█ _ محمد بن صالح العثيمين 2002 حصريا كتاب تفسير القرآن الكريم سورة الكهف عن دار ابن الجوزي 2024 الكهف: هي سورةٌ مكيةٌ رقمها 18 تسبق مريم وتلحق الإسراء ترتيب سور عدد آياتها 110 آية وهي من السور المكية المتأخرة النزول إذ أن نزولها 69 تتوسط السورة فهي تقع الجزئين الخامس عشر والسادس 8 صفحات نهاية الجزء و3 بداية السادس تتناول عدة مواضيع تدور حول التحذير الفتن والتبشير والإنذار وذكر بعض المشاهد يوم القيامة كما تناولت قصص كقصة أصحاب الذين سُميّت لذكر قصتهم فيها سورة ذوات الفضل وذكرت أحاديث كثيرة ومن أهم فضائلها ما ذكر قراءتها الجمعة نورٌ بين الجمعتين إن سبب نزول ذكره مفسرين كابن كثير وغيره: فعن عباس قال: «بعثت قريش النضر الحارث وعقبة أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم: سلوهم وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم علم ليس عندنا الأنبياء فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا رسول الله ﷺ ووصفوا أمره وبعض قوله وقالا: إنكم التوراة وقد جئناكم لتخبرونا صاحبنا هذا قال فقالت سلوه ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول فروا فيه رأيكم سلوه فتية ذهبوا الدهر كان أمرهم قد شأن عجيب وسلوه رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها نبؤه؟ الروح هو؟ بذلك فاتبعوه يخبركم فإنه فاصنعوا بدا لكم فأقبل فقالا: يا معشر بفصل بينكم وبين أمرنا نسأله أمور فأخبروهم بها فجاءوا فقالوا: أخبرنا فسألوه عما أمروهم به فقال ﷺ: غدا سألتم عنه ولم يستثن فانصرفوا ومكث خمس عشرة ليلة لا يحدث له ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل عليه الصلاة والسلام أرجف مكة وقالوا: وعدنا واليوم أصبحنا يخبرنا بشيء سألناه وحتى أحزن مكث الوحي وشق يتكلم ثم جاءه عز وجل بسورة معاتبته إياه حزنه عليهم وخبر سألوه أمر الفتية والرجل الطواف وقول وجل: ﴿وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ﴾ [الكهف:83]» الأصل دروس ألقاها فضيلة الشيخ عثيمين رحمه الدورة العلمية التي عقدها شهر ربيع عام 1419هـ بالجامع الكبير مدينة عنيزة والتي فسر آيات كتب التفاسير وعلوم مجاناً PDF اونلاين يحتوي القسم الآتي: 1 التفسير يخص لغة: مادته معنى الكشف مطلقا سواء أكان لغموض لفظ أم لغير يقال فسرت اللفظ فسرا باب ضرب ونصر وفسرته تفسيرا شدد للكثرة إذا كشفت مغلقه التفسير اصطلاحا: كشف معانى وبيان المراد منه وهو أعم يكون بحسب المشكل وغيره وبحسب المعنى الظاهر والمقصود 2 علوم العلوم المتعلقة بالقرآن حيث نزوله وترتيبه وجمعه وكتابته وقراءاته وتجويده ومعرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وأسباب وإعجازه وإعرابه ورسمه وعلم غريب وغير ويُعرف أيضًا بأنها جميع والبحوث تتعلق أو كل يتصل يُطلق عليها التنزيل عدّ الزركشي كتابه البرهان 47 علمًا وأوصلها جلال الدين السيوطي الإتقان لـ 80
❞ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
وفي قوله : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره أن مع الفعل بتأويل المصدر ، وهو منصوب بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه وهو بدل الظاهر من المضمر ، أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان ; وفي مصحف عبد الله " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان " . وهذا إنما ذكره يوشع في معرض الاعتذار لقول موسى : ( لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ; فقال : ما كلفت كثيرا ) فاعتذر بذلك القول .
قوله تعالى : واتخذ سبيله في البحر عجبا يحتمل أن يكون من قول يوشع لموسى ; أي اتخذ الحوت سبيله عجبا للناس ويحتمل أن يكون قوله : واتخذ سبيله في البحر تمام الخبر ، ثم استأنف التعجيب فقال من نفسه : عجبا لهذا الأمر . وموضع العجب أن يكون حوت قد مات فأكل شقه الأيسر ثم حيي بعد ذلك .
