: - 6 -
خضعت الروبوتات ( المخبولة) و التى أصابها فيروس ( جنون الروبوتات ) و تم صيانتها على يد المهندس المصرى محمود طايع ، للمراقبة و الملاحظة أثناء عملها على حسب نوع النشاط الذى تم تسخيرها من أجله ..
يتم كتابة تقارير يومية بحالة هذه الروبوتات التى تعمل فى مصانع و شركات متنوعة بالجانب الشرقى لـ ( مدينتنا ) .. يتم أرسال هذه التقارير بصفة دورية لمكتب الجزيرى ليقوم بفحصها و دراستها و متابعة الحالة الفنية لهم .. مضى أسبوعان على صيانة الروبوتات المصابة و أنخراطها مرة أخرى فى العمل ، بعد الأطلاع على التقارير و الحالة العامة لهذه الروبوتات خلال الأسبوعان الماضيين .. سادت حالة من الأطمئنان و زادت الثقة في مراكز صيانة ( مدينتنا ) و بالأحرى أرتفع شأن محمود
مهنياً و أرتقت مكانته لدرجات أعلى ..
كانت هذه الثقة المستمدة من واقع الأحداث الماضية وراء الدافع فى أن يستقر الجزيرى بدعم من الماظة و المنفلوطى على أرسال إيميل للشركة اليابانية الموردة للروبوتات ، يكون فيه نص الرسالة لاذعاً ..
بالفعل تم أرسال الإيميل و كانت به عبارات زجر و توبيخ لما أرتكبه مهندسون شركتهم تجاه روبوتات ( مدينتنا ) مما أثر على عجلة الأنتاج !!
بعد ساعة زمن واحدة من أرسال إيميل مصرى يكشف التلاعب اليابانى .. تم الرد بـ إيميل يابانى لكشف سوء الفهم المصرى الذى وقع جراء ما حدث الفترة الماضية .. جاء نص الإيميل اليابانى كالتالى :
ما حدث كان ضمن خطة الدورة التدريبية .. و هذا كان يمثل الجزء الأخير من الأختبار الذى وضعه المدربين اليابانيين ..
*************************
داخل منزل طايع قد تغير الوضع فى أكثر من موضع ، بعد أن وافق طايع مرغماً من تلقاء نفسه على شغل وظيفة محاسب فى محل أبو كرش ..
كانت الحاجة زكية تقف كعادتها فى المطبخ وسط الأبخرة الكثيفة .. كانت الأغانى تصدح من غرفة محمود .. اللون الجديد الذى يصبغ الأغانى بغرفة محمود هو اللون الرومانسى .. لقد أستشعرت الحاجة زكية التغيير الذى طرأ على منزلها و أسرتها الصغيرة .. زوجها طايع يذهب مرغما للعمل مع شخص لا يطيقه و لكن هذا أفضل وضعا من البقاء فى المنزل دون عمل ، أبنها محمود قد تغير مزاجه و أصبح يستمع لأغانى رومانسية و هيمنت عليه حالة من الهيام و الغرام ..
لاحظت الحاجة زكية التغيرات التى طرأت على حياتها الأسرية ، لكن حالة محمود العاطفية قد أسترعت أنتباه والدته و شغلت مساحة كبيرة من ذهنها ..
أنهت الحاجة زكية طهى الطعام و خرجت من المطبخ و لم يأتى طايع بعد .. و هذا طبقاً لمواعيد العمل الجديدة بمحل أبو كرش ، تجولت بنظراتها فى المنزل و لم يكن معها فيه غير محمود .. لذلك لم تجد غير غرفة محمود تصلح لتطرق بابها و هى تنادى عليه أفتح يا مسهوك !!
فتح محمود باب الغرفة و هو يبتسم لها و قال : مسهوك أرحم من فاشل .. أمتى بقى هتفتكرى أن أسمى محمود .. دة أنتى اللى مسميانى !!
مددت الحاجة زكية ساقيها فوق سرير محمود و طلبت منه أن يخبرها عن مبرر للحالة العاطفية التى أصابته تزامناً مع الوظيفة الجديدة .. و سألته :
هل تحب صاحبة العمل الجديد ؟؟
فضحك محمود و قال لها : لا .. الأبنة !!
