❞ هل خلق الإنسان من أجل القانون أو أن القانون هو الذي خلق من أجل الإنسان
و قد يجاب عن ذلك تارة بالرأي الأول (وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون) و تارة بالرأي الثاني (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه)، (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)
فلنقرب ما بين هذين القولين، بحقيقتهما النسبية، و لسوف نحصل على الحقيقة المطلقة، فالإنسان وجد من أجل تنفيذ الشرع، و لما كان الشرع قد وجد من أجل الإنسان، إذن فالإنسان وجد من أجل نفسه. و الشرع غاية، و لكنه ليس الغاية الأخيرة، إنه ليس سوى حد وسط بين الإنسان، كما هو، ناشئا يتطلع إلى الحياة الأخلاقية، و مصارعا من أجل كماله، و بين الإنسان كما ينبغي أن يكون، في قبضة الفضيلة الكاملة. و الشرع أشبه بقنطرة بين شاطئين، نحن نقطة بدايته، و نقطة نهايته، أو هو أشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض، و لكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السماء. ❝ ⏤محمد عبد الله دراز
❞ هل خلق الإنسان من أجل القانون أو أن القانون هو الذي خلق من أجل الإنسان
و قد يجاب عن ذلك تارة بالرأي الأول (وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون) و تارة بالرأي الثاني (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه)، (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون)
فلنقرب ما بين هذين القولين، بحقيقتهما النسبية، و لسوف نحصل على الحقيقة المطلقة، فالإنسان وجد من أجل تنفيذ الشرع، و لما كان الشرع قد وجد من أجل الإنسان، إذن فالإنسان وجد من أجل نفسه. و الشرع غاية، و لكنه ليس الغاية الأخيرة، إنه ليس سوى حد وسط بين الإنسان، كما هو، ناشئا يتطلع إلى الحياة الأخلاقية، و مصارعا من أجل كماله، و بين الإنسان كما ينبغي أن يكون، في قبضة الفضيلة الكاملة. و الشرع أشبه بقنطرة بين شاطئين، نحن نقطة بدايته، و نقطة نهايته، أو هو أشبه بسلم درجاته مستقرة على الأرض، و لكن يعد من يريدون تسلقه أن يرفعهم إلى السماء. ❝
❞ حوار مع صديقي الملحد .
إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟
قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة :
أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟
لا تقل لي كعادتك .. أنا مخيـَّر .. فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك :
هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟
هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟
هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة ..
لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟
وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات ؟
ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟
أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن..
قلت له في هدوء :
أنت واقع في عدة مغالطات .. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه .. إنها مقدَّرة في علمه فقط .. كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني .. ثم يحدث أن يزني بالفعل .. فهل أكرهته .. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك ..
أما كلامك عن الحرية بأنها فرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها .. هو تخليط آخر ..
وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين ..
أنت تتكلم عن حرية مطلقة .. فتقول .. أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً .. هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها .. أين حريتي ؟
ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة .. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده .. نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } 68 سورة القصص
ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار ..
ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها ، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف .. وأنت في هذا المجال حر .. وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها ..
أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة..
أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك ..
أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب ..
وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام ..
وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين ..
وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة ..
في هذا المجال نحن أحرار ..
وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل ..
الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف..
وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ ، وبالراحة للعمل الطيب .. ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة ، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات ..
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ، ويدنا وهي تكتب خطاباً .. فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية ، والحركة الثانية حرة اختيارية .. ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة ..
ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط .. فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها .. ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة ..
ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام ، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ} 106 سورة النحل
والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة ، وانفراد بالأمر ، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره ، ويحكمون كحكمه ، وهذا ما فهمته أنت أيضاً .. فقلت بتعدد المشيئات .. وهو فهم خاطئ .. فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية ..
إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة ..
الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته .. وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية ..
وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة ..
وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره .. ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً ..
إن حريتنا كانت عين مشيئته ..
ومن هنا معنى الآية : {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ } 30 سورة الإنسان
لأن مشيئتنا ضمن مشيئته ، ومنحة منه ، وهبة من كرمه وفضله ، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه ..
والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد ، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره .. فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه ..
والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير .. فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً .. وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة :
{إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} 4 سورة الشعراء
والمعنى واضح .. أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل .. لأنه ليس في سنتنا الإكراه ..
{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } 256 سورة البقرة
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } 99 سورة يونس
ليس في سُنة الله الإكراه ..
والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم .. وإنما على العكس ..
الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته .. ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية ... تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته ..
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا } 20 سورة الشورى
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } 10 سورة البقرة
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } 17 سورة محمد
وهو يخاطب الأسرى في القرآن :
{ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } 70 سورة الأنفال
الله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب .. إن شراً فشر وإن خيراً فخير..
ومعنى هذا أنه لا ثنائية .. التسيير هو عين التخيير .. ولا ثنائية ولا تناقض ..
الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا ..
{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } 5 سورة الليل
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } 17 سورة الأنفال
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة.. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر .. على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر..
والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة ..
الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم .. باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض ، ويهزم المسافات ، ويخترق قيود الزمان والمكان .. وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل ..
العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية ..
أما الوسيلة الثانية فكانت الدين .. الاستمداد من الله بالتقرب منه .. والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد .. وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم ..
سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده ..
وشق موسى البحر .. وأحيا المسيح الموتى .. ومشى على الماء .. وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى ..
ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات ..
وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه .. فأفاض عليهم من علمه المكنون ..
إنه العلم مرة أخرى ..
ولكنه هذه المرة العلم "اللدني" ..
ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين :
الإنسان مخيَّر فيما يعلم ..
مسيَّر فيما لا يعلم ..
وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته .. سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي ..
ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية .. ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع ، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة ..
والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون : "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني ، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات .. وهذا هو الفرق بين الإنسان ، وبين التروس ، والآلات والأجسام المادية .. فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين .. أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته ، وماذا يفعل غداً أو بعد غد .. ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين ، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم ..
وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ، بل في بلد متخلف ، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي ، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي .. ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس ، بل على العكس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته ..
أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي .. ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا ، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه .. وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ ، وتخبطه في حساب المستقبل .. وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات .. ونسي تماماً أنّ الإنسان حر .. وأن حريته حقيقة ..
أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغ ..
نقول ردّاً على هذا الكلام : إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه .. فالحرية الفردية .. لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحها..
أما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها ..
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ حوار مع صديقي الملحد .
إذا كان الله قدَّر عليّ أفعالي فلماذا يحاسبني؟
قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة :
أنتم تقولون إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا ، فإذا كان هذا هو حالي ، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها ؟
لا تقل لي كعادتك . أنا مخيـَّر . فليس هناك فرية أكبر من هذه الفرية ودعني أسألك :
هل خُـيّرتُ في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني ؟
هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر ؟
هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة .
لماذا يُكرهني الله على فعل ثم يؤاخذني عليه ؟
وإذا قلت إنك حر ، وإن لك مشيئة إلى جوار مشيئة الله ألا تشرك بهذا الكلام وتقع في القول بتعدد المشيئات ؟
ثم ما قولك في حكم البيئة والظروف ، وفي الحتميات التي يقول بها الماديون التاريخيون ؟
أطلق صاحبي هذه الرصاصات ثم راح يتنفس الصعداء في راحة وقد تصوَّر أني توفيت وانتهيت ، ولم يبق أمامه إلا استحضار الكفن.
قلت له في هدوء :
أنت واقع في عدة مغالطات . فأفعالك معلومة عند الله في كتابه ، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه . إنها مقدَّرة في علمه فقط . كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني . ثم يحدث أن يزني بالفعل . فهل أكرهته . أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك .
أما كلامك عن الحرية بأنها فرية ، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك ، وأنك لا تملك نقل الشمس من مكانها . هو تخليط آخر .
وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنين .
أنت تتكلم عن حرية مطلقة . فتقول . أكنت أستطيع أن أخلق نفسي أبيض أو أسود أو طويلا أو قصيراً . هل بإمكاني أن أنقل الشمس من مكانها أو أوقفها في مدارها . أين حريتي ؟
ونحن نقول له : أنت تسأل عن حرية مطلقة . حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده . نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ﴾ 68 سورة القصص
ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق ، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء ويختار .
ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها ، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف . وأنت في هذا المجال حر . وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها .
أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة.
أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك .
أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب .
وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام .
وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين .
وتستطيع أن تمسك لسانك عن السباب والغيبة والنميمة .
في هذا المجال نحن أحرار .
وفي هذا المجال نُحاسَب ونُسأل .
الحرية التي يدور حولها البحث هي الحرية النسبية وليست الحرية المطلقة حرية الإنسان في مجال التكليف.
وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ ، وبالراحة للعمل الطيب . ونحن نشعر في كل لحظة أننا نختار ونوازن بين احتمالات متعددة ، بل إن وظيفة عقلنا الأولى هي الترجيح والاختيار بين البديلات .
