█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024
❞ كلنا من أصل واحد .. من خامة واحدة .
ولكن لكل منا فرديته الخاصة به .
والفرق بين مخلوق ومخلوق ليس مجرّد فرق كميّ في الذرات , وإنما هناك فرق أكبر وأعقد في العلاقات بين تلك الذّرات وفي كيفيات الترابط بينها .
ونعلم الآن من أمر توليف الجينات الوراثية في الخلية الأولى أن جميع الأجِنّة الآدمية يتم توليفها من أكثر من عشرين حرفاً كيميائياً من بروتين DNA و RNA .. كما تتألف جميع الكتب والمؤلفات من الحروف الأبجدية , فيكون لكل كتاب روحه وشخصيته ونوعيته كمخلوق مستقل متفرِّد مع أن جميع الكتب مؤلفة من الحروف نفسها .
ويبلغ هذا التفرُد لدرجة أن ينفرد كل واحد ببصمة خاصة مختلفة . لا تتشابه بصمتان لاثنين ولو كانا توأمين منذ بدء الخليقة إلى الآن برغم آلاف آلاف وملايين ملايين الملايين من الأفراد .
ونعلم الآن أن لكل جسد شفرة كيميائية خاصة به بحيث يصبح من العسير وأحياناً من المستحيل ترقيع جسدٍ بقطعةٍ من جسد آخر .. فما يلبث أن يرفض الجسد الرقعة الغريبة كما لو كانت ميكروباً أو جسماً أجنبياً أو استعماراً .. وهذه هي كبرى المشكلات في جراحات الترقيع ونقل الأعضاء .
وأطول مدة عاشها قلب منقول كانت عشرين شهراً وتحت مطر مستمر من حقن التخدير والأقراص المضادة للحساسية لمنع الجسد من رفض العضو الغريب .
ومعنى هذا أن الفردية والتفرد حقيقة جوهرية يشهد بها العِلم .. وهي حقيقة لم ألتفت إليها في بداية تطوري الفكري .. واعتقدت بأن الجوهري والباقي هو المجتمع وليس الفرد .. الإنسان وليس فلاناً , والحياة وليس الأحياء .. الوجود لا الموجودات .. الكل وليس الآحاد .
وهذا أثر من آثار فلسفة وحدة الوجود الهندية القائلة إن الوجود هو الله وهو الباقي .. أما جميع الموجودات فهي " MAYA " والمايا هي الوهم الزائل .
وكل فرد مصيره إلى فناء حقيقي لا بعث بعده , واعتقدت بأن خلود الفرد هو بقدر ما يترك لأولاده من توجيه وتربية وعلوم ومعارف .
أما هو ذاته فإنه ينتهي إلى التراب إلى غير عودة .
نصيبنا من الخلود هو ما نضيفه إلى وعاء الكل .
أما شخوصنا و أفردنا فمصيرها إلى العدم .
وما الشخصية ؟!
لم أفهم من الشخصية في البداية أكثر من أنها ردود فعل ظرفية على مواقف مؤقتة . وبالتالي حينما تنتهي هذه الظروف وتتغيّر الأوقات لا يبقى من الشخصية شيء .. ومآلها أن تتفكك بالشيخوخة نتيجة تفكك ألياف الترابط الموجودة بالمخ .. وحين تفسد الأعصاب وتَفنَى بالموت تفنى الذات الخاصة بها .
إعتقدت أن الشخصية ليست سوى انفصال محدد لصفات معينة بتأثير تجارب حية وأفعال منعكسة عصبية .. بعضها موروث في شكل غرائز ، وبعضها مكتسَب عن طريق الممارسة الحِسية .. وهذه الممارسة تسجَل في المخ وتنطبع على الذاكرة . فإذا انتهى المخ وتعفنت خلايا الذاكرة فلا محل لافتراض بقاء آخر روحاني لهذا الترابط المادي البحت .
بهذا الفهم المادي المسطح تصورت الإنسان في البداية , وكنت أقول لنفسي إن الشخصية ليست شيئاً واحداً وإنما هي سيل من الشخصيات المختلفة لا تنقطع عن الجريان .. فشخصيتي في سن العاشرة .. غيرها في سن العشرين .. غيرها في سن الثلاثين .. وفي كل لحظة هناك شيء يضاف إلى نفسي .. و شيء ينقص منها .. فأية واحدة من هذه النفوس سوف تُبعَث وتعاقَب ؟
وهؤلاء المصابون بانقسام الشخصية أيهما سوف يذهب إلى العالم الآخر .. الدكتور جيكل أم مستر هايد ؟!
