❞ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي " حامية " أي حارة . الباقون حمئة أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء ، تقول : حمأت البئر حمأ ( بالتسكين ) إذا نزعت حمأتها . وحمئت البئر حمأ ( بالتحريك ) كثرت حمأتها . ويجوز أن تكون " حامية " من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء . وقد يجمع بين القراءتين فيقال : كانت حارة وذات حمأة . وقال عبد الله بن عمرو : نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشمس حين غربت ; فقال : نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض . وقال ابن عباس : ( أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عين حمئة ; وقال معاوية : هي " حامية " فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : فأنا مع أمير المؤمنين ; فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا : يا كعب كيف تجد هذا في التوراة ؟ فقال : أجدها تغرب في عين سوداء ، فوافق ابن عباس ) وقال الشاعر وهو تبع اليماني :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
الخلب : الطين : والثأط : الحمأة . والحرمد : الأسود . وقال القفال قال بعض العلماء : ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها ; لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض ، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض ، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ; ولهذا قال : وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم ، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم . وقال القتبي : ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها ، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم .
ووجد عندها قوما أي عند العين ، أو عند نهاية العين ، وهم أهل جابرس ، ويقال لها بالسريانية : جرجيسا ; يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح ; ذكره السهيلي . وقال وهب بن منبه : ( كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر ، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله - تعالى - : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم أمم جميع الأرض ، وهم أصناف : أمتان بينهما طول الأرض كله ، وأمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ; فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل ; وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل . فقال ذو القرنين : إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ; فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم ؟ وبأي صبر أقاسيهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة ؟ فقال الله - تعالى - : سأظفرك بما حملتك ; أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء ، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك ، يهديك النور من أمامك ، وتحفظك الظلمة من ورائك ; فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه ، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس ; لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك ، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله - تعالى - وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله . وألسنة مختلفة ، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة ; فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان ، حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله - تعالى - وإلى عبادته ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه ، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان ، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان ، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا ، فعجوا إلى الله - تعالى - بصوت واحد : إنا آمنا ; فكشفها عنهم ، وأخذهم عنوة ، ودخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه ، والنور أمامهم يقوده ويدله ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهي هاويل ، وسخر الله - تعالى - يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا ، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم ، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله ، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا ، ففرغ منهم ، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى ، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل ، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض ، ففعل فيها كفعله فيما قبلها ، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله - تعالى - كثيرا ليس لهم عدد ، وليس فيهم مشابهة من الإنس ، وهم أشباه البهائم ; يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع ، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله - تعالى - في الأرض ، وليس لله - تعالى - خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، فإن طالت المدة فسيملئون الأرض ، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ . . . ) وذكر الحديث ; وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية .
قوله تعالى : قلنا ياذا القرنين قال القشيري أبو نصر : إن كان نبيا فهو وحي ، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله - تعالى - .
إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال إبراهيم بن السري : خيره بين هذين كما خير محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ونحوه . وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى أن الله - تعالى - خيره بين هذين الحكمين ; قال النحاس : ورد علي بن سليمان عليه قوله ; لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا ، فكيف يقول لربه - عز وجل - : ثم يرد إلى ربه ؟ وكيف يقول : فسوف نعذبه فيخاطب بالنون ؟ قال : التقدير ; قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين . قال أبو جعفر النحاس : هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء . أما قوله : قلنا ياذا القرنين فيجوز أن يكون الله - عز وجل - خاطبه على لسان نبي في وقته ، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه : فإما منا بعد وإما فداء ، وأما إشكال فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فإن تقديره أن الله - تعالى - لما خيره بين القتل في قوله - تعالى - : إما أن تعذب وبين الاستبقاء في قوله جل وعز : وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال لأولئك القوم : أما من ظلم أي من أقام على الكفر منكم .
فسوف نعذبه أي بالقتل .
ثم يرد إلى ربه أي يوم القيامة .
فيعذبه عذابا نكرا أي شديدا في جهنم .
وأما من آمن وعمل صالحا أي تاب من الكفر .
. قال أحمد بن يحيى : أن في موضع نصب في إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال : ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو ، كما قال :
فسيرا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق. ❝ ⏤محمد بن صالح العثيمين
❞ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا ۗ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة قرأ ابن عاصم وعامر وحمزة والكسائي " حامية " أي حارة . الباقون حمئة أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء ، تقول : حمأت البئر حمأ ( بالتسكين ) إذا نزعت حمأتها . وحمئت البئر حمأ ( بالتحريك ) كثرت حمأتها . ويجوز أن تكون " حامية " من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء . وقد يجمع بين القراءتين فيقال : كانت حارة وذات حمأة . وقال عبد الله بن عمرو : نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت ; فقال : نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض . وقال ابن عباس : ( أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين حمئة ; وقال معاوية : هي " حامية " فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : فأنا مع أمير المؤمنين ; فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا : يا كعب كيف تجد هذا في التوراة ؟ فقال : أجدها تغرب في عين سوداء ، فوافق ابن عباس ) وقال الشاعر وهو تبع اليماني :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد
بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
الخلب : الطين : والثأط : الحمأة . والحرمد : الأسود . وقال القفال قال بعض العلماء : ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها ; لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض ، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض ، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق ، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ; ولهذا قال : وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم ، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم . وقال القتبي : ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها ، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم .
ووجد عندها قوما أي عند العين ، أو عند نهاية العين ، وهم أهل جابرس ، ويقال لها بالسريانية : جرجيسا ; يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح ; ذكره السهيلي . وقال وهب بن منبه : ( كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر ، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى : يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم ، وهم أمم جميع الأرض ، وهم أصناف : أمتان بينهما طول الأرض كله ، وأمتان بينهما عرض الأرض كله ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج ; فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك . وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل ; وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل . فقال ذو القرنين : إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت ; فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم ؟ وبأي صبر أقاسيهم ؟ وبأي لسان أناطقهم ؟ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة ؟ فقال الله تعالى : سأظفرك بما حملتك ; أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء ، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء ، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك ، يهديك النور من أمامك ، وتحفظك الظلمة من ورائك ; فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه ، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس ; لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك ، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله . وألسنة مختلفة ، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة ; فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان ، حتى جمعتهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته ، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه ، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان ، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان ، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا ، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد : إنا آمنا ; فكشفها عنهم ، وأخذهم عنوة ، ودخلوا في دعوته ، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا ، ثم انطلق بهم يقودهم ، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه ، والنور أمامهم يقوده ويدله ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهي هاويل ، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا ، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة ، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم ، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله ، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا ، ففرغ منهم ، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس ، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى ، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل ، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض ، ففعل فيها كفعله فيما قبلها ، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا ليس لهم عدد ، وليس فيهم مشابهة من الإنس ، وهم أشباه البهائم ; يأكلون العشب ، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع ، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض ، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد ، فإن طالت المدة فسيملئون الأرض ، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ . . . ) وذكر الحديث ; وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية .
قوله تعالى : قلنا ياذا القرنين قال القشيري أبو نصر : إن كان نبيا فهو وحي ، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى .
إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال إبراهيم بن السري : خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ونحوه . وقال أبو إسحاق الزجاج : المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين ; قال النحاس : ورد علي بن سليمان عليه قوله ; لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا ، فكيف يقول لربه عز وجل : ثم يرد إلى ربه ؟ وكيف يقول : فسوف نعذبه فيخاطب بالنون ؟ قال : التقدير ; قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين . قال أبو جعفر النحاس : هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء . أما قوله : قلنا ياذا القرنين فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته ، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه : فإما منا بعد وإما فداء ، وأما إشكال فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فإن تقديره أن الله تعالى لما خيره بين القتل في قوله تعالى : إما أن تعذب وبين الاستبقاء في قوله جل وعز : وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال لأولئك القوم : أما من ظلم أي من أقام على الكفر منكم .
فسوف نعذبه أي بالقتل .
ثم يرد إلى ربه أي يوم القيامة .
فيعذبه عذابا نكرا أي شديدا في جهنم .
وأما من آمن وعمل صالحا أي تاب من الكفر .
. قال أحمد بن يحيى : أن في موضع نصب في إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال : ولو رفعت كان صوابا بمعنى فإما هو ، كما قال :
فسيرا فإما حاجة تقضيانها وإما مقيل صالح وصديق . ❝
❞ لا أنسى تلك الليلة منذ سنوات وأنا في رحلتي في أدغال أفريقيا الإستوائية أشق النيل العريض في سفينة نيلية وقد تجاوزنا الملكال ودخلنا منطقة يكثر فيها البعوض وينبسط فيها النيل على شكل مستنقعات على مدى البصر .
والسفينة تتهادى على سطح الماء في جو لزج شديد الرطوبة ويقع مريضاً بالملاريا كل من على السفينة حتى الربان .. وأنا أبتلع أقراص الكاموكين بانتظام خوفًا من الإصابة بالحمى .
وذات ليلة خطر لي أن أصعد على سطح السفينة لأشاهد أفريقيا الإستوائية في الليل .
ودهنت وجهي وذراعي بطارد البعوض وتسللت إلى السطح وكان ما رأيته شيئاً كالحلم .
كانت آلاف الأشجار تضيء وتنطفئ وكأنها أشجار الميلاد يلهو بها الأطفال وقد غطوها بآلاف القناديل الكهربائية الصغيرة يضيئونها ويطفئونها معًا .
ومسحت على عيني من الدهشة .. وعدت أنظر .
كان ما أرى حقيقة لا خيالًا .
كانت الأشجار تومض بالفعل كأنها مغطاة بآلاف الكهارب ثم تنطفئ .
وأخبرني الربان أن ما رأيت في تلك الليلة كان هو الحقيقة بعينها .. وأن تلك الأشجار تغطيها آلاف من حشرات الحباحب المضيئة وأنها تضيء معًا لتجذب البعوض بضوئها ثم تأكله وتعود فتنطفئ من جديد .. وأن هذه سُنّة الطبيعة .. كلما تكاثرت فيها حشرة اصطنع لها الله حشرة مضادة تأكلها ليحفظ للمخلوقات توازنها فلا يطغى واحد على الآخر إلا بحساب .
