█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024
❞ أشد ما يلفت النظر في دراسة تاريخ العلوم الإنسانية والطبيعية، في الولايات المتحدة، هو أن العرض التاريخي يبدأ من فلاسفة اليونان، وبالطبع من الثنائي أفلاطون وأرسطوطاليس، ثم يعرج إلى الفكر الديني للثنائي: القديس أوغسطينوس وتوماس الأكويني، ثم ينتقل فجأة إلى العصر الحديث. وهذه الحالة نراها في العلوم الأخرى أيضا، إذ أن جميع الكتب العلمية لا تذكر أي شيء عما اكتشفه المسلمون أو درسوه أو وصل إليهم، بينما نرى جميع مقدمات الكتب العلمية، أو الفصول الأولى من الكتب العلمية، تذكر ما كان سائدًا قبل 2000 عام، أو ما كان سائدًا، قبل الميلاد، في الحضارة اليونانية، وأحيانا يذكرون المصريين القدماء، ولا يُذكر شيءٌ عن تقدم العلوم وازدهار البحث العلمي والفلسفي في خلال ألف سنة من الحضارة الإسلامية، بل إن هناك -كما تشير بعض الكتب- ˝سُباتا˝ علميا وحضاريا لألف عام وبعدها تحل على أوروبا -بطريقة سحرية أو غامضة- النهضة والتنوير، وهكذا تطورت البشرية . ❝
❞ يمكن تقسيم الفلسفة اليونانية التي تتصل بها الفلسفة اللاتينية إلي ثلاثة أقسام أو فترات:
القسم الأول يبدأ بطاليس عام 600ق.م، وينتهي مع سقراط، والفلسفة في هذا القسم هي عبارة عن عِلم الكائنات الشامل لسائر عناصر الوجود. وفي القسم الثاني فتح سقراط للفلسفة باباً جديداً؛ فرفع المنطق والأخلاق على الطبيعيات. والقسم الثالث يبدأ بأراء المحدثين من أتباع فيثاغورس واضعي ˝نيوفيثاغورزم˝، ويمتد إلي نهاية الفلسفة القديمة، ويمتاز هذا القسم بأمتزاج الفلسفة اليونانية بالروح الشرقي، وتفوق الحكمة الآلهية والتصوف . ❝
❞ ❞ نظرة الاستشراق الغربية لعالمنا نحن نابعة من عنصرين؛ هما: الخوف من تهديد (الشرق) الذي كان يتمثل بالدولة العثمانية، وإحساس أبناء أوروبا بالجهل الذي خيم على قارتهم لأكثر من ألف عام. فقامت الدراسات الأكاديمية حول الشرق بتزييف صورة ما تعتبره مناقضًا للغرب؛ فأصبح الشرق يمثل الإسلام وأهل الشرق، رغم اختلاف أوطانهم وتباين ثقافاتهم، إنما هم بمجملهم العرب. وهذه الصورة المنحرفة جاءت في زمن التوسع والهيمنة والسيطرة الأوروبية على العالم كله، فهي قائمة على احتواء هذا الشرق، فما الإسلام إلا صورة منحرفة عن المسيحية، ليس عليهم تصحيحها وإنما إعادة معتنقيه لجذوره الحقيقية، وما جاء به العرب المسلمون إنما هو ترجمات هي أيضًا منحرفة عن أصولها اليونانية، وتجب العودة إلى تلك الأصول الصحيحة، وعدم إعطاء أي ذِكر أو اعتبار ذي قيمة لما أنجزه (البدو) في العصور الوسطى. ❝ . ❝
❞ نشرَت جريدة الصنداي تايمز، هذا النهار، خبر تسرب شعاع غامض من مدينة أدرنَّة التركية على الحدود اليونانية، وتكهّن مواطن يوناني الْتقتهُ مراسلة الصحيفة، بأنهم على الحدّ الفاصل لليونان، شاهدوا ليومين متتاليين، أشِعّة أرجوانية اللون، غامضة تومض لدقائق ثم تنْساب على مدَى الأفق وكأنها طيفٌ خيالي، تبعتها رياح مُغْبّرة، وما زادَ الأمر تعقيدًا، إصابة كلّ من صادف تواجدهُ تلك الساعة بالمنطقة، بحكّة جلْدية شرِسة، وتوَسّعت المراسلة الصحفية في الخبر، بالتحقيق مع سكان المنطقتين من كلا الجانبين، ما أفضى بالنهاية، لتوْقيفها من قبل السلطات التركية ومصادرة الكاميرا ولكنها تمكّنت من تسريب صور التحقيق...