ونحن نفرق بشكل واضح وحاسم بين يدنا وهي ترتعش بالحمى ، ويدنا وهي تكتب خطاباً . فنقول إن حركة الأولى جبرية قهرية ، والحركة الثانية حرة اختيارية . ولو كنا مسيرين في الحالتين لما استطعنا التفرقة .
ويؤكد هذه الحرية ما نشعر به من استحالة إكراه القلب على شيء لا يرضاه تحت أي ضغط . فيمكنك أن تُكره امرأة بالتهديد والضرب على أن تخلع ثيابها . ولكنك لا تستطيع بأي ضغط أو تهديد أن تجعلها تحبك من قلبها ومعنى هذا أن الله أعتق قلوبنا من كل صنوف الإكراه والإجبار ، وأنه فطرها حرة .
ولهذا جعل الله القلب والنية عمدة الأحكام ، فالمؤمن الذي ينطق بعبارة الشرك والكفر تحت التهديد والتعذيب لا يحاسب على ذلك طالما أن قلبه من الداخل مطمئن بالإيمان ، وقد استثناه الله من المؤاخذة في قوله تعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ٌ﴾ 106 سورة النحل
والوجه الآخر من الخلط في هذه المسألة أن بعض الناس يفهم حرية الإنسان بأنها علو على المشيئة ، وانفراد بالأمر ، فيتهم القائلين بالحرية بأنهم أشركوا بالله وجعلوا له أنداداً يأمرون كأمره ، ويحكمون كحكمه ، وهذا ما فهمته أنت أيضاً . فقلت بتعدد المشيئات . وهو فهم خاطئ . فالحرية الإنسانية لا تعلو على المشيئة الإلهية .
إن الإنسان قد يفعل بحريته ما ينافي الرضا الإلهي ولكنه لا يستطيع أن يفعل ما ينافي المشيئة .
الله أعطانا الحرية أن نعلو على رضاه "فنعصيه" ، ولكن لم يعط أحداً الحرية في أن يعلو على مشيئته . وهنا وجه آخر من وجوه نسبية الحرية الإنسانية .
وكل ما يحدث منا داخل في المشيئة الإلهية وضمنها ، وإن خالف الرضا الإلهي وجانب الشريعة .
وحريتنا ذاتها كانت منحة إلهية وهبة منحها لنا الخالق باختياره . ولم نأخذها منه كرهاً ولا غصباً .
إن حريتنا كانت عين مشيئته .
ومن هنا معنى الآية : ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ 30 سورة الإنسان
لأن مشيئتنا ضمن مشيئته ، ومنحة منه ، وهبة من كرمه وفضله ، فهي ضمن إرادته لا ثنائية ولا تناقض ، ولا منافسة منا لأمر الله وحكمه .
والقول بالحرية بهذا المعنى لا ينافي التوحيد ، ولا يجعل لله أنداداً يحكمون كحكمه ويأمرون كأمره . فإن حرياتنا كانت عين أمره ومشيئته وحكمه .
والوجه الثالث للخلط أن بعض من تناولوا مسألة القضاء والقدر والتسيير والتخيير . فهموا القضاء والقدر بأنه إكراه للإنسان على غير طبعه وطبيعته وهذا خطأ وقعت فيه أنت أيضاً . وقد نفى الله عن نفسه الإكراه بآيات صريحة :
﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ 4 سورة الشعراء
والمعنى واضح . أنه كان من الممكن أن نُكره الناس على الإيمان بالآيات الملزمة ، ولكننا لم نفعل . لأنه ليس في سنتنا الإكراه .
والقضاء والقدر لا يصح أن يُفهم على أنه إكراه للناس على غير طبائعهم . وإنما على العكس .
الله يقضي على كل إنسان من جنس نيته . ويشاء له من جنس مشيئته ، ويريد له من جنس إرادته ، لا ثنائية .. تسيير الله هو عين تخيير العبد ، لأنه الله يسيِّر كل امرئ على هوى قلبه وعلى مقتضى نياته .
﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ 17 سورة محمد
وهو يخاطب الأسرى في القرآن :
﴿ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ 70 سورة الأنفال
الله يقضي ويقدِّر ، ويجري قضاءه وقدره على مقتضى النية والقلب . إن شراً فشر وإن خيراً فخير.
ومعنى هذا أنه لا ثنائية . التسيير هو عين التخيير . ولا ثنائية ولا تناقض .
الله يسيِّرنا إلى ما اخترناه بقلوبنا ونياتنا، فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ، ولا قهر لنا على غير طبائعنا .
﴿ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ 5 سورة الليل
هنا تلتقي رمية العبد والرمية المقدَّرة من الرب ، فتكون رمية واحدة. وهذا مفتاح لغز القضاء والقدر . على العبد النية، وعلى الله التمكين، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
والحرية الإنسانية ليست مقداراً ثابتاً ، ولكنها قدرة نسبية قابلة للزيادة .
الإنسان يستطيع أن يزيد من حريته بالعلم . باختراع الوسائل والأدوات والمواصلات استطاع الإنسان أن يطوي الأرض ، ويهزم المسافات ، ويخترق قيود الزمان والمكان . وبدراسة قوانين البيئة استطاع أن يتحكم فيها ويسخرها لخدمته، وعرف كيف يهزم الحر والبرد والظلام ، وبذلك يضاعف من حرياته في مجال الفعل .
العلم كان وسيلة إلى كسر القيود والأغلال وإطلاق الحرية .
أما الوسيلة الثانية فكانت الدين . الاستمداد من الله بالتقرب منه . والأخذ عنه بالوحي والتلقي والتأييد . وهذه وسيلة الأنبياء ومن في دربهم .
سخّر سليمان الجن وركب الريح وكلّم الطير بمعونة الله ومدده .
وشق موسى البحر . وأحيا المسيح الموتى . ومشى على الماء . وأبرأ الأكمه والأبرص والأعمى .
ونقرأ عن الأولياء أصحاب الكرامات الذين تُطوى لهم الأرض وتكشف لهم المغيبات .
وهي درجات من الحرية اكتسبوها بالاجتهاد في العبادة والتقرب إلى الله والتحبب إليه . فأفاض عليهم من علمه المكنون .
إنه العلم مرة أخرى .
ولكنه هذه المرة العلم "اللدني" .
ولهذا يُلخص أبو حامد الغزالي مشكلة المخيَّر والمسيَّر قائلاً في كلمتين :
الإنسان مخيَّر فيما يعلم .
مسيَّر فيما لا يعلم .
وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته . سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي .
ويخطئ المفكرون الماديون أشد الخطأ حينما يتصورون الإنسان أسير الحتميات التاريخية والطبقية . ويجعلون منه حلقة في سلسلة من الحلقات لا فكاك له ، ولا مهرب من الخضوع لقوانين الاقتصاد وحركة المجتمع ، كأنما هو قشة في تيار بلا ذراعين وبلا إرادة .
والكلمة التي يرددونها ولا يتعبون من ترديدها وكأنها قانون : "حتمية الصراع الطبقي" وهي كلمة خاطئة في التحليل العلمي ، لأنه لا حتميات في المجال الإنساني ، وإنما على الأكثر ترجيحات واحتمالات . وهذا هو الفرق بين الإنسان ، وبين التروس ، والآلات والأجسام المادية . فيمكن التنبوء بخسوف الشمس بالدقيقة والثانية ، ويمكن التنبؤ بحركاتها المستقبلة على مدى أيام وسنين . أما الإنسان فلا يمكن أن يعلم أحد ماذا يُضمر وماذا يُخبئ في نياته ، وماذا يفعل غداً أو بعد غد . ولا يمكن معرفة هذا إلا على سبيل الاحتمال والترجيح والتخمين ، وذلك على فرض توفر المعلومات الكافية للحكم .
وقد أخطأت جميع تنبؤات كارل ماركس ، فلم تبدأ الشيوعية في بلد متقدم كما تنبأ ، بل في بلد متخلف ، ولم يتفاقم الصراع بين الرأسمالية والشيوعية ، بل تقارب الاثنان إلى حالة من التعايش السلمي ، وأكثر من هذا فتحت البلاد الشيوعية أبوابها لرأس المال الأمريكي . ولم تتصاعد التناقضات في المجتمع الرأسمالي إلى الإفلاس الذي توقعه كارل ماركس ، بل على العكس ، ازدهر الاقتصاد الرأسمالي ووقع الشقاق والخلاف بين أطراف المعسكر الاشتراكي ذاته .
أخطأت حسابات ماركس جميعها دالة بذلك على خطأ منهجه الحتمي . ورأينا صراع العصر الذي يحرك التاريخ هو الصراع اللاطبقي بين الصين وروسيا ، وليس الصراع الطبقي الذي جعله ماركس عنوان منهجه . وكلها شواهد على فشل الفكر المادي في فهم الإنسان والتاريخ ، وتخبطه في حساب المستقبل . وجاء كل ذلك نتيجة خطأ جوهري ، هو أن الفكر المادي تصوَّر أن الإنسان ذبابة في شبكة من الحتميات . ونسي تماماً أنّ الإنسان حر . وأن حريته حقيقة .