وظللت أذكر تلك الليلة .
وظللت أذكر ذلك الحديث .
وكل يوم يجتمع لديّ المزيد من الأدلة بأن الكون هو بالفعل مسرح للتوازن العظيم في كل شيء .. وأن كل شيء قد قُدِّر فيه تقديرًا دقيقًا .
لو كانت الكرة الأرضية أصغر حجمًا مما هي لضغطت جاذبيتها ولأفلت الهواء من جوها وتبعثر في الفضاء ولتبخر الماء وتبدد ولأصبحت جرداء مثل القمر لا ماء ولا هواء ولا جو ولاستحالت الحياة .
ولو كانت أكبر حجمًا مما هي لازدادت قوتها الجاذبة ولأصبحت الحركة على سطحها أكثر مشقة ولازداد وزن كل منا أضعافًا ولأصبح جسده عبئًا ثقيلًا لا يمكن حمله .
ولو أنها دارت حول نفسها بسرعة أقل كسرعة القمر مثلًا لاستطال النهار إلى 14 يومًا والليل إلى 14 ليلة ولتقلب الجو من حر مهلك بطول أسبوعين إلى صقيع قاتل بطول أسبوعين ولأصبحت الحياة مستحيلة .
وبالمثل لو أن الأرض اقتربت في فلكها من الشمس مثل حال الزهرة لأهلكتنا الحرارة .. ولو أنها ابتعدت في مدارها مثل زحل والمشتري لأهلكنا البرد .
وأكثر من هذا فنحن نعلم أنها تدور بزاوية ميل قدرها 33 درجة الأمر الذي تنشأ عنه المواسم وتنتج عنه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكن .
ولو كانت قشرة الأرض أكثر سُمكًا لامتصت الأكسجين, ولما وجدنا حاجتنا من هذا الغاز الثمين .
ولو كانت البحار أعمق لامتصت المياه الزائدة ثاني أكسيد الكربون ولما وجد النبات كفايته ليعيش ويتنفس .
ولو كان الغلاف الهوائي أقل كثافة لأحرقتنا النيازك والشهب المتساقطة بدلًا من أن تستهلك هذه الشهب وتتفتت في أثناء اختراقها للغلاف الهوائي الكثيف كما يحدث حاليًا .
ولو زادت نسبة الأكسجين عما هي عليه حاليّاً في الجو لازدادت القابلية للاحتراق و لتحولت الحرائق البسيطة إلى انفجارات هائلة .
ولو انخفضت لاستحال نشاطنا إلى خمول .
ولولا أن الثلج أقل كثافة من الماء لما طفا على السطح ولما حفظ أعماق البحار دافئة وصالحة لحياة الأسماك والأحياء البحرية .
ولولا مظلة الأوزون المنصوبة في الفضاء فوق الأرض والتي تمنع وصول الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض إلا بنسب ضئيلة .. لأهلكتنا هذه الأشعة القاتلة .
فإذا جئنا إلى تشريح الإنسان نفسه فسوف نرى المعجز والملغز من أمر هذا التوازن الدقيق المحسوب .. فكل عنصر له في الدم نسبة ومقدار .. الصوديوم .. البوتاسيوم .. الكالسيوم .. السكر .. الكوليسترول .. البولينا .
وأي اختلال في هذه النسب ولو بمقادير ضئيلة يكون معناه المرض .. فإذا تفاقم الاختلال فهو العجز والموت .
والجسم مسلح بوسائل آلية تعمل في تلقائية على حفظ هذا التوازن طوال الحياة .
بل إن قلوية الدم لها ضوابط لحفظها .
وحموضة البول لها ضوابط لحفظها .
ودرجة الحرارة المكيفة دائمًا عند 37 مئوية، من ورائها عمليات فسيولوجية وكيميائية ثابتة متزنة عن هذا المستوى .
وكذلك ضغط الدم .
وتوتر العضلات .
ونبض القلب .
ونظام الإمتصاص والإخراج .
ونظام الاحتراق الكيميائي في فرن الكبد .
ثم الاتزان العصبي بين عوامل التهدئة والإثارة .
ثم عملية التنظيم التي تقوم بها الهرمونات والإنزيمات بين التعجيل والإبطاء للعمليات الكيميائية والحيوية .
معجزة فنية من معجزات التوازن والاتساق والهارموني يعرفها كل طبيب وكل دارس للفسيولوجيا والتشريح والكيمياء العضوية .
(( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا ))
(الفرقان – 2)
ولن تنتهي الأمثلة في علم النبات و الحيوان و الطب و الفلك , مجلدات و مجلدات .و كل صفحة سوف تؤيد وتؤكد هذا التوازن المحكم والإنضباط العظيم في عالم الخلق والمخلوقات .
والقول بأن كل هذا الاتساق والنظام حدث صدفة واتفاقًا هو السذاجة بعينها . كقولنا إن انفجارًا في مطبعة أدى إلى أن تصطف الحروف على هيئة قاموس محكم .
والكيميائي المغرور الذي قال .. آتوني بالهواء والماء والطين وظروف نشأة الحياة الأولى وأنا أصنع لكم إنسانًا .. هذا الكيميائي قد قرر احتجاجه سلفًا لكل العناصر والظروف .. وهو اعتراف بالعجز عن تقليد صنعة الخالق الذي خلق كل شيء وخلق ظروفه أيضًا .
