسه بملاءة الفراش .. و مات في هذه المحاولة الرابعة .. و فشلت كل الإسعافات في إنقاذه .
و جاء الغــد . .
فطلعت صفحات الجرائد الأولى بخبر مثير عن اكتشاف علاج جديد حاسم للمرض الذي كان يشكو منه .
و جاءت سوزان تدق بابه في شوق و في يدها بضع زجاجات من هذا الترياق الجديد و قلبها يطفح بالحب و الأمل .
و لكنه كان قد ذهب .
لم ينتظر العطية .
ظلم المُعطي و العَطيّة و ظلم نفسه و ظلم الغد الذي لم يره و اتهم الرحيم في رحمته و أنكر على المدبر تدبيره .
و خـــرج . .
إلى حيــث لا رحمـــة . . و لا عــودة . .
..
قصة : الخروج
من كتـــاب / نقطــة الغليـــان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ يقول الفيلسوف الحكيم أبو حامد الغزالي كلما أزداد القوس اعوجاجاً أعطى السهم توتراً واندفاعاً أكثر ليصيب هدفه وذلك هو الكمال الذي يخفى في باطن النقص . ❝
❞ و كان اليوم جمعة في شتاء قارص من يناير و قد صحا من نومه مُتأخِراً بعد ليلة عب فيها من اللذة ما شاء و اعتصر من ضرع الحياة أقصى ما استطاعت الحياة أن تعطيه ، و أغفَى في حضن امرأة و ذاق أحلى قبلة و استمتع بأجمل عِناق .
و أمام إغراء المال قل من كُنَّ يستطعن الصمود .. و من حسن حظه أن أكثر الجميلات
المُترَفات من النساء كُنَّ مثله متخصصات في نفس فنه الرفيع .. و هو كيف يأخذن من الحياة خلاصتها دون أن يشغلن أنفسهن بأن يعطينها شيئاً .
و لهذا كانت الصفقة دائماً طيبة .. و كانت دائماً رابحة .
و لم يُخطئ تقديره مرة واحدة .
و كانت عادته في تلك الأيام بعد أن يلتهم إفطاره الدَسِم أن يمضي يفتش مَناحِله ، و أن يقضي الساعات يتأمل ذلك السعي الدءوب لألوف النحلات الشغالة و هي تمضي إلى الحقول لتعمل في دأب و صمت في جمع الرحيق من الزهور لتعود مُحَمَّلة بمحصولها الوافر قبل الغروب .
و في صمت تعمل في تحويل هذا الرحيق في بطونها إلى شهد .. ثم تصبه في الخلايا لتخزنه ثم تختم عليه بالشمع .. ثم توزع بينها الوظائف ..
البعض يرعى البيض .. و البعض يُطعِم اليرقات الضغيرة التي خرجت من الفقس .. و البعض يطعم الملكة بالغذاء الملكي و ينظفها و يغسلها .. و البعض يمرح بأجنحته على باب الخلية ليكيف هواءها .. و البعض يحرس الباب من الأعداء و ينتشر حول الخلية ليستطلع أخبار أي عدو ..
بينما ألوف الذكور تأكل و تنام في كسل .. و تعيش بلا عمل في انتظار ذلك اليوم الوحيد من كل سنة حينما تغادر الملكة الخلية و تُحَلِق بأجنحتها في الجو .. فيتبعها سرب الذكور .. فتظل ترتفع و ترتفع .. و الذكور يتسابقون خلفها .. حتى يلحق بها أقواهم ، و لهذا الذكر الأقوى من الجميع تترك الملكة نفسها ليلقحها ..
و بعد التلقيح تعود الملكة إلى الخلية لتبدأ دورة جديدة من التكاثر و وضع البيض ..
أما الذكور فيعودون إلى الخلية ليلاقوا حـتفهم .. إذ لم تعد لهم فائدة .. و أصبح تركهم يأكلون عالة على الجميع تبذيراً لا معنى له ..
و لهذا كانت النحلات الشغالة تستقبلهم عند الباب باللدغ و الضرب و الركل .. ثم تلقي بهم إلى الخارج ليتكفل البرد و الجوع بالقضاء على البقية الباقية منهم .
و كان حظ صاحبنا في ذلك اليوم البارد من يناير أن يرى هذه المجزرة الغريبة التي تجري أمام عينيه كأنها شريط سينمائي .
رأى الذكور العائدين بعد التلقيح تقتلهم النحلات الشغالة واحداً بعد الآخر .. و تُلقي بهم في البرد و العراء .
و كان غريباً أن يتأمل حال هذا المجتمع الحشري العجيب حيث لا تحتل العملية الجنسية إلا يوماً واحدا ..ً بل لحظة واحدة من يوم من عامٍ كامل يمضي كله في عمل دءوب مخلص للبناء و الإنتاج .