أمّا كلام الماديين عن حكم البيئة والمجتمع والظروف ، وأن الإنسان لا يعيش وحده ولا تتحرك حريته في فراغ .
نقول ردّاً على هذا الكلام : إن حكم البيئة والمجتمع والظروف كمقاومات للحرية الفردية إنما يؤكد المعنى الجدلي لهذه الحرية ولا ينفيه . فالحرية الفردية . لا تؤكد ذاتها إلا ّ في وجه مقاومة تزحزحها.
أما إذا كان الإنسان يتحرك في فراغ بلا مقاومة من أي نوع فإنه لا يكون حراً بالمعنى المفهوم للحرية، لأنه لن تكون هناك عقبة يتغلب عليها ويؤكد حريته من خلالها .
كتاب حوار مع صديقي الملحد
للدكتور مصطفى محمود رحمه الله. ❝
❞ كان أول سؤال سأله أينشتين :
هل يمكن تقدير وضع أي شيء في المكان ؟
وهل يمكن الإثبات بشكل مطلق وقاطع بأن جسمًا من الأجسام يتحرك وجسمًا آخر ثابت لا يتحرك ؟
راكب يمشي على ظهر سفينة في عرض البحر .. لو أردنا أن نقدر موضعه فسوف نحاول أن نقيس مكانه بالنسبة للصاري أو المدخنة .. فنقول مثلًا إنه على بعد كذا من مدخنة السفينة ..
ولكن هذا التقدير خاطئ لأن المدخنة ليست ثابتة وإنما هي تتحرك مع السفينة التي تتحرك بأسرها في البحر .. إذًا نحاول أن نعرف موضعه بالنسبة للأرض .. فنقول إنه عند تقاطع خط طول كذا بخط عرض كذا ..
ولكن هذا التقدير خاطئ أيضًا لأن الأرض بأسرها تتحرك في الفضاء حول الشمس .
إذًا نحاول أن نقدِّر وضعه بالنسبة للشمس .. ولكن الشمس تتحرك مع مجموعتها الشمسية كلها في الفضاء حول مركز مدينتها النجمية الكبرى ..
لا فائــدة أيضًا ..
فالمدينة النجمية هي الأخرى جزء من مجرة هائلة إسمها " سكة التبانة " .. وهي تتحرك حول مركز التبانة ..
للأسف - لا أمل – لأن التبانة هي الأخرى تتحرك مع عدد من المجرات حول مصيبة أخرى لا يعلمها إلا الله ..
وحتى بافتراض أننا أحطنا بكل مجرات الكون ومدنه النجمية الهائلة، وعرفنا حركاتها كلها بالنسبة للكون ..
لا فائدة أيضًا ..
لأن الكون كله في حالة تمدد .. وكل أقطاره في حالة انفجار دائم في جميع الاتجاهات ..
إذًا هناك استحالة مؤكدة ..
ولا سبيل لمعرفة المكان المطلق لأي شيء في الفضاء .. وإنما نحن في أحسن الأحوال نقدِّر موضعه النسبي بالنسبة إلى كذا وكذا .. أما وضعه الحقيقي فمستحيل معرفته .. لأن كذا وكذا في حالة حركة هي الأخرى .
وأغلب الظن أنه لا يوجد شيء اسمه " وضع حقيقي " ..
فإذا جئنا إلى الحركة فالمشكلة هي نفس المشكلة ..
فأنت في قطار حينما يمر بك قطار آخر قادم في عكس الاتجاه، فإنك للوهلة الأولى يختلط عليك، يخيل إليك أن قطارك واقف والآخر هو الذي يتحرك .. وأنت عادة تقدر سرعته خطأ .. فيخيل إليك أنه يسير بسرعة خاطفة ( بينما هو في الواقع يسير بمعدل سرعة القطار الذي تركبه ) .
وإذا كان يسير في نفس اتجاه قطارك، وموازٍ له .. فأنت يخيل إليك أن القطارين واقفان .
فإذا أغلقت نوافذ قطارك خُيل إليك أنه ساكن لا يتحرك .. ولا سبيل للخروج من هذا الخلط إلا بالمقارنة بمرجع ثابت .. كأن تفتح النوافذ وتنظر إلى الأشجار أو أعمدة البرق .. فتدرك بالمقارنة أن القطار يتحرك بالنسبة لها .
فإذا كان قطارك واحدًا من عدة قطارات فلا سبيل إلى تمييز حركاتها من سكونها إلا بالخروج منها والتفرج عليها من بعيد من على رصيف محطة ثابتة .
القَطْع إذًا بحركة الجسم وسكونه يحتاج إلى رصيف ثابت للملاحظة، وبدون مرجع ثابت لا يمكن معرفة الحركة من السكون، وعلى الأكثر يمكن معرفة الحركة النسبية فقط .
فإذا تركنا القطارات وجئنا إلى الكون .. فالمعروف أنه في حالة حركة ككل وكأجزاء ..
الأرض مثلًا تدور حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، وحول الشمس بسرعة عشرين ميلًا في يالثانية .
والشمس تتحرك ضمن مجموعتها الشمسية بسرعة 13 ميلًا في الثانية حول مدينتها النجمية، والمدينة النجمية تتحرك داخل سكة التبانة بسرعة مائتي ميل في الثانية، وسكة التبانة تتحرك نحو المجرّات الأخرى بسرعة مائة ميل في الثانية .. إلخ ..
وقد تعب نيوتن من مشكلة البحث عن الحركة الحقيقية، وظل يتخبط من حركة نسبية إلى حركة نسبية .. فحاول الخروج من المشكلة بافتراض أن هناك جسمًا ساكنًا تمامًا يوجد في مكان ما بعيد غير معروف، تقاس به الحركة الحقيقية .. ثم عاد فاعترف بعجزه عن البرهنة على وجود هذا الجسم الثابت، واعتبر أن الشيء الثابت هو الفضاء نفسه واستمر على هذه العقيدة بدوافع دينية، قائلًا أن الفضاء يدل على وجود الله، ولم تنفع بالطبع هذه الدروشة ..
ولم يكن العلماء أقل دروشة من نيوتن .. فقد افترضوا مادة ثابتة تملأ الفضاء – هي الأثير – وبرهنوا على وجود الأثير بالطبيعة الموجية للضوء قائلين إن الأمواج لابد لها من وسط مادي تنتشر فيه كما ينتشر موج البحر في الماء، وأمواج الصوت في الهواء .. كذلك الضوء لابد لها من وسط .
وحينما أثبتت التجارب أن الضوء يمكن أن ينتشر في الهواء المفرغ في الناقوس، قالوا بوجود مادة اسمها " الأثير " تملأ كل الفراغات الكونية، واعتبروا هذا الأثير المزعوم مرجعًا ثابتًا يمكن أن تُنسَب إليه الحركات، وتكتَشَف به الحركات الحقيقية .
وفي سنة 1881 أجرى العالمان ميكلسون و مورلي تجربة حاسمة بغرض إثبات وجود الأثير ..
وفكرة التجربة تتلخص في أن الأرض تتحرك حلال الأثير بسرعة عشرين ميلًا في الثانية، فهي بذلك تُحدِث تيارًا في الأثير بهذه السرعة .. فلو أن شعاع ضوء سقط على الأرض في اتجاه التيار، فإنه لابد ستزداد سرعته بمقدار العشرين ميلًا، فإذا سقط في اتجاه مضاد للتيار .. فلابد أن سرعته سوف تنقص بمقدار العشرين ميلًا ..
فإذا كانت السرعة المعروفة للضوء 186284 ميلًا في الثانية، فإنها ستكون في التجربة الأولى 186304 ، وفي التجربة الثانية 186264 ..
وبعد متاعب عديدة قام ميكلسون و مورلي بتنفيذ التجربة بدقة، وكانت النتيجة المدهشــــة .. أنه لا فرق بين سرعتي الضوء في الاتجاهين، وأنها 186284 بدون زيادة أو نقصان .
وأن سرعة الأرض في الأثير تساوي صفر .
وكان معنى هذا .. أن يسلم العلماء بأن نظرية الأثير كلام فارغ .. ولا وجود لشيء إسمه الأثير .. أو يعتبروا أن الأرض ساكنة في الفضاء .
وكانت نظرية الأثير عزيزة عند العلماء لدرجة أن بعضهم شكّ في حركة الأرض واعتبرها ساكنة فعلًا .
أما أينشتين فكان رأيه في المشكلة .. أن وجود الأثير خرافة لا وجود لها .. وأنه لا يوجد وسط ثابت، ولا مرجع ثابت في الدنيا .. وأن الدنيا في حالة حركة مصطخبة ..
وبهذا لا يكون هناك وسيلة لأي تقدير مطلَق بخصوص الحركة أو السكون ..
فلا يمكن القطع بأن جسمًا ما يتحرك وأن جسمًا ما ثابت . وإنما كل ما يُقال .. إن الجسم كذا يعتبر متحركًا بالنسبة إلى الجسم كذا .. كل ما هنالك حركة نسبية .. أما الحركة الحقيقية فلا وجود لها .
كما وأن السكون الحقيقي لا وجود له أيضًا، والفضاء الثابت لا معنى له .
