█ فتقول ملكة: «يا بني ماعدتش فاكرة سعيدة أم تعيسة أخيرًا أنا مع نقاوة عيني ليلة الانفراد التي لطالما حلمت بها الغناء والبهرجة والتصفيق والرقص الذي كان حافلًا خارج الغرفة المغلقة بدأ يسكت وأخيرًا نقرت (أمي) الباب ودخلت واصفرّ وجهي حتى أصبح كالليمونة فقد كانت تسأل عريسي إن حاجة إلى مساعدة (الماشطة) فاستنكر وحمدت له استنكاره فلم أكن أريد حضور أحد ولا العريس رجاء استعجال أمي ليزيد رعبي وطرحت الفراش حِرامًا أبيض وتركتنا وهي تُنذر أن ينتهي حالًا لتطلع الناس بالحِرام الأبيض مُدمَّمًا مُظهرًا العروس بكر» كتاب يوسف إدريس مجاناً PDF اونلاين 2024 يدين بمعظم تربيته الروحية جدة أمه «ملكة» اضطرته ظروف عمل والده دائمًا يقطن أماكن إصلاح الأراضي يسكن عائلة المستقرة قرية بجوار مدينة فاقوس وانضم لهذه الأسرة الكبيرة منذ سن الخامسة مبكرًا جدًّا وكانت جدته والتسعين من عمرها وبقية الأفراد تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والستين لذا لم يكن طفلًا مدللًا بل يستيقظ كل يوم صباحًا لأن المسافة المدرسة أربعة كيلومترات! شعر أول الأمر بوحدة رهيبة حد تعبيره فالكل يعمل وقت عند ليضيعه طفل مثله ليس بالتأكيد طفله وهكذا بدأت وبين علاقة ربما تكون أهم علاقات حياته فالإنسان إذا طالت وتعدّى التسعين يعود ليحيا طفولته الثانية مثل وجدها الأقرب طبيعته «الطفلة»!
❞ وبالتفصيل راحت ملكة تقص على يوسف إدريس كل الدقائق الصغيرة الخاصة بالملابس التي جهّزتها، وكل كبيرة وصغيرة في (جهازها)، حتى وصلا إلى ليلة الحنة، وهي الليلة التي عادةً يكتب فيها الكتاب، وتسبق يوم الدخلة بيوم.
كل هذا وإدريس يتأمل نظراتها المستفيقة السكرى بعبق التي تتذكر الماضي كأنه الآن، وأحلى من الآن، فهو ماضي البنت الصغيرة الحلوة حين تحلم بشاب غريب تريد أن تمنح له نفسها في أقرب لحظة، نظرات تختلط فيها نشوة ما كان، باكتئابه أنه فعلًا كان ومضى، وأنه أبدًا لن يعود!
إلى أن وصلا إلى ليلة الدخلة، فقالت له ملكة: «وفي الصباحية...».
أمسك إدريس بيدها النحيلة كأنه -على حد تعبيره- يقبض بكل قوته على «فرامل» البسكليتة!
وقال لها: «لا... الأهم من الصباحية أن تحكي لي عن ليلة (الدخلة) وما حدث فيها... فأرجوكِ يا جلالة الملكة أن تقصِّي علي كل شيء بالتفصيل» . ❝
❞ كانت (ملكة) جميلة ومثيرة، مَن حَظي منها بنظرة من رجال القرية -على حد تعبير إدريس- كان يعيش متدفئًا بها طوال العام، واختار لها والدها شابًّا مليحًا عريض القوام في السابعة عشرة من عمره كان هو المرشح لزعامة القبيلة بعد أن ينتهي عهد أبيها، أو على الأقل كان واحدًا من كبار المرشحين.
وبوجه استرخت ملامحه وانبسطت تجعداته، وبعينين كأنما أصبح ما يتحكم فيهما ليس ما تراه أمامها ولكن رؤى ماضية سحيقة تخرج معتقة بمنعة إعادة شريط الحياة والشباب والقلب الجياش كأنما تحياها فعلًا وحقًّا مرة أخرى، تلك اللحظات كانت أشد ما يسترعي انتباه الطفل يوسف إدريس ليس لسروره بالحكاية والأحداث ولكن لذلك التغير الخارق الذي يطرأ على ملامحها وتلك الأنوثة الدافقة التي تعود إلى صوتها ليفقد مقاماته العريضة الرجالية، ويكتسب خواصه الأنثوية المزغردة التي كانت لها في ريعان الشباب، حتى وصلا معًا -إدريس وملكة- بالقصة إلى قراءة الفاتحة، وسألها فجأة: هل رأيتِ العريس قبل هذا؟ . ❝
❞ هكذا استولت ملكة على عقل يوسف إدريس تمامًا خصوصًا وهي تُحدِّثه عن عشاء العروسين الذي يخصص لهما بعد «الزَّفة» حين ينفردان وحدهما في غرفة جديدة الفراش مغلقة... وكان يزيح جانبًا أحاديثها المفصلة عن الفستان والطرحة والخجل، وعدم قدرتها على ابتلاع لقمة من المائدة الفاخرة الحافلة التي أمامها، فيسألها في الصميم: «طبعًا كنتِ تعرفين ما سوف يحدث بعد الطعام؟!» . ❝