كاد محمود أن يفصح لوالدته عن الجزء الخفى فى حياته ، لكن كسر مجئ والده طايع هذه اللحظة و فض هذه الجلسة ، لا سيما و أن طايع كان فى حالة يرثى لها و كانت تصرفاته توحى بالغضب و كلماته
تؤكد بأنه مصاب بحالة نفسية مأزومة ..
سألته الحاجة زكية و قد تملكها القلق : مالك يا حاااج خير ؟
رد طايع بصوتاً أجش : و هيجى منين الخير و أنا شغال مع أبو كرش
اللى بالع فى كرشه كل الخير !
انا لا يمكن أكمل فى المحل دة ..
دة عايزنى أقبل أوضاع غلط فى الشغل و يقولى :
مشى حالك حالك يمشى .. أو امشى !!
***************************
كان الجزيرى يتفقد الجيميل و يستطلع الإيميلات المرسلة له ، فأستوقفه إيميل الشركة اليابانية ،
و قد جاء نص الإيميل المرسل من الشركة اليابانية كالتالى :
ما حدث كان ضمن خطة الدورة التدريبية .. و هذا كان يمثل
الجزء الأخير من الأختبار الذى وضعه المدربين اليابانيين ..
فذهب إليهم الرد على هذا الإيميل كالأتى :
و ماذا بعد أجتياز الجزء الأخير من الأختبار بنجاح ؟!!
فتم الرد من الشركة اليابانية على إيميل الجزيرى بمفاجأة جديدة :
تم أهداءكم دورة مكثفة مجانية فى كيفية صناعة الروبوتات ، هذه المنحة لفردا واحداً .. و ستقام الدورة بمقر شركتنا فى اليابان ..
برجاء التأكيد للتجهيز و شكراً لكم على تعاملكم معنا ..
تمكن اليابانيين من أرباك الجزيرى و أصابته بحالة من التفكير الضبابى ، تواصل الجزيرى هاتفياً بالماظة و المنفلوطى و عرض عليهم التطورات بشأن الشركة اليابانية ، فكان جوابهم حاسماً و قاطعاً بأستغلال هذه الفرصة أياً كانت نواياهم و أرسال المهندس محمود طايع للأستفادة من هذه الدورة و أن ينهل قدر المستطاع من خبراتهم لينقلها لزملائه فى مراكز صيانة ( مول المستقبل ) و بدء تنفيذ الخطوة المستقبلية التى طالما حلم بها الماظة منذ بادئ الأمر ..
*****************
كما أقر خبراء الحياة .. أن فى حياة كل إنسان موقف
لا تعود الحياة بعده كما كانت من قبل ..
ظهر أيضاً خبراء فى الحب و أفترضوا .. أن فى حياة كل أنسان شخص
لا تكون الحياة فى وجوده كما كانت من قبل ..
ظهور محمود فى حياة جميلة و كذلك وجود جميلة فى حياة محمود ،
أحدث فارقاً ظاهراً للجميع حتى لضعاف البصر ..
لقد غيرت جميلة أسمها المستعار ( وردة الجنة ذبلت فى جحيم الحياة ) بعد أن لازمها لسنوات .. ليصبح ( وردة الجنة تتفتح ) ..
ظهور محمود فى حياة جميلة كان له فضلاً كبيراً فى تبديل أسمها المستعار .. كما أن محمود قد صارح جميلة أن ظهورها فى حياته له الفضل أيضاً فى أن يغير أسم صفحته من ( موطن الفاشلين ) إلى ( معاً نصنع النجاح ) ..
و أخبرها أنه كان يقصدها عندما سجل الأسم الجديد
و أن - معاً - تعود عليهما هما الأثنان !!
كان محمود يعيش أزهى أيامه الرومانسية و لم يسبق له قط أن مر بمثل هذه الحالة أو تذوق مثل هذه المشاعر التى تغمره الأن ، و قد لاحظت والدته زكية ذلك و قد علقت عليه ..
كذلك جميلة كانت تنتابها حالة من الغرام كانت أقوى من
قدرتها على أخفائها أمام والدها الجزيرى ..
