❞ من الفوائد الفقهية لقصة الحديبية ..
🔸️وفي قول النبي ﷺ للمغيرة ( أَمَّا الإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شيء ) ، دليل على أن مال المشرك المعاهد معصوم ، وأنه لا يملك ، بل يرد عليه فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان ، ثم غدر بهم ، وأخذ أموالهم ، فلم يتعرض النبي ﷺ لأموالهم ، ولا ذب عنها ، ولا ضمنها لهم ، لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة🔸️وفي قول الصدِّيق لعروة : امصُصْ بَطْرَ اللَّاتِ ، دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال ، كما أذن النبي ﷺ أن يُصرح لمن ادعى دعوى الجاهلية بهن أبيه ، ويقال له : اعضُضْ أَيْرَ أبيك ، ولا يُكْنَى له ، فلكل مقام مقال🔸️ومنها : احتمال قلة أدب رسولِ الكُفار ، وجهله وجفوته ولا يقابل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة ، ولم يقابل النبي ﷺ عُروة على أخذه بلحيته وقت خطابه ، وإن كانت تلك عادة العرب ، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك🔸️ومنها : طهارة النُّخَامَةِ ، سواء كانت من رأس أو صدر🔸️ومنها : طهارة الماء المستعمل🔸️ومنها : استحباب التفاؤل ، وأنه ليس من الطيرة المَكْرُوهة ، لقوله ﷺ لما جاء سهيل ( سَهُلَ أَمْرُكُم )🔸️ومنها : أن المشهود عليه إذا عُرف باسمه واسم أبيه أغنى ذلك عن ذكر الجد ، لأن النبي ﷺ لم يزد على محمد بن عبد الله ، وقَنِعَ مِن سهيل بذكر اسمه واسم أبيه خاصة ، واشتراط ذكر الجد لا أصل له🔸️ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضَيْم على المُسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ، ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما🔸️ومنها : أن من حَلَفَ على فعل شيء، أو نَذَره ، أو وَعَدَ غيره به ولم يُعين وقتاً لا بلفظه ولا بنيته لم يكن على الفور بل على التراخي🔸️ومنها : أن الحلاقة نُسُكٌ ، وأنها أفضل من التقصير ، وأنه نُسُك في العُمرة ، كما هو نُسك في الحج ، وأنه نُسُك في عُمرة المحصور ، كما هو نسك في عُمرة غيره🔸️ومنها : أن المُحْصَرَ ينحر هديه حيث أُحْصِرَ من الحِل أو الحَرَم ، وأنه لا يجب عليه أن يُواعِدَ من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه ، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله ، بدليل قوله تعالى { وَالْهَدَى مَعْكُوفًا أن يبلغ حل }🔸️ومنها : أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم ، لأن الحَرَمَ كُلَّه محلُّ الهدي🔸️ومنها : أن المُحْصَرَ لا يجب عليه القضاء ، لأنه أمرهم بالحلق والنحر ، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء ، والعُمْرَةُ من العام القابل لم تكن واجبة ولا قضاء عن عُمرة الإحصار، فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفاً وأربعمئة ، وكانوا في عُمرة القضية دون ذلك ، وإنما سُمِّيت عُمرة القضية والقضاء لأنها العُمرة التي قاضاهم عليها ، فأُضيفت العُمرة إلى مصدر فعله. ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ من الفوائد الفقهية لقصة الحديبية .
🔸️وفي قول النبي ﷺ للمغيرة ( أَمَّا الإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ ، وَأَمَّا المَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ في شيء ) ، دليل على أن مال المشرك المعاهد معصوم ، وأنه لا يملك ، بل يرد عليه فإن المغيرة كان قد صحبهم على الأمان ، ثم غدر بهم ، وأخذ أموالهم ، فلم يتعرض النبي ﷺ لأموالهم ، ولا ذب عنها ، ولا ضمنها لهم ، لأن ذلك كان قبل إسلام المغيرة🔸️وفي قول الصدِّيق لعروة : امصُصْ بَطْرَ اللَّاتِ ، دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال ، كما أذن النبي ﷺ أن يُصرح لمن ادعى دعوى الجاهلية بهن أبيه ، ويقال له : اعضُضْ أَيْرَ أبيك ، ولا يُكْنَى له ، فلكل مقام مقال🔸️ومنها : احتمال قلة أدب رسولِ الكُفار ، وجهله وجفوته ولا يقابل على ذلك لما فيه من المصلحة العامة ، ولم يقابل النبي ﷺ عُروة على أخذه بلحيته وقت خطابه ، وإن كانت تلك عادة العرب ، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك🔸️ومنها : طهارة النُّخَامَةِ ، سواء كانت من رأس أو صدر🔸️ومنها : طهارة الماء المستعمل🔸️ومنها : استحباب التفاؤل ، وأنه ليس من الطيرة المَكْرُوهة ، لقوله ﷺ لما جاء سهيل ( سَهُلَ أَمْرُكُم )🔸️ومنها : أن المشهود عليه إذا عُرف باسمه واسم أبيه أغنى ذلك عن ذكر الجد ، لأن النبي ﷺ لم يزد على محمد بن عبد الله ، وقَنِعَ مِن سهيل بذكر اسمه واسم أبيه خاصة ، واشتراط ذكر الجد لا أصل له🔸️ومنها : أن مصالحة المشركين ببعض ما فيه ضَيْم على المُسلمين جائزة للمصلحة الراجحة ، ودفع ما هو شر منه ، ففيه دفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما🔸️ومنها : أن من حَلَفَ على فعل شيء، أو نَذَره ، أو وَعَدَ غيره به ولم يُعين وقتاً لا بلفظه ولا بنيته لم يكن على الفور بل على التراخي🔸️ومنها : أن الحلاقة نُسُكٌ ، وأنها أفضل من التقصير ، وأنه نُسُك في العُمرة ، كما هو نُسك في الحج ، وأنه نُسُك في عُمرة المحصور ، كما هو نسك في عُمرة غيره🔸️ومنها : أن المُحْصَرَ ينحر هديه حيث أُحْصِرَ من الحِل أو الحَرَم ، وأنه لا يجب عليه أن يُواعِدَ من ينحره في الحرم إذا لم يصل إليه ، وأنه لا يتحلل حتى يصل إلى محله ، بدليل قوله تعالى ﴿ وَالْهَدَى مَعْكُوفًا أن يبلغ حل ﴾🔸️ومنها : أن الموضع الذي نحر فيه الهدي كان من الحل لا من الحرم ، لأن الحَرَمَ كُلَّه محلُّ الهدي🔸️ومنها : أن المُحْصَرَ لا يجب عليه القضاء ، لأنه أمرهم بالحلق والنحر ، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء ، والعُمْرَةُ من العام القابل لم تكن واجبة ولا قضاء عن عُمرة الإحصار، فإنهم كانوا في عمرة الإحصار ألفاً وأربعمئة ، وكانوا في عُمرة القضية دون ذلك ، وإنما سُمِّيت عُمرة القضية والقضاء لأنها العُمرة التي قاضاهم عليها ، فأُضيفت العُمرة إلى مصدر فعله. ❝
❞ هل تعرف لماذا لا نصبر ؟!
لأننا نقول دائما لأنفسنا:
ومن يضمن لنا المستقبل إذا ضحينا بالحاضر ؟!
ولا أحد يفكر بأن الله هو الضامن
وأنه هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة
وأنه خالق الوجود و ضامنه
ولو امتلأت النفوس بهذا الإيمان لانحلت العقدة
ولكن لا إيمان اليوم رغم كثرة المآذن !
إنها مجرد مصاحف مدلاة على الصدور
لكن الصدور نفسها ليس فيها شيء سوى رغبة محرقة في اغتنام لذة أو انتهاز مصلحة !. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ هل تعرف لماذا لا نصبر ؟!
لأننا نقول دائما لأنفسنا:
ومن يضمن لنا المستقبل إذا ضحينا بالحاضر ؟!
ولا أحد يفكر بأن الله هو الضامن
وأنه هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة
وأنه خالق الوجود و ضامنه
ولو امتلأت النفوس بهذا الإيمان لانحلت العقدة
ولكن لا إيمان اليوم رغم كثرة المآذن !
إنها مجرد مصاحف مدلاة على الصدور
لكن الصدور نفسها ليس فيها شيء سوى رغبة محرقة في اغتنام لذة أو انتهاز مصلحة !. ❝
❞ عمليات ربط الأنابيب بين الإجراء العلاجي والتعقيم
فهذه رسالة إلي نقيب الأطباء باعتباره القامة الأولي للعمل الطبي وإلي السيد وزير الصحة باعتباره مسؤول عن حياة الناس فهذه عملية جراحية الهدف منها هي تعقيم السيدات ومنعهن من الإنجاب نهائيا عن طريق ربط قنوات فالوب المسؤولة عن نقل البويضات الناضجة بعد خروجها من المبيض حيث يتم تخصيبها داخل إحدى هاتين القناتين لتنقلها بدورها حتي يتم زراعتها داخل بطانة الرحم فتكون الجنين وقد يضطر الأطباء إلي إجراء هذه العملية في حدود ضيقة جدا والتي فيها يسبب الحمل خطورة شديدة علي السيدة قد تتسبب في وفاة الأم ففي هذه الحالة يقدم بقاء الأم وصحتها علي نجابة الولد الذي يظن يقينا أنه سوف يتسبب في وفاة أمه ففي هذه الحالة جوز الشرع اتفاقا مع العلم هذه العملية من باب دفع الضرر مقدم علي جلب المصلحة
نعم أيها السادة فهذه العملية بمثابة إحداث عاهة مستديمة للسيدات حيث أنها صارت عقيمة ليس هذا فحسب بل إن هذه العملية تحمل أضرارا للمرأة يمكن السكوت عنها في سبيل الإبقاء علي حياتها
أما وإن يترك الأمر إلي رغبة المرأة في قطع الحمل بالكلية إما حفاظا علي رشاقتها أو لأنها أنجبت طفل أو اثنين وهذا يكفيها فهذه جريمة يجب أن يشرع قانون لمعاقبة الطبيب الذي قام بإحداث عاهة مستديمة لسيدة قد تكون جاهلة أو جاحدة لنعمة الله عليها إذ أن نجابة الولد من رزق الله فقد تتغير أحوالها بل قد تطلق أو تترمل أو يموت أبناءها وتحتاج إلي الحمل مرة أخري ساعتها تندم مدي عمرها علي جحود نعمة الله عليها
كذلك من تكون مريضة بأمراض لا توثر علي قضية الحمل والولادة لكن طبيبها العلماني الذي همه جمع المال دون مراقبة لله في تعقيمها فخدعها ليحصل هو علي المال دون النظر إلي ما يرضي الله أو يسخطه
علاوة علي من تعقم نفسها بالنظر إلي دخلها المادي أو دخل زوجها والله عز وجل يقول ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أو خشية إملاق ففي بداية الأمر كانوا يدعونا بتنظيم النسل ثم تحول الأمر إلي تحديد النسل ثم انتهي الأمر بمنع النسل ونحن إن كنا نلوم المرأة أو زوجها نسبيا إنما نلوم الطبيب الذي تخلي عن أخلاقيات مهنته وراح يمارس الطب بناء علي رغبة المريض دون النظر إلي الحل والحرمة أو دون النظر إلي الجائز والمجرم فيا أيتها النقابة العظيمة بكل القامات العلمية الموجودة بها لابد من وضع تقنين واضح لدواعي إجراء هذه العملية فمن خالفها إنما يعاقب بعقوبة إحداث عاهة مستديمة ولا يكفي هذه الورقة التي يأخذ عليها توقيع المرأة وزوجها بأنه لا مانع لديهم من إجراء العملية فإن العقوبة علي الجريمة لا تسقط بموافقة المجني عليه وفقكم الله إلي كل خير انتهي.............. ❝ ⏤Dr Mohammed omar Abdelaziz
❞ عمليات ربط الأنابيب بين الإجراء العلاجي والتعقيم
فهذه رسالة إلي نقيب الأطباء باعتباره القامة الأولي للعمل الطبي وإلي السيد وزير الصحة باعتباره مسؤول عن حياة الناس فهذه عملية جراحية الهدف منها هي تعقيم السيدات ومنعهن من الإنجاب نهائيا عن طريق ربط قنوات فالوب المسؤولة عن نقل البويضات الناضجة بعد خروجها من المبيض حيث يتم تخصيبها داخل إحدى هاتين القناتين لتنقلها بدورها حتي يتم زراعتها داخل بطانة الرحم فتكون الجنين وقد يضطر الأطباء إلي إجراء هذه العملية في حدود ضيقة جدا والتي فيها يسبب الحمل خطورة شديدة علي السيدة قد تتسبب في وفاة الأم ففي هذه الحالة يقدم بقاء الأم وصحتها علي نجابة الولد الذي يظن يقينا أنه سوف يتسبب في وفاة أمه ففي هذه الحالة جوز الشرع اتفاقا مع العلم هذه العملية من باب دفع الضرر مقدم علي جلب المصلحة
نعم أيها السادة فهذه العملية بمثابة إحداث عاهة مستديمة للسيدات حيث أنها صارت عقيمة ليس هذا فحسب بل إن هذه العملية تحمل أضرارا للمرأة يمكن السكوت عنها في سبيل الإبقاء علي حياتها
أما وإن يترك الأمر إلي رغبة المرأة في قطع الحمل بالكلية إما حفاظا علي رشاقتها أو لأنها أنجبت طفل أو اثنين وهذا يكفيها فهذه جريمة يجب أن يشرع قانون لمعاقبة الطبيب الذي قام بإحداث عاهة مستديمة لسيدة قد تكون جاهلة أو جاحدة لنعمة الله عليها إذ أن نجابة الولد من رزق الله فقد تتغير أحوالها بل قد تطلق أو تترمل أو يموت أبناءها وتحتاج إلي الحمل مرة أخري ساعتها تندم مدي عمرها علي جحود نعمة الله عليها
كذلك من تكون مريضة بأمراض لا توثر علي قضية الحمل والولادة لكن طبيبها العلماني الذي همه جمع المال دون مراقبة لله في تعقيمها فخدعها ليحصل هو علي المال دون النظر إلي ما يرضي الله أو يسخطه
علاوة علي من تعقم نفسها بالنظر إلي دخلها المادي أو دخل زوجها والله عز وجل يقول ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أو خشية إملاق ففي بداية الأمر كانوا يدعونا بتنظيم النسل ثم تحول الأمر إلي تحديد النسل ثم انتهي الأمر بمنع النسل ونحن إن كنا نلوم المرأة أو زوجها نسبيا إنما نلوم الطبيب الذي تخلي عن أخلاقيات مهنته وراح يمارس الطب بناء علي رغبة المريض دون النظر إلي الحل والحرمة أو دون النظر إلي الجائز والمجرم فيا أيتها النقابة العظيمة بكل القامات العلمية الموجودة بها لابد من وضع تقنين واضح لدواعي إجراء هذه العملية فمن خالفها إنما يعاقب بعقوبة إحداث عاهة مستديمة ولا يكفي هذه الورقة التي يأخذ عليها توقيع المرأة وزوجها بأنه لا مانع لديهم من إجراء العملية فإن العقوبة علي الجريمة لا تسقط بموافقة المجني عليه وفقكم الله إلي كل خير انتهي. ❝
❞ #ما_وراء_المحيط
🌱🌾🌱🌾🌱
لطالما تأملت مياه البحر الواسعة، وهي تمتد بلا نهاية، تلامس المحيط وكأنها تهمس بأسرارها.
تُرى، ماذا يكمن خلفها؟ هل هو الحلم المنتظر أم الكابوس المجهول؟ النجاة أم الضياع؟
في أحد الأحياء الشعبية، حيث تختلط رائحة الخبز الطازج المتصاعد من أحد المخابز بدخان المقاهي المتناثر في الهواء، وحيث الأزقة الضيقة تضج بأصوات الباعة الجائلين. على إحدى الطاولات الخشبية المهترئة داخل مقهى بسيط، الأضواء الخافتة تتراقص على وجوه الجالسين، وأحاديث الرجال تتشابك مع صوت المذياع الذي يصدح بأغنية قديمة، جلس الصديقان، سالم شابًا في منتصف العشرينيات، طويل القامة نسبيًا، بجسد نحيل لكن متماسك، كأن الحياة صقلته رغم قسوتها، وجهه ليّن الملامح، عيناه السوداوان تحملان مزيجًا من الحلم والضياع، كأنهما تبحثان عن مخرج من دوامة الفقر والقيود التي تحاصره، أما سليم، فكان شابًا في منتصف العشرينيات أيضًا، نحيل الجسد لكنه قوي الملامح، يحمل وجهه ندوب التعب وأشعة أمل خجولة كأنه إنعكاس لسنوات عمره التي تناثرت في الورش والمخابز، محاولًا شق طريقه وسط قسوة الحياة، وهما يحملان بداخلهما همومًا لاتنتهي وأحلامًا لا تحصى لا يعلمان كيف يحققونها، ظلا يتسامران سويًا عما يدور بخلدهما.