ويؤيد هذا رأي قديم لفيلسوف اسمه ليبنتز .. يقول فيه : إنه لا يوجد شيء اسمه فضاء .. وما الفضاء سوى العلاقة بين الأجسام بعضها البعض .
وكانت هناك مشكلة ثانية تفرعت عن تجربة ميكلسون و مورلي .. هي ثبات سرعة الضوء بالرغم من اختلاف أماكن رصدها ..
وقد تأكد بعد هذا أن هذه السرعة ثابتة لا بالنسبة لزوايا الرصد المختلفة على الأرض وحدها، وإنما هي ثابتة بالنسبة للشمس والقمر والنجوم والنيازك والشهب .. وأنها أحد الثوابت الكونية .
وقد استخلص أينشتين من هذه الحقيقة قانونه الأول في النسبية ..
وهو: أن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة .
ولشرح هذا القانون نورِد هذا المَثَل :
مثل الراكب على السفينة الذي يتمشى على سطحها بسرعة ميل واحد في الساعة ..
لو أن السفينة كانت تسير بسرعة 15 ميلًا واحد في الساعة، لكانت سرعته بالنسبة إلى البحر 16 ميلًا في الساعة ( 15 + 1 ) .. ولو أنه غيّر اتجاهه وسار بالعكس ( بعكس اتجاه السفينة ) لأصبحت سرعته بالنسبة إلى البحر ( 15 – 1 ) 14 ميلًا في الساعة .. برغم أنه لم يغير سرعته في الحالين، وبرغم أن سرعته في الاتجاهين كانت ميلًا واحدًا في الساعة، ومعنى هذا أنه وهو نفس الشخص يسير بسرعتين مختلفتين 14 و 16 في نفس الوقت .. وهذه استحالة ..
وأينشتين يكشف سر هذه الإستحالة قائلًا إن هناك خطأ حسابيًا .
والخطأ الحسابي هنا هو الإضافة والطرح لكميات غير متجانسة .. واعتبار أن المسافة المكانية لحادثة يمكن أن ينظر إليها مستقلة عن الجسم الذي اتُخِذ مرجعًا لها .. وهو هنا الراكب ..
والسرعة ميل واحد في الساعة هي سرعة الراكب، والمسافة هنا مرجعها الراكب ..
أما الـ 15 ميل سرعة السفينة .. فهي بالنسبة إلى البحر .. ولا يمكن إضافة الـ 15 إلى الواحد لأنهما مسافتين من نظامين مختلفين، ومرجعهما مختلف، ونسبتهما مختلفة .. فالحساب هنا خطأ تبعًا لقانون النسبية الأول الذي يقول بوحدة القوانين للأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة داخل نظام واحد .
والقانون لا ينطبق على المسافة المكانية وحدها وإنما هو أيضًا ينطبق على الفترات الزمنية .. فالفترة الزمنية لحادثة لا يمكن أن يُنظَر إليها مستقلة عن حالة الجسم المتخَذ مرجعًا لها ..
والمَثَل الوارد عن راكب السفينة يؤكد هذا أيضًا .. فسرعة الراكب وهي ميل/ساعة لا تقبل الإضافة إلى سرعة السفينة 15 ميل/ساعة .. حيث إن المرجعين اللذين تنتسب إليهما هاتين الفترتين الزمنيتين مختلفان .
وهذا يجرنا إلى الحلقة الثانية في النظرية النسبية .. وهي الزمان .
لقد رفض أينشتين فكرة المكان المطلق .. واعتبر أن المكان دائمًا مقدار متغير ونسبي، واعتبر التقدير المطلَق لوضع أي جسم في المكان مستحيلًا، وإنما هو في أحسن الحالات يقدّر له وضعه بالنسبة إلى متغيّر بجواره .
كما اعتبر إدراك الحركة المطلقة لجسم يتحرك بانتظام أمرًا مستحيلًا .. وبالمثل إدراك سكونه المطلَق .
إنه عاجز عن اكتشاف الحالة الحقيقية لجسم من حيث الحركة والسكون المطلقين طالما أن هذا الجسم في حالة حركة منتظمة .. وكل ما يستطيع أن يقوله إن هذا الجسم يتحرك حركة نسبيية معينة بالنسبة إلى جسم آخر .
وهناك مثل طريف يضربه العالِم الرياضي هنري بوانكاريه على هذا العجز .. فهو يقول : لنتصور معًا أن الكون أثناء استغراقنا في النوم قد تضاعف في الحجم ألف مرة .. كل شيء في الكون بما في ذلك السرير الذيي ننام عليه بما في ذلك الوسادة والغرفة والشباك والعمارة والمدينة والسماء والشمس والقمر والنجوم .. بما في ذلك أجسامنا نحن أيضًا .. بما في ذلك الذرّات والجزيئات والأمواج .. بما في ذلك أجهزة القياس العيارية التي نقيس بها .
ماذا يحدث لنا حينما نستيقظ ..
يقول بوانكاريه في خبث شديد .. إننا لن نلاحظ شيئًا .. ولن نستطيع أن ندرك أن شيئًا ما قد حدث، ولو استخدمنا كل ما نملك من علوم الرياضة .
إن الكون قد تضاعف في الحجم ألف مرة هذا صحيح، ولكن كل شيء قد تضاعف بهذه النسبة في ذات الوقت .. والنتيجة أن النِسَب الحجمية العامة تظل محفوظة بين الأشياء بعضها البعض .
ونفس القصة تحدث إذا تضاعفت سرعة الأشياء جميعها أثناء النوم بنفس النسبة .. فإننا نصحو فلا ندرك أن شيئًا ما قد حدث .. بسبب عجزنا عن إدراك الحركة المطلَقة ..
ولأننا نقف في إدراكنا عند الحركة النسبية، وهي في قصتنا ثابتة .. لأن نسبة كل حركة إلى الحركة بجوارها ثابتة رغم الزيادة المطلقة والعامة للحركة .. لأننا أيضًا قد تضاعفت حركتنا وسرعتنا ونشاطنا الحيوي .
ويقول أينشتين أن هناك إستثناء واحدًا يمكن أن ندرك فيه الحركة المطلقة .. هو اللحظة التي تفقد الحركة انتظامها فتتسارع أو تتباطأ .. فندرك أن القطار الذي نركبه يتحرك عندما يبطئ استعدادًا للفرملة أو تغير الاتجاه ..
في هذه اللحظة فقط نستطيع أن نجزم أننا نجلس في مركبة متحركة، ونستطيع أن نقول بحركتها المطلقة دون حاجة إلى مشاهدتها من رصيف منفصل .
وسوف نرى أنه حتى هذا الإستثناء الواحد قد عاد أينشتين فنقضه في نهاية بحثه ..
** ** **
هذا ما قاله أينشتين عن المكان، وعن الحركة في المكان ..
فماذا قال عن الزمان .. !
إن المكان والزمان هما حدّان غير منفصلين في الحركة .. فماذا قالت النسبية عن هذا الحدّ الثاني .. ؟
مقال / المكــان .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ كان أول سؤال سأله أينشتين :
هل يمكن تقدير وضع أي شيء في المكان ؟
وهل يمكن الإثبات بشكل مطلق وقاطع بأن جسمًا من الأجسام يتحرك وجسمًا آخر ثابت لا يتحرك ؟
راكب يمشي على ظهر سفينة في عرض البحر . لو أردنا أن نقدر موضعه فسوف نحاول أن نقيس مكانه بالنسبة للصاري أو المدخنة . فنقول مثلًا إنه على بعد كذا من مدخنة السفينة .
ولكن هذا التقدير خاطئ لأن المدخنة ليست ثابتة وإنما هي تتحرك مع السفينة التي تتحرك بأسرها في البحر . إذًا نحاول أن نعرف موضعه بالنسبة للأرض . فنقول إنه عند تقاطع خط طول كذا بخط عرض كذا .
ولكن هذا التقدير خاطئ أيضًا لأن الأرض بأسرها تتحرك في الفضاء حول الشمس .
إذًا نحاول أن نقدِّر وضعه بالنسبة للشمس . ولكن الشمس تتحرك مع مجموعتها الشمسية كلها في الفضاء حول مركز مدينتها النجمية الكبرى .
لا فائــدة أيضًا .
فالمدينة النجمية هي الأخرى جزء من مجرة هائلة إسمها ˝ سكة التبانة ˝ . وهي تتحرك حول مركز التبانة .
للأسف - لا أمل – لأن التبانة هي الأخرى تتحرك مع عدد من المجرات حول مصيبة أخرى لا يعلمها إلا الله .
وحتى بافتراض أننا أحطنا بكل مجرات الكون ومدنه النجمية الهائلة، وعرفنا حركاتها كلها بالنسبة للكون .
لا فائدة أيضًا .
لأن الكون كله في حالة تمدد . وكل أقطاره في حالة انفجار دائم في جميع الاتجاهات .
إذًا هناك استحالة مؤكدة .
ولا سبيل لمعرفة المكان المطلق لأي شيء في الفضاء . وإنما نحن في أحسن الأحوال نقدِّر موضعه النسبي بالنسبة إلى كذا وكذا . أما وضعه الحقيقي فمستحيل معرفته . لأن كذا وكذا في حالة حركة هي الأخرى .
وأغلب الظن أنه لا يوجد شيء اسمه ˝ وضع حقيقي ˝ .
