█ هكذا استولت ملكة عقل يوسف إدريس تمامًا خصوصًا وهي تُحدِّثه عن عشاء العروسين الذي يخصص لهما بعد «الزَّفة» حين ينفردان وحدهما غرفة جديدة الفراش مغلقة وكان يزيح جانبًا أحاديثها المفصلة الفستان والطرحة والخجل وعدم قدرتها ابتلاع لقمة من المائدة الفاخرة الحافلة التي أمامها فيسألها الصميم: «طبعًا كنتِ تعرفين ما سوف يحدث الطعام؟!» كتاب أنا مجاناً PDF اونلاين 2024 يدين بمعظم تربيته الروحية إلى جدة أمه «ملكة» فقد اضطرته ظروف عمل والده كان دائمًا يقطن أماكن إصلاح الأراضي أن يسكن مع عائلة المستقرة قرية بجوار مدينة فاقوس وانضم لهذه الأسرة الكبيرة منذ سن الخامسة مبكرًا جدًّا وكانت أم جدته والتسعين عمرها وبقية الأفراد تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والستين لذا لم يكن طفلًا مدللًا بل يستيقظ كل يوم صباحًا لأن المسافة المدرسة كانت أربعة كيلومترات! شعر أول الأمر بوحدة رهيبة حد تعبيره فالكل يعمل ولا وقت عند أحد ليضيعه طفل مثله ليس بالتأكيد طفله وهكذا بدأت وبين علاقة ربما تكون أهم علاقات حياته فالإنسان إذا طالت وتعدّى التسعين يعود ليحيا طفولته الثانية مثل وجدها الأقرب طبيعته «الطفلة»!
❞ كانت (ملكة) جميلة ومثيرة، مَن حَظي منها بنظرة من رجال القرية -على حد تعبير إدريس- كان يعيش متدفئًا بها طوال العام، واختار لها والدها شابًّا مليحًا عريض القوام في السابعة عشرة من عمره كان هو المرشح لزعامة القبيلة بعد أن ينتهي عهد أبيها، أو على الأقل كان واحدًا من كبار المرشحين.
وبوجه استرخت ملامحه وانبسطت تجعداته، وبعينين كأنما أصبح ما يتحكم فيهما ليس ما تراه أمامها ولكن رؤى ماضية سحيقة تخرج معتقة بمنعة إعادة شريط الحياة والشباب والقلب الجياش كأنما تحياها فعلًا وحقًّا مرة أخرى، تلك اللحظات كانت أشد ما يسترعي انتباه الطفل يوسف إدريس ليس لسروره بالحكاية والأحداث ولكن لذلك التغير الخارق الذي يطرأ على ملامحها وتلك الأنوثة الدافقة التي تعود إلى صوتها ليفقد مقاماته العريضة الرجالية، ويكتسب خواصه الأنثوية المزغردة التي كانت لها في ريعان الشباب، حتى وصلا معًا -إدريس وملكة- بالقصة إلى قراءة الفاتحة، وسألها فجأة: هل رأيتِ العريس قبل هذا؟ . ❝
❞ فتقول ملكة: «يا بني ماعدتش فاكرة، سعيدة أم تعيسة، أخيرًا أنا مع نقاوة عيني في ليلة الانفراد التي لطالما حلمت بها، الغناء والبهرجة والتصفيق والرقص الذي كان حافلًا خارج الغرفة المغلقة بدأ يسكت، وأخيرًا نقرت (أمي) على الباب ودخلت، واصفرّ وجهي حتى أصبح كالليمونة، فقد كانت تسأل عريسي إن كان في حاجة إلى مساعدة (الماشطة) فاستنكر، وحمدت له استنكاره، فلم أكن أريد حضور أحد ولا حتى العريس، رجاء استعجال أمي ليزيد رعبي، وطرحت على الفراش حِرامًا أبيض، وتركتنا وهي تُنذر العريس أن ينتهي حالًا لتطلع على الناس بالحِرام الأبيض مُدمَّمًا مُظهرًا أن العروس بكر» . ❝
❞ ها هي ذي كل أدوات القهوة أمامها، وإدريس مخفض الرأس لا يلوم نفسه، ولكنه غير راضٍ تمامًا عنها وعمّا ارتكبتْه... حتى حين صنعت لنفسها فنجانين. وانسجمت تمامًا، وانطلقت على سجيتها تحكي، كان يستمع لها بنفس حب استطلاعه ولكن بمزاج قد تعكر، نفس الشعور الذي لا بد قد انتاب آدم حين فضّل إغراء حواء، وأكل من الشجرة المحرمة! . ❝