لم يلفت ذلك الخبر نظر العالم الذي كان مشغولاً بأخبار الأمير هاري وميغان، وحتى خبر الصنداي حول الشعاع الأرجواني نُشر بصفحةٍ داخلية، وغطى عليه بذات اليوم، خبر اغتيال قاسم سليماني...وحدهُ القرمزي، الذي قرأ الجريدة في المساء، متأخرًا عن عادة قراءتها في الصباح، بينما كان يحتسي قهوته السوداء في رصيف مقهى ميدان الكاتدرائيّة...
قربّ السفارة البحرينية في لندن نهار اليوم التالي، كان ثمّة بضعة عشرات من متظاهرين احتشدوا تحت رذاذ المطر، حملوا يافطات ورقية هزيلة مسَحَت قطرات المطر حِبرها، مطالبين بديمقراطية، بينمّا كان واحدٌ منهم يحمل صورة القتيل قاسم سليماني...كانت فجْوَة غير مُنصفة تلك اللحظة التي ضاع فيها خبر الصنداي، وعلى الضفة الأخرى من الشارع، تدخل البوليس لتفريق مجموعة مُتعرّية، حملت شعاراتٍ بيئية، كان الطقس ضبابيًا وحركة السير مرتبكة...
˝لا أستطيع دخول السفارة هذا اليوم، سوف الْفتُ الأنظار، وأخشى لو سلَمت الجواز لتجديده، تتم مصادرته، ما رأيكِ أوليفيا؟ هل استمر؟˝
وقف ناصر رجب، مرتديًا بدلة سوداء فضفاضة، متخفيًا بجهٍةٍ من الشارع، بجانب ثلاثة أجانب رجل وامرأتين يحاولون جرّ أحد الكلاب، قاوم رغبتهم في السير...كان يتحدّث في الهاتف ويحاول جاهدًا استراق النظر نحو ما يجري قربّ السفارة...
كانت أوليفيا روي على الطرفِ الآخر، من الهاتف تقبع بركنٍ من مطعم صغير، يطلّ على ساحل بُحَيرة، تحتجز بطرفِها عدّة قواربّ صغيرة، بعضها شراعي، وثمّة زبائن آخرين يحلِّقون على موائد الرصيف، وكان هنالك نباح كلب يأتي من مسافة...كانت تتحدّث بالهاتف وسرعان ما أنْهَت المكالمة لدي دخول بسام داوود الأسود...كان يحمل معه حقيبة رجل أعمال ويرتدي قميصًا أبيض ومعطفًا كحلي، مع سروال أسود، أبقى نظارته السوداء رغم الطقس الغائم...جلس مقابلاً لها، وعلت وجههُ ابتسامة صفراء...
˝أوليفيا˝
قال ذلك وهو يشير لنادل صغير السِنّ، أمْهَق البشرة، ضيق العينين، أقتربّ منه حالمّا لمح إشارته...
˝متى وصَلت َلوغانو؟˝
سألته المرأة السويسرية، وهي تُشير للنادل أن ينتظر لحظة...
˝الآن˝
أجابها وعادَ للنادل، طلب نبيذًا أحمر، التفتَ للمرأة يسألها بحِيرةٍ بدت على وجهه.
˝ماذا تأكلين؟˝
˝بيتزا˝
أجابتهُ.
عادَ للنادل وقال وهو يحُكّ ذقنه مفكرًا...
˝لا شيء، فقط نبيذ احمر˝
˝كنت على الهاتف منذ لحظة مع ناصر رجب، يواجه مشكلة انتهاء صلاحية جواز سفره، لهذا تأخر بالمجيء إلى ميلانو˝
بدت عليه العصبية، زفَر بحدّة وقال بنبرةٍ يائِسة...