ونسيت بهذا التلاعب اللفظي الحقيقة الأولية البسيطة أننا حينما نطبع من الكتاب طبعة ثانية فإننا لا نطبع صفحةً أو فصلاً , وإنما نطبعه كله في أصوله ليصدُر كلّه في أصوله .
وهكذا يكون بعث الروح .. ككل بكل فصولها وأصولها كما تُنبت البذرة من ظلام الأرض حاوية لكل إمكانيات الفروع والأوراق والثمار .
ولكن النظرة المادية التي تميل بطبيعتها إلى التحليل والتشريح والتقطيع كانت هي الغالبة طول الوقت .. ولهذا كانت تغيب عني دائماً صورة الأمور في كليّتها وكنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرَّحت الجسد .. إذ لا فرق بين الإثنين ..
الروح هي البدن ..
والعقل هو المخ ..
والشخصية هي ردود الفعل ومجموع الأفعال المنعكسة ..
والعاطفة في نهاية الأمر جوع جسماني .
ونقف الآن وقفة طويلة لنسأل : هل صحيح أن النفس ما هي إلا مجرد حوافز الجوع والجنس ومجموعة الإستشعارات التي يدرِك بها الجسد ما يحتاجه ؟
لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت فما هكذا حقيقة النفس .. ولا حقيقة الإنسان .. وأعود إلى صفحات كتاب لغز الموت ، ولغز الحياة حيث ناقشت الموضوع بالتفصيل .
إن الإنسان لَيُضحِي بلقمته وبيته وفراشه الدافئ في سبيل أهداف ومُثل وغايات شديدة التجريد .. كالعدل والحق والخير والحرية .. فأين حوافز الجوع والجنس هنا ؟! ..
والمحارب المقاتل في الميدان الذي يضحي بنفسه على مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد .. أين هو من التفسير المادي ؟!
إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس والذات حقيقة متجاوزة وعالية على الجسد ليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية .
تلك الإرادة الهائلة التي تدوس على الجسد وتضحي به هي حقيقة متجاوزة عالية بطبيعتها وآمرة ومهيمنة على الجسد .. وليست للجسد تبعاً و ذيلاً .
وإذا كنت أنا الجسد .. فكيف أتحكم في الجسد وأُخضِعه ؟!
وإذا كنت أنا الجوع .. فكيف أتحكم في الجوع ؟!
إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد ومفردات الغرائز هي الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي والمفارق الذي تتألف منه الذات الإنسانية .
عن طريق النفس أتحكم في الجسد .
وعن طريق العقل أتحكم في النفس .
وعن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده .
هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه و يحكمه هو الإثبات الواقعي الذي يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد وحاكمة عليه وليست ذيلاً وتابعاً تموت بموته .
والذي يقول إن الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير .. عليه أن يفسر لنا أين يذهب ذلك الإنسان في لحظة النوم .
إن جميع الوظائف الفسيولوجية قائمة ومستمرة في أثناء النوم .. وجميع الأفعال المنعكسة واللاإرادية تحدث بانتظام .
فالقلب يدق والنَفَس يتردد والغدد تفرز والأحشاء تتلوى والأعضاء التناسلية تهتاج والذراع ينقبض لشكّة الدبوس .. ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة .. مجرد شجرة .. أو حياة بدائية لا تختلف عن الحياة الحشرية . فأين الإنسان ؟!
إن النوم ثم اليقظة .. وهو النموذج المصغر للموت ثم البعث .. يكشف لنا مرة أخرى عن ذلك العنصر المتعالي الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة فجأة وبلا مقدمات هتلر أو نيرون .. فإذا بذلك الممد كالثور الهامد يصحو ليقتل ويغزو ويسحق ويمحق وإن الفرق لهائل أكبر من أن يفسَر بتغير مادي يتم في لحظات .
والماديّون يقولون إن النفس حقيقة موضوعية وبالتالي هي مادة .