فإذا جئنا إلى الحركة فالمشكلة هي نفس المشكلة .
فأنت في قطار حينما يمر بك قطار آخر قادم في عكس الاتجاه، فإنك للوهلة الأولى يختلط عليك، يخيل إليك أن قطارك واقف والآخر هو الذي يتحرك . وأنت عادة تقدر سرعته خطأ . فيخيل إليك أنه يسير بسرعة خاطفة ( بينما هو في الواقع يسير بمعدل سرعة القطار الذي تركبه ) .
وإذا كان يسير في نفس اتجاه قطارك، وموازٍ له . فأنت يخيل إليك أن القطارين واقفان .
فإذا أغلقت نوافذ قطارك خُيل إليك أنه ساكن لا يتحرك . ولا سبيل للخروج من هذا الخلط إلا بالمقارنة بمرجع ثابت . كأن تفتح النوافذ وتنظر إلى الأشجار أو أعمدة البرق . فتدرك بالمقارنة أن القطار يتحرك بالنسبة لها .
فإذا كان قطارك واحدًا من عدة قطارات فلا سبيل إلى تمييز حركاتها من سكونها إلا بالخروج منها والتفرج عليها من بعيد من على رصيف محطة ثابتة .
القَطْع إذًا بحركة الجسم وسكونه يحتاج إلى رصيف ثابت للملاحظة، وبدون مرجع ثابت لا يمكن معرفة الحركة من السكون، وعلى الأكثر يمكن معرفة الحركة النسبية فقط .
فإذا تركنا القطارات وجئنا إلى الكون . فالمعروف أنه في حالة حركة ككل وكأجزاء .
الأرض مثلًا تدور حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، وحول الشمس بسرعة عشرين ميلًا في يالثانية .
والشمس تتحرك ضمن مجموعتها الشمسية بسرعة 13 ميلًا في الثانية حول مدينتها النجمية، والمدينة النجمية تتحرك داخل سكة التبانة بسرعة مائتي ميل في الثانية، وسكة التبانة تتحرك نحو المجرّات الأخرى بسرعة مائة ميل في الثانية . إلخ .
وقد تعب نيوتن من مشكلة البحث عن الحركة الحقيقية، وظل يتخبط من حركة نسبية إلى حركة نسبية . فحاول الخروج من المشكلة بافتراض أن هناك جسمًا ساكنًا تمامًا يوجد في مكان ما بعيد غير معروف، تقاس به الحركة الحقيقية . ثم عاد فاعترف بعجزه عن البرهنة على وجود هذا الجسم الثابت، واعتبر أن الشيء الثابت هو الفضاء نفسه واستمر على هذه العقيدة بدوافع دينية، قائلًا أن الفضاء يدل على وجود الله، ولم تنفع بالطبع هذه الدروشة .
ولم يكن العلماء أقل دروشة من نيوتن . فقد افترضوا مادة ثابتة تملأ الفضاء – هي الأثير – وبرهنوا على وجود الأثير بالطبيعة الموجية للضوء قائلين إن الأمواج لابد لها من وسط مادي تنتشر فيه كما ينتشر موج البحر في الماء، وأمواج الصوت في الهواء . كذلك الضوء لابد لها من وسط .
وحينما أثبتت التجارب أن الضوء يمكن أن ينتشر في الهواء المفرغ في الناقوس، قالوا بوجود مادة اسمها ˝ الأثير ˝ تملأ كل الفراغات الكونية، واعتبروا هذا الأثير المزعوم مرجعًا ثابتًا يمكن أن تُنسَب إليه الحركات، وتكتَشَف به الحركات الحقيقية .
وفي سنة 1881 أجرى العالمان ميكلسون و مورلي تجربة حاسمة بغرض إثبات وجود الأثير .
وفكرة التجربة تتلخص في أن الأرض تتحرك حلال الأثير بسرعة عشرين ميلًا في الثانية، فهي بذلك تُحدِث تيارًا في الأثير بهذه السرعة . فلو أن شعاع ضوء سقط على الأرض في اتجاه التيار، فإنه لابد ستزداد سرعته بمقدار العشرين ميلًا، فإذا سقط في اتجاه مضاد للتيار . فلابد أن سرعته سوف تنقص بمقدار العشرين ميلًا .
فإذا كانت السرعة المعروفة للضوء 186284 ميلًا في الثانية، فإنها ستكون في التجربة الأولى 186304 ، وفي التجربة الثانية 186264 .
وبعد متاعب عديدة قام ميكلسون و مورلي بتنفيذ التجربة بدقة، وكانت النتيجة المدهشــــة . أنه لا فرق بين سرعتي الضوء في الاتجاهين، وأنها 186284 بدون زيادة أو نقصان .
وأن سرعة الأرض في الأثير تساوي صفر .
وكان معنى هذا . أن يسلم العلماء بأن نظرية الأثير كلام فارغ . ولا وجود لشيء إسمه الأثير . أو يعتبروا أن الأرض ساكنة في الفضاء .
وكانت نظرية الأثير عزيزة عند العلماء لدرجة أن بعضهم شكّ في حركة الأرض واعتبرها ساكنة فعلًا .
أما أينشتين فكان رأيه في المشكلة . أن وجود الأثير خرافة لا وجود لها . وأنه لا يوجد وسط ثابت، ولا مرجع ثابت في الدنيا . وأن الدنيا في حالة حركة مصطخبة .
وبهذا لا يكون هناك وسيلة لأي تقدير مطلَق بخصوص الحركة أو السكون .
فلا يمكن القطع بأن جسمًا ما يتحرك وأن جسمًا ما ثابت . وإنما كل ما يُقال . إن الجسم كذا يعتبر متحركًا بالنسبة إلى الجسم كذا . كل ما هنالك حركة نسبية . أما الحركة الحقيقية فلا وجود لها .
كما وأن السكون الحقيقي لا وجود له أيضًا، والفضاء الثابت لا معنى له .
ويؤيد هذا رأي قديم لفيلسوف اسمه ليبنتز . يقول فيه : إنه لا يوجد شيء اسمه فضاء . وما الفضاء سوى العلاقة بين الأجسام بعضها البعض .
وكانت هناك مشكلة ثانية تفرعت عن تجربة ميكلسون و مورلي . هي ثبات سرعة الضوء بالرغم من اختلاف أماكن رصدها .
وقد تأكد بعد هذا أن هذه السرعة ثابتة لا بالنسبة لزوايا الرصد المختلفة على الأرض وحدها، وإنما هي ثابتة بالنسبة للشمس والقمر والنجوم والنيازك والشهب . وأنها أحد الثوابت الكونية .
وقد استخلص أينشتين من هذه الحقيقة قانونه الأول في النسبية .
وهو: أن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة .
ولشرح هذا القانون نورِد هذا المَثَل :
مثل الراكب على السفينة الذي يتمشى على سطحها بسرعة ميل واحد في الساعة .
لو أن السفينة كانت تسير بسرعة 15 ميلًا واحد في الساعة، لكانت سرعته بالنسبة إلى البحر 16 ميلًا في الساعة ( 15 + 1 ) . ولو أنه غيّر اتجاهه وسار بالعكس ( بعكس اتجاه السفينة ) لأصبحت سرعته بالنسبة إلى البحر ( 15 – 1 ) 14 ميلًا في الساعة . برغم أنه لم يغير سرعته في الحالين، وبرغم أن سرعته في الاتجاهين كانت ميلًا واحدًا في الساعة، ومعنى هذا أنه وهو نفس الشخص يسير بسرعتين مختلفتين 14 و 16 في نفس الوقت . وهذه استحالة .
وأينشتين يكشف سر هذه الإستحالة قائلًا إن هناك خطأ حسابيًا .
والخطأ الحسابي هنا هو الإضافة والطرح لكميات غير متجانسة . واعتبار أن المسافة المكانية لحادثة يمكن أن ينظر إليها مستقلة عن الجسم الذي اتُخِذ مرجعًا لها . وهو هنا الراكب .
والسرعة ميل واحد في الساعة هي سرعة الراكب، والمسافة هنا مرجعها الراكب .
أما الـ 15 ميل سرعة السفينة . فهي بالنسبة إلى البحر . ولا يمكن إضافة الـ 15 إلى الواحد لأنهما مسافتين من نظامين مختلفين، ومرجعهما مختلف، ونسبتهما مختلفة . فالحساب هنا خطأ تبعًا لقانون النسبية الأول الذي يقول بوحدة القوانين للأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة داخل نظام واحد .
والقانون لا ينطبق على المسافة المكانية وحدها وإنما هو أيضًا ينطبق على الفترات الزمنية . فالفترة الزمنية لحادثة لا يمكن أن يُنظَر إليها مستقلة عن حالة الجسم المتخَذ مرجعًا لها .
والمَثَل الوارد عن راكب السفينة يؤكد هذا أيضًا . فسرعة الراكب وهي ميل/ساعة لا تقبل الإضافة إلى سرعة السفينة 15 ميل/ساعة . حيث إن المرجعين اللذين تنتسب إليهما هاتين الفترتين الزمنيتين مختلفان .
وهذا يجرنا إلى الحلقة الثانية في النظرية النسبية . وهي الزمان .
