❞ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) قوله تعالى : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : وشروه يقال : شريت بمعنى اشتريت ، وشريت بمعنى بعت لغة ; قال الشاعر : وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه أي بعت . وقال آخر : فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز بثمن بخس أي نقص ; وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم ; أي باعوه بثمن مبخوس ، أي منقوص . ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه . وقيل : إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاءوا وباعوه من الواردة . وقيل : لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر ، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا : هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم . وقال قتادة : " بخس " ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء : " بخس " حرام . وقال ابن العربي : ولا وجه له ، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة ; لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه ; وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا ; أو قالوا لأصحابهم : أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله . قلت : قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك ; فدل على صحة ما قاله السدي وغيره ; لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها ، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه . وقال عكرمة والشعبي : قليل . وقال ابن حيان : زيف . وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين ، وكانوا عشرة ; وقاله قتادة والسدي . وقال أبو العالية ومقاتل : اثنين وعشرين درهما ، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين ; وقاله مجاهد . وقال عكرمة : أربعين درهما ; وما روي عن الصحابة أولى . و " بخس " من نعت " ثمن " . دراهم معدودة على البدل والتفسير له . ويقال : دراهيم على أنه جمع درهام ، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء ، وليس هذا مثل مد المقصور ; لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره . وأنشد النحويون : تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف " معدودة " نعت ; وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن . وقيل : هو عبارة عن قلة الثمن ; لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ; وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية ، وهي أربعون درهما . الثانية : قال القاضي ابن العربي : وأصل النقدين الوزن ; قال - صلى الله عليه وسلم - : لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار ; فأما عينها فلا منفعة فيه ، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة ، فيشق الوزن ; حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان ; فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن ; ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم . الثالثة : واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا ؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك : فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين ، وهو الظاهر من قول مالك ; وبه قال أبو حنيفة . وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين ، وحكي عن الكرخي ; وبه قال الشافعي . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال : بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها ، والدراهم بذمة صاحبها ; ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها . الرابعة : روي عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أنه قضى في اللقيط أنه حر ، وقرأ : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وقد مضى القول فيه . الخامسة : قوله تعالى : وكانوا فيه من الزاهدين قيل : المراد إخوته . وقيل : السيارة . وقيل : الواردة ; وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا ، لا عند الإخوة ; لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله ، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم ، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى . السادسة : في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ، ويكون البيع لازما ; ولهذا قال مالك : لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله . وقيل : وكانوا فيه من الزاهدين أي في حسنه ; لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له . وقيل : وكانوا فيه من الزاهدين لم يعلموا منزلته عند الله تعالى . وحكى سيبويه والكسائي : زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها .. ❝ ⏤محمد رشيد رضا
❞ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) قوله تعالى : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : وشروه يقال : شريت بمعنى اشتريت ، وشريت بمعنى بعت لغة ; قال الشاعر : وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه أي بعت . وقال آخر : فلما شراها فاضت العين عبرة وفي الصدر حزاز من اللوم حامز بثمن بخس أي نقص ; وهو هنا مصدر وضع موضع الاسم ; أي باعوه بثمن مبخوس ، أي منقوص . ولم يكن قصد إخوته ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدونه من خلو وجه أبيهم عنه . وقيل : إن يهوذا رأى من بعيد أن يوسف أخرج من الجب فأخبر إخوته فجاءوا وباعوه من الواردة . وقيل : لا بل عادوا بعد ثلاث إلى البئر يتعرفون الخبر ، فرأوا أثر السيارة فاتبعوهم وقالوا : هذا عبدنا أبق منا فباعوه منهم . وقال قتادة : ˝ بخس ˝ ظلم وقال الضحاك ومقاتل والسدي وابن عطاء : ˝ بخس ˝ حرام . وقال ابن العربي : ولا وجه له ، وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة ; لأن إخوته إن كانوا باعوه فلم يكن قصدهم ما يستفيدونه من ثمنه ، وإنما كان قصدهم ما يستفيدون من خلو وجه أبيهم عنه ; وإن كان الذين باعوه الواردة فإنهم أخفوه مقتطعا ; أو قالوا لأصحابهم : أرسل معنا بضاعة فرأوا أنهم لم يعطوا عنه ثمنا وأن ما أخذوا فيه ربح كله . قلت : قوله - وإنما الإشارة فيه إلى أنه لم يستوف ثمنه بالقيمة - يدل على أنهم لو أخذوا القيمة فيه كاملة كان ذلك جائزا وليس كذلك ; فدل على صحة ما قاله السدي وغيره ; لأنهم أوقعوا البيع على نفس لا يجوز بيعها ، فلذلك كان لا يحل لهم ثمنه . وقال عكرمة والشعبي : قليل . وقال ابن حيان : زيف . وعن ابن عباس وابن مسعود باعوه بعشرين درهما أخذ كل واحد من إخوته درهمين ، وكانوا عشرة ; وقاله قتادة والسدي . وقال أبو العالية ومقاتل : اثنين وعشرين درهما ، وكانوا أحد عشر أخذ كل واحد درهمين ; وقاله مجاهد . وقال عكرمة : أربعين درهما ; وما روي عن الصحابة أولى . و ˝ بخس ˝ من نعت ˝ ثمن ˝ . دراهم معدودة على البدل والتفسير له . ويقال : دراهيم على أنه جمع درهام ، وقد يكون اسما للجمع عند سيبويه ، ويكون أيضا عنده على أنه مد الكسرة فصارت ياء ، وليس هذا مثل مد المقصور ; لأن مد المقصور لا يجوز عند البصريين في شعر ولا غيره . وأنشد النحويون : تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف ˝ معدودة ˝ نعت ; وهذا يدل على أن الأثمان كانت تجري عندهم عدا لا وزنا بوزن . وقيل : هو عبارة عن قلة الثمن ; لأنها دراهم لم تبلغ أن توزن لقلتها ; وذلك أنهم كانوا لا يزنون ما كان دون الأوقية ، وهي أربعون درهما . الثانية : قال القاضي ابن العربي : وأصل النقدين الوزن ; قال - صلى الله عليه وسلم - : لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن من زاد أو ازداد فقد أربى . والزنة لا فائدة فيها إلا المقدار ; فأما عينها فلا منفعة فيه ، ولكن جرى فيها العد تخفيفا عن الخلق لكثرة المعاملة ، فيشق الوزن ; حتى لو ضرب مثاقيل أو دراهم لجاز بيع بعضها ببعض عدا إذا لم يكن بها نقصان ولا رجحان ; فإن نقصت عاد الأمر إلى الوزن ; ولأجل ذلك كان كسرها أو قرضها من الفساد في الأرض حسب ما تقدم . الثالثة : واختلف العلماء في الدراهم والدنانير هل تتعين أم لا ؟ وقد اختلفت الرواية في ذلك عن مالك : فذهب أشهب إلى أن ذلك لا يتعين ، وهو الظاهر من قول مالك ; وبه قال أبو حنيفة . وذهب ابن القاسم إلى أنها تتعين ، وحكي عن الكرخي ; وبه قال الشافعي . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا لا تتعين فإذا قال : بعتك هذه الدنانير بهذه الدراهم تعلقت الدنانير بذمة صاحبها ، والدراهم بذمة صاحبها ; ولو تعينت ثم تلفت لم يتعلق بذمتهما شيء ، وبطل العقد كبيع الأعيان من العروض وغيرها . الرابعة : روي عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أنه قضى في اللقيط أنه حر ، وقرأ : وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وقد مضى القول فيه . الخامسة : قوله تعالى : وكانوا فيه من الزاهدين قيل : المراد إخوته . وقيل : السيارة . وقيل : الواردة ; وعلى أي تقدير فلم يكن عندهم غبيطا ، لا عند الإخوة ; لأن المقصد زواله عن أبيه لا ماله ، ولا عند السيارة لقول الإخوة إنه عبد أبق منا - والزهد قلة الرغبة - ولا عند الواردة لأنهم خافوا اشتراك أصحابهم معهم ، ورأوا أن القليل من ثمنه في الانفراد أولى . السادسة : في هذه الآية دليل واضح على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ، ويكون البيع لازما ; ولهذا قال مالك : لو باع درة ذات خطر عظيم بدرهم ثم قال لم أعلم أنها درة وحسبتها مخشلبة لزمه البيع ولم يلتفت إلى قوله . وقيل : وكانوا فيه من الزاهدين أي في حسنه ; لأن الله تعالى وإن أعطى يوسف شطر الحسن صرف عنه دواعي نفوس القوم إليه إكراما له . وقيل : وكانوا فيه من الزاهدين لم يعلموا منزلته عند الله تعالى . وحكى سيبويه والكسائي : زهدت وزهدت بكسر الهاء وفتحها. ❝
❞ ساعة من وقتك !! ... ... ... عاد الأب إلى بيته متأخراً من عمله كالعادة وقد أصابه الإرهاق والتعب، وجد ابنه الصغير ينتظره عند الباب.. الإبن :هل لي أن أطرح عليك سؤالاً ياأبي؟ الأب :طبعاً.. تفضل.. الإبن :كم تكسب من المال في الساعة يا أبي؟ الأب غاضباً:هذا ليس من شأنك، ما الذي يجعلك تسأل مثل هذه الأسئلة السخيفة؟ الإبن :فقط أريد أن أعرف.. أرجوك يا أبي أخبرني كم تكسب من المال في الساعة؟ الأب: إذا كنت مصرّاً 30 دينار في الساعة.. الإبن : ممكن تقرضني 10 دنانير من فضلك يا أبي؟ الأب ثائراً: إذن كنت تريد أن تعرف كم أكسب من المال لكي أعطيك 10 دنانير تنفقها على الدمى السخيفة والحلوى!!، إذهب إلى غرفتك و نمْ فأنا أعمل طوال اليوم وليس لدي وقت لهذه التفاهات.. لم ينطق الولد بأي كلمة، نزلت دمعة من عينه وذهب إلى غرفته لكي يخلد إلى النوم.. وبعد ساعة من الزمن شعر الأب بأنه كان قاسياً مع طفله، فربما كان الصبي بحاجة للدنانير العشرة.. ذهب إلى غرفة ابنه، وفتح الباب.. ثم قال:هل أنت نائم؟ فردّ الإبن:لا يا أبي مازلت مستيقظاً.. قال له أبوه: لقد كنت قاسياً معك.. كان اليوم طويلاً وشاقاً.. تفضل فهذه العشرة دنانير التي طلبتها.. فرح الإبن فرحاً شديداً.. لكن الأب فوجئ بالصغير يأخذ مجموعة من الدنانير من تحت الوسادة ويضعها مع هذه العشرة دنانير. غضب الأب وسأله :لماذا طلبتَ مالاً ما دمتَ تملك المال؟ ردّ الابن ببراءة :لم يكن لدي مايكفي..أما الآن فقد أصبح لدي 30 ديناراً... أريد أن أشتري بها ساعة من وقتك نقضيها سوياً!! كم منا من آباء وأبناء لا يعلم قيمة تلك الأوقات التي نقضيها معاً إلا عند رحيل أحدهم؟. ❝ ⏤حسان شمسي باشا
❞ ساعة من وقتك !! .. .. .. عاد الأب إلى بيته متأخراً من عمله كالعادة وقد أصابه الإرهاق والتعب، وجد ابنه الصغير ينتظره عند الباب.
الإبن :هل لي أن أطرح عليك سؤالاً ياأبي؟ الأب :طبعاً. تفضل. الإبن :كم تكسب من المال في الساعة يا أبي؟ الأب غاضباً:هذا ليس من شأنك، ما الذي يجعلك تسأل مثل هذه الأسئلة السخيفة؟ الإبن :فقط أريد أن أعرف. أرجوك يا أبي أخبرني كم تكسب من المال في الساعة؟ الأب: إذا كنت مصرّاً 30 دينار في الساعة.
الإبن : ممكن تقرضني 10 دنانير من فضلك يا أبي؟ الأب ثائراً: إذن كنت تريد أن تعرف كم أكسب من المال لكي أعطيك 10 دنانير تنفقها على الدمى السخيفة والحلوى!!، إذهب إلى غرفتك و نمْ فأنا أعمل طوال اليوم وليس لدي وقت لهذه التفاهات. لم ينطق الولد بأي كلمة، نزلت دمعة من عينه وذهب إلى غرفته لكي يخلد إلى النوم.