˝هذا الأحمق لا يعرف كيف يتدَبر أمره بتاتًا، كيف تمكّن من الإثراء؟!
تنهّد ثانية واستدرك وهو ينظر لسيدة مُسِنّة دخلت المطعم وهي تواجه صعوبة في إغلاق مظلة المطر...
˝كيف تثقين به؟ ألا تخشين أن يورّطكِ؟˝
قطع تركيزه اصطدام إحدى النادلات بأحد الزبائن قادم من جهة الحمام كما يبدو، تصاعدَت رائحة شواء من الداخل، نظر الأسود إلى حقيبته بجانبه قربّ عمود الطاولة ثم التفت وراءه، وعاد ينظر للمرأة، كانت تحدّق بكوب القهوة أمامها...
˝أُفضل أن تسوي القضية معهم خارج المحكمة، مُجرّد ذهابكَ للمحاكمة سيشوِّش عليك، أنت تحت الأنظار منذ قضية الورق. اشْتر بعض المساهمين، وأضْمَن أنك ستكْسب أضعافًا لأنّني سأكون حرّة في عقد صفقات خارجية، دون إثارة الرأي العام في بلدك...˝
ارْجَع ظهره للوراء، قهقه بازدراءٍ وقال بنبرةِ مقت...
˝هؤلاء جشعون، لن يرضوا بالقليل، مع أنهم مفلسون ولا أصدق تعنتهم وعدم بيعهم للأسهم˝
وفجأة خرجت مُنفلِتة إحدى النادلات وهي تهرول، ولَحِق بها أحد الزبائن...انتصب بعض الرواد قربّ سياج المكان وراحوا يحدقون من النافذة بفضول ...
˝ماذا يجري في الخارج؟˝
سأل بسام الأسود باهتمام...
˝لوغانو أهدأ مكان على الأرض، لا تهتم˝
في الخارج كان يدور جدَل بين بعض الأفراد، وهناك على بعد مسافة أمتار بمحاذاة البحر طفق تجمعٌ يرْصدُ الأفق، كانت سيارات متنوِّعة تعبُر الشارع البحري من الجهتين، وثمّة أشخاصٌ يحاولون العبور، نحو الحشد الذي كان يتَطلَّع نحو لا شيء! الوقت قبل الغروب، والسماء غائِمة، ونسمات هواء باردة تُحرك أوراق الأشجار التي تساقط بعضها، صفراء على الأرض.
˝مجرّد وميضٍ خريفي من ذلك الذي يسْبقُ فترة تباين الفصول، الناس في المدينة الناعِسة، تهتم بتفاصيل رتيبة لعدمِ وجود ما يثير هنا، أي شيءٍ تافه ولو انتحار نحلة يحرك الناس!˝
قالت أوليفيا ذلك بنغمةٍ لا مبالية لدى انتهاء لقائهما... وقبل أن ينفصلا عند واجهة رصيف المطعم، سأل الأسود أحد المارَّة، وفي نظرتهِ فضول تجاه بقايا التجمع عند مرفأ البحر، مقابل شارع رئيسي، لم تتوقف عليه حركة السيارات، بكلّا الاتجاهين...
˝يقال وميض شمسي حاد قصَف بعض من كانوا يتنزهون على الساحل˝
أجاب رجل متوسط العمر تبدو عليه ملامح جنوب آسيا...ثم مضى في سبيله.
˝غريب˝
قال الأسود بعدمِ مبالاة
˝ ما وجهُ الغرابة؟˝
سألَت أوليفيا روي وهي تهم بالانصراف وقد تدَلّت حقيبة بيضاء بكتفِها، فيما حمل الأسود حقيبة رجل الأعمال بيده اليسرى.
˝ألم تسمعِ منذ أيام خبر الصنداي تايمز؟˝!!