كان سالم مستندًا إلى كرسيه بإهمال، يحدق في كوب الشاي أمامه وكأنما يبحث في قاعه عن مخرج من الضيق الذي يكبّله، زفر بضيق، ثم ضرب بيده على الطاولة بخشونة وبنبرة مليئة ضيق ومرارة:
˝والله الواحد اتخنق! تعبت من القعدة من غير شغل، وكل يوم أمي تديني مصروفي زي العيال الصغيرة، وانا راجل أطول منها،
والله يا أخي بقيت حاسس إني بشحت منها وانا بمد إيدي أخد المصروف بدل ما أديها.˝
هزّ سليم رأسه بتنهيدة ثقيلة، عاقدًا ذراعيه فوق صدره، وكأن جسده يشارك روحه في التعب، حدّق في الشارع الممتد أمام المقهى، حيث الأطفال يركضون حفاة، والباعة ينادون على بضائعهم بصوت مبحوح، ثم قال بإحباط وبغصة في صوته: ˝ومين سمعك يا سالم؟ أنا لفيت على كل شغلانة ممكن اشتغلها ما خليتش... مرة في ورشة، مرة في فرن، مرة في محل ملابس، اهو بجيب مصاريفي عشان ما أطلبش من أبويا، بس الفلوس اللي بتيجي ما بتكفيش، كل حاجة بقت نـ*ـار، والعيشة بقت مستحيلة˝
أطرق سالم رأسه قليلًا، ثم رفع عينيه نحو السماء، وكأنما يحاول أن يرى مصيره بين نجومها المتناثرة، تمتم بصوت مملوء بالشوق لحياة لم يعشها بعد وبأمل ممزوج بالخيبة: ˝نفسي أهرب من هنا، أروح أى بلد، إيطاليا، أمريكا، مش فارقة، المهم ألاقي شغل وأبني نَفسي، نِفسي أتجوز هناء بنت خالي، بدل ما هي مربوطة جنبي، لا قادر أتقدملها ولا قادر أسيبها تشوف حالها!˝
نظر إليه سليم نظرة طويلة، وكأنما يزن كلماته قبل أن ينطق بها، ثم قال ببطء، وكأنه يكشف له عن كنز مخفي:
˝تصدق بالله يا سالم؟ تاهت ولقيناها! الواد عمر، ابن عم إبراهيم، كان بيقول إن فيه واحد اسمه راغب، بيسفّر الناس لإيطاليا، بس بياخد 100 ألف جنيه، ويجيبلك عقد شغل مضمون هناك، ده حتى عمر خلاص هيسافر عن طريقه، تعالى نروح له، واهو يا عم تقدر تتجوز بنت خالك اللى مجنناك دي˝
سالم، الذي كان يترنح بين الأمل واليأس، اتسعت عيناه للحظة قبل أن يطلق ضحكة ساخرة، مريرة، كمن سمع نكتة سوداء ثم قال بتهكم وحسرة: ˝هاهاا... 100 ألف؟! يا عم هو أنا لو معايا المبلغ ده كنت هبقى قاعد ع القهوة أستنى أمي تديني مصروفي؟!˝
لكن سليم لم يفقد حماسه، مال نحوه قليلًا، وكأنما يوسوس له بفكرة قد تقلب حياتهما رأسًا على عقب قائلاً بإصرار:
˝يا ابني اسمع مني، تعالى بس نروح له ونتكلم معاه، يمكن يطلع ابن حلال ويساعدنا... ممكن ياخد مقدم صغير، والباقي نبقى نبعته لما نسافر ونشتغل!˝
كان عقل سالم يعمل بسرعة، بين المنطق الذي يخبره بأن الأمر مستحيل، والرغبة العارمة التي تجعله يرى أي فرصة كطوق نجاة، لكنه سرعان ما هزّ رأسه بعناد، ثم نهض من كرسيه ودسّ يديه في جيبيه بحسم: ˝لا يا عم، عايز تروح انت، روح، أنا هرجع البيت، أكيد أمي خلصت الغدا، سلام!˝
تابعه سليم بعينيه يشاهده وهو يبتعد وسط زحام الشارع، خطواته ثقيلة، لكنها تحمل في داخلها صراعًا لا يراه أحد، زفر ببطء، ثم أسند رأسه إلى الطاولة، غارقًا في دوامة من الأفكار، ترى... هل يخاطر بنفسه ويذهب إلى راغب وحده، أم يحاول إقناع سالم مرة أخرى؟
كانت الليلة قد بدأت تسدل ستائرها على الحيّ، أما أحلامهما، فعلى الرغم من ظلام الواقع، كانت تتخبط بحثًا عن شعاع نور في أفق مجهول...
____________________
في بيت سالم
في نفس الحي الشعبي، حيث تتراص البيوت المتجاورة كأنها تشد بعضها بعضًا، وقف سالم أمام باب منزله المتواضع، الذى تتدلى ستائره القماشية فوق مدخله، بينما تعكس جدرانه القديمة حكايات العائلة التي سكنته لعقود، كان المنزل صغيرًا لكنه دافئ، يضم غرفة معيشة بسيطة بها أريكة مهترئة لكنها تحمل دفء العائلة، وطاولة خشبية في المنتصف تتوسط الغرفة وكأنها شاهد على أحاديث الأيام وذكرياتها، في الزاوية، كان هناك تلفاز قديم يعمل بصعوبة، بينما تنبعث من المطبخ رائحة الطعام المنزلي التي تحمل معها إحساسًا بالأمان رغم ضيق الحال، دلف إلى المنزل، لكن عقله ظل عالقًا في حديث سليم، تتصارع داخله الأفكار بين رغبته في الهروب من هذا الواقع الضيق، وخوفه من المجهول الذي ينتظره هناك، خلف البحار.
ما إن دخل حتى استقبلته والدته، هنادي، بلهجتها الحادة المعهودة، لكن بعينين تحملان ألف سؤال وألف قلق، قائلة: ˝طيب أرمى سلام ربنا، ولا داخل كده كأنك داخل على يهود مش مسلمين؟˝
رفع رأسه كأنما استيقظ من شروده، ثم تنهد وهو يخلع حذاءه عند الباب:
˝معلش يا أمي، سامحيني˝
تأملته للحظة، فلاحظت شروده، شحوب وجهه، شيء ما يشغل فكره، اقتربت منه ومسحت على كتفه بحنان:
˝مالك يا ضنايا؟ إيه اللي شاغل بالك؟ مصروفك خلص يا حبيبي مش كده؟˝
هزّ سالم رأسه نافيًا، ثم جلس على الأريكة مطرقًا برأسه: ˝معايا يا حبيبتي، خيرك مغرقني... بس، تعبت يا أمي من العوزة وقلة الشغل، بصراحة بفكر أسافر برة، يمكن ربنا يكرمني والحال يتبدل.˝
قطبت هنادي حاجبيها، وعقدت يديها أمام صدرها، فبدت عيناها تائهتين، كأنها تحاول استيعاب فكرة سفره، أو تبحث عن طمأنينة مفقودة بين كلماته،
قائلة بنبرة يشوبها القلق والتوجس: ˝وهتلاقي مين بس يسفرك يا ابني؟ ولا هتسافر فين وازاي؟˝
تنهّد سالم وهو يمرر يده في شعره بتوتر، ثم قال بصوت يحمل شيئًا من التردد:
˝مش عارف والله يا أمي، بس سليم بيقول إن عمر ابن عم إبراهيم جارنا هيسافر عن طريق واحد اسمه راغب، رايح إيطاليا.˝
خرج والده من الغرفة المجاورة بعد أن سمع حديثهما، ظل يستمع بصمت، حتى تحدث أخيرًا، بصوت حمل نبرة القلق أكثر من الغضب: ˝وده تبع شركة سياحة يا ابني؟ ولا تبع السفارة؟ ولا إيه بالظبط؟ فهّمني.˝
تردد سالم، ثم قال:
˝بصراحة مش عارف يا بابا، بس سليم بيقول إن الراجل ده بياخد 100 ألف جنيه مقابل العقد والسفر.˝
نظر حسن إلى ابنه طويلًا، وكأنما يحاول قراءة ما يدور في رأسه، ثم قال بجدية:
˝بص يا ابني، هقولك كلمة وعايزك تسمعها كويس... لو عايز تسافر وتشوف رزقك وتبني مستقبلك، مش همنعك، بس امشي صح، روح الشركات الحكومية، اسأل عن الطرق القانونية، وأنا معاك ف اللي انت عايزه، لكن اللي بيقول عليه صاحبك ده، لأ يا سالم... ده شكله واحد من تجار الموت اللى بياخدوا الفلوس ويسهّلوا السفر للشباب، والله أعلم هتوصل ولا هتضيع في البحر زي غيرك.˝
تسارعت نبضات قلب سالم، لم يكن يفكر في الأمر من هذه الزاوية، رفع عينيه إلى والده، كأنه يبحث عن بصيص أمل: ˝يعني أنت يا حاج، مش معترض إني أسافر؟˝
زفر حسن أنفاسه ببطء يحاول ترتيب كلماته بعناية، حدّق في وجه ابنه بنظرة حازمة تخفي خلفها مزيجًا من الخوف والرجاء قائلا بصوت هادئ يحمل ثقل خبرة السنوات:
˝لا يا حبيب أبوك، مش معترض طالما مافيش لك رزق هنا، بس امشي في النور، مش في الضلمة.˝
أغمض عينيه للحظة وكأنه يسترجع ذكريات لأشخاص فُقدوا في طرق مجهولة، قبل أن يعود لينظر إلى سالم مباشرة، متابعًا بجدية:
˝دور على فرصة سفر قانونية يا سالم، إنما الطريق اللي بتتكلم عنه ده، مش مضمون يا ابني... تفتكر اللي هياخد منك مبلغ زي ده، همه إنك توصل بالسلامة؟ لا، دول همهم الفلوس وبس، أنا مش هقف في طريقك، بس مش هسمح لك تضيع نفسك في مغامرة مش محسوبة.˝
ساد الصمت للحظة، لم يُسمع فيها سوى صوت أنفاس سالم المضطربة، بينما بدت هنادي وكأنها تحبس دموعها بصعوبة، تنظر لزوجها وكأنها تنتظر منه أن يزيد في كلامه ليمنع ولدها تمامًا، لكنه اكتفى بالصمت، تاركًا القرار في يد ابنه، في تلك الليلة، ظل سالم مستلقيًا على سريره، يفكر في كلمات والده، وفي الطريق الذي عليه أن يختاره، كان يدرك أن الفقر قاسٍ، لكنه أيضًا أدرك أن الحلم إذا لم يُبْنَ على أساس قوي، قد يتحول إلى كابوس لا نجاة منه،
وفي النهاية، قرر أن يسافر، لكنه سيفعلها بالطريقة الصحيحة، كما قال والده. فالموت في الغربة ليس أهون من الحياة في الفقر.
______________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل، لكنه لم يكن كعادته، سار ببطء وعيناه شاردتان، يحمل على كتفيه ثقل أفكاره التي لم تفارقه منذ ساعات، لم يكن المنزل سوى محطة مؤقتة لروحه القلقة، فقد أصبح يشعر بأنه محاصر بين جدرانه، كما لو أن الأبواب مغلقة أمام مستقبله، وما زالت الأفكار تتلاطم في رأسه كالأمواج، تبحث عن طريق للخلاص من هذا الواقع الخانق. وقف للحظة أمام باب منزله القديم ذو الطابقين، يعلوه بعض الشقوق التي حفرها الزمن في جدرانه، مدخله الضيق تصطف على جانبيه أحذية قديمة، ونافذته المطلة على الزقاق تكاد لا تغلق جيدًا، كأنها تعبت من مقاومة الرياح، دفع الباب بيده، فصدر عنه أزيز خافت، ثم دخل ليجد أمه تجلس على أريكة خشبية قديمة، منشغلة بطيّ بعض الملابس، ووجهها الذي خطّ عليه الزمن تجاعيد خفيفة، يضيئه نور خافت ينبعث من مصباح يتدلى من السقف، فألقى عليها السلام بصوت هادئ: السلام عليكم يا ست الكل.˝
ما إن وقع نظرها عليه حتى رفعت رأسها بسرعة، وضعت ما بيدها جانبًا، ثم تطلعت إليه بابتسامة دافئة تخفي وراءها قلقًا لم تستطع مواراته:
˝وعليكم السلام ورحمة الله، مالك يا سليم يا حبيبي؟˝
ألقى بجسده على أقرب مقعد، وأخذ يمرر يده في شعره بعصبية واضحة، زفر بضيق قبل أن يرد:
˝زهقان يا أمه... وعايز أطفش من البلد دي بأي طريقة.˝
قطّبت نادية حاجبيها، واعتدلت في جلستها، ثم قالت بصوت دافئ لكنه يحمل قلق الأم:
˝سلامتك من الزهق يا قلب أمك، مالك بس يا ضنايا؟˝
انتفض واقفًا، وقد تملّكه الغضب والإحباط، لوّح بيديه في الهواء وكأن كلماته تكاد تخنقه:
˝هيكون مالي بس يا أمه؟ زهقان ومخنوق وأنا كده عواطلي بعد سنين تعليم وشهادة جامعية بتقدير! مش لاقي حتى تمن السيجارة، وعشان أقدر اشتريها، لازم اتسحل في قهوة، ولا اتحشر تحت عربية في ورشة، ولا يطلع عيني في فرن، واتحمل غلاسة ده ورزالة ده كأني بشحت منهم!˝
في هذه اللحظة، دخل والده، محمود، رجل خمسيني، آثار التعب والحياة القاسية واضحة على وجهه، يرتدي جلبابًا رماديًا قديمًا، ويضع طاقية بيضاء فوق رأسه، فاقترب وجلس على المقعد المقابل له، هزّ رأسه بأسى وقال بنبرة يغلفها العجز: ˝ماهو ده حال الشباب كلها يا ابني، ما فيش غير القليل، هنعمل إيه يعني؟ ما باليد حيلة، يا سليم.˝
أطرق سليم برأسه، وابتلع مرارة الواقع، ثم قال بصوت خافت يشوبه الإحباط:
˝والله يا أبا تعبت والعمر بيجري! لا عارف اشتغل وأساعدك ولا حتى عارف أكفي نفسي!˝
وضعت نادية يدها على كتف ابنها بحنان، كأنها تحاول أن تخفف عنه ثقل همومه، لكنها لم تجد كلمات تشفي وجعه سوى تساؤلها العاجز:
˝وفي إيدنا إيه بس يا حبيبي نعمله؟ ما فيش غير إننا ندعيلك ربنا يرزقك، بس أنت كمان خليك صابر.˝
رفع سليم رأسه، واتخذ قراره، فقد كان الشعور بالضياع أشد عليه من أي مخاطر قد تواجهه، فقال بصوت جاد:
˝بفكر أسافر يا أمه... الواد عمر ابن عم إبراهيم هيسافر إيطاليا، في واحد اسمه راغب جاب له عقد وهيسفره، بس هياخد منه 100 ألف جنيه!˝
سكت للحظة، ثم تابع بنبرة أكثر إصرارًا:
˝هكلمه يمكن يجيب لي عقد أنا كمان.˝
نظر إليه والده باندهاش، واتكأ إلى الوراء مفكرًا، قبل أن يرد مستنكرًا:
˝يااااه! 100 ألف جنيه؟! ده مبلغ كبير أوي يا سليم، هتجيبه منين بس يا ابني؟˝
عقد سليم حاجبيه، وأخذ يفكر في طريقة لإقناع ذلك الرجل
ثم قال محاولًا طمأنة والده: ˝أنا هحاول أقنع اللي اسمه راغب ده، إنه ياخد مني أي مبلغ دلوقتي، والباقي أبعته له لما أسافر واشتغل، يمكن يوافق، يا أبا!˝
نظر محمود إلى سليم نظرة تحمل ثقل السنين، يعلم أنه لا يملك المال، ولا يملك حتى وعدًا بأن الأمور ستكون بخير، لكنه لا يستطيع أيضًا كسر جناحه وتحطيم آماله.