وبعد ساعة من الزمن شعر الأب بأنه كان قاسياً مع طفله، فربما كان الصبي بحاجة للدنانير العشرة. ذهب إلى غرفة ابنه، وفتح الباب. ثم قال:هل أنت نائم؟ فردّ الإبن:لا يا أبي مازلت مستيقظاً. قال له أبوه: لقد كنت قاسياً معك. كان اليوم طويلاً وشاقاً. تفضل فهذه العشرة دنانير التي طلبتها.
فرح الإبن فرحاً شديداً. لكن الأب فوجئ بالصغير يأخذ مجموعة من الدنانير من تحت الوسادة ويضعها مع هذه العشرة دنانير. غضب الأب وسأله :لماذا طلبتَ مالاً ما دمتَ تملك المال؟
ردّ الابن ببراءة :لم يكن لدي مايكفي.أما الآن فقد أصبح لدي 30 ديناراً.. أريد أن أشتري بها ساعة من وقتك نقضيها سوياً!!
كم منا من آباء وأبناء لا يعلم قيمة تلك الأوقات التي نقضيها معاً إلا عند رحيل أحدهم؟. ❝
❞ أغسطس القاتل ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام .. ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً .. وربما يحدث الأن . وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً . إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح .. له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً .. ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم . وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير . ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات .. ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة .. فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية . وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ ..فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان .. وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين . هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة . وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته . ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية .. ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين .. إما هو .. و إما زوجته . وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام .. نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية .. ثم الرغبة فى النوم .. ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية . إنها هى إذن ... و لكن ما السر ؟؟؟ و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها .. و راح يتجسس ... و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات .. وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة .. و لم تنته من بعد . ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ .. كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة .. وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها : " صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو " و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : " ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت .. مجرد لا شئ " .. وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون .. و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل .. وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية .. فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى .. أى أنه مات قبل زواجه منها ... هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح .. مع ماض سحيق .. ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر .. وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها .. وتباشر حالات حية .. وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ .. ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة .. عن السر الذى لا مس السر .. و النور الذى انطوى فى النور .. وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم . أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟ أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟ تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية .. ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله .. أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ .. ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت .. قال فى صوت متهدج : لم فعلت هذا ؟ فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة : أنا أعيش حياة لا تطاق .. أنت تملكين كل شئ .. نحن لا نحب ما نملك .. كل ما تحلمين به تجدينه .. نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال .. ماذا ينقصك ؟؟ الحب .. و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت . و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟ حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح . بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان .. ما حكاية هذا الرجل .. هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله .. فابتسمت إبتسامة باهتة .. و قالت فى هدوء : بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة .. تبادلنا فيه بعض الكلمات .. لم يلمس يدى و لم ألمس يده .. و لم أره بعد ذلك .. و إنما كنت أقرأ له فى الصحف.. كاتبا ً مشهوراً .. ثم مات فى حادث تصادم .. وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس .. ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ .. أنت إمرأة مجنونة .. بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية .. أليست حياتنا حقيقية ؟؟ إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ .. لا حب لشئ .. إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى . إنظرى إلى ما فعلت بنفسك .. مورفين كوديين و هيروين و كوكايين .. أهذه الحياة . أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك . و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟ إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد .. وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك .. وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك . ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟ لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها .. أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك .. كنت تحب المال حتى الموت بالفعل .. وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول .. أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ .. لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث .. حتى التهيت إلى تلوث كامل . ماذا تعنين بتلوث كامل ؟ فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة . لن أكتم عنك شيئاً .. سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح .. سوف أقول لك كل الحقيقة . و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها : سعاد .. أرجوك .. لا داعى . وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه : لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت .. وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً .. وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق .. و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب . ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم : أنت مجنونة .. مجنونة . و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك . و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه . و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى .. فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح .. فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ .. فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم . نعم .. لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه .. وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله .. وبإحساس رجل فقد كل شئ .. فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه . و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان . وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها . و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده : هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك . و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله: إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ...و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم .. و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة .... و لكن .. "ولكن" هذه هى جريمتنا جميعاً ----------------------. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ أغسطس القاتل ودرجة الحرارة أربعون درجة ، و الزنزانة متر فى متر، و السجين يدور حول نفسه منذ ساعات ثم ينهار فى ركن ثم يتجمد كتمثال يحملق أمامه بأعين ثابتة زجاجية تخترق الجدران و تخترق الزمن . إنه فى إنتظار من يفتح الباب و يقوده لتنفيذ حكم الإعدام .