قال أبو شجاع في كتاب الطبري : رأيته - أتيت به - فإذا هو شق حوت وعين واحدة ، وشق آخر ليس فيه شيء قال ابن عطية : وأنا رأيته والشق الذي ليس فيه شيء عليه قشرة رقيقة ليست تحتها شوكة .
ويحتمل أن يكون قوله : واتخذ سبيله إخبارا من الله - تعالى - ، وذلك على وجهين : إما أن يخبر عن موسى أنه اتخذ سبيل الحوت من البحر عجبا ، أي تعجب منه وإما أن يخبر عن الحوت أنه اتخذ سبيله عجبا للناس . ومن غريب ما روي في البخاري عن ابن عباس من قصص هذه الآية : ( أن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هناك تدعى عين الحياة ، ما مست قط شيئا إلا حيي ) وفي التفسير : إن العلامة كانت أن يحيا الحوت ; فقيل : لما نزل موسى بعد ما أجهده السفر على صخرة إلى جنبها ماء الحياة أصاب الحوت شيء من ذلك الماء فحيي . وقال الترمذي في حديثه قال سفيان : ( يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة ، ولا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش ، قال : وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش ) وذكر صاحب كتاب ( العروس ) : أن موسى - عليه السلام - توضأ من عين الحياة فقطرت من لحيته على الحوت قطرة فحيي ; والله أعلم . ❝
❞ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
قوله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا تقدم بيانه . وقال أبو سهل : ترابا لا نبات به ; كأنه قطع نباته . والجرز : القطع ; ومنه سنة جرز . قال الراجز :
قد جرفتهن السنون الأجراز
والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها ; كأنه قطع وأزيل . يعني يوم القيامة ; فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها . النحاس : والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها . قال الكسائي : يقال جرزت الأرض تجرز ، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز . ❝
❞ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه ، فتهاون بها وأعرض عن قبولها .
ونسي ما قدمت يداه أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها ، فالنسيان هنا بمعنى الترك . وقيل : المعنى نسي ما قدم لنفسه وحصل من العذاب ; والمعنى متقارب .
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا بسبب كفرهم ; أي نحن منعنا الإيمان من أن يدخل قلوبهم وأسماعهم .
وإن تدعهم إلى الهدى أي إلى الإيمان .
فلن يهتدوا إذا أبدا نزل في قوم معينين ، وهو يرد على القدرية قولهم ; وقد تقدم معنى هذه الآية في سبحان وغيرها . ❝
❞ وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
قوله تعالى : وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين جاء في صحيح الحديث : أنه طبع يوم طبع كافرا وهذا يؤيد ظاهره أنه غير بالغ ، ويحتمل أن يكون خبرا عنه مع كونه بالغا ; وقد تقدم .
قوله تعالى : فخشينا أن يرهقهما قيل : هو من كلام الخضر - عليه السلام - ، وهو الذي يشهد له سياق الكلام ، وهو قول كثير من المفسرين ; أي خفنا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ، وكان الله قد أباح له الاجتهاد في قتل النفوس على هذه الجهة . وقيل : هو من كلام الله - تعالى - وعنه عبر الخضر ; قال الطبري : معناه فعلمنا ; وكذا قال ابن عباس أي فعلمنا ، وهذا كما كنى عن العلم بالخوف في قوله إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله . وحكي أن أبيا قرأ " فعلم ربك " وقيل : الخشية بمعنى الكراهة ; يقال : فرقت بينهما خشية أن يقتتلا ; أي كراهة ذلك . قال ابن عطية : والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة ، أي على ظن المخلوقين والمخاطبين لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للأبوين . وقرأ ابن مسعود " فخاف ربك " وهذا بين في الاستعارة ، وهذا نظير ما وقع في القرآن في جهة الله - تعالى - من لعل وعسى وأن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون . ويرهقهما يجشمهما ويكلفهما ; والمعنى أن يلقيهما حبه في اتباعه فيضلا ويتدينا بدينه . ❝
❞ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
قوله تعالى : إنا مكنا له في الأرض قال علي - رضي الله عنه - : ( سخر له السحاب ، ومدت له الأسباب ، وبسط له في النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ) وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال : إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له انظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه محيطا بها هو البحر وإنما أراد الله - تعالى - أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض فعلم الجاهل وثبت العالم الحديث .