أما نادية، لم تكن سعيدة بهذا القرار، لكنها لم تجد في قلبها القوة لتثنيه عنه، فالحياة ضاقت عليه، وعيناه كانت تحملان رجاءً يوجع قلبها، فقالت بنبرة مستسلمة لكنها مليئة بالدعاء: ˝خلاص يا حبيبي، اتوكل على الله، شوف عمر، خليه ياخدك للراجل ده، وربنا يكتب لك الخير يا ضنايا.˝
تأثر سليم بدعم والدته، ثم أقترب منها وأمسك يدها قبّلها بحب، وتمتم بصوت يملؤه الرجاء:
˝يا رب، يا أمه، ادعي لي أنتِ بس.˝
وفي تلك الليلة، ظل سليم مستلقيًا على سريره، يحدق في السقف بعينين مثقلتين بالأفكار، وقلبه ينبض بعنف بين الحماسة والقلق، كان عقله يطوف بين احتمالات المستقبل، بين الطريق الذي يستعد لخوضه والغد الذي يلوح أمامه كضباب لا يكشف عن مكنونه، هل ستكون هذه الفرصة طوق نجاته، أم مجرد وهم يقوده إلى معاناة لا يدري مداها؟ لم يكن متأكدًا مما يخبئه له القدر، لكنه كان يعلم يقينًا شيئًا واحدًا... لم يعد بإمكانه البقاء هنا أكثر من ذلك.
______________________
في المقهى
في اليوم التالي، وكما جرت العادة، التقيا سليم وسالم بعد ساعات طويلة من التجوّل في الشوارع بحثًا عن فرصة عمل، لم يكن الهدف منها وظيفة مستقرة بقدر ما كان محاولة لتوفير ما يكفي لجلسة المساء في المقهى، حيث يقتلان الوقت بين لُعبة النّرد وأحاديث عابرة عن المستقبل الذي بدا بعيد المنال، جلسا إلى طاولتهما المعتادة، وأمامهما أكواب الشاي التي بدأ سطحها يبرد، بينما يملآن الجو بأنفاس ثقيلة، مزيج من الإرهاق والأمل الخافت، حيث تصاعد الدخان في الهواء مختلطًا بأصوات الباعة في الخارج وضجيج الحياة الرتيبة.
تنهد سالم، وأسند مرفقه على الطاولة وهو يحرّك الملعقة داخل كوبه، ينظر إلى سليم بنظرة جانبية قبل أن يقول بصوت خافت لكنه مشحون بالتردد:
˝أسكت يا سليم، بقول لأبويا عن كلامك ع السفر، وعن الراجل اللي اسمه راغب ده.˝
اعتدل سليم في جلسته على الفور، وكأن الكلمات قد نبهته من سباته، تسللت الحماسة إلى ملامحه وهو يسأل بترقب:
˝وبعدين؟ قالك إيه؟ وافق، مش كده؟˝
لم يرد سالم بسرعة، لكنه أدار الملعقة ببطء داخل الكوب قبل أن يضعها على الطاولة وهو يرمي حجر النرد:
˝أبويا ما عندوش اعتراض على السفر.. بس مش مع الراجل ده، قال لي أقدم تبع الحكومة.˝
انعقد حاجبا سليم، ونقر بأصابعه على الطاولة بإيقاع سريع ينمّ عن ضيقه:
˝يا عم، هى الحكومة بتسفّر حد الأيام دي؟˝
رفع سالم كتفيه وهو يرد بنبرة حاول أن تبدو مقنعة:
˝أيوه يا ابني، تبع وزارة القوى العاملة والهجرة، بندخل بياناتنا على النت، ونتابع لغاية ما ربنا يكرم.˝
قهقه سليم ضاحكًا وهو يلوّح بيده في الهواء:
˝ده انت رايق يا عم سالم! يوم الحكومة بسنة يا ابني، هو انت فاكر هتقدم النهارده وتسافر بكرة؟˝
هزّ سالم رأسه وارتشف رشفة صغيرة من الشاي قبل أن يرد بصبر نافذ:
˝هو احنا ورانا إيه يعني؟ أهى كده قعدة وكده قعدة، على الأقل يبقى في حاجة تشغل تفكيرنا بدل الفراغ اللي إحنا فيه ده.˝
لم يكن سليم من النوع الذي يحتمل فكرة الانتظار، زفر بحدة وهو يسحب سيجارة من علبته ويشعلها، ثم قال وهو ينفث الدخان ببطء:
˝لا يا عم، أنا ما عنديش طولة بال زيك، أنا هروح أشوف عمر يوصّلني براغب، وإن شاء الله أسافر عن طريقه.˝
قطب سالم جبينه، وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يراقب سليم بصمت لثوانٍ قبل أن يقول بنبرة مشوبة بالقلق:
˝يا ابني، اسمع مني، خليك في السليم وتعالى نقدّم تبع الحكومة أحسن، وسيبك من الراجل ده! ده على رأي أبويا، شكله واخدها تجارة وبيتاجر في الموت!˝
ضحك سليم بسخرية، وأطفأ سيجارته قبل أن يميل للأمام، مستندًا بكوعيه إلى الطاولة وهو يهمس بمكر:
˝لا يا سيدي، خليك انت في طريقك السليم ياخويا، وسيبني أنا للطريق السريع! يا ابني، ده أنا هسافر وأشتغل وأكسب، وهارجع كمان أجازة، وتكون انت لسه ما سافرتش، ولا حتى الحكومة ردّت عليك!˝
شعر سالم بوخزة في صدره، لكنه أبعدها سريعًا، يعلم أن صديقه عنيد ولا يسمع إلا ما يريد، ومع ذلك لم يستسلم، مال نحوه محاولًا إقناعه للمرة الأخيرة:
˝يا ابني اسمع مني.. سيبك من الطريق ده عشان ما تندمش في الآخر.˝
لكن سليم كان قد حسم أمره، ضرب الطاولة بكفه وهو يقول بإصرار:
˝اسمعني انت يا سالم، خليك معايا ونسافر سوا يا ابني، أسهل وأسرع!˝
هزّ سالم رأسه ببطء، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها قلقًا دفينًا:
˝لا يا عم، خليك انت في طريقك السريع، وسيبني أنا في الطريق المضمون، ده على رأي أمي، بتقول دايمًا: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.˝
ساد الصمت للحظات بينهما، قبل أن يميل كل منهما إلى الخلف، كل واحد منهما غارق في أفكاره الخاصة، وهكذا، في تلك الليلة، خرج كلٌ منهما من المقهى وقد حسم أمره، غير مدركين أن قراراتهما تلك ستحمل لهما مصائر لم يكن أيٌ منهما يتوقعها.
_____________________
في بيت سالم
عاد سالم إلى منزله وجلس مع والده ليخبره بقراره بالتقديم على السفر إلى إيطاليا عبر موقع وزارة الهجرة على الإنترنت، كان يشعر بمزيج من الحماس والقلق، فهذه الخطوة قد تكون بداية جديدة لحياته، لكنها في الوقت ذاته مجهولة المصير.
رفع حسن رأسه ببطء، حدَّق في ابنه للحظات، ثم قال بصوت هادئ، لكنه يحمل الكثير من التساؤلات:
˝طيب يا ابني، كويس... بس عرفت إيه الأوراق المطلوبة عشان تعرف تقدِّم؟˝
عدل سالم جلسته، وأراح كفيه على ركبتيه، ثم أجاب بثقة:
˝حاليًا مش مطلوب غير إنِّي أدخل بياناتي الشخصية على الموقع الإلكتروني، وأحدِّد موقفي من الجيش، وأكتب رقم جواز السفر، وبعدها هستنى لحد ما يردوا عليا.˝
هزَّ حسن رأسه بتفهُّم، ثم قال بنبرة مشجعة:
˝وماله، قدِّم يا ابني، وربنا يوفقك... واللي رايده ربك هيكون إن شاء الله.˝
شعر سالم براحة غريبة تغمره، رغم التوتر الذي لم يفارقه، لكنه كان بحاجة لدعم والده أكثر من أي شيء آخر، نظر إليه بعينين ممتلئتين بالامتنان، ثم قال:
˝ادعيلي يا أبو سالم.˝
وضع حسن يده على كتف ابنه وربَّت عليه بحنان، ثم قال بصوته العميق الذي اعتاد سالم أن يستمد منه الطمأنينة:
˝داعيلك يا بني، وراضي عنك... ربنا يوفقك يا حبيبي.˝
لم يتردد سالم في الانحناء ليقبِّل يد والده بحب واحترام، وقال بحرارة:
˝ربنا يبارك لنا فيك يا حج، وما يحرمناش منك ولا من دعواتك ورضاك علينا.˝
بينما كان المشهد يسوده جو من الألفة، خرجت هنادي من المطبخ وعينيها تحملان قلق الأمهات المعتاد:
˝بس يا بني، إنت ما عندكش باسبور، هتقدِّم إزاي؟˝
ضحك سالم بخفة، محاولًا طمأنتها، وقال بثقة:
˝ما تقلقيش يا ست الكل، إن شاء الله بكرة الصبح هروح إدارة الجوازات وأطلع الباسبور وأقدِّم بيه... بس إنتِ ادعيلي، وهتفرج بإذن الله.˝
رفعت هنادي كفيها بالدعاء وهي ترد بحماس:
˝دعيالك يا بني، يسعدك، ويجعل في وشك القبول، ويفتح لك كل باب مقفول، ويهدي عليك خلقه ببركة ربنا وبركة الصلاة على الرسول... عليه أفضل الصلاة والسلام.˝
أغمض سالم عينيه للحظة، مستشعرًا بركة دعائها، ثم قال بابتسامة خاشعة:
˝الله.. يا أم سالم، أحلى دعوة.. ربنا يقبل منك يا رب، اللهم آمين.˝
نظرت هنادي إلى حسن بنظرة جانبية ماكرة، ثم قالت وهي تخفي ابتسامتها:
˝اسكت يا حسن، مش إبراهيم وعياله جايين يوم الجمعة وهياخدوا يومين عندنا.˝
انتبه حسن لما قالته زوجته، فأدار رأسه نحوها ببطء ثم قال متسائلًا وهو ينقل نظراته إلى سالم:
˝بجد؟ طيب كويس إنك قولتي، عشان نعمل حسابنا... بس يا ترى هناء جاية معاهم ولا إيه؟˝
ضحكت هنادي بخبث، وردَّت بحزم مصطنع:
˝أنا ياخويا شرطت عليه ما يجيش من غير حبيبة عمتها.˝
جلس سالم يستمع الى حديث والديه، لكن عقله كان في مكان آخر... لم يكن بحاجة إلى سماع اسمها، فهو محفور في أعماقه... تلك الفتاة التي سكنت قلبه دون إذن، وأصبحت روحه لا تعرف الطمأنينة إلا بها، لكنها كانت أيضًا الحلم البعيد، الأمنية العالقة بين ضيق الحال وقلة الفرص، الحلم الذي يخشى أن يضيع منه كما ضاع غيره،
عندما جاء ذكرها، تجمدت أنفاسه في صدره، كأن الزمن توقف للحظة، حاول أن يخفي اضطرابه، خفض رأسه ببطء، شبك أصابعه ببعضها بقوة، كأنه يحاول أن يتمسك بشيء وسط الفراغ الذي يحاصره، لكن عقله لم يرحمه، كان يعيد عليه ذات الحقيقة القاسية: لا يملك ما يكفي ليطلبها... لا يملك سوى قلبه، وهل القلب وحده يكفي؟
تنهيدة طويلة أفلتت منه، وكأنها تحمل كل الخذلان، كل الانتظار، كل الأحلام التي كاد يفقدها، رفع رأسه قليلًا، نظر إلى الفراغ أمامه وكأنه يرى مستقبلًا مجهولًا، ثم همس، بصوت لم يكن سوى وعد قطعه لنفسه:
˝هانت يا هناء... إن شاء الله ربنا يوفقني، وأول حاجة هعملها... هطلب إيدك.˝
____________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل بخطوات ثقيلة، ألقى بجسده على الأريكة، حدّق في السقف بشرود، ثم زفر بضيق لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، هذه الحياة تُخنقه، والفرص هنا تبدو وكأنها تنكمش يومًا بعد يوم حتى تكاد تختفي، مدّ يده إلى هاتفه واتصل بصديقه عمر، لعلّه يكون مفتاحه للخروج من هذا القفص:
˝ألو، عمر... عامل إيه؟˝
عمر بلهجة مرحة:
˝سليم! حبيب قلبي فينك مختفي ليه؟ وعامل ايه؟˝
سليم بصوت يحمل ضيقًا: ˝الحمد لله يا عمر، بس زهقت من قلة الشغل! بقولك إيه، ما توصّلني بالراجل اللي اسمه راغب ده؟ أنا عايز أسافر إيطاليا، أشتغل بدل القعدة اللي مالهاش آخر دي!˝
عمر:
˝تمام ياعم، وماله! أنا أصلًا رايح له كمان ساعة، تعال معايا ونكلمه عليك.˝
سليم بحماس ممزوج بالقلق: ˝تمام، يا عمور، ساعة زمن وتلاقيني عندك، يلا سلام!˝
أغلق الهاتف، لكنه ظلّ جالسًا للحظات، وكأن جسده لم يستوعب بعد أنه قد يجد فرصة حقيقية للخروج من هذا الواقع الكئيب، نهض فجأة، وكأن نارًا اشتعلت داخله، وقام بتغيير ملابسه بسرعة قبل أن يغادر، يتشبث بهذا الأمل الذي قد يكون الأخير.
في مكتب راغب
عندما دخل سليم مع عمر إلى مكتب راغب، شعر بشيء غريب، وكأن المكان نفسه ينبض بالخطر، كانت الغرفة فسيحة لكنها كئيبة، أضواؤها خافتة، وجدرانها بلون رمادي قاتم، مكتب ضخم يتوسطها، مصنوع من خشب ثقيل، تعلوه طبقة زجاجية تعكس الإضاءة الصفراء المتدلية من السقف.
خلف المكتب، جلس راغب متكئًا على كرسي جلدي أسود، ساقه فوق الأخرى، يلفّ سيجارًا ببطء بين أصابعه، رجل في منتصف الأربعينات، بشرته داكنة كأنما احترقت من شمس الصحارى، عيناه ضيقتان، تلمعان بمكر واضح، وكأنهما تزنان كل من يقف أمامه، تقرران إن كان يستحق الثقة... أو الاستغلال.
على جانبي المكتب، وقف رجلان ضخمان، بذراعين معقودتين أمام صدورهما، ملامحهما جامدة كأنهما تماثيل، لكن نظراتهما تقول إنهما جاهزان للتحرك في أي لحظة.
أقترب عمر بابتسامة حذرة وهو يمدّ يده لمصافحته:
˝مساء الخير يا راغب بيه.˝
راغب دون أن يتحرك:
˝ أهلا يا عمر، اتفضل.˝
جلس عمر، بينما بقي سليم واقفًا للحظات قبل أن يلحق به.
أخرج عمر ظرفًا مغلقًا، وضعه بهدوء أمام راغب:
˝جبت لك الفلوس والورق اللي طلبته مني، اتفضل.˝
أخذ راغب الظرف، فتحه ببطء، أخرج الأوراق، قلّبها بعينيه السريعتين، ثم أومأ برأسه برضا، قبل أن يدسّها في درج مكتبه قائلا ببرود:
˝تمام يا عمر، كده كل حاجة جاهزة، فاضل بس تعرف ميعاد السفر.˝
عمر بتردد واضح: ˝طيب يا راغب بيه... عندي طلب صغير.˝
رفع راغب حاجبًا واحدًا، وأشعل سيجاره أخيرًا، سحب نفسًا عميقًا، ثم نفث الدخان ببطء، وكأن صبره محدود:
˝خير يا عمر؟˝
عمر مشيرًا إلى سليم:
˝أخويا وصاحبي سليم عايز يسافر، بس ظروفه ع القد وطمعان فـ كرم حضرتك.˝
توجهت نظرات راغب إلى سليم مباشرة، حدّق فيه كالصياد الذي يقيّم فريسته، ثم قال ببرود: ˝أنت عارف النظام، يا عمر.˝
سليم بصوت يائس متوسلاً: ˝أرجوك يا بيه، ظروفي صعبة، مقدرش أدبر المبلغ كله دلوقتي.˝
راغب بابتسامة جانبية ساخرة: ˝وتقدر تدبر قد إيه؟˝
سليم بتردد: ˝يعني... لو نص المبلغ حتى؟ والباقي لما أسافر إن شاء الله هبقى أبعته لك.˝
ساد الصمت للحظات، تبادل راغب النظرات مع أحد رجاله الواقفين بجواره، ثم مال للأمام، واضعًا مرفقيه على المكتب، وهو يحدّق في سليم وكأنه يستطيع أن يرى من خلاله، ببطء شديد:
˝عشان خاطر عمر بس، هقبل بنص المبلغ، لكن متتأخرش عليا في الباقي، فاهمني؟˝
شعر سليم بقشعريرة تسري في عموده الفقري، لكنه أخفى ارتجافة يده وهو يمدها نحو راغب ليصافحه، بامتنان وسعادة مشوبة بالحذر:
˝فاهم، فاهم، شكرًا يا بيه، وصدقني مش هتأخر عليك، اول ما اشتغل هبعتلك الباقي ع طول.˝
راغب بابتسامة غامضة:
˝يبقى هات لي باسبورك وصورة بطاقتك، ومتقلقش... هتسافر.˝
أنهى سليم مقابلته وهمَّ بالانصراف، لكنه فجأة شعر بوخزة غامضة في صدره، كأن شيئًا ما يحاول تحذيره، توقّف للحظة عند الباب، ألقى نظرة خاطفة على راغب الجالس خلف مكتبه، بعينين تخفيان أكثر مما تُظهران، لم يستطع تفسير ذلك الشعور الثقيل الذي اجتاحه، لكنه كان أشبه بتنبيه خفي... كأن الاتفاق الذي أبرمه لم يكن كما يبدو، وكأن الثمن الذي سيدفعه قد يكون أكثر مما توقع، لكنه تجاهل هذا الشعور، مرددًا في داخله أنها مجرد اوهام.