ونحن نسأل كيف تكون النفس موضوعاً ؟ وموضوع بالنسبة لمن .. ؟
موضوع بالنسبة للآخرين ؟ وكيف ؟! والآخرون لا يرونها ولا يدركون وجودها إلا استنباطاً من ظواهر السلوك .. وهي ظواهر أغلبها كاذب .. فكل منّا يمثل على الناس .. بل يمثل على نفسه .. وسلوكه الظاهر قَلما يدل عليه .
أم هي موضوع بالنسبة لصاحبها ؟
وكل منا لو اتخذ نفسه موضوعاً فإنها تبرد وتستحيل تحت مشرط التحليل إلى جثة , وتستخفي وتهرب من يديه لأنها لا يمكن أن تكون موضوعاً ولا أن توضع تحت مجهر مثل ورقة شجرة , لأن جوهرها بالدرجة الأولى في ذاتيتها , وحقيقتها أنها الوجه الآخر من الصورة فهي الذات في مقابل الجسد الذي هو موضوع ..
وكِلا القطبين .. الذات والموضوع .. هما وجها الحقيقة .. فإذا عرّفنا المادة بأنها كل ما هو موضوعي فلا بد من الإعتراف بأن هناك في الوجود شيئاً آخر غير المادة هو الوجه الآخر من الحقيقة .. الذي هو الذات .
وتقودنا عملية الإدراك إلى إثبات أكيد بأن هناك شيئين في كل لحظة .. الشيء المدرك .. والنفس المدركة خارجه .
وما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على عتبة منفصلة وخارجة عن هذا المرور الزمني المستمر .
ولو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك هذه الثواني أبداً .. ولا نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ شيئاً وإنه لقانون معروف أن الحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها .
لا يمكن أن تدرِك الحركة وأنت تتحرك معها في الفلك نفسه .. وإنما لابد لك من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها ..
ولهذا تأتي عليك لحظة وأنت في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك لأنك أصبحت قطعة واحدة معه في حركته .. لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا إذا نظرت من باب الأسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج .
وبالمثل لا يمكنك رصد الشمس وأنت فوقها ولكن يمكنك رصدها من القمر أو الأرض .. كما أنه لا يمكنك رصد الأرض وأنت تسكن عليها وإنما تستطيع رصدها من القمر .
وهكذا دائماً .. لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها ولاحظتها كموضوع .
وأنت تدرك مرور الزمن لابد أن تكون ذاتك المدركة خارج الزمن . وهي نتيجة مذهلة تثبت لنا الروح أو الذات المدركة كوجود مستقل متعالٍ على الزمن ومتجاوز له وخارج عنه .
فها نحن أولاء أمام حقيقة إنسانية جزء منها غارق في الزمن ينصرم مع الزمن ويكبر معه ويشيخ معه ويهرم معه ( وهو الجسد ) وجزء منها خارج عن هذا الزمن يلاحظه من عتبة السكون ويدركه دون أن يتورط فيه ولهذا فهو لا يكبر ولا يشيخ ولا يهرم ولا ينصرم ..
ويوم يسقط الجسد تراباً سوف يظل هو على حاله حيّاً حياته الخاصة غير الزمنية .. ولا نجد لهذا الجزء إسماً غير الإسم الذي أطلقته الأديان وهو الروح .
وكل منا يستطيع أن يلمس هذا الوجود الروحي بداخله .. ويدرك أنه وجود مغاير في نوعيته للوجود الخارجي النابض المتغير الذي يتدفق حولنا في شلال من التغيرات .
كل منا يستطيع أن يحس بداخله حالة حضور وديمومة وامتثال وشخوص وكينونة حاضرة دائماً ومغايرة تماماً للوجود المادي المتغير المتقلب النابض مع الزمن خارجه .
هذه هي الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الداخلي والتي أسميتها حالة ( حضور ) .. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي بداخلنا ويضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح .. أو المطلق .. أو المجرد .
ونحن حينما ندرك الجمال ونميزه من القبح .. وندرك الحق ونميزه من الباطل .. وندرك العدل ونميزه من الظلم .. فنحن في كل مرة نقيس بمعيار .. بمسطرة منفصلة عن الحادث الذي نقيسه .. فنحن إذن نقيس من العتبة نفسها .. عتبة الروح ..