مطّت شفتيها، بمُجرّد مغادرتهِ، سارَت بتمَهُّلٍ نحو رصيف الشارع، توقفَت عند نافورة مياه، أشعلَت سيجارة، وتلفَّتَت حوْلها، لمحَت زوجين عجوزين، يقبِّلان بعضهما، بينما شابين مراهقين، يتشاجران برتابةٍ مُمِلّة، مقابلهما...بدت حائرة حتى نطَّ فجأة بجانبِها طفلٌ بسنِّ الخامسة أفلَتَ من يدِ والده الخمسيني العمر، الذي انْشغل بتَملُّقِ فتاة تصْغرهُ سنّا ونسي طفلهُ...تعلَّق بأوليفيا وخاطبَها ببراءةٍ ورأسه لفوْق يحدّق بها...
˝تشبهين جدتي˝
مطاردة هزيلة
بداية موْسِم خريفي، زخَرت فيه سماء مدينة ميلانو، بطقْسٍ رمادي اللون، ملأّت أرصفتها وريقاتٌ صفراء، بكثافةٍ، وفاحَت طرقاتها بنكهةِ الأشجار والأزهار، امْتزَجت بروائح عطر المارَّة من سكانها، صادف أحمد القرمزي، مرّة أخرى، غازي فلاح في ساحة ميركاتي تبعه خلال تجوّلهُ بشارع فيا دانتي، حتى حديقة بريرا! كان قد جَمدَ بالبدءِ في مكانه لومضةٍ خاطفة...شعر بأنهُ إن تأخر عن متابعتهِ سوف يتيه الرجل منهُ بزحْمة الشارع بذلك المساء الذي سبق غروب الشمس التي كانت في الأصلِ شحيحة منذ بداية النهار...
خرج القرمزي مرتديًا قميصًا أزرق قطنيًا سميكًا اعتقد أنه سيكْفيه بتلك الأمسية، حتى اصطدم ببرودة الطقس الغائم جزئيًا، كما شعر بضيقِ سرواله الجينز، ممّا زاده ضيقًا، ظنًا منه أنه ثَخُن، حتى تبيّن له أنّهُ بعد الغسْل يختلف ويضيق عن ارتدائه للمرّة الأولى، ما أزاح عنه شعور الاكتئاب المُباغت وصرف نظره عن العودّة للشَقّة، وفيما كان يمضي بالسيّر نحو مقهاه المسائي، في جوْلة قرّر خلالها الاكتفاء بالبطالة والبدء في العمل...فاجأه العقيد غازي فلاح يتمَشّى وقد ارتدي زيًا رياضيًا وبيده قارورة مياه صغيرة...بدا حيويًا نقيض المرّة السابقة التي صادفهُ فيها، ما أوْحَى إليه أن الرجل، لم يتلاشَ ضمير الجلاد منهُ...
كلمّا لمحهُ استيقظَت في رأسهِ صور ومشاهد وحوارات، جميعها مشحونةٌ بإهاناتٍ وإذلال أذاقهُ إياه لسنواتٍ...هل يريد الانتقام منه؟ أم مواجهته فقط والاكتفاء بتذكّيره...
˝لن أُسامحهُ بالطبع، وإلا محوْتُ ذاتي حين أتتني فرصة استعادتها˝
سار خلفه بخطواتٍ مُتلافي الاقتراب منه، كان قلبه يخفق كما في كلّ مرّة يراه، بل ولمُجرّد تذكّره، لا يعْرفُ الهدف من ملاحقتهِ، وإن كان يدفعه فضولٌ قوي، لمعْرفّة أينّ وصلَ الرجل في حياتهِ...كيف يعيش؟ ماذا يفعل؟ هل تغيّر؟ ما الذي يفعله في إيطاليا؟ هل هي صُدفة أن يتواجدا على أرضٍ واحدة بعد سنوات الجمْر؟ أو هو قدَرٌ أن يلقاه لتصفية حسابه معه...؟ لا يمكن للحياة أن تتناهَى بهما عند نقطة المُنْعطَف هذه إلا وقد رسَمَت هدفًا إلهيًا وربّمّا إنسانيًا من ذلك...هكذا فكَّر حين بلغ معه طرف الحديقة حيث توقَف الرجل، وتلفّت حوْلهُ ثم سار نحو البوابة، وهناك توقف...