في مصلحة الجوازات
في صباح اليوم التالي، وقف سليم أمام إدارة الجوازات، يتأمل ذلك المبنى العتيق الذي شهد آلاف الأحلام المعلّقة، أخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستعد لعبور بوابة القدر، ثم تقدم بخطوات ثابتة، كأن كل خطوة تقرّبه أكثر من مستقبله المجهول.
داخل المصلحة، لمح سالم وسط الزحام، وكأن القدر شاء أن يجمعهما مرة أخرى، كرفيقين في رحلة محفوفة بالمجهول، تبادلا نظرات صامتة، تفهّما منها ما لم تقله الكلمات، كأنهما يعلمان أن الطريق الذي يسلكانه لن يكون سهلًا، لكنه الخيار الوحيد المتاح... خيار لم يعد بإمكانهما التراجع عنه.
بعد ساعات من الانتظار، خرج سليم وهو يمسك بجواز سفره الجديد، تأمله طويلًا، ضغط عليه بقوة، وكأنه يخشى أن يستيقظ ليجد أنه كان مجرد حلم.
______________________
في بيت سالم
عندما استلم سالم جواز سفره، شعر بثقل غريب في يديه، وكأن هذه الوثيقة الصغيرة تحمل كل مستقبله، لم يكن هناك وقت للتردد، فسارع بتقديم طلبه للسفر عبر وزارة الهجرة، مترقبًا الرد بين الأمل والقلق، ومرت الأيام كأنها دهور، حتى جاءه الخبر الذي انتظره بشغف... تمت الموافقة على سفره، وحدّدوا له موعد الرحيل، لم يضيع لحظة واحدة، بدأ بحزم أمتعته، كل قطعة ملابس كان يطويها، كانت تحمل معها ذكرى من ذكرياته، كل طية تخبئ بين ثناياها جزءًا من حياته التي يوشك على تركها وراءه، الغرفة التي احتضنته منذ طفولته، صوت أمه تناديه من المطبخ، رائحة أبيه بعد عودته من العمل… كلها أشياء لم يكن يدرك قيمتها إلا الآن، وقف عند الباب، ليجد أمه تنظر إليه، ودموعها تتلألأ في عينيها، تحاول أن تتماسك لكنها تفشل، وبنبرة بصوت مرتعش: ˝خلاص يا ابني نويت؟˝
ابتلع سالم غصته، وحاول أن يبدو ثابتًا، لكنه لم يستطع منع صوته من أن يخرج دافئًا مشحونًا بالمشاعر:
˝ادعيلي يا أمي… إن شاء الله، بدعواتك ربنا يفتحها عليَّ، وأقدر أعوضك إنتي وأبويا عن كل سنين التعب والشقى اللي عشتوها˝.
أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تحاول أن تملأ رئتيها بوجوده قبل أن يغادر وبنبرة رضا:
˝دعيالك يا بني… قلبي وربي راضين عنك، يا نور عيني˝.
تردد سالم للحظة، ثم نظر إليها نظرة حاسمة، وكأن هذا القرار الذي اتخذه لم يكن كاملًا دون أن يخبرها بابتسامة خافتة: ˝يسلملى دعاكي يا أمي، ان شاء الله أول ما أظبط أموري هناك، هبعتلك تكلمي خالي... عشان هناء˝.
اتسعت عيناها، رغم الدموع التي لم تجف بعد، وكأن قلبها وجد عزاءه وسط هذا الوداع بصوت يحمل رجاءً وفرحة خجولة: فرحتني يا بني بالخبر الحلو ده، سافر يا نور عيني ولما ترجع بالسلامة ان شاء الله، مجبور الخاطر، هكون كلمت خالك، وتتجوزوا على طول.
أمسك وجه أمه بين يديه بحنان، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنما يحاول نقشها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة طويلة فوق جبينها، يُشبع روحه برائحتها الدافئة، يستنشقها وكأنه يُخزّن أنفاسها في صدره ليتزود بها في غربته، ثم، بانحناءة مُفعمة بالاحترام والحب، أمسك يدها بين راحتيه، وقبّلها ببطء، وكأنه يبث فيها آخر جزء من روحه قبل أن يرحل، يترك فيها أثره الذي لن يمحوه الزمن، يهمس في صمت بأنه سيعود، ولو بعد حين، ثم اتجه إلى والده، صافحه بقوة، وكأنما يحاول أن ينقل إليه شجاعته، لكن الأب لم يكتفِ بذلك، بل جذبه نحوه في احتضان دافئ، احتضان رجل يحاول إخفاء مشاعره بصعوبة، لكنه فشل أمام لحظة الوداع، شعر بقوة ذراعي والده التي تحمل في طياتها خوفًا خفيًا، دعوات غير منطوقة، ووصايا كثيرة لم تجد طريقها إلى الكلمات، ربّت الأب على كتفه بقوة، كأنه يخبره دون أن ينطق: ˝كن قويًا، لا تنسَ من أنت، ولا تنسَ أننا في انتظارك.˝
حمل سالم حقيبته، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم استدار نحو الباب، لم يلتفت خلفه مرة أخرى، فلم يكن قادرًا على ذلك، خرج مسرعًا إلى العالم المجهول، إلى الرحلة التي لا يعلم ما تخبئه له، لكنه سار بخطوات ثابتة، وعلى شفتيه دعاء واحد، وهو أن يعود مجبور الخاطر.
______________________
في بيت سليم
وقف سليم أمام والده بعد أن تسلّم جواز سفره، عيناه تحملان امتنانًا لا تسعه الكلمات، الرجل الذي ضحّى بكل ما يملك، باع الأرض التي أفنى عمره في زراعتها، فقط ليمنحه فرصة لحياةٍ أفضل.
نظر محمود إلى ابنه بعينين مُثقلتين بالهموم، وبصوتٍ متهدج محمل بالرجاء:
˝يا سليم، يا ابني، أنا بِعت لك قيراط الأرض اللي كنت شايله للزمن، عشان جهاز إخواتك البنات... أوعى تنسانا لما تسافر، إحنا ما لناش غيرك بعد ربنا يا ابني.˝
شعر سليم بوخز الألم في صدره، لكنه تماسك، وضع يده فوق يد والده، وضغط عليها مطمئنًا:
˝صدقني يا أبا، كل ده عشانكم، عشان نعيش كويس ونبقى مرتاحين.˝
لكن الكلمات وحدها لم تكن كافية لطمأنة قلب أمّه، التي ظلت تراقبه بعينين دامعتين، خوفها لم يكن مجرد قلق أم على ابنها المسافر، بل إحساس داخلي يشبه الفقد، تقدمت نحوه، وضعت يدها فوق صدره، وكأنها تحاول أن تحفظ دفء وجوده قبل أن يختفي، وبقبضة قلب أمّ تخشى الفقد:
˝ربنا يوسع عليك يا ابني، ويرزقك بالرزق الحلال، ويردّك لنا سالم غانم.˝
مدّ يده ليقبّل يدها، لكنه لم يستطع منع نفسه من احتضانها، غاص في دفئها للحظة، وكأن رائحتها كانت آخر خيط يربطه بهذا المكان، وبصوتٍ مختنق:
˝تسلميلي يا أما... ويسلملي دعاكي، هو اللي هيسندني في الغُربة.˝
بعدها، خرج سليم متجهًا إلى مكتب راغب، يحمل بين يديه ثمن الأرض، ثمن أحلام عائلته المعلقة على أمل سفره، حيث وضع مصيره بين يدي رجلٍ يعرف تمامًا كيف يستغل حاجات الناس.
أستقبله راغب، بابتسامة جانبية، وكأنه يُحكم قبضته على فريسته، ثم قال بثقة:
˝كدا تمام يا سليم، خلاص، كام يوم وهتكون مسافر، جهّز شنطتك، وهكلمك وقت التحرك.˝
سليم بثقة ظاهرية تُخفي قلقه: ˝تشكر يا راغب بيه، وأول ما تستقرّ أموري، هبعت لك باقي المبلغ.˝
راغب بضحكة باردة، تفضح خبثه:
˝ولا يهمك.. المهم توصل بالسلامة الأول.˝
غادر سليم المكتب، شعر أن الهواء من حوله بدا أثقل، كأن المدينة بأكملها تحاول منعه من الرحيل، لكنه تجاهل كل شيء، وعاد إلى بيته ليحزم أمتعته.
وفي الليلة التي سبقت الرحيل، جلس سليم وسط حقيبته المفتوحة، عيناه تجولان في أركان البيت الذي نشأ فيه، البيت الذي لم يكن يومًا واسعًا لكنه كان دافئًا... ترى، هل سيعود إليه يومًا؟
وفي الصباح، وقف أمام عتبة البيت، يحمل حقيبته بيديه، وقلبه بين يديّ أهله، والده تقدّم نحوه، وضع يده على كتفه، ثم جذب رأسه ليُقبّل جبينه بحنان الأب الذي يخشى أن لا يحتضن ابنه ثانيةً وبصوتٍ مكسور، يثبّت نظره في وجه ابنه وكأنه يريد أن يحفره في ذاكرته: ˝تروح وترجع بالسلامة، يا سليم.˝
لم يستطع سليم الردّ، فقط هزّ رأسه، ثم التفت إلى والدته، التي لم تعد قادرة على كبح دموعها، أمسكت بكفّه، شدّت عليه كأنها تحاول منعه من الذهاب بلهفة مخنوقة:
˝أمانة يا ضناي، لما توصل تطمني عليك.. ما تسيبنيش بالي مشغول.˝
ضمّ وجهها بين راحتيه برفق، كأنما يحاول أن يحفظ ملامحها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، قبل أن ينحني ويودع كفّها بقبلة امتزجت بحزن صامت، وكأنه يترك معها آخر نبض من قلبه قبل أن يمضي، ثم استدار، ليخطو خطواته الأولى مبتعدًا، لكن قدميه كانت ثقيلة، وكأن الأرض ترفض أن تتركه يذهب، قبل أن يختفي، ألقى نظرة أخيرة، فوجد والدته تبكي بصمت، ووالده ينظر إليه بعينين جامدتين، لكنه كان يعرف أنه يكتم دموعه بالقوة.
تجاهل سليم إحساسًا جاثمًا فوق صدره يخبره أن هذه قد تكون المرة الأخيرة التي يراهم فيها، ثم مضى في طريقه إلى النقطة التي حدّدها له راغب، حيث سينتظر هو ومجموعة أخرى، استعدادًا للرحلة التي لا يعلم هل ستكون طريقًا إلى المستقبل.. أم طريقًا بلا عودة.
انطلق كلٌّ من سالم وسليم في طريقهما نحو الهجرة، لكن شتّان بين الطريقين…
سالم سار في طريقٍ قانونيٍّ آمن، خطّط له بعناية، تحمل فيه مشقة الغربة لكنه حمل معه الأمل، أما سليم فاختار طريقًا محفوفًا بالمخاطر، طريقًا رسمه الطمع واستعجال الحلم، دون أن يدرك أنه قد يكون بلا عودة.
كلاهما حمل حقيبته، غادر وطنه، ترك خلفه أهلاً وأحبة، لكن أحدهما سار بخطوات ثابتة فوق أرض صلبة، بينما الآخر كان يسير فوق مياهٍ مضطربة، لا يعلم إن كانت ستوصله إلى برّ الأمان أم ستبتلعه إلى الأبد.
وصل سالم أخيرًا إلى وجهته، بعد رحلة طويلة حملت بين طياتها القلق والتوتر، لكنه ما إن وطأت قدماه الأرض الجديدة حتى شعر وكأنه يعبر إلى عالم مختلف تمامًا، الهواء مختلف، المدينة تعج بالحياة، والفرص تبدو وكأنها تنتظره ليقتنصها،
استلم عمله وبدأ يتأقلم شيئًا فشيئًا، رغم الحنين الذي كان يعتصر قلبه كل ليلة، إلا أن عزيمته كانت أقوى من أن يتراجع، كان يدرك أن عليه أن يصمد، أن يواجه العواصف بكل ما أوتي من قوة، أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه ليس ضعيفاً، أنه قادر ع أجتياز المحنة وتحمل مشقّات الغربة وتحقيق أحلامه.
فكان أول ما فعله بعد استقراره هو الاتصال بوالدته، صوتها المشتاق ملأ أذنيه قبل أن تنطق بكلمة واحدة وبابتسامة مطمئنة:
˝أنا بخير يا أمي، الحمد لله وصلت واستلمت الشغل، الأمور بتتحسن يومً بعد يوم، ما تقلقيش˝.
كان يعلم أنها لن تكف عن القلق مهما حاول طمأنتها، لكنها مع ذلك شعرت ببعض الراحة لسماع صوته، أما والده، فلم يكن من الرجال الذين يعبرون عن مشاعرهم بالكلمات، لكنه في تلك اللحظة، وبعد أن استلم الهاتف من زوجته، اكتفى بجملة واحدة حملت في طياتها كل شيء:
˝خليك على العهد، وافتكر إن إحنا مستنيينك.˝
أغلق سالم الهاتف، ثم نظر من نافذته إلى الشوارع المزدحمة أسفل المبنى حيث يقف، هنا، يبدأ مستقبله.. لكنه في أعماقه يعلم أن قلبه ما زال هناك، في وطنه، حيث ينتظره من يحبونه.
أما سليم عندما وطأت قدماه سطح المركب، أدرك سريعًا أنه في مأزق لا خروج منه، المركب كان مزدحمًا فوق طاقته، يتأرجح تحت ثقل الأجساد المتكدسة والحمولة الزائدة، لكن العودة لم تكن خيارًا، والخوف لم يكن رفاهية مسموحة، حاول إقناع نفسه بأن الأمور ستسير على ما يرام، رغم أن كل شيء من حوله كان يصرخ بالعكس،
الأمواج العاتية، الهواء المالح الذي يلسع وجهه، والوجوه الشاحبة من حوله كانت شاهدة على رحلة محفوفة بالمجهول، لم يكن يدرك أن الأسوأ لم يأتِ بعد، عند اقتراب المركب من الحدود الإيطالية، وقف رجال راغب أمامهم بوجوه خالية من الرحمة، يلقون الأوامر كما لو كانوا يطردون حمولة زائدة بلا قيمة، فأشار أحد الرجال بحدة إلى القارب الصغير المتأرجح وسط الأمواج، ثم التفت إلى سالم ومن معه، يعلن بصوت صارم أن عليهم النزول في هذا المكان، لم يكن هناك مجال للاعتراض، فمصيرهم بات معلقًا على أمواج البحر، من يصل إلى الشاطئ فقد كتب له النجاة، ومن تبتلعه المياه فلن يكون سوى رقم جديد في قائمة المفقودين.
تسارعت أنفاس سليم، وارتفع صوته وهو يحدّق في الرجل أمامه بعينين ممتلئتين بالذهول والذعر. جسده ارتجف رغم حرارة الموقف، وكأن صقيع البحر تسلل إلى عظامه قبل أن يلامس مياهه. خطا خطوة للأمام، يلوّح بذراعيه بانفعال، قبل أن يهتف بصوت مختنق:
˝إزاي يعني ننط فـ عرض البحر؟! دا كدا انتحار!˝
أجابه الرجل ببرود قاتل:
˝دي الأوامر.. هو كدا النظام! ويلا بقى متعطلناش، خلينا نرجع نجيب الفوج اللي بعدكم.˝
تجمّد سليم للحظة، نظراته تائهة بين البحر الواسع والقارب المهترئ، وبين الرجال المسلحين الذين لا مجال لمناقشتهم، شعر أن الموت يُحدّق به من كل جانب، لكن لم يكن أمامه سوى الامتثال، استسلم للأمر الواقع، ونزل كما نزل الآخرون، رغم أن صوته الداخلي كان يصرخ: كان لازم تسمع كلام سالم.. كان لازم تفهم أن راغب بيتاجر في الموت!