لقد رفض أينشتين فكرة المكان المطلق . واعتبر أن المكان دائمًا مقدار متغير ونسبي، واعتبر التقدير المطلَق لوضع أي جسم في المكان مستحيلًا، وإنما هو في أحسن الحالات يقدّر له وضعه بالنسبة إلى متغيّر بجواره .
كما اعتبر إدراك الحركة المطلقة لجسم يتحرك بانتظام أمرًا مستحيلًا . وبالمثل إدراك سكونه المطلَق .
إنه عاجز عن اكتشاف الحالة الحقيقية لجسم من حيث الحركة والسكون المطلقين طالما أن هذا الجسم في حالة حركة منتظمة . وكل ما يستطيع أن يقوله إن هذا الجسم يتحرك حركة نسبيية معينة بالنسبة إلى جسم آخر .
وهناك مثل طريف يضربه العالِم الرياضي هنري بوانكاريه على هذا العجز . فهو يقول : لنتصور معًا أن الكون أثناء استغراقنا في النوم قد تضاعف في الحجم ألف مرة . كل شيء في الكون بما في ذلك السرير الذيي ننام عليه بما في ذلك الوسادة والغرفة والشباك والعمارة والمدينة والسماء والشمس والقمر والنجوم . بما في ذلك أجسامنا نحن أيضًا . بما في ذلك الذرّات والجزيئات والأمواج . بما في ذلك أجهزة القياس العيارية التي نقيس بها .
ماذا يحدث لنا حينما نستيقظ .
يقول بوانكاريه في خبث شديد . إننا لن نلاحظ شيئًا . ولن نستطيع أن ندرك أن شيئًا ما قد حدث، ولو استخدمنا كل ما نملك من علوم الرياضة .
إن الكون قد تضاعف في الحجم ألف مرة هذا صحيح، ولكن كل شيء قد تضاعف بهذه النسبة في ذات الوقت . والنتيجة أن النِسَب الحجمية العامة تظل محفوظة بين الأشياء بعضها البعض .
ونفس القصة تحدث إذا تضاعفت سرعة الأشياء جميعها أثناء النوم بنفس النسبة . فإننا نصحو فلا ندرك أن شيئًا ما قد حدث . بسبب عجزنا عن إدراك الحركة المطلَقة .
ولأننا نقف في إدراكنا عند الحركة النسبية، وهي في قصتنا ثابتة . لأن نسبة كل حركة إلى الحركة بجوارها ثابتة رغم الزيادة المطلقة والعامة للحركة . لأننا أيضًا قد تضاعفت حركتنا وسرعتنا ونشاطنا الحيوي .
ويقول أينشتين أن هناك إستثناء واحدًا يمكن أن ندرك فيه الحركة المطلقة . هو اللحظة التي تفقد الحركة انتظامها فتتسارع أو تتباطأ . فندرك أن القطار الذي نركبه يتحرك عندما يبطئ استعدادًا للفرملة أو تغير الاتجاه .
في هذه اللحظة فقط نستطيع أن نجزم أننا نجلس في مركبة متحركة، ونستطيع أن نقول بحركتها المطلقة دون حاجة إلى مشاهدتها من رصيف منفصل .
وسوف نرى أنه حتى هذا الإستثناء الواحد قد عاد أينشتين فنقضه في نهاية بحثه .
******
هذا ما قاله أينشتين عن المكان، وعن الحركة في المكان .
فماذا قال عن الزمان . !
إن المكان والزمان هما حدّان غير منفصلين في الحركة . فماذا قالت النسبية عن هذا الحدّ الثاني . ؟
مقال / المكــان .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝
❞ تبدو الحرية في الرؤى الوضعية هي الحركة بغير قيود والانطلاق بغير حدود، ثم الحديث عن موازنة ذلك مع حريات الآخرين. تأتي نظريات النسبية وتروح نظريات النفعية والبراغماتية، ويظل ضابط الإرادة في الرؤية الإسلامية هو التقوى التي قد تجعل الإنسان يترك حتى حقه أو يتفضل ببعضه، تأليفاً للقلوب أو تلطفاً بالأفئدة. ❝ ⏤هبة رءوف عزت
❞ تبدو الحرية في الرؤى الوضعية هي الحركة بغير قيود والانطلاق بغير حدود، ثم الحديث عن موازنة ذلك مع حريات الآخرين. تأتي نظريات النسبية وتروح نظريات النفعية والبراغماتية، ويظل ضابط الإرادة في الرؤية الإسلامية هو التقوى التي قد تجعل الإنسان يترك حتى حقه أو يتفضل ببعضه، تأليفاً للقلوب أو تلطفاً بالأفئدة. ❝
❞ لا شيء يبعث على الحيرة أكثر من هذه الكلمة المبهمة الغامضة .. الزمان .. !
ما هو الزمان .. ؟
هناك زمان نتداوله في معاملاتنا ونعبر عنه بالساعة واليوم والشهر .
وهناك زمان نفساني داخلي يشعر به كل منا في دخيلة نفسه ..
والزمان الخارجي الذي نتداوله زمان مشترَك .. نتحرك فيه كما يتحرك غيرنا .. نحن فيه مجرد حادثة من ملايين الحوادث .. ومرجعنا فيه تقويم خارجي .. أو نتيجة حائط .
أما الزمن الداخلي فهو زمن خاص .. لا يقبل القياس .. لأنه لا مرجع له سوى صاحبه .. وصاحبه يختلف في تقديره .. فهو يشعر به شعورًا غير متجانس .. لا توجد فيه لحظة تساوي اللحظة الأخرى ..
فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنشوة التي تحتوي على أقدار العمر كله ..
وهناك السنوات الطويلة الفارغة التي تمر رتيبة خاوية كأنها عدم .. وهو زمن متصل في ديمومة شعورية وكأنه حضور أبدي، الماضي فيه يوجد كذكرى في الحاضر .
والمستقبل يولد كتطلع وتشوف في الحاضر، اللحظة الحاضرة هي كل شيء .. ونحن ننتقل من لحظة حاضرة إلى لحظة حاضرة ..
ولا ننتقل من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل ..
نحن نعيش في حضور مستمر، نعيش شاخصين باستمرار إلى سيّال من الحوادث ينهال أمام حواسنا .. لا نعرف في هذا الزمن الداخلي سوى "الآن"، ننتقل من "الآن" إلى "الآن" ، ولا يبدو انقطاع النوم في هذه الآنات إلا كانقطاع وهمي ما يلبث أن تصله اليقظة .
هذا الزمن الذاتي النفسي ليس هو الزمن الذي يقصده أينشتين في نظريته النسبية ..
إنه زمن برجسون، وسارتر، وهيدجر، وكيركجراد وسائر الفلاسفة الوجوديين . ( وهم يسمونه الزمن الوجودي ) ولكنه ليس زمن أينشتين .
أما زمن أينشتين فهو الزمن الخارجي الموضوعي .. الزمن الذي نشترك فيه كأحداث ضمن الأحداث اللانهائية التي تجري في الكون .. الزمن الذي نتحرك بداخله .. وتتحرك الشمس بداخله .. وتتحرك كافة النجوم والكواكب .
وهو زمن له معادل موضوعي في نور النهار .. وانحراف الظل .. وظلمة الليل .. وحركات النجوم .. وهو الزمن الذي نتفاهم من خلاله ونأخذ المواعيد ونرتبط بالعقود ونتعهد بالالتزامات .
** ** **
ماذا يقول أينشتين في هذا الزمان .. ؟
إنه يتناوله في نظريته النسبية بنفس الطريقة التي يتناول بها المكان .
المكان المطلق في النظرية النسبية لا وجود له .. إنه لا أكثر من تجريد ذهني خادع ..
المكان الحقيقي هو مقدار متغير يدل على وضع جسم بالنسبة لآخر .. ولأن الأجسام كلها متحركة فالمكان يصبح مرتبطًا بالزمان بالضرورة .. وفي تحديد وضع أي جسم يلزم أن نقول إنه موجود في المكان كذا في الوقت كذا .. لأنه في حركة دائمة .
وبهذا ينقلنا أينشتين في نظريته إلى الزمان ليشرح هذه الرابطة الوثيقة بين الزمان والمكان .. فيقول أنه حتى الزمان بالتعبير الدارج عبارة عن تعبير عن انتقالات رمزية في المكان ..
الزمن المعروف باليوم والشهر والسنة ما هو إلا مصطلحات ترمز إلى دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس .. أو بشكل آخر " مصطلحات لأوضاع مختلفة في المكان " .
الساعة هي دورة الأرض 15 درجة حول نفسها ..
واليوم هو دورة كاملة ..
والسنة هي التفافها الكامل حول الشمس ..
حتى الساعة التي نحملها في معصمنا عبارة عن انتقالات في المكان ( انتقالات عقرب على ميناء دائري من رقم إلى رقم ) .
الزمان والمكان متصلان في حقيقة واحدة .
وينتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية فيقول :
إن كل الساعات التي نستخدمها على الأرض مضبوطة على النظام الشمسي .. لكن النظام الشمسي ليس هو النظام الوحيد في الكون ..