فالوجود الروحي يمثله فينا أيضاً الضمير ويدل عليه أيضاً الإحساس بالجمال .. وتدل عليه الحاسة الخفية التي تميز الحق من الباطل والزائف من الصحيح .. وتدل عليه الحرية الداخلية .. فالروح هي منطقة السريرة والحرية المطلقة والإختيار والتمييز .
وحينما نعيش حياتنا لا نضع اعتباراً للموت .. ونتصرف في كل لحظة دون أن نحسب حساباً للموت .. وننظر إلى الموت كأنه اللامعقول ..
فنحن في الواقع نفكر ونتصرف بهذه الـ أنا العميقة التي هي الروح والتي لا تعرف الموت بطبيعتها .
فالموت بالنسبة للروح التي تعيش خارج منطقة الزمن هو بالنسبة لها .. لا أكثر من تغيير ثوب .. لا أكثر من انتقال ..
أما الموت كفناء وكعدم فهو أمر لا تعرفه , فهي أبداً ودائماً كانت حالة حضور وشخوص .. إنها كانت دائماً هنا .
إنها الحَضرة المستمرة التي لم ولا يطرأ عليها طارئ الزوال .. وكل ما سوف يحدث لها بالموت .. أنها سوف تخلع الثوب الجسدي الترابي ..
وكما تقول الصوفية تلبس الثوب البرزخي .. ثم تخلع الثوب البرزخي لتلبس الثوب الملكوتي .. ثم تخلع الثوب الملكوتي لتلبس الثوب الجبروتي ..
كادحة من درجة إلى درجة ارتفاعاً إلى خالقها .. كل روح ترتفع بقدر صفائها وشفافيتها وقدرتها على التحليق .. على حين تتهابط الأرواح الكثيفة إلى ظلمات سحيقة وتنقضي عليها الآباد وهي تحاول الخلاص .
وأترك الصوفيين لمشاهداتهم حتى لا نضيع معهم في التيه , وليس هدفي من هذه الدراسة عبور حاجز الموت لمعرفة ما وراءه , فهذا طمع في غير مطمع ورغبة في مستحيل .
ويكفيني أن أقف بالقارئ ليتأمل نفسه ويكتشف ذاته العميقة الحاكمة الآمرة المتعالية على جسده الترابي .. تلك التي أسميتها الروح .. و التي استدللت عليها بأبلغ دلالة .. بشعور الحضرة التي يشعر بها كل منا في داخل نفسه .
تلك الحضرة المستمرة التي لا يطرأ عليها طارئ الزوال ولا تهُب عليها رياح التغير وكأنها العين المفتوحة داخلنا على الدوام .
ذلك الصحو الداخلي .
ذلك النور غير المرئي في نفوسنا والذي نرى على ضوئه طريق الحق ونعرف طريق .. القبح من الجمال .. والخير من الشر .
تلك العتبة التي نرصد من فوقها حركة الزمن وندرك مروره .. ونرى مرور الأشياء وندرك حركتها .
تلك النقطة في داخل الدائرة .
المركز الذي تدور حوله أحداثنا الدنيوية الزمنية وهو شاخص في مكانه لا يتحرك ولا ينصرم له وجود .. " الروح " ..
حقيقتنا المطلقة التي هي برغم ذلك لغز .
هل الروح أبدية .. أو أن لها زمناً آخر ذا تقويم مختلف .. اليوم فيه بألف سنة ؟
وما العلاقة بين الروح والجسد ؟
وما العلاقة بين العقل والمخ ؟
وما العلاقة بين الذاكرة والتحصيل واستظهار العلوم ؟
إنه موضوع آخر له شرح يطول .
**********************
مقال / الجســـد
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ) . ❝
❞ إن الحضارة التي تحكم العالم مشحونة بالأخطاء والخطايا، بيد أنها ستبقى حاكمة مادام لا يوجد بديل أفضل!.
هل البديل الأفضل جلباب قصير ولحية كثة؟ أم عقل أذكى وقلب أنقى، وخلق أزكى وفطرة أسلم وسيرة أحكم؟.
لقد نجح بعض الفتيان في قلب شجرة التعاليم الإسلامية فجعلوا الفروع الخفيفة جذوعها أو جذورا، وجعلوا الأصول المهمة أوراقا تتساقط مع الرياح!.