قلبه يخفق بقوة، وكأن ضلوعه تضيق على روحه، وعقله يرفض استيعاب المصير الذي يُدفع إليه قسرًا، كان الندم ينهش قلبه كلما تذكر كلمة صديقه، لكنه لم يعد يجدي نفعًا الآن، عليه أن يقاتل من أجل حياته، أن يتمسك ولو بخيط واهٍ من الأمل، وما إن أبحر القارب الصغير حتى بدأ يتمايل بجنون مع الأمواج الهائجة، وكأن البحر يرفض حملهم، أو ربما كان يعاقبهم على سعيهم خلف الحلم بطريقة خاطئة،
لم تمر سوى لحظات حتى تسللت المياه إلى داخله، باردة كالموت، غادرة كالوهم، تعالت صرخات الركاب، كل منهم يحاول التشبث بالحياة كيفما استطاع، لكن الفوضى كانت أسبق منهم، في غمضة عين، انقلب القارب، وابتلع البحر الجميع في جوفه المظلم.
راح سليم يعافر، يحاول أن يعوم، لكن الرعب شلّ أطرافه، والماء البارد صار كيدٍ جبارة تسحبه إلى القاع، الهواء يضيق في رئتيه، والموج يصفعه بلا رحمة، من حوله أجساد تتخبط، بعضها يستسلم سريعًا، وبعضها ما زال يحاول النجاة، لكنهم جميعًا يعلمون أن المصير واحد.
في تلك اللحظة، لم يكن الموت فكرة بعيدة، ولا احتمالًا مستبعدًا، بل كان حاضرًا أمامه، يحدّق في عينيه بلا هوادة، يقترب منه كما لو أنه يعرفه منذ زمن، أدرك حينها فقط أنه ارتكب أكبر خطأ في حياته، وأن النهاية كانت محتومة منذ اللحظة التي اختار فيها الطريق الخطأ، وعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق وصولًا الى الهدف، لكنه لم يدرك ذلك.. إلا وهو يغرق.
وبذلك عزيزي القارئ،
إن لكل طريق نختاره في الحياة عواقبه الحتمية، فحينما تسير في دربٍ خاطئ، لا تتوقع أن تصل إلى نهاية مختلفة عن الفشل أو الضياع، قد لا يكون الموت دائمًا نهاية جسدية، لكنه قد يكون موتًا من نوع آخر، موت الضمير حين تعتاد الخطأ حتى يصبح جزءًا منك، أو موت الروح حين تفقد ذاتك وسط زحام الندم والخيبات، فتعيش جسدًا بلا معنى، تتنفس لكنك لا تحيا، وعلى النقيض، فإن الطريق المستقيم، وإن بدا أطول أو أكثر صعوبة، هو السبيل الوحيد إلى النجاة، هو الذي يمنحك راحة الضمير، وسكينة القلب، والطمأنينة بأنك لم تظلم أحدًا، ولم تظلم نفسك. فلا تستسهل الطرق الملتوية، فإنها وإن بدت مغرية في البداية، لن تقودك إلا إلى الهاوية.
كما يقولون: ˝امشِ عدل، يحتار عدوك فيك.˝ فالنقاء في المسير هو ما يمنحك القوة، وما يبني لك طريقًا لا تخشاه العثرات.
ما وراء المحيط بقلمي✍️____لبنى دراز
تمت بحمد الله. ❝ ⏤Lobna Draz
لطالما تأملت مياه البحر الواسعة، وهي تمتد بلا نهاية، تلامس المحيط وكأنها تهمس بأسرارها.
تُرى، ماذا يكمن خلفها؟ هل هو الحلم المنتظر أم الكابوس المجهول؟ النجاة أم الضياع؟
في أحد الأحياء الشعبية، حيث تختلط رائحة الخبز الطازج المتصاعد من أحد المخابز بدخان المقاهي المتناثر في الهواء، وحيث الأزقة الضيقة تضج بأصوات الباعة الجائلين. على إحدى الطاولات الخشبية المهترئة داخل مقهى بسيط، الأضواء الخافتة تتراقص على وجوه الجالسين، وأحاديث الرجال تتشابك مع صوت المذياع الذي يصدح بأغنية قديمة، جلس الصديقان، سالم شابًا في منتصف العشرينيات، طويل القامة نسبيًا، بجسد نحيل لكن متماسك، كأن الحياة صقلته رغم قسوتها، وجهه ليّن الملامح، عيناه السوداوان تحملان مزيجًا من الحلم والضياع، كأنهما تبحثان عن مخرج من دوامة الفقر والقيود التي تحاصره، أما سليم، فكان شابًا في منتصف العشرينيات أيضًا، نحيل الجسد لكنه قوي الملامح، يحمل وجهه ندوب التعب وأشعة أمل خجولة كأنه إنعكاس لسنوات عمره التي تناثرت في الورش والمخابز، محاولًا شق طريقه وسط قسوة الحياة، وهما يحملان بداخلهما همومًا لاتنتهي وأحلامًا لا تحصى لا يعلمان كيف يحققونها، ظلا يتسامران سويًا عما يدور بخلدهما.
كان سالم مستندًا إلى كرسيه بإهمال، يحدق في كوب الشاي أمامه وكأنما يبحث في قاعه عن مخرج من الضيق الذي يكبّله، زفر بضيق، ثم ضرب بيده على الطاولة بخشونة وبنبرة مليئة ضيق ومرارة:
˝والله الواحد اتخنق! تعبت من القعدة من غير شغل، وكل يوم أمي تديني مصروفي زي العيال الصغيرة، وانا راجل أطول منها،
والله يا أخي بقيت حاسس إني بشحت منها وانا بمد إيدي أخد المصروف بدل ما أديها.˝
هزّ سليم رأسه بتنهيدة ثقيلة، عاقدًا ذراعيه فوق صدره، وكأن جسده يشارك روحه في التعب، حدّق في الشارع الممتد أمام المقهى، حيث الأطفال يركضون حفاة، والباعة ينادون على بضائعهم بصوت مبحوح، ثم قال بإحباط وبغصة في صوته: ˝ومين سمعك يا سالم؟ أنا لفيت على كل شغلانة ممكن اشتغلها ما خليتش.. مرة في ورشة، مرة في فرن، مرة في محل ملابس، اهو بجيب مصاريفي عشان ما أطلبش من أبويا، بس الفلوس اللي بتيجي ما بتكفيش، كل حاجة بقت نـ*ـار، والعيشة بقت مستحيلة˝
أطرق سالم رأسه قليلًا، ثم رفع عينيه نحو السماء، وكأنما يحاول أن يرى مصيره بين نجومها المتناثرة، تمتم بصوت مملوء بالشوق لحياة لم يعشها بعد وبأمل ممزوج بالخيبة: ˝نفسي أهرب من هنا، أروح أى بلد، إيطاليا، أمريكا، مش فارقة، المهم ألاقي شغل وأبني نَفسي، نِفسي أتجوز هناء بنت خالي، بدل ما هي مربوطة جنبي، لا قادر أتقدملها ولا قادر أسيبها تشوف حالها!˝
نظر إليه سليم نظرة طويلة، وكأنما يزن كلماته قبل أن ينطق بها، ثم قال ببطء، وكأنه يكشف له عن كنز مخفي:
˝تصدق بالله يا سالم؟ تاهت ولقيناها! الواد عمر، ابن عم إبراهيم، كان بيقول إن فيه واحد اسمه راغب، بيسفّر الناس لإيطاليا، بس بياخد 100 ألف جنيه، ويجيبلك عقد شغل مضمون هناك، ده حتى عمر خلاص هيسافر عن طريقه، تعالى نروح له، واهو يا عم تقدر تتجوز بنت خالك اللى مجنناك دي˝
سالم، الذي كان يترنح بين الأمل واليأس، اتسعت عيناه للحظة قبل أن يطلق ضحكة ساخرة، مريرة، كمن سمع نكتة سوداء ثم قال بتهكم وحسرة: ˝هاهاا.. 100 ألف؟! يا عم هو أنا لو معايا المبلغ ده كنت هبقى قاعد ع القهوة أستنى أمي تديني مصروفي؟!˝
لكن سليم لم يفقد حماسه، مال نحوه قليلًا، وكأنما يوسوس له بفكرة قد تقلب حياتهما رأسًا على عقب قائلاً بإصرار:
˝يا ابني اسمع مني، تعالى بس نروح له ونتكلم معاه، يمكن يطلع ابن حلال ويساعدنا.. ممكن ياخد مقدم صغير، والباقي نبقى نبعته لما نسافر ونشتغل!˝
كان عقل سالم يعمل بسرعة، بين المنطق الذي يخبره بأن الأمر مستحيل، والرغبة العارمة التي تجعله يرى أي فرصة كطوق نجاة، لكنه سرعان ما هزّ رأسه بعناد، ثم نهض من كرسيه ودسّ يديه في جيبيه بحسم: ˝لا يا عم، عايز تروح انت، روح، أنا هرجع البيت، أكيد أمي خلصت الغدا، سلام!˝
تابعه سليم بعينيه يشاهده وهو يبتعد وسط زحام الشارع، خطواته ثقيلة، لكنها تحمل في داخلها صراعًا لا يراه أحد، زفر ببطء، ثم أسند رأسه إلى الطاولة، غارقًا في دوامة من الأفكار، ترى.. هل يخاطر بنفسه ويذهب إلى راغب وحده، أم يحاول إقناع سالم مرة أخرى؟
كانت الليلة قد بدأت تسدل ستائرها على الحيّ، أما أحلامهما، فعلى الرغم من ظلام الواقع، كانت تتخبط بحثًا عن شعاع نور في أفق مجهول..
___________________
في بيت سالم
في نفس الحي الشعبي، حيث تتراص البيوت المتجاورة كأنها تشد بعضها بعضًا، وقف سالم أمام باب منزله المتواضع، الذى تتدلى ستائره القماشية فوق مدخله، بينما تعكس جدرانه القديمة حكايات العائلة التي سكنته لعقود، كان المنزل صغيرًا لكنه دافئ، يضم غرفة معيشة بسيطة بها أريكة مهترئة لكنها تحمل دفء العائلة، وطاولة خشبية في المنتصف تتوسط الغرفة وكأنها شاهد على أحاديث الأيام وذكرياتها، في الزاوية، كان هناك تلفاز قديم يعمل بصعوبة، بينما تنبعث من المطبخ رائحة الطعام المنزلي التي تحمل معها إحساسًا بالأمان رغم ضيق الحال، دلف إلى المنزل، لكن عقله ظل عالقًا في حديث سليم، تتصارع داخله الأفكار بين رغبته في الهروب من هذا الواقع الضيق، وخوفه من المجهول الذي ينتظره هناك، خلف البحار.
ما إن دخل حتى استقبلته والدته، هنادي، بلهجتها الحادة المعهودة، لكن بعينين تحملان ألف سؤال وألف قلق، قائلة: ˝طيب أرمى سلام ربنا، ولا داخل كده كأنك داخل على يهود مش مسلمين؟˝
رفع رأسه كأنما استيقظ من شروده، ثم تنهد وهو يخلع حذاءه عند الباب:
˝معلش يا أمي، سامحيني˝
تأملته للحظة، فلاحظت شروده، شحوب وجهه، شيء ما يشغل فكره، اقتربت منه ومسحت على كتفه بحنان:
˝مالك يا ضنايا؟ إيه اللي شاغل بالك؟ مصروفك خلص يا حبيبي مش كده؟˝
هزّ سالم رأسه نافيًا، ثم جلس على الأريكة مطرقًا برأسه: ˝معايا يا حبيبتي، خيرك مغرقني.. بس، تعبت يا أمي من العوزة وقلة الشغل، بصراحة بفكر أسافر برة، يمكن ربنا يكرمني والحال يتبدل.˝
قطبت هنادي حاجبيها، وعقدت يديها أمام صدرها، فبدت عيناها تائهتين، كأنها تحاول استيعاب فكرة سفره، أو تبحث عن طمأنينة مفقودة بين كلماته،
قائلة بنبرة يشوبها القلق والتوجس: ˝وهتلاقي مين بس يسفرك يا ابني؟ ولا هتسافر فين وازاي؟˝
تنهّد سالم وهو يمرر يده في شعره بتوتر، ثم قال بصوت يحمل شيئًا من التردد:
˝مش عارف والله يا أمي، بس سليم بيقول إن عمر ابن عم إبراهيم جارنا هيسافر عن طريق واحد اسمه راغب، رايح إيطاليا.˝
خرج والده من الغرفة المجاورة بعد أن سمع حديثهما، ظل يستمع بصمت، حتى تحدث أخيرًا، بصوت حمل نبرة القلق أكثر من الغضب: ˝وده تبع شركة سياحة يا ابني؟ ولا تبع السفارة؟ ولا إيه بالظبط؟ فهّمني.˝
تردد سالم، ثم قال:
˝بصراحة مش عارف يا بابا، بس سليم بيقول إن الراجل ده بياخد 100 ألف جنيه مقابل العقد والسفر.˝
نظر حسن إلى ابنه طويلًا، وكأنما يحاول قراءة ما يدور في رأسه، ثم قال بجدية:
˝بص يا ابني، هقولك كلمة وعايزك تسمعها كويس.. لو عايز تسافر وتشوف رزقك وتبني مستقبلك، مش همنعك، بس امشي صح، روح الشركات الحكومية، اسأل عن الطرق القانونية، وأنا معاك ف اللي انت عايزه، لكن اللي بيقول عليه صاحبك ده، لأ يا سالم.. ده شكله واحد من تجار الموت اللى بياخدوا الفلوس ويسهّلوا السفر للشباب، والله أعلم هتوصل ولا هتضيع في البحر زي غيرك.˝
تسارعت نبضات قلب سالم، لم يكن يفكر في الأمر من هذه الزاوية، رفع عينيه إلى والده، كأنه يبحث عن بصيص أمل: ˝يعني أنت يا حاج، مش معترض إني أسافر؟˝
زفر حسن أنفاسه ببطء يحاول ترتيب كلماته بعناية، حدّق في وجه ابنه بنظرة حازمة تخفي خلفها مزيجًا من الخوف والرجاء قائلا بصوت هادئ يحمل ثقل خبرة السنوات:
˝لا يا حبيب أبوك، مش معترض طالما مافيش لك رزق هنا، بس امشي في النور، مش في الضلمة.˝
أغمض عينيه للحظة وكأنه يسترجع ذكريات لأشخاص فُقدوا في طرق مجهولة، قبل أن يعود لينظر إلى سالم مباشرة، متابعًا بجدية:
˝دور على فرصة سفر قانونية يا سالم، إنما الطريق اللي بتتكلم عنه ده، مش مضمون يا ابني.. تفتكر اللي هياخد منك مبلغ زي ده، همه إنك توصل بالسلامة؟ لا، دول همهم الفلوس وبس، أنا مش هقف في طريقك، بس مش هسمح لك تضيع نفسك في مغامرة مش محسوبة.˝
ساد الصمت للحظة، لم يُسمع فيها سوى صوت أنفاس سالم المضطربة، بينما بدت هنادي وكأنها تحبس دموعها بصعوبة، تنظر لزوجها وكأنها تنتظر منه أن يزيد في كلامه ليمنع ولدها تمامًا، لكنه اكتفى بالصمت، تاركًا القرار في يد ابنه، في تلك الليلة، ظل سالم مستلقيًا على سريره، يفكر في كلمات والده، وفي الطريق الذي عليه أن يختاره، كان يدرك أن الفقر قاسٍ، لكنه أيضًا أدرك أن الحلم إذا لم يُبْنَ على أساس قوي، قد يتحول إلى كابوس لا نجاة منه،
وفي النهاية، قرر أن يسافر، لكنه سيفعلها بالطريقة الصحيحة، كما قال والده. فالموت في الغربة ليس أهون من الحياة في الفقر.