ولو أنا آتيناه بكل هذه العناصر وكل تلك الظروف .. ولو أنه فرضًا وجدلًا استطاع أن يخلق إنساناً ... فإنه لن يقول .. صنعته الصدفة ... بل إنه سوف يقول .. صنعته أنا .
والكلام عن القرد الذي يجلس على آلة كاتبة لمدى اللانهاية من الزمان ليدق لانهاية من الإمكانيات .. وكيف أنه لا بد يوماً ما أن يدق بالصدقة بيتاً لشكسبير أو جملة مفيدة .. هو كلام مردود عليه .
فسوف نسلم جدلاً وفرضاً بأن هذا حدث في الطبيعة وبأنه حدث صدفة واتفاقاً وبعد ملايين الملايين من التباديل والتوافيق بين العناصر ...تكونت بالصدفة في مياه المستنقعات كمية من الحامض النووي DNA الذي يستطيع أن يكرر نفسه .
لكن ...كيف تطورت هذه الكمية من الحامض العضوي إلى الحياة التي نراها ؟
سوف نعود فنقول بالصدفة أمكن تشكيل البروتوبلازم .
ثم بصدفة أخرى تشكلت الخلية .
ثم بصدفة ثالثة تشعبت إلى نوعين خلية نباتية وخلية حيوانية .
ثم نتسلق شجرة الحياة درجة درجة ومعنا هذا المفتاح السحري .
كلما أعيتنا الحيلة في فهم شيء قلنا إنه حدث صدفة .
هل هذا معقول .. ؟!
بالصدفة تستدل الطيور والأسماك المهاجرة على أوطانها على بعد آلاف الأميال وعبر الصحارى والبحار .
بالصدفة يكسر الكتكوت البيضة عند أضعف نقطة فيها ليخرج .
بالصدفة تلتئم الجروح وتخيط شفراتها بنفسها بدون جراح .
بالصدفة يدرك عباد الشمس أن الشمس هي مصدر حياته فيتبعها .
بالصدفة تصنع أشجار الصحارى لنفسها بذوراً مجنحة لتطير عبر الصحارى إلى حيث ظروف إنبات وري وأمطار أحسن .
بالصدفة اكتشف النبات قنبلته الخضراء ( الكلوروفيل) واستخدامها في توليد طاقة حياته .
والنحلة التي أقامت مجتمعاً ونظاماً ومارست العمارة وفنون الكيمياء المعقدة التي تحول بها الرحيق إلى عسل وشمع .
وحشرة الترميت التي اكتشفت القوانين الأولية لتكيف الهواء فأقامت بيوتًا مكيفة وطبقت في مجتمعها نظاماً صارماً للطبقات .
والحشرات الملونة التي اكتشفت أصول وفن مكياج التنكر والتخفي .
هل كل هذا جاء صدفة .
وإذا سلمنا بصدفة واحدة في البداية .فكيف يقبل العقل سلسلة متلاحقة من المصادفات والخبطات العشوائية .
إنها السذاجة بعينها التي لا تحدث إلا في الأفلام الهزلية الرخيصة .
وقد وجد الفكر المادي نفسه في مأزق أمام هذه السذاجة فبدأ يحاول التخلص من كلمة صدفة ليفترض فرضاً آخر ..
فقال إن كل هذه الحياة المذهلة بألوانها وتصانيفها بدأت من حالة ضرورة .. مثل الضرورة التي تدفعك إلى الطعام ساعة الجوع . ثم بتعقد الظروف والبيئات والحاجات فنشأت كل هذه الألوان .
وهو مجرد لعب بالألفاظ .
فمكان الصدفة وضعوا كلمة (( تعقد الضرورة )) .
وهي في نظرهم تتعقد تلقائيّاً .. وتنمو من نغمة واحدة إلى سمفونية تلقائياً .
كيف ؟
كيف ينمو الحدث الواحد إلى قصة محبوكة بدون عقل مؤلف ؟
ومَن الذي أقام الضرورة أصلاً ؟
وكيف تقوم الضرورة مِن لا ضرورة ؟
إنها استمالة العقل الخبيث المكابر ليتجنب صوت الفطرة الذي يفرض نفسه فرضاً ليقول إن هناك خالقاً مدبراً هو اليد الهادية و عصا المايسترو التي تقود هذه المعزوفة الجميلة الرائعة .
هذا التوازن العظيم والاتساق المذهل والتوافق والتلاحم والانسجام الذي يتألف من ملايين الدقائق والتفاصيل يصرخ بأن هناك مبدعاً لهذه البدائع وأنه إله قادر جامع لكل الكمالات قريب من مخلوقاته قرب دمها من أجسادها .. معتني بها عناية الأب الحنون مستجيباً لحاجاتها سميعاً لآهاتها بصيراً بحالاتها .. وأنه الله الذي وصفته لنا الأديان بأسمائه الحسنى ولا سواه .. وليس القانون الأصم الذي تقول به العلوم المادية البكماء .. ولا إله أرسطو المنعزلين .. ولا إله أفلاطون القابع في عالم المُثُل .. ولا هو الوجود المادي بكليته كما تصور إسبينواز وأتباع الوجود .