لحظة واحدة ذات يوم كل عام ينال ينال أحد الذكور حظاً من تلك اللذة .. ثم يجد بعد ذلك مَنْ يقتله على الباب و يقول له . . شـــكـراً . . لـقد أديــت وظيـفـتــك . . و لم يعد لنا بك حاجة ..
ثم تدور العجلة بعد ذلك لعام كامل .. لا يذكر أحد تلك اللذة و لا يفكر فيها و لا يسعى إليها .. و إنما ينقطع الكل للبناء و الإنتاج و تكوين الشهد .. الذي يأكله صاحبنا ..
صاحبنا الذي فرغ كل حياته و كل يوم و كل لحظة من سِني عمره في سعي دءوب مستمر لجني اللذة أينما وجدها .. في القاهرة أو روما أو باريس أو لندن أو آثينا .. و كل ما يأتي من أعمال إنما هو في خدمة تلك اللذات و لتكثيرها و تنويعها .
و ذلك هو الإنسان .. و تلك هي الحشرة .. التي نعتبرها في أدنى الدرك الحيواني .
هل كانت مصادفة في ذلك اليوم و صاحبنا يقلب الأمر في فكره .. و قد اعتمد رأسه بين يديه و غرق في التأمل .. أن مرقت رصاصة طائشة من ساحات التدريب القريبة و اخترقت ذلك الرأس .. و أسكتت ما فيه من الفِكر إلى الأبد .. !
أكانت رصاصة طائشة حقاً كما ذُكِر بعد ذلك في محضر البوليس .. أم كانت رصاصة من بندقية مخدوع عرف طريقه إلى رأس غريمه .. أم كانت رصاصة وَجَّهتها العناية الإلهية و قادها مَلَك الموت إلى ذلك الرأس .. هامِساً كعادته في أدب جَم كما يفعل كل الملائكة ..
شـــكـرا . . لـقــد أديــت وظيفـتــك . . و لـم تـعــد للدنيــا بــك حـاجــة .
قصة / شكراً لقد أديت وظيفتك
من كتاب / نقطة الغليان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ و كان اليوم جمعة في شتاء قارص من يناير و قد صحا من نومه مُتأخِراً بعد ليلة عب فيها من اللذة ما شاء و اعتصر من ضرع الحياة أقصى ما استطاعت الحياة أن تعطيه ، و أغفَى في حضن امرأة و ذاق أحلى قبلة و استمتع بأجمل عِناق .
و أمام إغراء المال قل من كُنَّ يستطعن الصمود .. و من حسن حظه أن أكثر الجميلات
المُترَفات من النساء كُنَّ مثله متخصصات في نفس فنه الرفيع .. و هو كيف يأخذن من الحياة خلاصتها دون أن يشغلن أنفسهن بأن يعطينها شيئاً .
و لهذا كانت الصفقة دائماً طيبة .. و كانت دائماً رابحة .
و لم يُخطئ تقديره مرة واحدة .
و كانت عادته في تلك الأيام بعد أن يلتهم إفطاره الدَسِم أن يمضي يفتش مَناحِله ، و أن يقضي الساعات يتأمل ذلك السعي الدءوب لألوف النحلات الشغالة و هي تمضي إلى الحقول لتعمل في دأب و صمت في جمع الرحيق من الزهور لتعود مُحَمَّلة بمحصولها الوافر قبل الغروب .
و في صمت تعمل في تحويل هذا الرحيق في بطونها إلى شهد .. ثم تصبه في الخلايا لتخزنه ثم تختم عليه بالشمع .. ثم توزع بينها الوظائف ..
البعض يرعى البيض .. و البعض يُطعِم اليرقات الضغيرة التي خرجت من الفقس .. و البعض يطعم الملكة بالغذاء الملكي و ينظفها و يغسلها .. و البعض يمرح بأجنحته على باب الخلية ليكيف هواءها .. و البعض يحرس الباب من الأعداء و ينتشر حول الخلية ليستطلع أخبار أي عدو ..
بينما ألوف الذكور تأكل و تنام في كسل .. و تعيش بلا عمل في انتظار ذلك اليوم الوحيد من كل سنة حينما تغادر الملكة الخلية و تُحَلِق بأجنحتها في الجو .. فيتبعها سرب الذكور .. فتظل ترتفع و ترتفع .. و الذكور يتسابقون خلفها .. حتى يلحق بها أقواهم ، و لهذا الذكر الأقوى من الجميع تترك الملكة نفسها ليلقحها ..