الجزيرى كان لا يصارح جميلة مباشرةً بما يلاحظه ، لكن كلماته كانت تؤكد لجميلة أن والدها على دراية كاملة
بالتغيرات التى طرأت على شخصيتها و حياتها ..
صرح لها عن سعادته لأقبالها على خطوة تغيير أسمها المستعار و أخبرها أنه سيكون أسعد لو أخبرته الدافع وراء هذه الخطوة الإيجابية ..
أكدت له جميلة أن لقانون الحياة قوة قادرة على تغيير البشر !
رد عليها الجزيرى بلهجة أصطناع التأثر :
أنتى محقة فى ذلك .. بمناسبة تغيير البشر .. لقد تغير محمود .. و قرر أن يتخلى عن مراكز صيانة المدينة و وافق على عرض الشركة اليابانية ، و سيسافر للإنضمام لفريق عملهم !
قالت جميلة فى فزع : متى حدث هذا ؟!!
أبتسم الجزيرى و قد لمعت عيناه .. فأنتبهت جميلة أن والدها قد لاحظ أرتباكها .. حاولت جميلة أحتواء الموقف و التشويش على أندفاعها لكن كانت محاولتها دون جدوى ..
************************
كان للجزيرى عينان أقرب لعينان الصقر فى حدتهما و عقل أقرب ما يكون لعقل الثعلب فى مكره .. لقد كان الجزيرى ثاقب النظر لدرجة مكنته من كشف بوادر الحب فى فؤاد أبنته جميلة ، و كان يمتلك من الدهاء
ما يكفى لمحاربة هذه العلاقة و وأدها فى مهدها ..
تواصل الجزيرى سراً مع الشركة اليابانية دون علم الماظة أو المنفلوطى ، و أرسل إليهم إيميل يعرض عليهم فيه تطبيق نظام الأحتراف فى الصناعة كما يحدث فى الرياضة .. أرسل إيميل بما يفيد أن يستقر محمود فى العمل لديهم مدة لا تقل عن ثلاث سنوات و فى المقابل يقوموا بأرسال مهندس يابانى خبير فى صيانة الروبوتات و تصنيعها ليحل محل المهندس المصرى بمراكز صيانة المدينة .. و أكد لهم أنه سيتحمل كافة التكاليف المطلوبة لأتمام هذه المهمة !!
جاء رد الشركة اليابانية من خلال إيميل و كان على النحو التالى :
لا مانع من تطبيق فكرة الأحتراف و الأعارة ، لكن يتحتم موافقة جميع الأطراف .. سوف نعرض الأمر على المهندس المصرى عند مجيئه و فى حالة موافقته فنحن جاهزين لأرسال أحد المهندسين اليابانيين الخبراء فى هذا المجال ..
***************************
عندما يكون نظام العمل فى سياق العمل الجماعى و يكون الفريق بأكمله على قلب رجلاً واحداً .. تكون المحصلة النهائية ممتازة ..
لقد أدى القائمين على مشروع أستصلاح الأراضى الصحراوية كل ما بوسعهم لأنجاز الإجراءات اللازمة لأنجاح هذا المشروع ..
تمكن الماظة و الجزيرى من تسخير علاقاتهم القوية المتشعبة فى خدمة مشروع الزراعة بالمدينة .. لقد تم الأنتهاء أخيراً من بناء محطة معالجة مياه الصرف الصحى فى مدة لم تزيد عن خمسة أشهر ،
و هذا زمن قياسى لأنجاز مثل هذه المهمة !
كما تم خلال هذه المدة الحصول على الأعتمادات الفنية بعد الإنتهاء من مرحلة الفحص من الجهات المسئولة ، وذلك للتمكن من أستيراد المعدات الكهروميكانيكية لأستخدامها فى المعالجة الثلاثية ..
تم فتح باب التقدم لشغل وظائف عديدة و متنوعة فى هذا المشروع العملاق الذى سيبتلع أعداداً مهولة من مواطنين ( مدينتنا ) و سيساهم بشكل كبير فى حل أزمة البطالة التى ضربت المدينة ..