و إنما هو :
الأحد .
الذي ليس كمثله شيء .
المتعالي على كل ما نعرف من حالات و صور و أشكال و زمان و مكان .
ظاهر بأفعاله خفي بذاته .. لا تراه الأبصار و يرى كل الأبصار .. بل إن كل الأبصار ترى به و بنوره و بما أودع فيها من قدرة .
و العقل العلمي لا يعترف بهذه الكلمات الصوفية و يريد أن يرى الله ليعترف به .. فإذا قلنا له إن الله ليس محدوداً ليقع في مدى الأبصار .. و إنه اللانهاية و إنه الغيب .
يقول لنا العلم . إنه لهذا لا يعترف به . و إنه ليس من العلم الإيمان بالغيب و إن مجال العلم هو المحسوس , يبدأ من المحسوس و ينتهي إلى المحسوس .
فنقول للعلم .. كذبت .
إن نصف العلم الآن أصبح غيباً .
العلم يلاحظ و يدون الملاحظات .. يلاحظ أن صعود الجبل أشق من النزول منه .. و إن رفع حجر على الظهر أصعب من رفع عصاً .. و أن الطير إذا مات وقع على الأرض . و أن التفاحة تقع هي الأخرى من شجرتها على الأرض .. و أن القمر يدور معلقاً في السماء .
و هي ملاحظات لا تبدو بينها علقة .
و لكن حينما يكتشف نيوتن الجاذبية ترتبط كل هذه الملاحظات لتصبح شواهد دالة على هذه الجاذبية .. وقوع التفاحة من شجرتها وصعوبة تسلق الجبل و صعوبة رفع الحجر .. و تعلق القمر بالسماء .
إنها نظرية فسرت لنا الواقع .
و مع ذلك فهذه الجاذبية غيب لا أحد يعرف كنهها .. لم ير أحد الأعمدة التي ترفع السماوات بما فيها من نجوم و كواكب .
و نيوتن نفسه و هو صاحب النظرية يقول في خطاب إلى صديقه بنتلى :
إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها و لا إحساس تؤثر على مادة أخرى و تجذبها مع أنه لا توجد بينهم أي علاقة .
فها هي ذي نظرية علمية نتداولها و نؤمن بها و نعتبرها علماً .. و هي غيب في غيب .
و الإلكترون .
و الموجة الكلاسيكية .
و الذرة .
و النترون .
لم نر منها شيئاً و مع ذلك نؤمن بوجودها اكتفاء بآثارها . و نقيم عليها علوماً متخصصة و نبني لها المعامل و المختبرات .. و هي غيب في غيب .. بالنسبة لحواسنا .
و العلم لم يعرف ماهية أي شيء على الإطلاق .
و نحن لا نعرف إلا أسماء . لا نعرف إلا مسميات .. نحن لا نتبادل مصطلحات دون أن نعرف لها كنهاً .
و الله حينما علم آدم الأسماء فقط و لم يعلمه المسميات .
((و عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّهَا))
(31 – البقرة)
و هذه هي حدود العلم .
و غاية مطمع العلم أن يتعرف على العلاقات و المقادير . و لكنه لا يستطيع أن يرى جوهر أي شيء أو ماهيته أو كنهه . هو دائماً يتعرف على الأشياء من ظواهرها و يتحسسها من خارجها .
و مع ذلك فهو يحتضن بنظرياته كل الماهيات و يفترض الفروض و يتصور مسائل هي بالنسبة لأدواته محض غيب و تخمين .
نحن في عصر العلم الغيبي .. والضرب في متاهات الفروض .
و ليس للعلم الآن أن يحتج على الغيبيات بعد أن غرق إلى أذنيه في الغيبيات .
و أولى بنا أن نؤمن بعالم الغيب . خالقنا البر الكريم . الذي نرى آثاره في كل لمحة عين و كل نبضة قلب و كل سبحة تأمل .
هذا أمر أولى بنا من الغرق في الفروض .
مقال / التوازن العظيم .
من كتاب/ رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ لا أنسى تلك الليلة منذ سنوات وأنا في رحلتي في أدغال أفريقيا الإستوائية أشق النيل العريض في سفينة نيلية وقد تجاوزنا الملكال ودخلنا منطقة يكثر فيها البعوض وينبسط فيها النيل على شكل مستنقعات على مدى البصر .
والسفينة تتهادى على سطح الماء في جو لزج شديد الرطوبة ويقع مريضاً بالملاريا كل من على السفينة حتى الربان .. وأنا أبتلع أقراص الكاموكين بانتظام خوفًا من الإصابة بالحمى .
وذات ليلة خطر لي أن أصعد على سطح السفينة لأشاهد أفريقيا الإستوائية في الليل .
ودهنت وجهي وذراعي بطارد البعوض وتسللت إلى السطح وكان ما رأيته شيئاً كالحلم .
كانت آلاف الأشجار تضيء وتنطفئ وكأنها أشجار الميلاد يلهو بها الأطفال وقد غطوها بآلاف القناديل الكهربائية الصغيرة يضيئونها ويطفئونها معًا .
ومسحت على عيني من الدهشة .. وعدت أنظر .
كان ما أرى حقيقة لا خيالًا .