ربما يحدث هذا اليوم و ربما يحدث غداً . وربما يحدث الأن .
وشريط حياته يمر أمام عينه سريعاً . إنه صيدلى ورجل أعملا ناجح . له صيدلية فى أكبر ميادين الكويت يكسب منها ثمانية آلاف جنيه شهرياً . ولا يحتاج منه هذا المكسب الضخم أكثر من العمل بضع ساعات هو وزوجته فى الصيدلية كل يوم .
وقد اشتغل فى بيع وشراء الأراضى فارتفع رصيده فى سنوات من عدة آلاف إلى عدة ملايين من الدنانير .
ثم اشتغل فى بناء و بيع الفيلات و العمارات . ثم فى الأدوات الكهربائية و الأثاث ثم فى تجارة العربات القديمة . فتضاعفت ثروته إلى أرقام فلكية .
وتصور أنه لم يعد ينقصه هو وزجته شئ .فكل ما يرغبان فيه يحصلان عليه بإشارة من طرف البنان . وكل ما يحلمان به يحققانه فى أقل من إغماضة عين .
هكذا كان يتصور حتى شهور قليلة حينما حدثت الحادثة الرهيبة .
وقد بدأت الحادثة بملاحظة بسيطة هى تناقص تدريجى فى أمبولات المورفين بالصيدلية و بإعادة الحسابات اكتشف أن هناك تناقصاً مماثلاً فى أمبولات الكوديين و اللومينال و الكاربيتال و فى عدد من المخدرات الممنوع تداولها بدون روشتات و لم يكن أحد يملك مفتاح دولاب المخدرات سواء هو وزوجته .
ولا يد غريبة تعمل معهما بالصيدلية .
ولم يكن الشك يخرج من أحد اثنين . إما هو . و إما زوجته .
وكانت حالتها النفسية فى السنوات الأخيرة تشير إليها بإصبع الإتهام . نوبات الخدر و الذهول و الرغبة فى الوحدة ، ثم نوبات التوتر و العصبية . ثم الرغبة فى النوم . ثم الإمساك المزمن و فقدان الشهية و الكآبة و السوداوية .
إنها هى إذن .. و لكن ما السر ؟؟؟
و كتم الأمر فى نفسه و لم يشأ أن يسألها . و راح يتجسس ..
و اكتشف أنها تبعث بخطابات منتظمة إلى القاهرة بمعدل خطاب كل ثلاثة أو أربع أيام وراح يفتش فى أدراجها ، وعثر على أحد هذه الخطابات . وكانت ما تزال تكتب فى صفحته الأخيرة . و لم تنته من بعد .
ووقف شعر رأسه و تصبب منه العرق بارداً و هو يقرأ . كان خطاب حب ملتهب به سطورعن علاقة مكشوفة وتفاصيل عن اللذة المحمومة التى غمرتها من الرأس إلى القدم حينما ذاقت أول قبلة . وكاد قلبه يتوقف وهو يقرأ كلماتها :
˝ صدقنى لم أشعر بأى شعور بين ذراعى زوجى حينما أتخيل أنك هو ˝ و كانت السطور تعود فتحلق إلى نبرة غامضة شرية حينما تقول : ˝ ما أجمل اللحظة التى لا مس فيها سرك سرى . وانطوى نورك نورى و شعرت أنى ذبت تماماً وعدت كما بدأت . مجرد لا شئ ˝ .
وأعاد الخطاب إلى الدرج و يده ترتجف كأنما أصابه مس من جنون .