_____________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل، لكنه لم يكن كعادته، سار ببطء وعيناه شاردتان، يحمل على كتفيه ثقل أفكاره التي لم تفارقه منذ ساعات، لم يكن المنزل سوى محطة مؤقتة لروحه القلقة، فقد أصبح يشعر بأنه محاصر بين جدرانه، كما لو أن الأبواب مغلقة أمام مستقبله، وما زالت الأفكار تتلاطم في رأسه كالأمواج، تبحث عن طريق للخلاص من هذا الواقع الخانق. وقف للحظة أمام باب منزله القديم ذو الطابقين، يعلوه بعض الشقوق التي حفرها الزمن في جدرانه، مدخله الضيق تصطف على جانبيه أحذية قديمة، ونافذته المطلة على الزقاق تكاد لا تغلق جيدًا، كأنها تعبت من مقاومة الرياح، دفع الباب بيده، فصدر عنه أزيز خافت، ثم دخل ليجد أمه تجلس على أريكة خشبية قديمة، منشغلة بطيّ بعض الملابس، ووجهها الذي خطّ عليه الزمن تجاعيد خفيفة، يضيئه نور خافت ينبعث من مصباح يتدلى من السقف، فألقى عليها السلام بصوت هادئ: السلام عليكم يا ست الكل.˝
ما إن وقع نظرها عليه حتى رفعت رأسها بسرعة، وضعت ما بيدها جانبًا، ثم تطلعت إليه بابتسامة دافئة تخفي وراءها قلقًا لم تستطع مواراته:
˝وعليكم السلام ورحمة الله، مالك يا سليم يا حبيبي؟˝
ألقى بجسده على أقرب مقعد، وأخذ يمرر يده في شعره بعصبية واضحة، زفر بضيق قبل أن يرد:
˝زهقان يا أمه.. وعايز أطفش من البلد دي بأي طريقة.˝
قطّبت نادية حاجبيها، واعتدلت في جلستها، ثم قالت بصوت دافئ لكنه يحمل قلق الأم:
˝سلامتك من الزهق يا قلب أمك، مالك بس يا ضنايا؟˝
انتفض واقفًا، وقد تملّكه الغضب والإحباط، لوّح بيديه في الهواء وكأن كلماته تكاد تخنقه:
˝هيكون مالي بس يا أمه؟ زهقان ومخنوق وأنا كده عواطلي بعد سنين تعليم وشهادة جامعية بتقدير! مش لاقي حتى تمن السيجارة، وعشان أقدر اشتريها، لازم اتسحل في قهوة، ولا اتحشر تحت عربية في ورشة، ولا يطلع عيني في فرن، واتحمل غلاسة ده ورزالة ده كأني بشحت منهم!˝
في هذه اللحظة، دخل والده، محمود، رجل خمسيني، آثار التعب والحياة القاسية واضحة على وجهه، يرتدي جلبابًا رماديًا قديمًا، ويضع طاقية بيضاء فوق رأسه، فاقترب وجلس على المقعد المقابل له، هزّ رأسه بأسى وقال بنبرة يغلفها العجز: ˝ماهو ده حال الشباب كلها يا ابني، ما فيش غير القليل، هنعمل إيه يعني؟ ما باليد حيلة، يا سليم.˝
أطرق سليم برأسه، وابتلع مرارة الواقع، ثم قال بصوت خافت يشوبه الإحباط:
˝والله يا أبا تعبت والعمر بيجري! لا عارف اشتغل وأساعدك ولا حتى عارف أكفي نفسي!˝
وضعت نادية يدها على كتف ابنها بحنان، كأنها تحاول أن تخفف عنه ثقل همومه، لكنها لم تجد كلمات تشفي وجعه سوى تساؤلها العاجز:
˝وفي إيدنا إيه بس يا حبيبي نعمله؟ ما فيش غير إننا ندعيلك ربنا يرزقك، بس أنت كمان خليك صابر.˝
رفع سليم رأسه، واتخذ قراره، فقد كان الشعور بالضياع أشد عليه من أي مخاطر قد تواجهه، فقال بصوت جاد:
˝بفكر أسافر يا أمه.. الواد عمر ابن عم إبراهيم هيسافر إيطاليا، في واحد اسمه راغب جاب له عقد وهيسفره، بس هياخد منه 100 ألف جنيه!˝
سكت للحظة، ثم تابع بنبرة أكثر إصرارًا:
˝هكلمه يمكن يجيب لي عقد أنا كمان.˝
نظر إليه والده باندهاش، واتكأ إلى الوراء مفكرًا، قبل أن يرد مستنكرًا:
˝يااااه! 100 ألف جنيه؟! ده مبلغ كبير أوي يا سليم، هتجيبه منين بس يا ابني؟˝
عقد سليم حاجبيه، وأخذ يفكر في طريقة لإقناع ذلك الرجل
ثم قال محاولًا طمأنة والده: ˝أنا هحاول أقنع اللي اسمه راغب ده، إنه ياخد مني أي مبلغ دلوقتي، والباقي أبعته له لما أسافر واشتغل، يمكن يوافق، يا أبا!˝
نظر محمود إلى سليم نظرة تحمل ثقل السنين، يعلم أنه لا يملك المال، ولا يملك حتى وعدًا بأن الأمور ستكون بخير، لكنه لا يستطيع أيضًا كسر جناحه وتحطيم آماله.
أما نادية، لم تكن سعيدة بهذا القرار، لكنها لم تجد في قلبها القوة لتثنيه عنه، فالحياة ضاقت عليه، وعيناه كانت تحملان رجاءً يوجع قلبها، فقالت بنبرة مستسلمة لكنها مليئة بالدعاء: ˝خلاص يا حبيبي، اتوكل على الله، شوف عمر، خليه ياخدك للراجل ده، وربنا يكتب لك الخير يا ضنايا.˝
تأثر سليم بدعم والدته، ثم أقترب منها وأمسك يدها قبّلها بحب، وتمتم بصوت يملؤه الرجاء:
˝يا رب، يا أمه، ادعي لي أنتِ بس.˝
وفي تلك الليلة، ظل سليم مستلقيًا على سريره، يحدق في السقف بعينين مثقلتين بالأفكار، وقلبه ينبض بعنف بين الحماسة والقلق، كان عقله يطوف بين احتمالات المستقبل، بين الطريق الذي يستعد لخوضه والغد الذي يلوح أمامه كضباب لا يكشف عن مكنونه، هل ستكون هذه الفرصة طوق نجاته، أم مجرد وهم يقوده إلى معاناة لا يدري مداها؟ لم يكن متأكدًا مما يخبئه له القدر، لكنه كان يعلم يقينًا شيئًا واحدًا.. لم يعد بإمكانه البقاء هنا أكثر من ذلك.
_____________________
في المقهى
في اليوم التالي، وكما جرت العادة، التقيا سليم وسالم بعد ساعات طويلة من التجوّل في الشوارع بحثًا عن فرصة عمل، لم يكن الهدف منها وظيفة مستقرة بقدر ما كان محاولة لتوفير ما يكفي لجلسة المساء في المقهى، حيث يقتلان الوقت بين لُعبة النّرد وأحاديث عابرة عن المستقبل الذي بدا بعيد المنال، جلسا إلى طاولتهما المعتادة، وأمامهما أكواب الشاي التي بدأ سطحها يبرد، بينما يملآن الجو بأنفاس ثقيلة، مزيج من الإرهاق والأمل الخافت، حيث تصاعد الدخان في الهواء مختلطًا بأصوات الباعة في الخارج وضجيج الحياة الرتيبة.
تنهد سالم، وأسند مرفقه على الطاولة وهو يحرّك الملعقة داخل كوبه، ينظر إلى سليم بنظرة جانبية قبل أن يقول بصوت خافت لكنه مشحون بالتردد:
˝أسكت يا سليم، بقول لأبويا عن كلامك ع السفر، وعن الراجل اللي اسمه راغب ده.˝
اعتدل سليم في جلسته على الفور، وكأن الكلمات قد نبهته من سباته، تسللت الحماسة إلى ملامحه وهو يسأل بترقب:
˝وبعدين؟ قالك إيه؟ وافق، مش كده؟˝
لم يرد سالم بسرعة، لكنه أدار الملعقة ببطء داخل الكوب قبل أن يضعها على الطاولة وهو يرمي حجر النرد:
˝أبويا ما عندوش اعتراض على السفر. بس مش مع الراجل ده، قال لي أقدم تبع الحكومة.˝
انعقد حاجبا سليم، ونقر بأصابعه على الطاولة بإيقاع سريع ينمّ عن ضيقه:
˝يا عم، هى الحكومة بتسفّر حد الأيام دي؟˝
رفع سالم كتفيه وهو يرد بنبرة حاول أن تبدو مقنعة:
˝أيوه يا ابني، تبع وزارة القوى العاملة والهجرة، بندخل بياناتنا على النت، ونتابع لغاية ما ربنا يكرم.˝
قهقه سليم ضاحكًا وهو يلوّح بيده في الهواء:
˝ده انت رايق يا عم سالم! يوم الحكومة بسنة يا ابني، هو انت فاكر هتقدم النهارده وتسافر بكرة؟˝
هزّ سالم رأسه وارتشف رشفة صغيرة من الشاي قبل أن يرد بصبر نافذ:
˝هو احنا ورانا إيه يعني؟ أهى كده قعدة وكده قعدة، على الأقل يبقى في حاجة تشغل تفكيرنا بدل الفراغ اللي إحنا فيه ده.˝
لم يكن سليم من النوع الذي يحتمل فكرة الانتظار، زفر بحدة وهو يسحب سيجارة من علبته ويشعلها، ثم قال وهو ينفث الدخان ببطء:
˝لا يا عم، أنا ما عنديش طولة بال زيك، أنا هروح أشوف عمر يوصّلني براغب، وإن شاء الله أسافر عن طريقه.˝
قطب سالم جبينه، وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يراقب سليم بصمت لثوانٍ قبل أن يقول بنبرة مشوبة بالقلق:
˝يا ابني، اسمع مني، خليك في السليم وتعالى نقدّم تبع الحكومة أحسن، وسيبك من الراجل ده! ده على رأي أبويا، شكله واخدها تجارة وبيتاجر في الموت!˝
ضحك سليم بسخرية، وأطفأ سيجارته قبل أن يميل للأمام، مستندًا بكوعيه إلى الطاولة وهو يهمس بمكر:
˝لا يا سيدي، خليك انت في طريقك السليم ياخويا، وسيبني أنا للطريق السريع! يا ابني، ده أنا هسافر وأشتغل وأكسب، وهارجع كمان أجازة، وتكون انت لسه ما سافرتش، ولا حتى الحكومة ردّت عليك!˝
شعر سالم بوخزة في صدره، لكنه أبعدها سريعًا، يعلم أن صديقه عنيد ولا يسمع إلا ما يريد، ومع ذلك لم يستسلم، مال نحوه محاولًا إقناعه للمرة الأخيرة:
˝يا ابني اسمع مني. سيبك من الطريق ده عشان ما تندمش في الآخر.˝
لكن سليم كان قد حسم أمره، ضرب الطاولة بكفه وهو يقول بإصرار:
˝اسمعني انت يا سالم، خليك معايا ونسافر سوا يا ابني، أسهل وأسرع!˝
هزّ سالم رأسه ببطء، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تحمل في طياتها قلقًا دفينًا:
˝لا يا عم، خليك انت في طريقك السريع، وسيبني أنا في الطريق المضمون، ده على رأي أمي، بتقول دايمًا: في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة.˝
ساد الصمت للحظات بينهما، قبل أن يميل كل منهما إلى الخلف، كل واحد منهما غارق في أفكاره الخاصة، وهكذا، في تلك الليلة، خرج كلٌ منهما من المقهى وقد حسم أمره، غير مدركين أن قراراتهما تلك ستحمل لهما مصائر لم يكن أيٌ منهما يتوقعها.
____________________
في بيت سالم
عاد سالم إلى منزله وجلس مع والده ليخبره بقراره بالتقديم على السفر إلى إيطاليا عبر موقع وزارة الهجرة على الإنترنت، كان يشعر بمزيج من الحماس والقلق، فهذه الخطوة قد تكون بداية جديدة لحياته، لكنها في الوقت ذاته مجهولة المصير.
رفع حسن رأسه ببطء، حدَّق في ابنه للحظات، ثم قال بصوت هادئ، لكنه يحمل الكثير من التساؤلات:
˝طيب يا ابني، كويس.. بس عرفت إيه الأوراق المطلوبة عشان تعرف تقدِّم؟˝
عدل سالم جلسته، وأراح كفيه على ركبتيه، ثم أجاب بثقة:
˝حاليًا مش مطلوب غير إنِّي أدخل بياناتي الشخصية على الموقع الإلكتروني، وأحدِّد موقفي من الجيش، وأكتب رقم جواز السفر، وبعدها هستنى لحد ما يردوا عليا.˝
هزَّ حسن رأسه بتفهُّم، ثم قال بنبرة مشجعة:
˝وماله، قدِّم يا ابني، وربنا يوفقك.. واللي رايده ربك هيكون إن شاء الله.˝
شعر سالم براحة غريبة تغمره، رغم التوتر الذي لم يفارقه، لكنه كان بحاجة لدعم والده أكثر من أي شيء آخر، نظر إليه بعينين ممتلئتين بالامتنان، ثم قال:
˝ادعيلي يا أبو سالم.˝
وضع حسن يده على كتف ابنه وربَّت عليه بحنان، ثم قال بصوته العميق الذي اعتاد سالم أن يستمد منه الطمأنينة:
˝داعيلك يا بني، وراضي عنك.. ربنا يوفقك يا حبيبي.˝
لم يتردد سالم في الانحناء ليقبِّل يد والده بحب واحترام، وقال بحرارة:
˝ربنا يبارك لنا فيك يا حج، وما يحرمناش منك ولا من دعواتك ورضاك علينا.˝
بينما كان المشهد يسوده جو من الألفة، خرجت هنادي من المطبخ وعينيها تحملان قلق الأمهات المعتاد:
˝بس يا بني، إنت ما عندكش باسبور، هتقدِّم إزاي؟˝
ضحك سالم بخفة، محاولًا طمأنتها، وقال بثقة:
˝ما تقلقيش يا ست الكل، إن شاء الله بكرة الصبح هروح إدارة الجوازات وأطلع الباسبور وأقدِّم بيه.. بس إنتِ ادعيلي، وهتفرج بإذن الله.˝
رفعت هنادي كفيها بالدعاء وهي ترد بحماس:
˝دعيالك يا بني، يسعدك، ويجعل في وشك القبول، ويفتح لك كل باب مقفول، ويهدي عليك خلقه ببركة ربنا وبركة الصلاة على الرسول.. عليه أفضل الصلاة والسلام.˝
أغمض سالم عينيه للحظة، مستشعرًا بركة دعائها، ثم قال بابتسامة خاشعة:
˝الله. يا أم سالم، أحلى دعوة. ربنا يقبل منك يا رب، اللهم آمين.˝
نظرت هنادي إلى حسن بنظرة جانبية ماكرة، ثم قالت وهي تخفي ابتسامتها:
˝اسكت يا حسن، مش إبراهيم وعياله جايين يوم الجمعة وهياخدوا يومين عندنا.˝
انتبه حسن لما قالته زوجته، فأدار رأسه نحوها ببطء ثم قال متسائلًا وهو ينقل نظراته إلى سالم:
˝بجد؟ طيب كويس إنك قولتي، عشان نعمل حسابنا.. بس يا ترى هناء جاية معاهم ولا إيه؟˝
ضحكت هنادي بخبث، وردَّت بحزم مصطنع:
˝أنا ياخويا شرطت عليه ما يجيش من غير حبيبة عمتها.˝
جلس سالم يستمع الى حديث والديه، لكن عقله كان في مكان آخر.. لم يكن بحاجة إلى سماع اسمها، فهو محفور في أعماقه.. تلك الفتاة التي سكنت قلبه دون إذن، وأصبحت روحه لا تعرف الطمأنينة إلا بها، لكنها كانت أيضًا الحلم البعيد، الأمنية العالقة بين ضيق الحال وقلة الفرص، الحلم الذي يخشى أن يضيع منه كما ضاع غيره،
عندما جاء ذكرها، تجمدت أنفاسه في صدره، كأن الزمن توقف للحظة، حاول أن يخفي اضطرابه، خفض رأسه ببطء، شبك أصابعه ببعضها بقوة، كأنه يحاول أن يتمسك بشيء وسط الفراغ الذي يحاصره، لكن عقله لم يرحمه، كان يعيد عليه ذات الحقيقة القاسية: لا يملك ما يكفي ليطلبها.. لا يملك سوى قلبه، وهل القلب وحده يكفي؟
تنهيدة طويلة أفلتت منه، وكأنها تحمل كل الخذلان، كل الانتظار، كل الأحلام التي كاد يفقدها، رفع رأسه قليلًا، نظر إلى الفراغ أمامه وكأنه يرى مستقبلًا مجهولًا، ثم همس، بصوت لم يكن سوى وعد قطعه لنفسه:
˝هانت يا هناء.. إن شاء الله ربنا يوفقني، وأول حاجة هعملها.. هطلب إيدك.˝
___________________
في بيت سليم
عاد سليم إلى المنزل بخطوات ثقيلة، ألقى بجسده على الأريكة، حدّق في السقف بشرود، ثم زفر بضيق لم يعد يحتمل الانتظار أكثر، هذه الحياة تُخنقه، والفرص هنا تبدو وكأنها تنكمش يومًا بعد يوم حتى تكاد تختفي، مدّ يده إلى هاتفه واتصل بصديقه عمر، لعلّه يكون مفتاحه للخروج من هذا القفص:
˝ألو، عمر.. عامل إيه؟˝
سليم بصوت يحمل ضيقًا: ˝الحمد لله يا عمر، بس زهقت من قلة الشغل! بقولك إيه، ما توصّلني بالراجل اللي اسمه راغب ده؟ أنا عايز أسافر إيطاليا، أشتغل بدل القعدة اللي مالهاش آخر دي!˝
عمر:
˝تمام ياعم، وماله! أنا أصلًا رايح له كمان ساعة، تعال معايا ونكلمه عليك.˝
سليم بحماس ممزوج بالقلق: ˝تمام، يا عمور، ساعة زمن وتلاقيني عندك، يلا سلام!˝
أغلق الهاتف، لكنه ظلّ جالسًا للحظات، وكأن جسده لم يستوعب بعد أنه قد يجد فرصة حقيقية للخروج من هذا الواقع الكئيب، نهض فجأة، وكأن نارًا اشتعلت داخله، وقام بتغيير ملابسه بسرعة قبل أن يغادر، يتشبث بهذا الأمل الذي قد يكون الأخير.