كانت الأشجار تومض بالفعل كأنها مغطاة بآلاف الكهارب ثم تنطفئ .
وأخبرني الربان أن ما رأيت في تلك الليلة كان هو الحقيقة بعينها .. وأن تلك الأشجار تغطيها آلاف من حشرات الحباحب المضيئة وأنها تضيء معًا لتجذب البعوض بضوئها ثم تأكله وتعود فتنطفئ من جديد .. وأن هذه سُنّة الطبيعة .. كلما تكاثرت فيها حشرة اصطنع لها الله حشرة مضادة تأكلها ليحفظ للمخلوقات توازنها فلا يطغى واحد على الآخر إلا بحساب .
وظللت أذكر تلك الليلة .
وظللت أذكر ذلك الحديث .
وكل يوم يجتمع لديّ المزيد من الأدلة بأن الكون هو بالفعل مسرح للتوازن العظيم في كل شيء .. وأن كل شيء قد قُدِّر فيه تقديرًا دقيقًا .
لو كانت الكرة الأرضية أصغر حجمًا مما هي لضغطت جاذبيتها ولأفلت الهواء من جوها وتبعثر في الفضاء ولتبخر الماء وتبدد ولأصبحت جرداء مثل القمر لا ماء ولا هواء ولا جو ولاستحالت الحياة .
ولو كانت أكبر حجمًا مما هي لازدادت قوتها الجاذبة ولأصبحت الحركة على سطحها أكثر مشقة ولازداد وزن كل منا أضعافًا ولأصبح جسده عبئًا ثقيلًا لا يمكن حمله .
ولو أنها دارت حول نفسها بسرعة أقل كسرعة القمر مثلًا لاستطال النهار إلى 14 يومًا والليل إلى 14 ليلة ولتقلب الجو من حر مهلك بطول أسبوعين إلى صقيع قاتل بطول أسبوعين ولأصبحت الحياة مستحيلة .
وبالمثل لو أن الأرض اقتربت في فلكها من الشمس مثل حال الزهرة لأهلكتنا الحرارة .. ولو أنها ابتعدت في مدارها مثل زحل والمشتري لأهلكنا البرد .
وأكثر من هذا فنحن نعلم أنها تدور بزاوية ميل قدرها 33 درجة الأمر الذي تنشأ عنه المواسم وتنتج عنه صلاحية أكثر مناطق الأرض للزراعة والسكن .
ولو كانت قشرة الأرض أكثر سُمكًا لامتصت الأكسجين, ولما وجدنا حاجتنا من هذا الغاز الثمين .
ولو كانت البحار أعمق لامتصت المياه الزائدة ثاني أكسيد الكربون ولما وجد النبات كفايته ليعيش ويتنفس .
ولو كان الغلاف الهوائي أقل كثافة لأحرقتنا النيازك والشهب المتساقطة بدلًا من أن تستهلك هذه الشهب وتتفتت في أثناء اختراقها للغلاف الهوائي الكثيف كما يحدث حاليًا .
ولو زادت نسبة الأكسجين عما هي عليه حاليّاً في الجو لازدادت القابلية للاحتراق و لتحولت الحرائق البسيطة إلى انفجارات هائلة .
ولو انخفضت لاستحال نشاطنا إلى خمول .
ولولا أن الثلج أقل كثافة من الماء لما طفا على السطح ولما حفظ أعماق البحار دافئة وصالحة لحياة الأسماك والأحياء البحرية .
ولولا مظلة الأوزون المنصوبة في الفضاء فوق الأرض والتي تمنع وصول الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض إلا بنسب ضئيلة .. لأهلكتنا هذه الأشعة القاتلة .
فإذا جئنا إلى تشريح الإنسان نفسه فسوف نرى المعجز والملغز من أمر هذا التوازن الدقيق المحسوب .. فكل عنصر له في الدم نسبة ومقدار .. الصوديوم .. البوتاسيوم .. الكالسيوم .. السكر .. الكوليسترول .. البولينا .
وأي اختلال في هذه النسب ولو بمقادير ضئيلة يكون معناه المرض .. فإذا تفاقم الاختلال فهو العجز والموت .
والجسم مسلح بوسائل آلية تعمل في تلقائية على حفظ هذا التوازن طوال الحياة .
بل إن قلوية الدم لها ضوابط لحفظها .
وحموضة البول لها ضوابط لحفظها .
ودرجة الحرارة المكيفة دائمًا عند 37 مئوية، من ورائها عمليات فسيولوجية وكيميائية ثابتة متزنة عن هذا المستوى .
وكذلك ضغط الدم .
وتوتر العضلات .
ونبض القلب .
ونظام الإمتصاص والإخراج .
ونظام الاحتراق الكيميائي في فرن الكبد .
ثم الاتزان العصبي بين عوامل التهدئة والإثارة .
ثم عملية التنظيم التي تقوم بها الهرمونات والإنزيمات بين التعجيل والإبطاء للعمليات الكيميائية والحيوية .
معجزة فنية من معجزات التوازن والاتساق والهارموني يعرفها كل طبيب وكل دارس للفسيولوجيا والتشريح والكيمياء العضوية .
(( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا ))
(الفرقان – 2)
ولن تنتهي الأمثلة في علم النبات و الحيوان و الطب و الفلك , مجلدات و مجلدات .و كل صفحة سوف تؤيد وتؤكد هذا التوازن المحكم والإنضباط العظيم في عالم الخلق والمخلوقات .