و لكنه كتم الأمر و لم يشأ أن يفاتحها و طار إلى القاهرة إلى عنوان الرجل . وكانت المفاجئة الثانية الصاعقة الثانية . فقد اكتشف أن الرجل مات من خمس عشرة سنة فى حادث تصادم فى طريق مصر الأسكندرية الصحراوى . أى أنه مات قبل زواجه منها ..
هى إذن قصة حب مع رجل ميت . مع شبح . مع ماض سحيق . ولكن ما هذا التجسيد الغريب المثير للمشاعر . وكأنها تخاطب أعضاء تلمسها . وتباشر حالات حية . وتعيش فى حاضر مهيمن يملأ عليها أقطار أحاسيسها فتتكلم فى صراحة بذيئة عن ذلك الإحساس اللذيذ . ثم يعود فيحلق بها الخيال المحموم إلى تلك النبرات الشعرية الغامضة . عن السر الذى لا مس السر . و النور الذى انطوى فى النور . وعن الذوبان حتى التلاشى و العدم .
أيمكن أن يفعل ذلك هذا رجل مات و تحلل وأصبح رمة عفنة وتراباً منذ خمس عشرة سنة ؟ أم أنه أمام حالة جنون كامل ؟
تلك المرأة الضامرة الهزيلة ذات الجمال الذابل و النظرات الناعسة الأنثوية . ذلك الكيان الحريرى فى الأربعين الذى يودع جماله .
أتكون قد أصابها مس من صرع و قد رأت جمالها يذوى و ألقى فى وجهها بكل شئ .
ونظرت إليه نظرات مخدورة واتسعت عيناها الناعسة الأنثوية وكأنما تيقظت من حلم ، وأشاحت بيديها كأنما تزيح الأغطية أو تنفض غبار تابوت . قال فى صوت متهدج :
لم فعلت هذا ؟ فأجابت فى نبرة ساهمة لكن ثابتة :
أنا أعيش حياة لا تطاق . أنت تملكين كل شئ . نحن لا نحب ما نملك . كل ما تحلمين به تجدينه . نحن لا نحلم بما نجد ، بل نحلم بالعزيز الذى لا ينال . ماذا ينقصك ؟؟ الحب . و لكنى تصورت أنك تحبين المال حتى الموت . و هل يُِِحب الأسمنت و الحديد و الخشب ؟؟ حياتنا كانت دائمة حافلة بالنجاح . بل كانت دائمة صدئة خالية من لمسة الشعر و كلمة الحنان . ما حكاية هذا الرجل . هل كنت عشيقته قبل زواجنا ؟؟ صارحينى بالله . فابتسمت إبتسامة باهتة . و قالت فى هدوء : بل مجرد لقاء مصادفة فى إحدى المكتبات العامة . تبادلنا فيه بعض الكلمات . لم يلمس يدى و لم ألمس يده . و لم أره بعد ذلك . و إنما كنت أقرأ له فى الصحف. كاتبا ً مشهوراً . ثم مات فى حادث تصادم . وقرأت نعيه كما قرأته أنت وكما قرأه كل الناس . ثم قابلتك وتزوجنا و هذا كل شئ . أنت إمرأة مجنونة . بل إمرأة عاقلة تريد أن تعيش حياة حقيقية . أليست حياتنا حقيقية ؟؟ إنها مجرد كمبيالات وإيصالات وشيكات وأوراق نقدية تتراكم بدون معنى وخارج إطار هذه الكمبيالات والشيكات لاوجود لشئ لا إيمان بشئ . لا حب لشئ . إن حياتك هى الجنون و الــــــلامعقول ذاته و ليست حياتى . إنظرى إلى ما فعلت بنفسك . مورفين كوديين و هيروين و كوكايين . أهذه الحياة . أفعل هذا لأتحمل الحرمان و الجفاف الذى أعيشه معك . و لماذا لم تطلبى الطلاق ؟ إنتهى العمر و هذا قدرى و لم يعد فى الإمكان البدء من جديد . وحياتنا هى خطؤنا نحن الإثنين و ليست خطأك وحدك . وربما كان ذنبى أكبر من ذنبك . ذنبك أكبر!!! كيف؟؟؟؟؟ لأنى كنت أعلم جريمتى و أستمرفيها . أما أنت فلم تكن تعلم ماذا تفعل بنفسك . كنت تحب المال حتى الموت بالفعل . وكنت صادقاً مع نفسك فى هذا الدأب الـــلامعقول . أما أنا فظل فى داخلى شعور واع رافض لكل شئ . لكنى أستمررت وحاولت أن أعالج الخطأ ثم أعالج الخطأين بخطأ ثالث . حتى التهيت إلى تلوث كامل . ماذا تعنين بتلوث كامل ؟ فجمعت شجاعتها و ألقت بالمفاجئة الثالثة الصاعقة . لن أكتم عنك شيئاً . سوف أضع عن قلبى كل أثقاله و أستريح . سوف أقول لك كل الحقيقة .