و بعد التلقيح تعود الملكة إلى الخلية لتبدأ دورة جديدة من التكاثر و وضع البيض ..
أما الذكور فيعودون إلى الخلية ليلاقوا حـتفهم .. إذ لم تعد لهم فائدة .. و أصبح تركهم يأكلون عالة على الجميع تبذيراً لا معنى له ..
و لهذا كانت النحلات الشغالة تستقبلهم عند الباب باللدغ و الضرب و الركل .. ثم تلقي بهم إلى الخارج ليتكفل البرد و الجوع بالقضاء على البقية الباقية منهم .
و كان حظ صاحبنا في ذلك اليوم البارد من يناير أن يرى هذه المجزرة الغريبة التي تجري أمام عينيه كأنها شريط سينمائي .
رأى الذكور العائدين بعد التلقيح تقتلهم النحلات الشغالة واحداً بعد الآخر .. و تُلقي بهم في البرد و العراء .
و كان غريباً أن يتأمل حال هذا المجتمع الحشري العجيب حيث لا تحتل العملية الجنسية إلا يوماً واحدا ..ً بل لحظة واحدة من يوم من عامٍ كامل يمضي كله في عمل دءوب مخلص للبناء و الإنتاج .
لحظة واحدة ذات يوم كل عام ينال ينال أحد الذكور حظاً من تلك اللذة .. ثم يجد بعد ذلك مَنْ يقتله على الباب و يقول له . . شـــكـراً . . لـقد أديــت وظيـفـتــك . . و لم يعد لنا بك حاجة ..
ثم تدور العجلة بعد ذلك لعام كامل .. لا يذكر أحد تلك اللذة و لا يفكر فيها و لا يسعى إليها .. و إنما ينقطع الكل للبناء و الإنتاج و تكوين الشهد .. الذي يأكله صاحبنا ..
صاحبنا الذي فرغ كل حياته و كل يوم و كل لحظة من سِني عمره في سعي دءوب مستمر لجني اللذة أينما وجدها .. في القاهرة أو روما أو باريس أو لندن أو آثينا .. و كل ما يأتي من أعمال إنما هو في خدمة تلك اللذات و لتكثيرها و تنويعها .
و ذلك هو الإنسان .. و تلك هي الحشرة .. التي نعتبرها في أدنى الدرك الحيواني .
هل كانت مصادفة في ذلك اليوم و صاحبنا يقلب الأمر في فكره .. و قد اعتمد رأسه بين يديه و غرق في التأمل .. أن مرقت رصاصة طائشة من ساحات التدريب القريبة و اخترقت ذلك الرأس .. و أسكتت ما فيه من الفِكر إلى الأبد .. !
أكانت رصاصة طائشة حقاً كما ذُكِر بعد ذلك في محضر البوليس .. أم كانت رصاصة من بندقية مخدوع عرف طريقه إلى رأس غريمه .. أم كانت رصاصة وَجَّهتها العناية الإلهية و قادها مَلَك الموت إلى ذلك الرأس .. هامِساً كعادته في أدب جَم كما يفعل كل الملائكة ..
شـــكـرا . . لـقــد أديــت وظيفـتــك . . و لـم تـعــد للدنيــا بــك حـاجــة .
قصة / شكراً لقد أديت وظيفتك
من كتاب / نقطة الغليان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ كانت تبكى فى صلاتها وهى ساجدة وتقول : لماذا ابتليتنى يارب بهذا الرجل وهو اخر ما يصلح لى ؟! ..
ولم تكن تعلم أن الله منذ بدء التاريخ يضرب الناس بعضهم ببعض ليمتحن معادنهم .. ويجمع السباع والغزلان فى الغابة كما يجمع السالب والموجب فى الذرة كما يجمع الميكروب واللقاح المضاد فى الجسد كما يجمع عوامل الموت وعوامل الحياة فى الخلية ..
ولا استثناء لأحد من هذا القانون !!
حتى أنبياء الله وأحباؤه كانوا أكثر الناس بلاء وابتلاء بالمحن .
. ❝
❞ إن كل الذين عبروا من هنا... قالوا: أنهم أحبوا حتى الموت.
البعض أحب الخشب والحديد، والبعض أحب السلطة، والبعض أحب امرأة، والبعض أحب نفسه، ولا شيء من هذا الحب كان يروي عطشاً!
كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح؛
كلما ازداد شرباً.. كلما ازاد ظمًأ
ولهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذي لا يُنال؛ فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً، وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط في العدم.
ولو أنها أحبت الحي الذي لا يموت!
ولو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب!
لأدركت طريقها، ولتغيرت القصة.
"ولكن"
"ولكن" هذه هي جريمتنا جميعاً.
. ❝