فلا يمكن أن نفرض تقويمها الزمني على الكون، ونعتبر الكميات التي نقيس بها كميات مطلقة منزلة .
فالإنسان الذي يسكن عطارد مثلًا .. سوف يجد للزمن دلالات مختلفة، إذ أن عطارد يدور حول نفسه في 88 يومًا .. وهو في هذه المدة نفسها يكون قد دار أيضًا حول الشمس ..
ومعنى هذا أن طول اليوم العطاردي يساوي طول السنة العطاردية .. وهو تقويم يختلف تمامًا عن تقويمنا .
وبذلك يكون الزمن مقدارًا لا معنى له إذا لم ينسب إلى النظام الذي اشتق منه .
ولا يمكن أن نفرض كلمة مثل "الآن" على الكون كله ..
فهي أولًا كلمة ذاتية نفسية .. وحتى إذا اقتصرنا على معناها الموضوعي وهو تواقت حدثين وحدوثهما معًا في ذات اللحظة .. فإن هذا التواقت لا يمكن أن يحدث بين أنظمة مختلفة لا اتصال بينها .
ويشرح أينشتين هذه النقطة وهي من أعمق تطبيقات النسبية وأكثرها غموضًا .. فيقول :
إن متكلمًا من نيويورك يمكن أن يخاطب في التليفون متكلمًا آخر في لندن .. ويكون الأول يتحدث في ساعة الغروب بينما الآخر في منتصف الليل ..
ومع ذلك يمكن لنا أن نجزم بتواقت الحدثين وحدوثهما معًا في ذات اللحظة .. والسبب أن الحدثين يحدثان معًا على أرض واحدة خاضعة لتقويم واحد هو التقويم الشمسي .. ومن الممكن استنباط فروق التوقيت ورد هذه الآنية ( الحدوث في آن واحد ) إلى مرجعها .. وهو النظام الواحد ..
أما القول بأنه من الممكن أن يحدث على الأرض .. وعلى كوكبه الجبار مثلًا .. أو الشعرى اليمانية .. أحداث متواقتة في آن واحد .. فهو أمر مستحيل .. لأنها أنظمة مختلفة لا اتصال بينها .. والاتصال الوحيد وهو الضوء يأخذ آلاف السنين لينتقل من واحد من هذه الأنظمة إلى الآخر ..
ونحن حينما نرى أحد هذه النجوم ويخيل إلينا أننا نراه "الآن" نحن في الحقيقة نراه عن طريق الضوء الذي ارتحل عنه منذ ألوف السنين ليصلنا ..
نحن في الواقع نرى ماضيه ويخيل إلينا أننا حاضره .. وقد يكون في الحاضر قد انفجر واختفى أو ارتحل بعيدًا خارج نطاق رؤيتنا .. وما نراه في الواقع إشارة إلى ماضٍ لم يعد له وجود بالمرة .
لابد أولًا لكي نجزم "بالآنيّة" من أن نعرف العلاقات بين الحوادث والمجاميع الكونية .. ونعرف نسبية كل مقدار موجود في إحدى المجاميع إلى المقادير الموجودة في المجاميع الأخرى .. ولابد من وجود وسيلة اتصال حاسمة تنقلنا عبر الأبعاد الفلكية الشاسعة .
ولكن للأسف أسرع وسيلة مواصلات كونية إلى الآن هي الضوء .. وسرعته 186284 ميلا في الثانية .. وهذه السرعة تمثل حدود معلوماتنا، والسقف الذي تنتهي عنده المعادلات والرياضيات النسبية الممكنة .
ويعود أينشتين فيشرح هذا الكلام بتجربة خيالية ..
إنه يتصور شخصًا جالسًا على رصيف محطة في منتصف مسافة بين النقطتين ا ، ب على شريط سكة حديد يجري عليه قطار .. ويتخيل أن ضربتين من البرق حدثتا في نفس الوقت وأنهما سقطتا على القضيب عند ( ا ) وعند ( ب ) . وأن الشخص الجالس على الرصيف يراقب العملية مزودًا بمرايا جانبية عاكسة سوف يرى ضربتي البرق في وقت واحد فعلًا .
فإذا حدث وجاء قطار سريع متجهًا من ( ب ) إلى ( ا ) وكان على القطار شخص آخر مزودًا بمرايا عاكسة ليلاحظ ما يجري .. فهل يلاحظ أن ضربتي البرق حدثتا في وقت واحد في اللحظة التي يصبح فيها محاذيًا للملاحِظ على الرصيف . . ؟
وليقرب أينشتين المثَل إلى الذهن يفترض أن القطار يسير بسرعة الضوء فعلًا 186284 ميلًا في الثانية .. ومعنى هذا أن ضربة البرق ( ب ) التي تركها خلفه لن تلحق به لأنه يسير بنفس سرعة موجة الضوء .. وهو لهذا لن يرى إلا ضربة البرق ( ا ) .
فلو كانت سرعة القطار أقل من سرعة الضوء .. فإن ضربة البرق ( ب ) سوف تلحق بعده متأخرة .. بينما سيشاهد ضربة البرق ( ا ) قبلها .. وبذلك لن يرى الحدثين متواقتين .. في آن واحد .. بينما يراهما الملاحِظ على الرصيف متواقتين في آن واحد .
وبهذا التناقض يشرح لنا أعمق ما في نظريته .. ما يسميه " نسبية الوقت الواحد " .. وكيف أن الإنسان لا يستطيع أن يطلق كلمة "الآن" على الكون .. وإنما يمكن أن يطلقها على نظامه الزمني .. لأن كل مجموعة من الأجسام لها زمنها الخاص ومرجعها الخاص ..
فإذا حدث وكانت هناك مجموعتان متحركتان .. كما في تجربة الملاحظ المتحرك على القطار .. والملاحظ الواقف على الرصيف .. فإننا نقع في التناقض إذا حاولنا المساواة بين الاثنين .
والنتيجة الهامة التي يخرج بها أينشتين من هذه التجربة .. أن الزمن مقدار متغير في الكون .. وأنه لا يوجد زمن واحد للكون كله ممتد من مبدأ الوجود والخليقة إلى الآن .. وإنما يوجد عديد من الأزمان .. كلها مقادير متغيرة لا يمكن نسبتها إلى بعضها إلا بالرجوع إلى أنظمتها واكتشاف علاقة حوادثها بعضها بالبعض وتحقيق الاتصال بينها . وهذا مستحيل .. لسبب بسيط ..
أن أسرع المواصلات الكونية وهي الضوء .. لا تستطيع أن تحقق تواقتًا بين أطرافه ..
والنتيجة الثانية التي يخرج بها .. أنه بما أن سرعة الضوء هي الثابت الكوني الوحيد .. فينبغي تعديل الكميات التي نعبِّر بها عن الزمان والمكان في كل معادلاتنا لتتفق مع هذه الحقيقة الأساسية ..
ومن الآن فصاعدًا يصبح الزمان مقدارًا متغيرًا .. والمكان مقدارًا متغيرًا .
وهذا يلقي بنا إلى نتائج مدهشة ..
..
مقال / الزمان
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ لا شيء يبعث على الحيرة أكثر من هذه الكلمة المبهمة الغامضة . الزمان . !
ما هو الزمان . ؟
هناك زمان نتداوله في معاملاتنا ونعبر عنه بالساعة واليوم والشهر .
وهناك زمان نفساني داخلي يشعر به كل منا في دخيلة نفسه .
والزمان الخارجي الذي نتداوله زمان مشترَك . نتحرك فيه كما يتحرك غيرنا . نحن فيه مجرد حادثة من ملايين الحوادث . ومرجعنا فيه تقويم خارجي . أو نتيجة حائط .
أما الزمن الداخلي فهو زمن خاص . لا يقبل القياس . لأنه لا مرجع له سوى صاحبه . وصاحبه يختلف في تقديره . فهو يشعر به شعورًا غير متجانس . لا توجد فيه لحظة تساوي اللحظة الأخرى .
فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنشوة التي تحتوي على أقدار العمر كله .
وهناك السنوات الطويلة الفارغة التي تمر رتيبة خاوية كأنها عدم . وهو زمن متصل في ديمومة شعورية وكأنه حضور أبدي، الماضي فيه يوجد كذكرى في الحاضر .
والمستقبل يولد كتطلع وتشوف في الحاضر، اللحظة الحاضرة هي كل شيء . ونحن ننتقل من لحظة حاضرة إلى لحظة حاضرة .
ولا ننتقل من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل .
نحن نعيش في حضور مستمر، نعيش شاخصين باستمرار إلى سيّال من الحوادث ينهال أمام حواسنا . لا نعرف في هذا الزمن الداخلي سوى ˝الآن˝، ننتقل من ˝الآن˝ إلى ˝الآن˝ ، ولا يبدو انقطاع النوم في هذه الآنات إلا كانقطاع وهمي ما يلبث أن تصله اليقظة .
هذا الزمن الذاتي النفسي ليس هو الزمن الذي يقصده أينشتين في نظريته النسبية .
إنه زمن برجسون، وسارتر، وهيدجر، وكيركجراد وسائر الفلاسفة الوجوديين . ( وهم يسمونه الزمن الوجودي ) ولكنه ليس زمن أينشتين .