وشرف الإسلام أنه يبني النفس على قاعدة «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها» وأنه يربط الاستخلاف في الأرض بمبدأ «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر» . ❝
❞ غربة علوم الحديث في عصر العلامة يحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد (حفيد الإمام القاسم مؤسس الدولة القاسمية)
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري وأسبابه:
إن المتفحص للعلوم التي كانت تدرس في عصر الشَّارح وقبله وبعده, لا يكاد يجد أي ذكر لعلوم الحديث, ودواوين السنة المطهرة من الصحاح والمسانيد والسنن, فلم تكن تدرس إلَّا في النادر, قال العلَّامة المؤرخ يحيى بن الحسين –رحمه الله- في تاريخه (بهجة الزمن) وهو يذكر أحداث (1093هـ): ˝وفي نصف رمضان منها ختم على الفقير إلى الله صحيح الإمام مسلم بن الحجاج( ) القشيري قراءة محققة الضبط والحراسة من أوله إلى آخره، فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن بعد سماعي له عام اثنين وسبعين وألف على الفقيه صالح بن محمَّد العنسي( ) بسماعه له على الشيخ العارف محمَّد بن علي علان الشَّافعي( ) بمكة المحروسة. وفي السنة التي بعدها شرع لي قراءة سنن أبي داود، فسمع عليَّ أكثره، لم يبق إلَّا قدر الربع من آخره فلله الحمد، وذلك بصنعاء اليمن, وكان هذا من جملة النعم؛ لأن هذا الكتاب والبخاري وغيرهما لم يعرفهما أحد
بصنعاء من رأس الألف إلى هذا التأريخ، قدر مائة سنة، فلا قوة إلَّا بالله( )˝.
فهذا شاهد منصف من أسرة الأئمة, يثبت ما مرت به كتب الحديث والسنة المطهرة من غربة في عصره وقبله وبعده, ويمكن للباحث أن يستنبط من خلال أحداث تلك الفترة أهم الأسباب التي أدت إلى هذه الغربة ومنها:
1. سياسة التشكيك في كتب الحديث والطعن في رواتها وناقليها, فقد أوغلوا كثيرًا في الطعن بكتب الحديث حتَّى أنَّ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري( ) والذي كان مقربًا من إئمة وأمراء الدولة, قد خرق إجماع الأمة – بمن فيهم الزيدية - في طعنه في كتب الحديث ورواته، والظاهر أنَّ مكانته العلمية والسياسية منعت علماء عصره من الرد عليه، لكن المؤلف –رحمه الله– قد رد عليه لسعة علمه، وعدم خوفه من الجهلة والمتعصبين، وكونه من الأسرة الحاكمة.
وكان المسوري هذا قد ألف رسالة سماها ˝الرسالة المنقذة من الغواية في طرق أهل الرواية˝( ), قال يحيى بن الحسين –رحمه الله- في ˝بهجة الزمن˝ في أخبار سنة (1052هـ): ˝وفيها - أي في هذه السنة - أنشأ القاضي أحمد بن سعد الدِّين المسوري رسالة أبانت عن صاحبها الجهالة, وذلك في الطعن في سنة النبي r والرد لما جاء منها على ألسنة الرواة والمحدّثين وما أتوا به عن سيد المرسلين وخاتم النبيين, وقال: كلما في الأمَّهات الست لا يحتج به وأنَّه كذب فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، يريدون أن يبدلوا كلام الله ورسوله، ويؤمنون ببعض الكتاب دون بعضه، وقد أجبت على هذه الرسالة، وأظهرت ما فيها من الغلط والغواية، وما توفيقي إلَّا بالله˝( )
2. أن كل من يشتغل بكتب الحديث أو عمل فيها من السنن عادته العامة، ورمته بالنصب؛ أي: بغض أهل بيت النبي r، ربما أنزلت به أنواع الأذية والمحن.
وهذا هو السبب فيما وقع من الامتحان للعلامة المحدث عبدالرحمن الحيمي( )، وهو أحد شيوخ الشَّارح, قال عنه الشوكاني: الحافظ الكبير العلَّامة الشهير كان من العلماء الجامعين بين علم المعقول والمنقول وله اشتغال بالتدريس في الأمَّهات ونشرها؛ ولكنَّه ما سلم من الامتحان من أهل عصره لسبب اشتغاله بالأمَّهات علمًا وعملًا وتدريسًا, وليس ذلك ببدع فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار( ).