قوله تعالى : وآتيناه من كل شيء سببا قال ابن عباس : ( من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد ) وقال الحسن : بلاغا إلى حيث أراد . وقيل : من كل شيء يحتاج إليه الخلق . وقيل : من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء . وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء . ❝
❞ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
قوله تعالى : ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله أي بالقلب ، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه ، إذ قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما في موضع رفع ، تقديره : هذه الجنة هي ما شاء الله . وقال الزجاج والفراء : الأمر ما شاء الله ، أو هو ما شاء الله ; أي الأمر مشيئة الله - تعالى - . وقيل : الجواب مضمر ، أي ما شاء الله كان ، وما لا يشاء لا يكون .
لا قوة إلا بالله أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله - تعالى - وقوته لا بقدرتك وقوتك ، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع .
الثانية : قال أشهب قال مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا . وقال ابن وهب قال لي حفص بن ميسرة : رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا ما شاء الله لا قوة إلا بالله . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي هريرة : ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة قلت : بلى يا رسول الله ، قال لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله - عز وجل - أسلم عبدي واستسلم أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى . وفيه : فقال يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - قلت : ما هي يا رسول الله ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . وعنه قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة قلت : بلى ; فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وروي أنه من دخل منزله أو خرج منه فقال : باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله - تعالى - عليه البركات . وقالت عائشة : إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت ، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت ، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت . خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له : هديت وكفيت ووقيت . وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي . وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث : سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء من الضعيف ؟ قال : الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة . وقال أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين . وقد قال قوم : ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به . وروي أن من قال أربعا أمن من أربع : من قال هذه أمن من العين ، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان ، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس ، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم .
قوله تعالى : إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا إن شرط ترن مجزوم به ، والجواب فعسى ربي وأنا فاصلة لا موضع لها من الإعراب . ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء . وقرأ عيسى بن عمر إن ترن أنا أقل منك بالرفع ; يجعل أنا مبتدأ " وأقل " خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمفعول الأول النون والياء ; إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها ، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة . ❝
❞ فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
فأتبع سببا قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي فأتبع سببا مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو " فاتبع سببا " بوصلها ; أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها . قال الأخفش : تبعته وأتبعته بمعنى ; مثل ردفته وأردفته ، ومنه قوله - تعالى - : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح . قال النحاس : واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال : لأنها من السير ، وحكى هو والأصمعي أنه يقال : تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه ، وأتبعه إذا لحقه ; قال أبو عبيد : ومثله فأتبعوهم مشرقين قال النحاس : وهذا التفريق وإن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل . وقوله - عز وجل - : فأتبعوهم مشرقين ليس في الحديث أنهم لحقوهم ، وإنما الحديث : لما خرج موسى - عليه السلام - وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد ، وهي بمعنى السير ، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون . ❝
❞ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله - تعالى - ، وعلم الله - تعالى - لا يحصى ، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله .
فمن كان يرجو لقاء ربه أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه .
فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري قال : يا رسول الله إني أعمل العمل لله - تعالى - ، وأريد وجه الله - تعالى - ، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني ; فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية . وقال طاوس قال رجل : يا رسول الله ! إني أحب الجهاد في سبيل الله - تعالى - وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد : جاء رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله ! إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله - تعالى - فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل شيئا ، فأنزل الله - تعالى - فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
قلت : والكل مراد ، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال . وقد تقدم في سورة " هود " حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس . وقد تقدم في سورة " النساء " الكلام على الرياء ، وذكرنا من الأخبار هناك ما فيه كفاية . وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل : معنى قوله - تعالى - : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا إنه لا يرائي بعمله أحدا . وروى الترمذي الحكيم - رحمه الله تعالى - في ( نوادر الأصول ) قال : حدثنا أبي - رحمه الله تعالى - قال : حدثنا مكي بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الواحد بن زيد عن عبادة بن نسي قال : أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي ، فقلت : ما الذي أبكاك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك ؟ قال : أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي قلت : ما هو يا رسول الله ؟ قال : الشرك والشهوة الخفية قلت : يا رسول الله ! وتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراءون بأعمالهم قلت : والرياء شرك هو ؟ قال : نعم . قلت : فما الشهوة الخفية ؟ قال : يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر قال عبد الواحد : فلقيت الحسن ، فقلت : يا أبا سعيد ! أخبرني عن الرياء أشرك هو ؟ قال : نعم ; أما تقرأ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا . وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال : كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس جالسين ، فقالا : إنا نتخوف على هذه الأمة من الشرك والشهوة الخفية ، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء . وقالا : سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك ثم تلا فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
قلت : وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا ، وقد ذكرناه في " النساء " . وقال سهل بن عبد الله : وسئل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال : من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك ، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك ، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي ، وتذكر قوله - تعالى - : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا . والذين يؤتون ما آتوا الآية ; يؤتون الإخلاص ، وهم يخافون ألا يقبل منهم ; وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا ; قيل لها : كيف يكون هذا ؟ قال : من طلب بعمل بينه وبين الله - تعالى - سوى وجه الله - تعالى - والدار الآخرة فهو رياء . وقال علماؤنا - رضي الله تعالى عنهم - : وقد يفضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به ; كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لأبي عبد الله المروزي : منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله ؟ قال : دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم ; فقال يا أبا عبد الله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين . وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم ، فقالوا : ما أحسن صلاتك ؟ ! فقال : وأنا مع ذلك صائم . أين هذا من قول الأشعث بن قيس وقد صلى فخفف ، فقيل له إنك خففت ، فقال : إنه لم يخالطها رياء ; فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه ، والتصنع من صلاته ; وقد تقدم في " النساء " دواء الرياء من قول لقمان ; وأنه كتمان العمل ، وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي - رحمه الله تعالى - قال : أنبأنا الحماني قال : أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال : قال أبو بكر وشهد به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرك ، قال : هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات . وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر فمن كان يرجو لقاء ربه فقال : إنها لآخر آية نزلت من السماء . وقال عمر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أوحي إلي أنه من قرأ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له . وقال معاذ بن جبل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء وعن ابن عباس أنه قال له رجل : إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم ، فقال : إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي إلى آخر السورة فإن الله - تعالى - يوقظك متى شئت من الليل ; ذكر هذه الفضائل الثعلبي - رضي الله تعالى عنه - . وفي مسند الدارمي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل قامها ; قال عبدة فجربناه فوجدناه كذلك قال ابن العربي : كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول : لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الأقران ، ومواصلة الإخوان ; وقد ختم - سبحانه وتعالى - البيان بقوله : فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا . ❝
❞ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
قوله تعالى : وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن اسم ما لم يسم فاعله مضمر ، وهو المصدر . ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع . ومعنى أحيط بثمره أي أهلك ماله كله . وهذا أول ما حقق الله - تعالى - به إنذار أخيه .
فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما ; لأن هذا يصدر من النادم . وقيل : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق ; وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد ، من قولهم : في يده مال ، أي في ملكه مال . ودل قوله فأصبح على أن هذا الإهلاك جرى بالليل ; كقوله فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم ويقال : أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها .
وهي خاوية على عروشها أي خالية قد سقط بعضها على بعض ; مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت ، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها . وأخوت مثله . وخوت الدار خواء أقوت ، وكذلك إذا سقطت ; ومنه قوله - تعالى - : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ويقال ساقطة ; كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها ; فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل ، وهذا من أعظم الجوائح ، مقابلة على بغيه .
ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أي يا ليتني عرفت نعم الله علي ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به . وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم . ❝
❞ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا (52)
قوله تعالى : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم أي اذكروا يوم يقول الله : أين شركائي ؟ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي . وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان . وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر " نقول " بنون . الباقون بالياء ; لقوله : شركائي ولم يقل : شركائنا .
فدعوهم أي فعلوا ذلك .
فلم يستجيبوا لهم أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا .
وجعلنا بينهم موبقا قال أنس بن مالك : هو واد في جهنم من قيح ودم . وقال ابن عباس : أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا . وقيل : بين الأوثان وعبدتها ، ونحو قوله : فزيلنا بينهم قال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق ، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله - تعالى - : موبقا قال واد في جهنم يقال له موبق ، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال : يحجز بينهم وبين المؤمنين . عكرمة : هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار .
وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال : موبقا ( واد من قيح ودم في جهنم ) . وقال عطاء والضحاك : مهلكا في جهنم ; ومنه يقال : أوبقته ذنوبه إيباقا . وقال أبو عبيدة : موعدا للهلاك . الجوهري : وبق يبق وبوقا هلك ، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد ، ومنه قوله - تعالى - : وجعلنا بينهم موبقا . وفيه لغة أخرى : وبق يوبق وبقا . وفيه لغة ثالثة : وبق يبق بالكسر فيهما ، وأوبقه أي أهلكه . وقال زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه من كل شنعاء موبق
قال الفراء : جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة . ❝
❞ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا (87)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ
أي من أقام على الكفر منكم .فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ
أي بالقتل .ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ
أي يوم القيامة .فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا
أي شديدا في جهنم . ❝
❞ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
قوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا
قوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود ، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، وقريش قالت الملائكة بنات الله . فالإنذار في أول السورة عام ، وهذا خاص فيمن قال لله ولد . ❝
❞ قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ۖ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
قوله تعالى : قال هذا رحمة من ربي القائل ذو القرنين ، وأشار بهذا إلى الردم ، والقوة عليه ، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج . وقرأ ابن أبي عبلة هذه رحمة من ربي .
قوله تعالى : فإذا جاء وعد ربي أي يوم القيامة . وقيل : وقت خروجهم .
جعله دكاء أي مستويا بالأرض ; ومنه قوله - تعالى - : إذا دكت الأرض قال ابن عرفة : أي جعلت مستوية لا أكمة فيها ، ومنه قوله - تعالى - : جعله دكا قال اليزيدي : أي مستويا ; يقال : ناقة دكاء إذا ذهب سنامها . وقال القتبي : أي جعله مدكوكا ملصقا بالأرض . وقال الكلبي : قطعا متكسرا ; قال :
هل غير غاد دك غارا فانهدم
وقال الأزهري : يقال دككته أي دققته . ومن قرأ " دكاء " أراد جعل الجبل أرضا دكاء ، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات . قرأ حمزة وعاصم والكسائي " دكاء " بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء ، وهي التي لا سنام لها ، وفي الكلام حذف تقديره : جعله مثل دكاء ; ولا بد من تقدير هذا الحذف . لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء . ومن قرأ " دكا " فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض ; ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق . وينصب " دكا " على الحال . وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين . ❝
❞ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
قوله تعالى : فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا الضمير في قوله : بينهما للبحرين ; قاله مجاهد . والسرب المسلك ; قاله مجاهد . وقال قتادة : جمد الماء فصار كالسرب .
وجمهور المفسرين أن الحوت بقي موضع سلوكه فارغا ، وأن موسى مشى عليه متبعا للحوت ، حتى أفضى به الطريق إلى جزيرة في البحر ، وفيها وجد الخضر . وظاهر الروايات والكتاب أنه إنما وجد الخضر في ضفة البحر وقوله : نسيا حوتهما وإنما كان النسيان من الفتى وحده فقيل : المعنى ; نسي أن يعلم موسى بما رأى من حاله فنسب النسيان إليهما للصحبة ، كقوله - تعالى - : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من الملح ، وقوله : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما الرسل من الإنس لا من الجن وفي البخاري ; ( فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كثيرا ; فذلك قوله - عز وجل - : وإذ قال موسى لفتاه يوشع بن نون - ليست عن سعيد - قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه : لا أوقظه ; حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر ، فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كأن أثره في حجر ; قال لي عمرو : هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما ) وفي رواية ( وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به ، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) وقيل : إن النسيان كان منهما لقوله - تعالى - : نسيا فنسب النسيان إليهما ; وذلك أن بدو حمل الحوت كان منموسى لأنه الذي أمر به ، فلما مضيا كان فتاه الحامل له حتى أويا إلى الصخرة نزلا . ❝
❞ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا عبارة عن إلقاء الله - تعالى - النوم عليهم . وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله . قال الزجاج : أي منعناهم عن أن يسمعوا ; لأن النائم إذا سمع انتبه . وقال ابن عباس : ضربنا على آذانهم بالنوم ; أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها . وقيل : المعنى فضربنا على آذانهم أي فاستجبنا دعاءهم ، وصرفنا عنهم شر قومهم ، وأنمناهم . والمعنى كله متقارب . وقال قطرب : هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد ، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف . قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد
وأما تخصيص الآذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم ، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه ، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع . ومن ذكر الأذن في النوم قوله - صلى الله عليه وسلم - : ذاك رجل بال الشيطان في أذنه خرجه الصحيح . أشار - عليه السلام - إلى رجل طويل النوم ، لا يقوم الليل . وعددا نعت للسنين ; أي معدودة ، والقصد به العبارة عن التكثير ; لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف . والعد المصدر ، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط . وقال أبو عبيدة : عددا نصب على المصدر . ثم قال قوم : بين الله - تعالى - عدد تلك السنين من بعد فقال : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا . ❝
❞ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
قال ابن عباس : ( يريد كفار أهل مكة ) . وقال علي : ( هم الخوارج أهل حروراء . وقال مرة : هم الرهبان أصحاب الصوامع ) . وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له : أنت وأصحابك . قال ابن عطية : ويضعف هذا كله قوله - تعالى - بعد ذلك : أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم .
وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور ، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان ، وعلي وسعد - رضي الله عنهما - ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه الآية . و أعمالا نصب على التمييز . و حبطت قراءة الجمهور بكسر الباء . وقرأ ابن عباس " حبطت " بفتحها .
الثانية : قوله تعالى : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا قراءة الجمهور نقيم بنون العظمة . وقرأ مجاهد بياء الغائب ; يريد فلا يقيم الله - عز وجل - ، وقرأ عبيد بن عمير " فلا يقوم " ويلزمه أن يقرأ " وزن " وكذلك قرأ مجاهد " فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن " . قال عبيد بن عمير : يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة .
قلت : هذا لا يقال مثله من جهة الرأي ، وقد ثبت معناه مرفوعا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا . والمعنى أنهم لا ثواب لهم ، وأعمالهم مقابلة بالعذاب ، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار . وقال أبو سعيد الخدري : يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا . وقيل : يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة ; كأنه قال : فلا قدر لهم عندنا يومئذ ; والله أعلم . وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه ، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : إن أبغض الرجال إلى الله - تعالى - الحبر السمين ومن حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن وهذا ذم . وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره ، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها ، فهو عبد نفسه لا عبد ربه ، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام ، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به ; وقد ذم الله - تعالى - الكفار بكثرة الأكل فقال : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فإذا كان المؤمن يتشبه بهم ، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه ، فأين حقيقة الإيمان ، والقيام بوظائف الإسلام ؟ ! ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه ، وزاد بالليل كسله ونومه ، فكان نهاره هائما ، وليله نائما . وقد مضى في " الأعراف " هذا المعنى ; وتقدم فيها ذكر الميزان ، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة . وقال - عليه الصلاة والسلام - حين ضحكوا من حمش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة : تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض فدل هذا على أن الأشخاص توزن ; ذكره الغزنوي . ❝
❞ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب . وفي الكلام إضمار ; أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا ، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط . وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال : إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية ; فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم ذكره الماوردي ، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن ، قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : قام أعرابي . . . ; فذكره . وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام . وقد روينا جميع ذلك بالإجازة ، والحمد لله . وعملا نصب على التمييز ، وإن شئت بإيقاع أحسن عليه . وقيل : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا كلام معترض ، والخبر قوله أولئك لهم جنات عدن . ❝
❞ فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
قوله تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه ; لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام . وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا . وروي : في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ ، وفي عرضه خمسون فرسخا ; قاله وهب بن منبه .
وما استطاعوا له نقبا لبعد عرضه وقوته . وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها . . . وذكر الحديث . وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس . . . الحديث وقد تقدم .
قوله - تعالى - : فما اسطاعوا بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور . وقيل : هي لغة بمعنى استطاعوا . وقيل : بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا : اسطاعوا . وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع ، وهي لغة مشهورة . وقرأ حمزة وحده " فما اسطاعوا " بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا ، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها ، وهي قراءة ضعيفة الوجه ; قال أبو علي : هي غير جائزة . وقرأ الأعمش " فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا " بالتاء في الموضعين . ❝
❞ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا (35)
قوله تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا
فقوله تعالى : ودخل جنته قيل : أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها .
وهو ظالم لنفسه أي بكفره ، وهو جملة في موضع الحال . ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه .
قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا أنكر فناء الدار . ❝