أدرك القرمزي أنه لم يقْصدَ الحديقة النباتية التي كانت تفتح لفتراتٍ محدّدةٍ، من شهر سبتمبر حتى أكتوبر، برسومٍ أو مجانًا بحسَب الظّروف... سبق له واستمتع مرّات عدّة بأجوائِها التي تعجُ بأشجارٍ وأزهار خيالية وبأشكالٍ غيْر مسبوقة، وثمّة قصر وتماثيل...ترك تفكّيره في الحديقة وشدّدَ انتباههُ إلى صاحبه الذي كان بالانتظار...
خلال دقائق، وصلت سيارة فولكس واجن صفراء، توَقَّفت عند رصيف الطريق، توجّه غازي فلاح نحوها...فتح الباب ووَلَجَ...لم يتحرك السائق بدا ثمّة حديث بينه وبين سائقها، بعد فترة خرج الاثنان، انتصبا بجانب السيارة وراحا يدخنان بصمتٍ...
برز سائق السيارة، شابٌ ثلاثيني، ذو وجه صغير مستطيل عظْميّ، وأنْف مدبّب يشبه حبّة الّلوْز، بشرته جافَة، لونها نبيذي فاتح، متوسّط القامَة، نحيف لدرجة الضمور ...تساءل في داخله عن هوية الشاب، وعلاقته بكهلٍ جلاد؟ كانت أفكاره تعود به إلى سجن دياره، فترة الجَمْر، ثم سرعان ما يتَسلّل شريطُ الأحداث ويفْسد عليه خياره بانتقاء ميلانو ملجأ راحة واسترخاء وعمل، ليلاحقه كابوسٌ فرَّ منه في الأصل ليتبعه إلى هنا، تذكّر ليلاف سعيد، وما روَتهُ له في إحدى فضْفضَتها الشجيّة، عن وجود جودت باور ضابط الجيش التركي... الذي يعيش سرًا، تحت اسم مستعار، أنيس أبيك X وهو مُعذِبُها مع آلاف الأكراد خلال غزْو عفرين...
˝ترى تحت أي اسم مستعار، ينام غازي فلاح، هنا في ميلانو؟˝!!
تساءل وهو يُحدّق فيه وقد بدا بصحةٍ وحيوية، ولو تقوّس ظهره قليلاً، وتدلت كتفاه وظهر بسحنةِ النهاية، لكن ما فتِئ َتنبثق من عينيه، جمْرة التعذيب المجنون الذي سقاهُ إياه...
شعر، أنه أفْسَد مساءهُ بهذه المطاردة التي أحسَّ بها هزيلَة، ولن توْصلهُ إلى نتيجة، طالما ظلّ يكتفي بمطاردته كلمّا صادفه...
˝لابد من خطّة لمواجهتهِ˝
إلى متى سيظلّ يكتفي بتسْمِيم حياته حتى وهو هنا، هاربّا من كوابيس دياره، ليجد نفسه، في دوامة الماضي المُعْتم؟
مرّت خمس دقائق ولعلّها أكثر، دون حوار بين الاثنين، لكنه لمح في نهايتها، قيام السائق الشاب بتسليم ورقة صغيرة للجلاد، مقابل أوراق لم يتبيّن ماهيتها، إن كانت أوراقًا مالية، أو شيئًا آخر...عندما غادر السائق المكان، التفَّ فلاح منكفئًا من ذات الطريق...زَفَر القرمزي وتبعه...!
*** . ❝
❞ ما نخطه هنا هو رحلة تاريخية ثقافية فكرية في مسرح تاريخ المسلمين منذ أن انطلق في شبه الجزيرة العربية، ليشمل شعوبًا وقبائل ودول وإمبراطوريات من حدود الصين شرقًا وحتى حدود فرنسا غربًا. إنها رحلة عصف ثقافي ننوي أن تكون مُسلّية وغزيرة بالمعلومات وتختصر الزمن منذ القرن الأول الهجري/السابع الميلادي وحتى القرن الرابع عشر/العشرين.