وهو السبب ذاته الذي دفع العلَّامة الحسن بن أحمد الجلال( ) الى الخروج من مدينة صنعاء إلى الجراف( ) واعتزال النَّاس، ودفع العلَّامة المقبلي( ) إلى الخروج من اليمن إلى مكة وبقائه بها حتَّى مات، وهو السبب في عزلة الشَّارح يحيى بن الحسين –رحمه الله- وإهماله من قبل علماء ومؤرخي عصره، وهو السبب الذي حمل العلَّامة محمَّد بن إبراهيم الوزير( ) على اعتزال أهل عصره، وتوحشه في الفلوات وانقطاعه عن النَّاس.
وهو ذات السبب فيما نزل بعد ذلك بالعلَّامة محمَّد بن إسماعيل الأمير الصنعاني من المحن حتَّى كاد أن يقتل على منبر جامع صنعاء( ).
قال الأمام الشوكاني وهو يتحدث عن ما جرى من محن للعلامة محمَّد بن اسماعيل الأمير: وجرت له مع أهل عصره خطوب ومحن, وتجمع العوام لقتله مرة بعد أخرى, وحفظه الله من كيدهم ومكرهم وكفاه شرهم, وولاه الإمام المنصور بالله الخطابة بجامع صنعاء فاستمر كذلك إلى أيَّام ولده الإمام المهدي, واتفق في بعض الجمع أنَّه لم يذكر الأئمة الذين جرت العادة بذكرهم في الخطبة الأخرى, فثار عليه جماعة من آل الإمام الذين لا أنسة لهم بالعلم, وعضدهم جماعة من العوام, وتواعدوا فيما بينهم على قتله في المنبر يوم الجمعة المقبلة, وكان من أعظم المحشدين لذلك السيد يوسف العجمى( ) الإمامي القادم في أيَّام الإمام المنصور بالله, والمدرس بحضرته, فبلغ الإمام المهدي ما قد وقع التواطأ عليه, فأرسل لجماعة من أكابر آل الإمام وسجنهم, وأرسل لصاحب الترجمة( ) أيضًا وسجنه, وأمر من يطرد السيد يوسف المذكور حتَّى يخرجه من الديار اليمنية, فسكنت عند ذلك الفتنة, وبقي صاحب الترجمة نحو شهرين ثمَّ خرج من السجن, وولي الخطابة غيره, واستمر ناشرًا للعلم تدريسًا وإفتاءً وتصنيفًا, وما زال في محن من أهل عصره, وكانت العامَّة ترميه بالنصب, مستدلين على ذلك بكونه عاكفًا على الأمَّهات وسائر كتب الحديث, عاملًا بما فيها, ومن صنع هذا الصنع رمته العامَّة بذلك, لا سيما إذا تظهر بفعل شيء من سنن الصلاة, كرفع اليدين وضمهما ونحو ذلك, فإنهم ينفرون عنه ويعادونه ولا يقيمون له وزنًا, مع أنَّهم في جميع هذه الديار منتسبون إلى الإمام زيد بن علي( ), وهو من القائلين بمشروعية الرفع والضم, وكذلك ما زال الأئمة من الزيدية يقرأون كتب الحديث الأمَّهات وغيرها, منذ خرجت إلى اليمن ونقلوها في مصنَّفاتهم الأَّولى, فالأَّول لا ينكره إلَّا جاهل أو متجاهل( ).
ومنهم الإمام العلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- شارح المخطوط، الذي حرص على اتباع الدليل من الكتاب والسُّنَّة، ولم يقلد في الأصول، ولا في الفروع، فهو من العلماء القلائل الذين برعوا في علم الحديث بالنسبة لأقرانه - في ذلك العصر- ولم يمنعه اعتراض بعضهم من قول الحق، والدعوة إلى الإلتزام بالكتاب والسُّنَّة الصَّحيحة، والسير على نهج السلف الصالح، كما كان من سبقه من علماء اليمن الأعلام، والمجددين الأفذاذ، الذين تعرضوا إثر طرحهم لأفكارهم التجديدية إلى الإيذاء، ولم يسلموا من الفتن والامتحان من أهل عصرهم؛ بسبب اشتغالهم بالأمَّهات, علمًا وعملًا وتدريسًا، وليس ذلك ببدع، فهذا شأن هذه الديار من قديم الأعصار, كما قال الشوكاني( ).