والقول بأن كل هذا الاتساق والنظام حدث صدفة واتفاقًا هو السذاجة بعينها . كقولنا إن انفجارًا في مطبعة أدى إلى أن تصطف الحروف على هيئة قاموس محكم .
والكيميائي المغرور الذي قال .. آتوني بالهواء والماء والطين وظروف نشأة الحياة الأولى وأنا أصنع لكم إنسانًا .. هذا الكيميائي قد قرر احتجاجه سلفًا لكل العناصر والظروف .. وهو اعتراف بالعجز عن تقليد صنعة الخالق الذي خلق كل شيء وخلق ظروفه أيضًا .
ولو أنا آتيناه بكل هذه العناصر وكل تلك الظروف .. ولو أنه فرضًا وجدلًا استطاع أن يخلق إنساناً ... فإنه لن يقول .. صنعته الصدفة ... بل إنه سوف يقول .. صنعته أنا .
والكلام عن القرد الذي يجلس على آلة كاتبة لمدى اللانهاية من الزمان ليدق لانهاية من الإمكانيات .. وكيف أنه لا بد يوماً ما أن يدق بالصدقة بيتاً لشكسبير أو جملة مفيدة .. هو كلام مردود عليه .
فسوف نسلم جدلاً وفرضاً بأن هذا حدث في الطبيعة وبأنه حدث صدفة واتفاقاً وبعد ملايين الملايين من التباديل والتوافيق بين العناصر ...تكونت بالصدفة في مياه المستنقعات كمية من الحامض النووي DNA الذي يستطيع أن يكرر نفسه .
لكن ...كيف تطورت هذه الكمية من الحامض العضوي إلى الحياة التي نراها ؟
سوف نعود فنقول بالصدفة أمكن تشكيل البروتوبلازم .
ثم بصدفة أخرى تشكلت الخلية .
ثم بصدفة ثالثة تشعبت إلى نوعين خلية نباتية وخلية حيوانية .
ثم نتسلق شجرة الحياة درجة درجة ومعنا هذا المفتاح السحري .
كلما أعيتنا الحيلة في فهم شيء قلنا إنه حدث صدفة .
هل هذا معقول .. ؟!
بالصدفة تستدل الطيور والأسماك المهاجرة على أوطانها على بعد آلاف الأميال وعبر الصحارى والبحار .
بالصدفة يكسر الكتكوت البيضة عند أضعف نقطة فيها ليخرج .
بالصدفة تلتئم الجروح وتخيط شفراتها بنفسها بدون جراح .
بالصدفة يدرك عباد الشمس أن الشمس هي مصدر حياته فيتبعها .
بالصدفة تصنع أشجار الصحارى لنفسها بذوراً مجنحة لتطير عبر الصحارى إلى حيث ظروف إنبات وري وأمطار أحسن .
بالصدفة اكتشف النبات قنبلته الخضراء ( الكلوروفيل) واستخدامها في توليد طاقة حياته .
والنحلة التي أقامت مجتمعاً ونظاماً ومارست العمارة وفنون الكيمياء المعقدة التي تحول بها الرحيق إلى عسل وشمع .
وحشرة الترميت التي اكتشفت القوانين الأولية لتكيف الهواء فأقامت بيوتًا مكيفة وطبقت في مجتمعها نظاماً صارماً للطبقات .
والحشرات الملونة التي اكتشفت أصول وفن مكياج التنكر والتخفي .
هل كل هذا جاء صدفة .
وإذا سلمنا بصدفة واحدة في البداية .فكيف يقبل العقل سلسلة متلاحقة من المصادفات والخبطات العشوائية .
إنها السذاجة بعينها التي لا تحدث إلا في الأفلام الهزلية الرخيصة .
وقد وجد الفكر المادي نفسه في مأزق أمام هذه السذاجة فبدأ يحاول التخلص من كلمة صدفة ليفترض فرضاً آخر ..
فقال إن كل هذه الحياة المذهلة بألوانها وتصانيفها بدأت من حالة ضرورة .. مثل الضرورة التي تدفعك إلى الطعام ساعة الجوع . ثم بتعقد الظروف والبيئات والحاجات فنشأت كل هذه الألوان .
وهو مجرد لعب بالألفاظ .
فمكان الصدفة وضعوا كلمة (( تعقد الضرورة )) .
وهي في نظرهم تتعقد تلقائيّاً .. وتنمو من نغمة واحدة إلى سمفونية تلقائياً .
كيف ؟
كيف ينمو الحدث الواحد إلى قصة محبوكة بدون عقل مؤلف ؟
ومَن الذي أقام الضرورة أصلاً ؟
وكيف تقوم الضرورة مِن لا ضرورة ؟
إنها استمالة العقل الخبيث المكابر ليتجنب صوت الفطرة الذي يفرض نفسه فرضاً ليقول إن هناك خالقاً مدبراً هو اليد الهادية و عصا المايسترو التي تقود هذه المعزوفة الجميلة الرائعة .