أما زمن أينشتين فهو الزمن الخارجي الموضوعي . الزمن الذي نشترك فيه كأحداث ضمن الأحداث اللانهائية التي تجري في الكون . الزمن الذي نتحرك بداخله . وتتحرك الشمس بداخله . وتتحرك كافة النجوم والكواكب .
وهو زمن له معادل موضوعي في نور النهار . وانحراف الظل . وظلمة الليل . وحركات النجوم . وهو الزمن الذي نتفاهم من خلاله ونأخذ المواعيد ونرتبط بالعقود ونتعهد بالالتزامات .
******
ماذا يقول أينشتين في هذا الزمان . ؟
إنه يتناوله في نظريته النسبية بنفس الطريقة التي يتناول بها المكان .
المكان المطلق في النظرية النسبية لا وجود له . إنه لا أكثر من تجريد ذهني خادع .
المكان الحقيقي هو مقدار متغير يدل على وضع جسم بالنسبة لآخر . ولأن الأجسام كلها متحركة فالمكان يصبح مرتبطًا بالزمان بالضرورة . وفي تحديد وضع أي جسم يلزم أن نقول إنه موجود في المكان كذا في الوقت كذا . لأنه في حركة دائمة .
وبهذا ينقلنا أينشتين في نظريته إلى الزمان ليشرح هذه الرابطة الوثيقة بين الزمان والمكان . فيقول أنه حتى الزمان بالتعبير الدارج عبارة عن تعبير عن انتقالات رمزية في المكان .
الزمن المعروف باليوم والشهر والسنة ما هو إلا مصطلحات ترمز إلى دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس . أو بشكل آخر ˝ مصطلحات لأوضاع مختلفة في المكان ˝ .
الساعة هي دورة الأرض 15 درجة حول نفسها .
واليوم هو دورة كاملة .
والسنة هي التفافها الكامل حول الشمس .
حتى الساعة التي نحملها في معصمنا عبارة عن انتقالات في المكان ( انتقالات عقرب على ميناء دائري من رقم إلى رقم ) .
الزمان والمكان متصلان في حقيقة واحدة .
وينتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية فيقول :
إن كل الساعات التي نستخدمها على الأرض مضبوطة على النظام الشمسي . لكن النظام الشمسي ليس هو النظام الوحيد في الكون .
فلا يمكن أن نفرض تقويمها الزمني على الكون، ونعتبر الكميات التي نقيس بها كميات مطلقة منزلة .
فالإنسان الذي يسكن عطارد مثلًا . سوف يجد للزمن دلالات مختلفة، إذ أن عطارد يدور حول نفسه في 88 يومًا . وهو في هذه المدة نفسها يكون قد دار أيضًا حول الشمس .
ومعنى هذا أن طول اليوم العطاردي يساوي طول السنة العطاردية . وهو تقويم يختلف تمامًا عن تقويمنا .
وبذلك يكون الزمن مقدارًا لا معنى له إذا لم ينسب إلى النظام الذي اشتق منه .
ولا يمكن أن نفرض كلمة مثل ˝الآن˝ على الكون كله .
فهي أولًا كلمة ذاتية نفسية . وحتى إذا اقتصرنا على معناها الموضوعي وهو تواقت حدثين وحدوثهما معًا في ذات اللحظة . فإن هذا التواقت لا يمكن أن يحدث بين أنظمة مختلفة لا اتصال بينها .
ويشرح أينشتين هذه النقطة وهي من أعمق تطبيقات النسبية وأكثرها غموضًا . فيقول :
إن متكلمًا من نيويورك يمكن أن يخاطب في التليفون متكلمًا آخر في لندن . ويكون الأول يتحدث في ساعة الغروب بينما الآخر في منتصف الليل .
ومع ذلك يمكن لنا أن نجزم بتواقت الحدثين وحدوثهما معًا في ذات اللحظة . والسبب أن الحدثين يحدثان معًا على أرض واحدة خاضعة لتقويم واحد هو التقويم الشمسي . ومن الممكن استنباط فروق التوقيت ورد هذه الآنية ( الحدوث في آن واحد ) إلى مرجعها . وهو النظام الواحد .
أما القول بأنه من الممكن أن يحدث على الأرض . وعلى كوكبه الجبار مثلًا . أو الشعرى اليمانية . أحداث متواقتة في آن واحد . فهو أمر مستحيل . لأنها أنظمة مختلفة لا اتصال بينها . والاتصال الوحيد وهو الضوء يأخذ آلاف السنين لينتقل من واحد من هذه الأنظمة إلى الآخر .
ونحن حينما نرى أحد هذه النجوم ويخيل إلينا أننا نراه ˝الآن˝ نحن في الحقيقة نراه عن طريق الضوء الذي ارتحل عنه منذ ألوف السنين ليصلنا .
نحن في الواقع نرى ماضيه ويخيل إلينا أننا حاضره . وقد يكون في الحاضر قد انفجر واختفى أو ارتحل بعيدًا خارج نطاق رؤيتنا . وما نراه في الواقع إشارة إلى ماضٍ لم يعد له وجود بالمرة .
لابد أولًا لكي نجزم ˝بالآنيّة˝ من أن نعرف العلاقات بين الحوادث والمجاميع الكونية . ونعرف نسبية كل مقدار موجود في إحدى المجاميع إلى المقادير الموجودة في المجاميع الأخرى . ولابد من وجود وسيلة اتصال حاسمة تنقلنا عبر الأبعاد الفلكية الشاسعة .
ولكن للأسف أسرع وسيلة مواصلات كونية إلى الآن هي الضوء . وسرعته 186284 ميلا في الثانية . وهذه السرعة تمثل حدود معلوماتنا، والسقف الذي تنتهي عنده المعادلات والرياضيات النسبية الممكنة .
ويعود أينشتين فيشرح هذا الكلام بتجربة خيالية .
إنه يتصور شخصًا جالسًا على رصيف محطة في منتصف مسافة بين النقطتين ا ، ب على شريط سكة حديد يجري عليه قطار . ويتخيل أن ضربتين من البرق حدثتا في نفس الوقت وأنهما سقطتا على القضيب عند ( ا ) وعند ( ب ) . وأن الشخص الجالس على الرصيف يراقب العملية مزودًا بمرايا جانبية عاكسة سوف يرى ضربتي البرق في وقت واحد فعلًا .
فإذا حدث وجاء قطار سريع متجهًا من ( ب ) إلى ( ا ) وكان على القطار شخص آخر مزودًا بمرايا عاكسة ليلاحظ ما يجري . فهل يلاحظ أن ضربتي البرق حدثتا في وقت واحد في اللحظة التي يصبح فيها محاذيًا للملاحِظ على الرصيف . . ؟
وليقرب أينشتين المثَل إلى الذهن يفترض أن القطار يسير بسرعة الضوء فعلًا 186284 ميلًا في الثانية . ومعنى هذا أن ضربة البرق ( ب ) التي تركها خلفه لن تلحق به لأنه يسير بنفس سرعة موجة الضوء . وهو لهذا لن يرى إلا ضربة البرق ( ا ) .
فلو كانت سرعة القطار أقل من سرعة الضوء . فإن ضربة البرق ( ب ) سوف تلحق بعده متأخرة . بينما سيشاهد ضربة البرق ( ا ) قبلها . وبذلك لن يرى الحدثين متواقتين . في آن واحد . بينما يراهما الملاحِظ على الرصيف متواقتين في آن واحد .
وبهذا التناقض يشرح لنا أعمق ما في نظريته . ما يسميه ˝ نسبية الوقت الواحد ˝ . وكيف أن الإنسان لا يستطيع أن يطلق كلمة ˝الآن˝ على الكون . وإنما يمكن أن يطلقها على نظامه الزمني . لأن كل مجموعة من الأجسام لها زمنها الخاص ومرجعها الخاص .
فإذا حدث وكانت هناك مجموعتان متحركتان . كما في تجربة الملاحظ المتحرك على القطار . والملاحظ الواقف على الرصيف . فإننا نقع في التناقض إذا حاولنا المساواة بين الاثنين .
والنتيجة الهامة التي يخرج بها أينشتين من هذه التجربة . أن الزمن مقدار متغير في الكون . وأنه لا يوجد زمن واحد للكون كله ممتد من مبدأ الوجود والخليقة إلى الآن . وإنما يوجد عديد من الأزمان . كلها مقادير متغيرة لا يمكن نسبتها إلى بعضها إلا بالرجوع إلى أنظمتها واكتشاف علاقة حوادثها بعضها بالبعض وتحقيق الاتصال بينها . وهذا مستحيل . لسبب بسيط .
أن أسرع المواصلات الكونية وهي الضوء . لا تستطيع أن تحقق تواقتًا بين أطرافه .
والنتيجة الثانية التي يخرج بها . أنه بما أن سرعة الضوء هي الثابت الكوني الوحيد . فينبغي تعديل الكميات التي نعبِّر بها عن الزمان والمكان في كل معادلاتنا لتتفق مع هذه الحقيقة الأساسية .
ومن الآن فصاعدًا يصبح الزمان مقدارًا متغيرًا . والمكان مقدارًا متغيرًا .
وهذا يلقي بنا إلى نتائج مدهشة .
.
مقال / الزمان
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