سوف نتناول في هذا السفر ثلاثة محاور رئيسة، لعلها تراود أذهان الكثيرين ممن لهم دراية بموضوع تاريخ الحضارة الإسلامية على امتداد جغرافيتها ومواقع تأثيرها ومظاهر إبداعها وما قدمته للبشرية. المحور الأول حول النظرة السائدة عند الجميع -في الشرق والغرب- بأن العرب ما قبل الإسلام كانوا من البدو والأعراب ولم يكونوا أهل مدنية عبر تاريخهم الطويل، فقد كانوا مجرد قبائل وتجمعات عشائرية تعيش في الصحاري والفلوات ولم تكن عندهم دول أو ممالك ونظم سياسية في ظل الإمبراطوريتن العظيمتين، فارس والروم. هذه النظرة السطحية في قراءة تاريخ العرب روج لها أيضًا الحركات الإسلاموية في القرن العشرين ليظهروا عظمة الإسلام الذي جعل من أولئك البدو أمة عظيمة اجتاحت الإمبراطوريات العظمى والممالك الكبرى من شرق الهند وحتى غرب أوروبا. ولكن من أجل بيان عظمة الإسلام لا يتطلب بالمرة إزالة تاريخ العرب ونعته بالبداوة وعدم التحضر. فعظمة الإسلام، بنبيه سيد الرسل محمد بن عبد الله (ص) والقرآن رسالته المقدسة الذي نزل عليه، لا تعني أن ما قبله كان مظلمًا وعصرًا ذا جاهلية في كل مظاهره. بل عكس هذه الرؤية هو الصحيح، فالأمة التي تستطيع أن تحمل عظمة الإسلام وينزل عليها ذلك الكتاب العظيم الذي لو أنزله الله ˝على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله˝، فالعرب كان لهم من القدرة على تحمل مسؤولية الرسالة العظيمة ولا بد أن يكونوا بمستوى الاستطاعة، فـ ˝لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها˝.
المحور الثاني هو ما أشاعه المستشرقون، وتبناه الكثيرون من الحداثيين في شرقنا، أنه حتى وإن كان للمسلمين مظاهر حضارية فإنها لم تكن بمستوى حضارة الغرب، فقد كانوا ناقلين لإنجازات وإبداعات حضارة اليونان ولم يضيفوا لها أي إبداعات أخرى. فهم بالأحرى كانوا مجرد مترجمين استنسخوا حضارة مَن كانوا قبلهم ونقلوها إلى من جاء بعدهم ومن هم أهل لها، كأن لسان حال الغرب، ومن لف حولهم من الحداثيين: ˝إنما هي بضاعتنا رُدَّت إلينا˝. فجزى الله العرب والمسلمين خيرًا بأنهم حفظوها ونقلوها إلينا، وإن أضافوا لها بعض هوامشهم فما على الغرب إلا إزالتها وإرجاعها إلى نصوصها الأصلية، ˝فما رعوها حق رعايتها˝ لأنهم ليسوا بذلك المستوى الحضاري والعلمي والفكري والثقافي، فيخطوا على نصوصها ما لا ينفع ولا يفيد لأهلها من الأوروبيين المتحضرين. نقل الحداثيون تلك المفاهيم وغرسوها في عقول النخب الثقافية عندنا، حتى أصبحنا نرددها كأنها جزء من الحقيقة التي يشوبها شك. في حين أن المستشرقين يعلونها علانية أن ما يقومون به في دراساتهم، التي ينعتونها بالموضوعية لكنها في طبيعتها -كما يصرح المستشرق نولدكه في عام 1887 أن ˝نظرته التي تُعليِ من شأن الشعوب الشرقية˝- كما يقول كارل بيكر.. إنهم يدرسون الشرق لكنهم يظهارون نفورهم الفعلي من الشرق، فالإسلام عندهم بدعة مسيحية مارقة، وإن هنالك إيحاء مضمرا بدونيته، وحتى صوفيته فيها قصور معوّق، وإن حضارتهم، للأسف، حضارة لم تتطور، فكل شيء في هذا الكيان الديني للإسلام، من توحيد وعاطفة صوفية وفن وشعر، يُضمر في داخله عداء متأصل لفكرة التجسد الإلهي، ولهذا يستوجب رفضه. نجد هذه الأفكار والمفاهيم الآن رنانة يرددها من نطلق عليها في هذا الكتاب: (الحداثيون الجدد)، الذين يملؤون البرامج التليفزيونية وصفحات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. فكل من ينتقد الحضارة الإسلامية أو يحط من الإسلام ورسوله دائمًا ما يجد من يفسح المجال له في الإعلام ومن يطبلون له على أنه (المفكر)، ولا ندري كيف يمكن لأي إنسان أن يصبح مفكرًا. المضحك المبكي هو أنك إذا كنت (مفكرًا) أو إذا كنت (مكفرًا) سوف تحظى بالشهرة!