في مكتب راغب
عندما دخل سليم مع عمر إلى مكتب راغب، شعر بشيء غريب، وكأن المكان نفسه ينبض بالخطر، كانت الغرفة فسيحة لكنها كئيبة، أضواؤها خافتة، وجدرانها بلون رمادي قاتم، مكتب ضخم يتوسطها، مصنوع من خشب ثقيل، تعلوه طبقة زجاجية تعكس الإضاءة الصفراء المتدلية من السقف.
خلف المكتب، جلس راغب متكئًا على كرسي جلدي أسود، ساقه فوق الأخرى، يلفّ سيجارًا ببطء بين أصابعه، رجل في منتصف الأربعينات، بشرته داكنة كأنما احترقت من شمس الصحارى، عيناه ضيقتان، تلمعان بمكر واضح، وكأنهما تزنان كل من يقف أمامه، تقرران إن كان يستحق الثقة.. أو الاستغلال.
على جانبي المكتب، وقف رجلان ضخمان، بذراعين معقودتين أمام صدورهما، ملامحهما جامدة كأنهما تماثيل، لكن نظراتهما تقول إنهما جاهزان للتحرك في أي لحظة.
أقترب عمر بابتسامة حذرة وهو يمدّ يده لمصافحته:
˝مساء الخير يا راغب بيه.˝
راغب دون أن يتحرك:
˝ أهلا يا عمر، اتفضل.˝
جلس عمر، بينما بقي سليم واقفًا للحظات قبل أن يلحق به.
أخرج عمر ظرفًا مغلقًا، وضعه بهدوء أمام راغب:
˝جبت لك الفلوس والورق اللي طلبته مني، اتفضل.˝
أخذ راغب الظرف، فتحه ببطء، أخرج الأوراق، قلّبها بعينيه السريعتين، ثم أومأ برأسه برضا، قبل أن يدسّها في درج مكتبه قائلا ببرود:
˝تمام يا عمر، كده كل حاجة جاهزة، فاضل بس تعرف ميعاد السفر.˝
عمر بتردد واضح: ˝طيب يا راغب بيه.. عندي طلب صغير.˝
رفع راغب حاجبًا واحدًا، وأشعل سيجاره أخيرًا، سحب نفسًا عميقًا، ثم نفث الدخان ببطء، وكأن صبره محدود:
˝خير يا عمر؟˝
عمر مشيرًا إلى سليم:
˝أخويا وصاحبي سليم عايز يسافر، بس ظروفه ع القد وطمعان فـ كرم حضرتك.˝
توجهت نظرات راغب إلى سليم مباشرة، حدّق فيه كالصياد الذي يقيّم فريسته، ثم قال ببرود: ˝أنت عارف النظام، يا عمر.˝
سليم بصوت يائس متوسلاً: ˝أرجوك يا بيه، ظروفي صعبة، مقدرش أدبر المبلغ كله دلوقتي.˝
راغب بابتسامة جانبية ساخرة: ˝وتقدر تدبر قد إيه؟˝
سليم بتردد: ˝يعني.. لو نص المبلغ حتى؟ والباقي لما أسافر إن شاء الله هبقى أبعته لك.˝
ساد الصمت للحظات، تبادل راغب النظرات مع أحد رجاله الواقفين بجواره، ثم مال للأمام، واضعًا مرفقيه على المكتب، وهو يحدّق في سليم وكأنه يستطيع أن يرى من خلاله، ببطء شديد:
˝عشان خاطر عمر بس، هقبل بنص المبلغ، لكن متتأخرش عليا في الباقي، فاهمني؟˝
شعر سليم بقشعريرة تسري في عموده الفقري، لكنه أخفى ارتجافة يده وهو يمدها نحو راغب ليصافحه، بامتنان وسعادة مشوبة بالحذر:
˝فاهم، فاهم، شكرًا يا بيه، وصدقني مش هتأخر عليك، اول ما اشتغل هبعتلك الباقي ع طول.˝
أنهى سليم مقابلته وهمَّ بالانصراف، لكنه فجأة شعر بوخزة غامضة في صدره، كأن شيئًا ما يحاول تحذيره، توقّف للحظة عند الباب، ألقى نظرة خاطفة على راغب الجالس خلف مكتبه، بعينين تخفيان أكثر مما تُظهران، لم يستطع تفسير ذلك الشعور الثقيل الذي اجتاحه، لكنه كان أشبه بتنبيه خفي.. كأن الاتفاق الذي أبرمه لم يكن كما يبدو، وكأن الثمن الذي سيدفعه قد يكون أكثر مما توقع، لكنه تجاهل هذا الشعور، مرددًا في داخله أنها مجرد اوهام.
في مصلحة الجوازات
في صباح اليوم التالي، وقف سليم أمام إدارة الجوازات، يتأمل ذلك المبنى العتيق الذي شهد آلاف الأحلام المعلّقة، أخذ نفسًا عميقًا، كأنه يستعد لعبور بوابة القدر، ثم تقدم بخطوات ثابتة، كأن كل خطوة تقرّبه أكثر من مستقبله المجهول.
داخل المصلحة، لمح سالم وسط الزحام، وكأن القدر شاء أن يجمعهما مرة أخرى، كرفيقين في رحلة محفوفة بالمجهول، تبادلا نظرات صامتة، تفهّما منها ما لم تقله الكلمات، كأنهما يعلمان أن الطريق الذي يسلكانه لن يكون سهلًا، لكنه الخيار الوحيد المتاح.. خيار لم يعد بإمكانهما التراجع عنه.
بعد ساعات من الانتظار، خرج سليم وهو يمسك بجواز سفره الجديد، تأمله طويلًا، ضغط عليه بقوة، وكأنه يخشى أن يستيقظ ليجد أنه كان مجرد حلم.
_____________________
في بيت سالم
عندما استلم سالم جواز سفره، شعر بثقل غريب في يديه، وكأن هذه الوثيقة الصغيرة تحمل كل مستقبله، لم يكن هناك وقت للتردد، فسارع بتقديم طلبه للسفر عبر وزارة الهجرة، مترقبًا الرد بين الأمل والقلق، ومرت الأيام كأنها دهور، حتى جاءه الخبر الذي انتظره بشغف.. تمت الموافقة على سفره، وحدّدوا له موعد الرحيل، لم يضيع لحظة واحدة، بدأ بحزم أمتعته، كل قطعة ملابس كان يطويها، كانت تحمل معها ذكرى من ذكرياته، كل طية تخبئ بين ثناياها جزءًا من حياته التي يوشك على تركها وراءه، الغرفة التي احتضنته منذ طفولته، صوت أمه تناديه من المطبخ، رائحة أبيه بعد عودته من العمل… كلها أشياء لم يكن يدرك قيمتها إلا الآن، وقف عند الباب، ليجد أمه تنظر إليه، ودموعها تتلألأ في عينيها، تحاول أن تتماسك لكنها تفشل، وبنبرة بصوت مرتعش: ˝خلاص يا ابني نويت؟˝
ابتلع سالم غصته، وحاول أن يبدو ثابتًا، لكنه لم يستطع منع صوته من أن يخرج دافئًا مشحونًا بالمشاعر:
˝ادعيلي يا أمي… إن شاء الله، بدعواتك ربنا يفتحها عليَّ، وأقدر أعوضك إنتي وأبويا عن كل سنين التعب والشقى اللي عشتوها˝.
أخذت نفسًا عميقًا، كأنها تحاول أن تملأ رئتيها بوجوده قبل أن يغادر وبنبرة رضا:
˝دعيالك يا بني… قلبي وربي راضين عنك، يا نور عيني˝.
تردد سالم للحظة، ثم نظر إليها نظرة حاسمة، وكأن هذا القرار الذي اتخذه لم يكن كاملًا دون أن يخبرها بابتسامة خافتة: ˝يسلملى دعاكي يا أمي، ان شاء الله أول ما أظبط أموري هناك، هبعتلك تكلمي خالي.. عشان هناء˝.
اتسعت عيناها، رغم الدموع التي لم تجف بعد، وكأن قلبها وجد عزاءه وسط هذا الوداع بصوت يحمل رجاءً وفرحة خجولة: فرحتني يا بني بالخبر الحلو ده، سافر يا نور عيني ولما ترجع بالسلامة ان شاء الله، مجبور الخاطر، هكون كلمت خالك، وتتجوزوا على طول.
أمسك وجه أمه بين يديه بحنان، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنما يحاول نقشها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة طويلة فوق جبينها، يُشبع روحه برائحتها الدافئة، يستنشقها وكأنه يُخزّن أنفاسها في صدره ليتزود بها في غربته، ثم، بانحناءة مُفعمة بالاحترام والحب، أمسك يدها بين راحتيه، وقبّلها ببطء، وكأنه يبث فيها آخر جزء من روحه قبل أن يرحل، يترك فيها أثره الذي لن يمحوه الزمن، يهمس في صمت بأنه سيعود، ولو بعد حين، ثم اتجه إلى والده، صافحه بقوة، وكأنما يحاول أن ينقل إليه شجاعته، لكن الأب لم يكتفِ بذلك، بل جذبه نحوه في احتضان دافئ، احتضان رجل يحاول إخفاء مشاعره بصعوبة، لكنه فشل أمام لحظة الوداع، شعر بقوة ذراعي والده التي تحمل في طياتها خوفًا خفيًا، دعوات غير منطوقة، ووصايا كثيرة لم تجد طريقها إلى الكلمات، ربّت الأب على كتفه بقوة، كأنه يخبره دون أن ينطق: ˝كن قويًا، لا تنسَ من أنت، ولا تنسَ أننا في انتظارك.˝
حمل سالم حقيبته، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم استدار نحو الباب، لم يلتفت خلفه مرة أخرى، فلم يكن قادرًا على ذلك، خرج مسرعًا إلى العالم المجهول، إلى الرحلة التي لا يعلم ما تخبئه له، لكنه سار بخطوات ثابتة، وعلى شفتيه دعاء واحد، وهو أن يعود مجبور الخاطر.
_____________________
في بيت سليم
وقف سليم أمام والده بعد أن تسلّم جواز سفره، عيناه تحملان امتنانًا لا تسعه الكلمات، الرجل الذي ضحّى بكل ما يملك، باع الأرض التي أفنى عمره في زراعتها، فقط ليمنحه فرصة لحياةٍ أفضل.
نظر محمود إلى ابنه بعينين مُثقلتين بالهموم، وبصوتٍ متهدج محمل بالرجاء:
˝يا سليم، يا ابني، أنا بِعت لك قيراط الأرض اللي كنت شايله للزمن، عشان جهاز إخواتك البنات.. أوعى تنسانا لما تسافر، إحنا ما لناش غيرك بعد ربنا يا ابني.˝
شعر سليم بوخز الألم في صدره، لكنه تماسك، وضع يده فوق يد والده، وضغط عليها مطمئنًا:
˝صدقني يا أبا، كل ده عشانكم، عشان نعيش كويس ونبقى مرتاحين.˝
لكن الكلمات وحدها لم تكن كافية لطمأنة قلب أمّه، التي ظلت تراقبه بعينين دامعتين، خوفها لم يكن مجرد قلق أم على ابنها المسافر، بل إحساس داخلي يشبه الفقد، تقدمت نحوه، وضعت يدها فوق صدره، وكأنها تحاول أن تحفظ دفء وجوده قبل أن يختفي، وبقبضة قلب أمّ تخشى الفقد:
˝ربنا يوسع عليك يا ابني، ويرزقك بالرزق الحلال، ويردّك لنا سالم غانم.˝
مدّ يده ليقبّل يدها، لكنه لم يستطع منع نفسه من احتضانها، غاص في دفئها للحظة، وكأن رائحتها كانت آخر خيط يربطه بهذا المكان، وبصوتٍ مختنق:
˝تسلميلي يا أما.. ويسلملي دعاكي، هو اللي هيسندني في الغُربة.˝
بعدها، خرج سليم متجهًا إلى مكتب راغب، يحمل بين يديه ثمن الأرض، ثمن أحلام عائلته المعلقة على أمل سفره، حيث وضع مصيره بين يدي رجلٍ يعرف تمامًا كيف يستغل حاجات الناس.
أستقبله راغب، بابتسامة جانبية، وكأنه يُحكم قبضته على فريسته، ثم قال بثقة:
˝كدا تمام يا سليم، خلاص، كام يوم وهتكون مسافر، جهّز شنطتك، وهكلمك وقت التحرك.˝
سليم بثقة ظاهرية تُخفي قلقه: ˝تشكر يا راغب بيه، وأول ما تستقرّ أموري، هبعت لك باقي المبلغ.˝
غادر سليم المكتب، شعر أن الهواء من حوله بدا أثقل، كأن المدينة بأكملها تحاول منعه من الرحيل، لكنه تجاهل كل شيء، وعاد إلى بيته ليحزم أمتعته.
وفي الليلة التي سبقت الرحيل، جلس سليم وسط حقيبته المفتوحة، عيناه تجولان في أركان البيت الذي نشأ فيه، البيت الذي لم يكن يومًا واسعًا لكنه كان دافئًا.. ترى، هل سيعود إليه يومًا؟
وفي الصباح، وقف أمام عتبة البيت، يحمل حقيبته بيديه، وقلبه بين يديّ أهله، والده تقدّم نحوه، وضع يده على كتفه، ثم جذب رأسه ليُقبّل جبينه بحنان الأب الذي يخشى أن لا يحتضن ابنه ثانيةً وبصوتٍ مكسور، يثبّت نظره في وجه ابنه وكأنه يريد أن يحفره في ذاكرته: ˝تروح وترجع بالسلامة، يا سليم.˝
لم يستطع سليم الردّ، فقط هزّ رأسه، ثم التفت إلى والدته، التي لم تعد قادرة على كبح دموعها، أمسكت بكفّه، شدّت عليه كأنها تحاول منعه من الذهاب بلهفة مخنوقة:
˝أمانة يا ضناي، لما توصل تطمني عليك. ما تسيبنيش بالي مشغول.˝
ضمّ وجهها بين راحتيه برفق، كأنما يحاول أن يحفظ ملامحها في ذاكرته للأبد، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، قبل أن ينحني ويودع كفّها بقبلة امتزجت بحزن صامت، وكأنه يترك معها آخر نبض من قلبه قبل أن يمضي، ثم استدار، ليخطو خطواته الأولى مبتعدًا، لكن قدميه كانت ثقيلة، وكأن الأرض ترفض أن تتركه يذهب، قبل أن يختفي، ألقى نظرة أخيرة، فوجد والدته تبكي بصمت، ووالده ينظر إليه بعينين جامدتين، لكنه كان يعرف أنه يكتم دموعه بالقوة.
تجاهل سليم إحساسًا جاثمًا فوق صدره يخبره أن هذه قد تكون المرة الأخيرة التي يراهم فيها، ثم مضى في طريقه إلى النقطة التي حدّدها له راغب، حيث سينتظر هو ومجموعة أخرى، استعدادًا للرحلة التي لا يعلم هل ستكون طريقًا إلى المستقبل. أم طريقًا بلا عودة.
انطلق كلٌّ من سالم وسليم في طريقهما نحو الهجرة، لكن شتّان بين الطريقين…
سالم سار في طريقٍ قانونيٍّ آمن، خطّط له بعناية، تحمل فيه مشقة الغربة لكنه حمل معه الأمل، أما سليم فاختار طريقًا محفوفًا بالمخاطر، طريقًا رسمه الطمع واستعجال الحلم، دون أن يدرك أنه قد يكون بلا عودة.
كلاهما حمل حقيبته، غادر وطنه، ترك خلفه أهلاً وأحبة، لكن أحدهما سار بخطوات ثابتة فوق أرض صلبة، بينما الآخر كان يسير فوق مياهٍ مضطربة، لا يعلم إن كانت ستوصله إلى برّ الأمان أم ستبتلعه إلى الأبد.