والعلَّامة يحيى بن الحسين –رحمه الله- أحد من ابتلي بذلك، قال عنه الشوكاني: أهمل ذكره أهل عصره فمن بعدهم؛ ولعلَّ سبب ذلك والله أعلم: ميله إلى العمل بما في أمهات الحديث, ورده على من خالف النصوص الصَّحيحة, وقد رأيت له مؤلفًا رد به على رسالة للقاضي أحمد بن سعد الدِّين, يتضمن الرد على أئمة الحديث, وسمى صاحب الترجمة مؤلفه: ˝صوارم اليقين لقطع شكوك القاضي أحمد بن سعد الدِّين˝ وهو مؤلف ممتع, يدل على طول باع مصنِّفه, وكذلك رأيت له مصنَّفا سماه: ˝الإيضاح لما خفى من الاتفاق على تعظيم صحابة المصطفى˝, ووقع بينه وبين أهل عصره قلاقل بسبب تظهره بما تقدم( ).
3. الفقهاء الجامدون: ومن الأسباب أيضًا ما ذكره الأمام الشوكاني من التحريض من قبل الفقهاء الذين وصفهم بالجمود, قال الشوكاني: وليس الذنب في معاداة من كان كذلك للعامة, الذين لا تعلق لهم بشيء من المعارف العلمية, فإنهم اتباع كل ناعق, إذا قال لهم من له هيئة أهل العلم أنَّ هذا الأمر حق قالوا حق, وإن قال باطل قالوا باطل, إنَّما الذنب لجماعة قرأوا شيئًا من كتب الفقه ولم يمعنوا فيها ولا عرفوا غيرها, فظنوا لقصورهم أنّ المخالفة لشيء منها مخالفة للشريعة؛ بل القطعي من قطعياتها, والغالب عليهم أنّ ذلك ليس لمقاصد دينية بل لمنافع دنيوية تظهر لمن تأملها وهي أن يشيع في النَّاس أنّ من أنكر على أكابر العلماء, ما خالف المذهب من اجتهاداتهم, كان من خلص الشيعة الذَّابين عن مذهب الآل, وتكون تلك الشهرة مفيدة في الغالب لشيء من منافع الدنيا وفوائدها, فلا يزالون قائمين وثائرين في تخطئة أكابر العلماء, ورميهم بالنصب ومخالفة أهل البيت, فتسمع ذلك العامة فتظنه حقًا, وتعظم ذلك المنكِر؛ لأنَّه قد نفق على عقولها صدق قوله, وظنوه من المحامين عن مذهب الأئمة, ولو كشفوا عن الحقيقة لوجدوا ذلك المنكِر هو المخالف لمذهب الأئمة( ).
4. سكوت العلماء عن قول الحق, ومداراتهم للعامة خوفًا على أنفسهم وهتك أعراضهم: قال الشوكاني: كان أهل العلم يخافون على أنفسهم, ويحمون أعراضهم؛ فيسكتون عن العامة, وكثيرًا منهم كان يصوبهم مداراةً لهم, وهذه الدسيسة هي الموجبة لاضطهاد علماء اليمن, وتسلط العامة عليهم, وخمول ذكرهم, وسقوط مراتبهم؛ لأنهم يكتمون الحق, فإذا تكلم به واحد منهم وثارت عليه العامة صانعوهم وداهنوهم, وأوهموهم أنَّهم على الصواب؛ فيتجرؤون بهذه الذريعة على وضع مقادير العلماء, وهضم شأنهم, ولو تكلموا بالصواب, أو نصروا من يتكلم به, أو عرفوا العامة إذا سألوهم الحق, وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم؛ لكانوا يدًا واحدةً على الحق, ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة اثارة شيء من الفتن, فإنا لله وإنا إليه راجعون( ) . ❝
❞ ونستطيع أن نحدد مجال الثبات ومجال المرونة في شريعة الإسلام ورسالته الشاملة الخالدة، فنقول إنه الثبات على الأهداف والغايات، والمرونة في الوسائل والأساليب. الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات. الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشئون الدنيوية والعملية . ❝