المحور الثالث هو الرأي الذي ساد في حقبة ما بعد انتصار الثورة الإيرانية بأن النظام الإسلامي الذي قام في إيران في 1979 هو أول حُكم شيعي في التاريخ من بعد حكم أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب. فعلى طول فترة الحضارة الإسلامية -كما يدعي البعض- لم يكن للشيعة دور لا في السياسة ولا الحكم ولم يكن لهم تأثير في مجريات شؤون المسلمين طوال أربعة عشر قرنًا، وعليه لم يكن لهم إسهام في الحضارة الإسلامية. فقد كانوا في عزلة، لأن عامة المسلمين السنة نعتوهم بالروافض وعاشوا في أوطانهم مواطنين من الدرجة الثانية -إن صح التعبير. هذه الرؤية حول التاريخ بعيدة عن الحقيقة، فالحضارة الإسلامية شارك فيها جميع المسلمين وغير المسلمين، بمدارسهم المتعددة ومذاهبهم الكثيرة وطوائف المتباينة، حتى أن الحكم السياسي تناوب عليه جميع القوميات والإثنيات والشعوب، فلم تكن الدول وصناعة القرار السياسي فيها للعرب أو للسُّنة وحدهم، فلم يجعل الله الحكم دُولَا بينهم. فقد قامت دول للفرس والترك والأفريقيين وحتى للمغول والمماليك، فكيف لم تسنح للشيعة الفرصة طوال أربعة عشر قرنًا من تداول الحكم فيها؟ وإن كان هذا صحيحا فهذا إجحاف بقدراتهم. ولكن سوف نبين أن للشيعة -كما كان لبقية الطوائف- دولا وممالك وإمبراطوريات عديدة قامت في خلال تاريخ الحضارة الإسلامية.
وفي الختام سوف نعرج على أهم معالم الحضارة الإسلامية من علمائها وفلاسفتها ومفكريها وفنانيها ومبدعيها، منذ فجر الإسلام وحتى بداية القرن العشرين. فلم يتوقف العطاء بسقوط بغداد والأندلس، بل استمر في مواطن بعيدة عن مراكز الصراع العسكري والهزائم الكبرى في قلب العالم الإسلامي. فامتداد جغرافية العالم الإسلامي واسعة جدًا من أن تؤثر عليها بعض الهزائم هنا وهناك. وكما أن حروب الإفرنج -التي يطلق عليها الأوروبيون الحروب الصليبية- لم توقف عطاء الحضارة الإسلامية، فإن الهزائم أمام المغول التتار والأوروبيين لم تُنهِ مداد تلك الحضارة الواسعة النطاق في العالم. وهذا المداد لحضارتنا لم يشمل بعض المعارف والعلوم فحسب، بل جميعها قاطبة، من الفلسفة والطب والهندسة والرياضيات والجغرافية والعلوم الطبيعية والفلكية والفيزياء والكيمياء وغيرها.