وصل سالم أخيرًا إلى وجهته، بعد رحلة طويلة حملت بين طياتها القلق والتوتر، لكنه ما إن وطأت قدماه الأرض الجديدة حتى شعر وكأنه يعبر إلى عالم مختلف تمامًا، الهواء مختلف، المدينة تعج بالحياة، والفرص تبدو وكأنها تنتظره ليقتنصها،
استلم عمله وبدأ يتأقلم شيئًا فشيئًا، رغم الحنين الذي كان يعتصر قلبه كل ليلة، إلا أن عزيمته كانت أقوى من أن يتراجع، كان يدرك أن عليه أن يصمد، أن يواجه العواصف بكل ما أوتي من قوة، أن يثبت لنفسه قبل الآخرين أنه ليس ضعيفاً، أنه قادر ع أجتياز المحنة وتحمل مشقّات الغربة وتحقيق أحلامه.
فكان أول ما فعله بعد استقراره هو الاتصال بوالدته، صوتها المشتاق ملأ أذنيه قبل أن تنطق بكلمة واحدة وبابتسامة مطمئنة:
˝أنا بخير يا أمي، الحمد لله وصلت واستلمت الشغل، الأمور بتتحسن يومً بعد يوم، ما تقلقيش˝.
كان يعلم أنها لن تكف عن القلق مهما حاول طمأنتها، لكنها مع ذلك شعرت ببعض الراحة لسماع صوته، أما والده، فلم يكن من الرجال الذين يعبرون عن مشاعرهم بالكلمات، لكنه في تلك اللحظة، وبعد أن استلم الهاتف من زوجته، اكتفى بجملة واحدة حملت في طياتها كل شيء:
˝خليك على العهد، وافتكر إن إحنا مستنيينك.˝
أغلق سالم الهاتف، ثم نظر من نافذته إلى الشوارع المزدحمة أسفل المبنى حيث يقف، هنا، يبدأ مستقبله. لكنه في أعماقه يعلم أن قلبه ما زال هناك، في وطنه، حيث ينتظره من يحبونه.
أما سليم عندما وطأت قدماه سطح المركب، أدرك سريعًا أنه في مأزق لا خروج منه، المركب كان مزدحمًا فوق طاقته، يتأرجح تحت ثقل الأجساد المتكدسة والحمولة الزائدة، لكن العودة لم تكن خيارًا، والخوف لم يكن رفاهية مسموحة، حاول إقناع نفسه بأن الأمور ستسير على ما يرام، رغم أن كل شيء من حوله كان يصرخ بالعكس،
الأمواج العاتية، الهواء المالح الذي يلسع وجهه، والوجوه الشاحبة من حوله كانت شاهدة على رحلة محفوفة بالمجهول، لم يكن يدرك أن الأسوأ لم يأتِ بعد، عند اقتراب المركب من الحدود الإيطالية، وقف رجال راغب أمامهم بوجوه خالية من الرحمة، يلقون الأوامر كما لو كانوا يطردون حمولة زائدة بلا قيمة، فأشار أحد الرجال بحدة إلى القارب الصغير المتأرجح وسط الأمواج، ثم التفت إلى سالم ومن معه، يعلن بصوت صارم أن عليهم النزول في هذا المكان، لم يكن هناك مجال للاعتراض، فمصيرهم بات معلقًا على أمواج البحر، من يصل إلى الشاطئ فقد كتب له النجاة، ومن تبتلعه المياه فلن يكون سوى رقم جديد في قائمة المفقودين.
تسارعت أنفاس سليم، وارتفع صوته وهو يحدّق في الرجل أمامه بعينين ممتلئتين بالذهول والذعر. جسده ارتجف رغم حرارة الموقف، وكأن صقيع البحر تسلل إلى عظامه قبل أن يلامس مياهه. خطا خطوة للأمام، يلوّح بذراعيه بانفعال، قبل أن يهتف بصوت مختنق:
˝إزاي يعني ننط فـ عرض البحر؟! دا كدا انتحار!˝
أجابه الرجل ببرود قاتل:
˝دي الأوامر. هو كدا النظام! ويلا بقى متعطلناش، خلينا نرجع نجيب الفوج اللي بعدكم.˝
تجمّد سليم للحظة، نظراته تائهة بين البحر الواسع والقارب المهترئ، وبين الرجال المسلحين الذين لا مجال لمناقشتهم، شعر أن الموت يُحدّق به من كل جانب، لكن لم يكن أمامه سوى الامتثال، استسلم للأمر الواقع، ونزل كما نزل الآخرون، رغم أن صوته الداخلي كان يصرخ: كان لازم تسمع كلام سالم. كان لازم تفهم أن راغب بيتاجر في الموت!
قلبه يخفق بقوة، وكأن ضلوعه تضيق على روحه، وعقله يرفض استيعاب المصير الذي يُدفع إليه قسرًا، كان الندم ينهش قلبه كلما تذكر كلمة صديقه، لكنه لم يعد يجدي نفعًا الآن، عليه أن يقاتل من أجل حياته، أن يتمسك ولو بخيط واهٍ من الأمل، وما إن أبحر القارب الصغير حتى بدأ يتمايل بجنون مع الأمواج الهائجة، وكأن البحر يرفض حملهم، أو ربما كان يعاقبهم على سعيهم خلف الحلم بطريقة خاطئة،
لم تمر سوى لحظات حتى تسللت المياه إلى داخله، باردة كالموت، غادرة كالوهم، تعالت صرخات الركاب، كل منهم يحاول التشبث بالحياة كيفما استطاع، لكن الفوضى كانت أسبق منهم، في غمضة عين، انقلب القارب، وابتلع البحر الجميع في جوفه المظلم.
راح سليم يعافر، يحاول أن يعوم، لكن الرعب شلّ أطرافه، والماء البارد صار كيدٍ جبارة تسحبه إلى القاع، الهواء يضيق في رئتيه، والموج يصفعه بلا رحمة، من حوله أجساد تتخبط، بعضها يستسلم سريعًا، وبعضها ما زال يحاول النجاة، لكنهم جميعًا يعلمون أن المصير واحد.
في تلك اللحظة، لم يكن الموت فكرة بعيدة، ولا احتمالًا مستبعدًا، بل كان حاضرًا أمامه، يحدّق في عينيه بلا هوادة، يقترب منه كما لو أنه يعرفه منذ زمن، أدرك حينها فقط أنه ارتكب أكبر خطأ في حياته، وأن النهاية كانت محتومة منذ اللحظة التي اختار فيها الطريق الخطأ، وعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق وصولًا الى الهدف، لكنه لم يدرك ذلك. إلا وهو يغرق.
وبذلك عزيزي القارئ،
إن لكل طريق نختاره في الحياة عواقبه الحتمية، فحينما تسير في دربٍ خاطئ، لا تتوقع أن تصل إلى نهاية مختلفة عن الفشل أو الضياع، قد لا يكون الموت دائمًا نهاية جسدية، لكنه قد يكون موتًا من نوع آخر، موت الضمير حين تعتاد الخطأ حتى يصبح جزءًا منك، أو موت الروح حين تفقد ذاتك وسط زحام الندم والخيبات، فتعيش جسدًا بلا معنى، تتنفس لكنك لا تحيا، وعلى النقيض، فإن الطريق المستقيم، وإن بدا أطول أو أكثر صعوبة، هو السبيل الوحيد إلى النجاة، هو الذي يمنحك راحة الضمير، وسكينة القلب، والطمأنينة بأنك لم تظلم أحدًا، ولم تظلم نفسك. فلا تستسهل الطرق الملتوية، فإنها وإن بدت مغرية في البداية، لن تقودك إلا إلى الهاوية.
كما يقولون: ˝امشِ عدل، يحتار عدوك فيك.˝ فالنقاء في المسير هو ما يمنحك القوة، وما يبني لك طريقًا لا تخشاه العثرات.
❞ الذي ابتكر فكرة " الموضة " كان تاجرا ذكيا جدا .. فهو الوحيد الذي استطاع ان يقنع المرأة بأن تلقي جميع فساتينها بدون سبب .
اذا كانت فساتينها طويلة اخرج لها موضة قصيرة .
واذا كانت جميع فساتينها قصيرة اخرج لها موضة طويلة .
وبهذه الخدعة اللطيفة يوشوش بها في اذنها في حنان وكأن المصلحة هي مصلحتها – سيدتي ان فستانك لا يتمشى مع الموضة .
استطاع ان يجعلها تلقي بفستانها الجديد الذي اشترته من شهر لمجرد انه ازرق والموضة بنفسجي .. أو اصفر والموضة أحمر .. أو شوال والموضة ضيق .. أو ضيق والموضة واسع .
وألاعيب الموضة لا تنفذ في الضحك على ذقن المرأة واثارة غرورها .. مرة تكشف لها صدرها ومرة تكشف لها ظهرها ومرة تشلح لها ساقها ومرة تبرز لها صدرها ومرة ترسم لها حلمة على السوتيان تخرق الفستان .. ومرة تكشف النهر المثير بين الثديين .. ومرة تكشف كتفا وتغطي أخرى .
من أيام الفراعنة لأيام العصور الوسطى للعصر الفيكتوري لعصرنا الذري .. رحلة تثير العجب .. وتثير الضحك .
الفرعونية التي كانت تلبس الشوال الضيق وتقول لرجلها تغازله :
تعال وأنظر الي وانا خراجة من النهر .
وثوبي لاصق بجسدي يبرز كل تفاصيله .
إالى زوجة لويس الرابع عشر التي تضع على رأسها ريشة وتلبس لحافا وبطانية ومشدات وأحزمة وزنها طن .
إلى امرأة الواحات التي تلبس المجرجر والخلاخيل والشخاشيخ وتضع في انفها حلقة .
إلى اهندية التي تلبس الساري
والمصرية التي تلتف بملاية
والعربية التي تلبس العباية
والباريسية التي تلبس البكيني
وبنت اليوم التي تلبس الميني جيب والماكسي جيب وتضع على عينيها نظارة ضخمة لها ضلفتين من الزجاج كأنها قمرة سفينة .
لعبة أشبه بلعبة المهرج .
ولا استبعد أن تظهر موضة جديدة تصنع للمرأة ذيلا طويلا في مؤخرتها .. وان تدور المشاجرات في البيوت .. وتهدد الزوجة زوجها بطلب الطلاق لأنه لم يشتري لها ذيلا لائقا مثل ذيول باقي صديقاتها .. وانها لا تستطيع ان تمشي في الشارع بدون ذيل .. وأن كل الناس يشيرون عليها ويضحكون لأنها فلاحة متأخرة تمشي بدون ذيل .
إن كل شيء ممكن في عالم الموضة .
وهيافة الستات وذكاء التجار يمكن ان يؤديا بنا لأي شيء .
والموضة الان تحاول ان تستدرج الرجل .. بعد ان جعلت منه انثى بقصات الشعر البناتي والقمصان المشجرة والبنطلونات المحزقة .
ويبدو ان التجار يخططون للضحك على ذقن العالم كله .
ولعلهم اليهود الأذكياء .
ولو قالوا انها جزء من بروتوكولات آل صهيون لصدقت .. فهي شيء اشبه بالمؤامرة للسخرية من الانسان واستنزاف وقته وثروته واهتمامه واثارة شهوته وغريزته ليظل في حال حيوانية باستمرار حتى يمكن ركوبه واستغلاله كما يركب الحمار ويستغل ويقضى به الحوائج .
وأكثر الموضات لا هدف لها سوى الاحتفاء بالغرائز وإثارة أشواقها وتجميل مكامن الفتنة المستورة ولفت النظر بالألوان الباهرة والخطوط المثيرة والعطور المشهية ..
وهي دائما مؤامرة على الحواس لإيقاعها في حبال الغريزة .. ولكني أغالي كثيرا اذا اتهمت اليهود وحدهم .. فهذا أمر قديم جدا قبل مجيء اليهود الى الدنيا .
والتاجر المستغل غير ملوم وحده في بناء هذا الصرح من سرك المجاذيب .. وانما كل منا ملوم رجل وامرأة ..
حينما يترك عنقه لتقوده شهوته وغروره وليترك يد اليهودي تدلك له ذلك الضعف لتستولي عليه وتستغله .. فيخر كما يخر قط على الأرض يهر ملتذا من الأصابع التي تتحسسه ويسلم حافظة نقوده لتنشل .
صدقوني إنه لأمر مخجل جدا .. ذلك الشيء الذي اسمه الموضة .!
مقال : حينما يصبح للمرأه ذيل .
من كتاب : الشيطان يحكم
للدكتور : مصطفي محمود( رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ الذي ابتكر فكرة ˝ الموضة ˝ كان تاجرا ذكيا جدا . فهو الوحيد الذي استطاع ان يقنع المرأة بأن تلقي جميع فساتينها بدون سبب .
اذا كانت فساتينها طويلة اخرج لها موضة قصيرة .
واذا كانت جميع فساتينها قصيرة اخرج لها موضة طويلة .
وبهذه الخدعة اللطيفة يوشوش بها في اذنها في حنان وكأن المصلحة هي مصلحتها – سيدتي ان فستانك لا يتمشى مع الموضة .
استطاع ان يجعلها تلقي بفستانها الجديد الذي اشترته من شهر لمجرد انه ازرق والموضة بنفسجي . أو اصفر والموضة أحمر . أو شوال والموضة ضيق . أو ضيق والموضة واسع .
وألاعيب الموضة لا تنفذ في الضحك على ذقن المرأة واثارة غرورها . مرة تكشف لها صدرها ومرة تكشف لها ظهرها ومرة تشلح لها ساقها ومرة تبرز لها صدرها ومرة ترسم لها حلمة على السوتيان تخرق الفستان . ومرة تكشف النهر المثير بين الثديين . ومرة تكشف كتفا وتغطي أخرى .
من أيام الفراعنة لأيام العصور الوسطى للعصر الفيكتوري لعصرنا الذري . رحلة تثير العجب . وتثير الضحك .
الفرعونية التي كانت تلبس الشوال الضيق وتقول لرجلها تغازله :
تعال وأنظر الي وانا خراجة من النهر .
وثوبي لاصق بجسدي يبرز كل تفاصيله .
إالى زوجة لويس الرابع عشر التي تضع على رأسها ريشة وتلبس لحافا وبطانية ومشدات وأحزمة وزنها طن .
إلى امرأة الواحات التي تلبس المجرجر والخلاخيل والشخاشيخ وتضع في انفها حلقة .
إلى اهندية التي تلبس الساري
والمصرية التي تلتف بملاية
والعربية التي تلبس العباية
والباريسية التي تلبس البكيني
وبنت اليوم التي تلبس الميني جيب والماكسي جيب وتضع على عينيها نظارة ضخمة لها ضلفتين من الزجاج كأنها قمرة سفينة .
لعبة أشبه بلعبة المهرج .
ولا استبعد أن تظهر موضة جديدة تصنع للمرأة ذيلا طويلا في مؤخرتها . وان تدور المشاجرات في البيوت . وتهدد الزوجة زوجها بطلب الطلاق لأنه لم يشتري لها ذيلا لائقا مثل ذيول باقي صديقاتها . وانها لا تستطيع ان تمشي في الشارع بدون ذيل . وأن كل الناس يشيرون عليها ويضحكون لأنها فلاحة متأخرة تمشي بدون ذيل .
إن كل شيء ممكن في عالم الموضة .
وهيافة الستات وذكاء التجار يمكن ان يؤديا بنا لأي شيء .
والموضة الان تحاول ان تستدرج الرجل . بعد ان جعلت منه انثى بقصات الشعر البناتي والقمصان المشجرة والبنطلونات المحزقة .
ويبدو ان التجار يخططون للضحك على ذقن العالم كله .
ولعلهم اليهود الأذكياء .
ولو قالوا انها جزء من بروتوكولات آل صهيون لصدقت . فهي شيء اشبه بالمؤامرة للسخرية من الانسان واستنزاف وقته وثروته واهتمامه واثارة شهوته وغريزته ليظل في حال حيوانية باستمرار حتى يمكن ركوبه واستغلاله كما يركب الحمار ويستغل ويقضى به الحوائج .
وأكثر الموضات لا هدف لها سوى الاحتفاء بالغرائز وإثارة أشواقها وتجميل مكامن الفتنة المستورة ولفت النظر بالألوان الباهرة والخطوط المثيرة والعطور المشهية .
وهي دائما مؤامرة على الحواس لإيقاعها في حبال الغريزة . ولكني أغالي كثيرا اذا اتهمت اليهود وحدهم . فهذا أمر قديم جدا قبل مجيء اليهود الى الدنيا .
والتاجر المستغل غير ملوم وحده في بناء هذا الصرح من سرك المجاذيب . وانما كل منا ملوم رجل وامرأة .
حينما يترك عنقه لتقوده شهوته وغروره وليترك يد اليهودي تدلك له ذلك الضعف لتستولي عليه وتستغله . فيخر كما يخر قط على الأرض يهر ملتذا من الأصابع التي تتحسسه ويسلم حافظة نقوده لتنشل .
صدقوني إنه لأمر مخجل جدا . ذلك الشيء الذي اسمه الموضة .!
مقال : حينما يصبح للمرأه ذيل .
من كتاب : الشيطان يحكم
للدكتور : مصطفي محمود( رحمه الله). ❝