هذا التوازن العظيم والاتساق المذهل والتوافق والتلاحم والانسجام الذي يتألف من ملايين الدقائق والتفاصيل يصرخ بأن هناك مبدعاً لهذه البدائع وأنه إله قادر جامع لكل الكمالات قريب من مخلوقاته قرب دمها من أجسادها .. معتني بها عناية الأب الحنون مستجيباً لحاجاتها سميعاً لآهاتها بصيراً بحالاتها .. وأنه الله الذي وصفته لنا الأديان بأسمائه الحسنى ولا سواه .. وليس القانون الأصم الذي تقول به العلوم المادية البكماء .. ولا إله أرسطو المنعزلين .. ولا إله أفلاطون القابع في عالم المُثُل .. ولا هو الوجود المادي بكليته كما تصور إسبينواز وأتباع الوجود .
و إنما هو :
الأحد .
الذي ليس كمثله شيء .
المتعالي على كل ما نعرف من حالات و صور و أشكال و زمان و مكان .
ظاهر بأفعاله خفي بذاته .. لا تراه الأبصار و يرى كل الأبصار .. بل إن كل الأبصار ترى به و بنوره و بما أودع فيها من قدرة .
و العقل العلمي لا يعترف بهذه الكلمات الصوفية و يريد أن يرى الله ليعترف به .. فإذا قلنا له إن الله ليس محدوداً ليقع في مدى الأبصار .. و إنه اللانهاية و إنه الغيب .
يقول لنا العلم . إنه لهذا لا يعترف به . و إنه ليس من العلم الإيمان بالغيب و إن مجال العلم هو المحسوس , يبدأ من المحسوس و ينتهي إلى المحسوس .
فنقول للعلم .. كذبت .
إن نصف العلم الآن أصبح غيباً .
العلم يلاحظ و يدون الملاحظات .. يلاحظ أن صعود الجبل أشق من النزول منه .. و إن رفع حجر على الظهر أصعب من رفع عصاً .. و أن الطير إذا مات وقع على الأرض . و أن التفاحة تقع هي الأخرى من شجرتها على الأرض .. و أن القمر يدور معلقاً في السماء .
و هي ملاحظات لا تبدو بينها علقة .
و لكن حينما يكتشف نيوتن الجاذبية ترتبط كل هذه الملاحظات لتصبح شواهد دالة على هذه الجاذبية .. وقوع التفاحة من شجرتها وصعوبة تسلق الجبل و صعوبة رفع الحجر .. و تعلق القمر بالسماء .
إنها نظرية فسرت لنا الواقع .
و مع ذلك فهذه الجاذبية غيب لا أحد يعرف كنهها .. لم ير أحد الأعمدة التي ترفع السماوات بما فيها من نجوم و كواكب .
و نيوتن نفسه و هو صاحب النظرية يقول في خطاب إلى صديقه بنتلى :
إنه لأمر غير مفهوم أن نجد مادة لا حياة فيها و لا إحساس تؤثر على مادة أخرى و تجذبها مع أنه لا توجد بينهم أي علاقة .
فها هي ذي نظرية علمية نتداولها و نؤمن بها و نعتبرها علماً .. و هي غيب في غيب .
و الإلكترون .
و الموجة الكلاسيكية .
و الذرة .
و النترون .
لم نر منها شيئاً و مع ذلك نؤمن بوجودها اكتفاء بآثارها . و نقيم عليها علوماً متخصصة و نبني لها المعامل و المختبرات .. و هي غيب في غيب .. بالنسبة لحواسنا .
و العلم لم يعرف ماهية أي شيء على الإطلاق .
و نحن لا نعرف إلا أسماء . لا نعرف إلا مسميات .. نحن لا نتبادل مصطلحات دون أن نعرف لها كنهاً .
و الله حينما علم آدم الأسماء فقط و لم يعلمه المسميات .
((و عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّهَا))
(31 – البقرة)
و هذه هي حدود العلم .
و غاية مطمع العلم أن يتعرف على العلاقات و المقادير . و لكنه لا يستطيع أن يرى جوهر أي شيء أو ماهيته أو كنهه . هو دائماً يتعرف على الأشياء من ظواهرها و يتحسسها من خارجها .
و مع ذلك فهو يحتضن بنظرياته كل الماهيات و يفترض الفروض و يتصور مسائل هي بالنسبة لأدواته محض غيب و تخمين .
نحن في عصر العلم الغيبي .. والضرب في متاهات الفروض .
و ليس للعلم الآن أن يحتج على الغيبيات بعد أن غرق إلى أذنيه في الغيبيات .
و أولى بنا أن نؤمن بعالم الغيب . خالقنا البر الكريم . الذي نرى آثاره في كل لمحة عين و كل نبضة قلب و كل سبحة تأمل .
هذا أمر أولى بنا من الغرق في الفروض .
مقال / التوازن العظيم .
من كتاب/ رحلتي من الشك إلى الإيمان
❞ إن أي إنسان لاينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له ، ومن الظلم أن نطالب إنساناً عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة معقدة كفلسفة برجسون أو رياضيات عالية كرياضيات آينشتاين. ❝ ⏤علي الوردي
❞ إن أي إنسان لاينمو عقله إلا في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له ، ومن الظلم أن نطالب إنساناً عاش بين البدائيين مثلاً أن ينتج لنا فلسفة معقدة كفلسفة برجسون أو رياضيات عالية كرياضيات آينشتاين . ❝