لقد أرخ المسلمون وأبناء الملل والنحل في داخل دار الإسلام إبداعاتهم وقاموا بنقل تاريخ وثقافات الشعوب التي تعاملوا معها وعرفوها. وكل هذا المعارف التي جرى تدوينها لم تكن حصرًا عليهم بل كانت للعالمين جميعًا. فالبحث العلمي لم يقم على مبدأ الربح والخسارة كما هو الآن في النظام الرأسمالي الحديث، بحيث يسجل كل باحث براءة اختراعه باسمه ليحصل على الموارد المالية من جراء منفعتها. العلوم في حضارتنا قائمة على مبدأ أخلاقي وهو أنها للناس عامة وليست حكرًا لأحد أو مجموعة أو شركة، فليس هنالك من أرباح تجنى عن طريق البحث العلمي في شتى مجالاته. العلماء إنما يكتشفون من خلال بحثهم العلمي سنن الكون وقوانين الطبيعة وأسرار الحياة التي أبدعها الله في خلقه؛ فالدافع هنا إنساني قائم على جلب الخير للبشرية، على عكس الحضارة الحديثة التي أصبحت العلوم فيها منافع فردية ليصبح، الدافع لها شخصي قائم على الجشع والحصول على المنفعة المادية، لأن صاحبها يعتبر أن ما اكتشفه من أسرار الخلق هو ملكه الشخصي، ولسان حاله يقول: ˝إنما أوتيته على علم عندي˝، وليس ما خوله الله إليه من نعمة وفتح له قلبه وسهل له الطرق والوسائل ليتوصل إلى تلك المعارف. فقيمة البحث العلمي في حضارة المسلمين هي عامة للبشرية جمعاء، وهي قيمة أخلاقية مغايرة عن الحضارة الغربية المعاصرة التي أدخلت الجشع الشخصي كدافع للبحث العلمي، ووضعت القوانين والشرائع لتحمي حقوق احتكار الإبداعات العلمية والفكرية والثقافية.
ومن هذا المنطلق احترم المسلمون إبداعات الحضارات التي سبقتهم ونسبوها لأصحابها ووقروا علماء من سبقوهم وبجلوا مفكريهم. ولهذا نعت المسلمون أرسطوطاليس بـالمعلم الأول، ولم يجدوا في ذلك حرجًا، ونسبوا الرياضيات للشعوب التي جاءت قبلهم، وسموا الأشياء بأسمائها التي استعملتها الثقافات التي سبقتهم. فلم يعربوا المصطلحات العلمية والفلسفية ولا أسماء المخترعات والأدوات التي أنتجتها الحضارات السابقة ولم ينسبوها لأنفسهم.
وفي هذا المحور، سوف نعرج على موضوع الحضارة اليونانية التي نسبها الغرب إلى نفسه، وأنها كانت الجذور -أو البذور- التي نبتت شجرتهم، مع العلم أن حضارة اليونان، تاريخيًا، هي جزء من الحضارات التي قامت في شرق المتوسط حصرًا، فلا يمكن فصلها عن حضارات بلاد الرافدين والشام ومصر؛ فلم يتوجه الإسكندر المقدوني ليفتح بلاد أوروبا، بل كان نصب عينه الشرق، من مصر وحتى الهند. وما يُعرف بالثقافة الهلنستية، التي أقامها الإسكندر المقدوني ومن ورث حكمه من الجنرالات من بعده، هي مشتقة من حضارات الشرق، نبعت من ضمن الثقافات الشرقية، فلم تكن أوروبية المنشأ والجوهر والمحتوى. لم تُعطى للحضارة الهلنستية (الجنسية الرومانية) -إذا جاز التعبير- إلا بعد احتلال الروم ممالك بلاد اليونان في الشرق، وسيطرتهم على مواطنهم في الأناضول وبلاد الشام وشمال أفريقيا. فكانت الإمبراطورية الرومانية وريثة الحضارة اليونانية الشرقية، ولم يسعَ الروم إلى تغيير تلك الثقافة الهلنستية الشرقية الأصل وجعلها لاتينية، بل ساعدوا على ترسيخها بتلك النفحة الشرق أوسطية. فجذور الحضارة الرومانية ذات الجذور اليونانية هي شرقية بامتياز. وهذا واضح وجلي عندما استعارت الحضارة الرومانية دينها من الشرق، فآمنت بالمسيحية التي هي عقيدة سامية نشأت وترعرعت في بلاد الرافدين ومصر واليمن من قبل الساميين في بلاد كنعان. فالفكر الديني للإمبراطورية الرومانية هو دين شرقي تبناه قياصرة الروم وأصبح يشكل أساس ثقافتهم وهويتهم. وعلى هذا الأساس، فإن ثقافة الروم وعلومهم وفنونهم وعقيدتهم شرق أوسطية. وعندما اكتشف الأوروبيون، ورثة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، التراث اليوناني الذي كان عربي الهوية واللغة، فإنهم . ❝