و شعر بأنها سوف تلقى بكارثة فقال مشفقاً على نفسه و عليها : سعاد . أرجوك . لا داعى .
وكنها استمرت بصوت معدنى بارد ميت كأنها مصفحة تمر فوق أضلاعه :
لقد خنتك مع كل رجل دخل هذا البيت . وتصورت فى كل مرة أنى سوف أحب هذا الرجل أو ذاك حتى الموت ثم اكتشفت فى كل مرة أنى أكثر مللاً . وأنى أمام شئ مضجر لا يطاق . و لم يبق لى فى النهاية إلا ذاك الرجل الشبح الحلم العزيز الذى لا ينال ذلك الجمال الشفيف من وراء الغيب .
ثم انهارت فجأة تبكى و كأنها تتلاشى فى دموعها و تكوم هو مهزماً فى كرسيه و هو يغمغم : أنت مجنونة . مجنونة .
و لا يعلم كيف مضت به الأيام بعد ذلك . و لا يستطيع أن يصف هذه الظلمة التى مازحته حتى قضت عليه . و حينما دبر بعد ذلك قتلها بالسم لم يكن سبب القتل أنها خانته و إنما كان السبب الحقيقى أنها قتلته و أنها مزقت الستر عن حياته فأصابته بعدواها و نقلت إليه الشعور المرهف بعدم الجدوى .
فأصبح يعيش فى خواء تام و قد سلبته الإحساس بالهدف وحرمته لذة الجمع و النجاح . فانكشف له الجنون و الآلية و العبث فى هذا الجمع اللامعقول ــــــ وهذا الجرى وراء اللاشئ . فأدرك أنه لم يعش وأنه لم يكن يعيش فى أى يوم .
نعم . لقد دبر لقتلها بإصرار و تعمد و ليس بإنفعال و لا بغضب الزوج الذى أهين فى شرفه . وإنما بإحساس قتيل يثأر من قاتله . وبإحساس رجل فقد كل شئ . فقد نفسه وروحه وجوهره و لذته وحافز كفاحه .
و حينما كانت تموت كانت عيناها تبتسمان . وكانت تبدو وكأنما تخففت من أثقالها . و قالت له فى نبرة شكر و هى تقبل يده :
هذا هو العمل الوحيد المعقول الذى صنعته فى حياتك .
و سلم نفسه للنيابة فى ذلك اليوم وكتب اعترافاً كاملاً بخط يده
وكان تعليق القاضى الذى أصدرالحكم وهورجل صوفى إلى زميله:
إن كل الذين عبروا من هنا إلى المشانق قالوا إنهم أحبوا حتى الموت ، البعض أحب الخشب و الحديد ، و البعض أحبوا السلطة ، و البعض الآ خر أحب إمرأة ، و البعض أحب نفسه ..و لا شئ من هذا الحب يروى عطشاً كلهم كانوا كمن يشرب من ماء مالح كلما ازداد شرباً ازداد ظمئاً
و لهذا حاولت صاحبتنا أن تسعى بحبها إلى العزيز الذى لا ينال فأحبت الميت فكانت أكثر سقوطاً وصرفت وجهها عن الوجود لتسقط فى العدم . و لو أنها أحبت الحى الذى لا يموت و لو أنها عرفت جمال وجه الله المستور من وراء الغيب لأدركت طريقها و لتغيرت القصة .. و لكن . ˝ولكن˝ هذه هى جريمتنا جميعاً