بدأ الأستقرار يعرف طريقه لـ ( مدينتنا ) ، كان الهدف الأساسي الظاهر لهذا المشروع هو المساهمة فى حل مشكلة البطالة بالمدينة .. لكن لعب مفكرين و رجال أعمال المدينة على أتجاه أخر غير معلن و هو التركيز على زراعة القمح و لكن أيضاً أعطاء مساحة عادلة لزراعة بعض الحبوب و الغلال الأخرى الصحراوية و كذلك الخضروات مثل : البطاطا و القرع العسلى و الباذنجان و البصل و الملوخية و الخيار و الفلفل و أيضًا البطيخ و الشمام التى يمكن زراعتها فى أراضى المدينة الصحراوية ، و ذلك لتوفير السلع الإستراتيجية التى لا تمكنهم من تحقيق الإكتفاء الذاتى للمدينة فحسب بل و بدء مرحلة التصدير أيضاً و النهوض بأقتصاد المدينة ..
*****************************
بعد مرور شهر ...
كان محمود قد عاد من اليابان بعد أن أنهى بنجاح المأمورية التى تم تكليفه بها ، و عاد لينقل الخبرات التى أكتسبها من الخبراء اليابانيين لزملائه المبتدئين المصريين .. لم يكتف بذلك فحسب بل شرع فى أولى خطوات تصنيع الروبوت !
كان محمود يجلس على مكتبه الذى تم تخصيصه له منذ أن تولى منصب مدير مراكز صيانة ( مول المستقبل ) ، كان يأخذ قسطاً من الراحة مع الأستمتاع بكأس ملئ بعصير المانجو و تغوص فيه قطع من المانجو .. جال فى خاطره صديقه خالد فقرر أن يتصل به هاتفياً .. رد عليه خالد و على غير العادة بادر محمود و طلب منه أن يقابله على المقهى الذى يجتمعان فيه على فترات متباعدة .. لبى خالد طلب صديقه و أتفق معه محمود على الموعد و كان بعد ساعة من الأتصال الهاتفى فأخبره خالد أن لا بئس فالوقت مناسباً له ..
على المقهى كان يجلس محمود قبل الموعد المحدد .. دقائق و ظهر خالد و هذا يعنى أن الساعة قد دقت السادسة مساءً .. أيقن محمود ذلك بعد النظر فى ساعته فهو يدرك مدى مصداقية مواعيد صديقه خالد ، لذلك داعبه محمود بعد مصافحته و قال له : سأطلق عليك أسم خالد اليابانى لدقة مواعيدك !!
أبتسم خالد و قال له : أراك منبهراً باليابانيين بعد سفرك لبلدهم ..
و سحب كلاً منهما مقعداً و جلس عليه و طلب خالد من صديقه
أن يخبره بتجربته فى السفر إلى اليابان ..
كان محمود يسرد له و خالد يستمع له مستمتعاً بما يسمعه و أبدى أعجابه لمحمود بتجربة الروبوتات برمتها .. كان خالد منبهراً بالتطورات التى تحدث فى مجال التكنولوجيا بالمدينة ، و بالأحرى بالأتجاه الذى سلكه رجال أعمال المدينة و تأسيس مراكز صيانة للروبوتات ..
ففاجأه محمود أن هذا كلاماً قديماً و أنه يعيش الأن مرحلة أنتقالية أخرى و أخبره أنه شرع فى تصنيع روبوت كامل ، أخبره خالد أن المنحة قد أتت بثمارها و قال له مازحاً : لو مكثت هناك أكثر من ذلك كنت ستعود إلينا لتطرح فكرة تصنيع سفن فضائية و بيعها للرماديون ..
ضحك محمود و أخبره أن الشركة اليابانية بالفعل قد عرضت عليه العمل لديها بعقد لمدة ثلاث سنوات ، و لكنه رفض فعرضت عليه الشركة اليابانية مرتب مغرى و لكنه رفض أيضاً و تمسك بتنفيذ حلمه فى وطنه الحبيب مصر ..
رد عليه خالد و قد لمعت عيناه بالأعجاب و قال لصديقه مازحاً :
سأمنحك إذاً لقب محمود الوطنى ..
و أستطرد خالد و قال له :
لكن حقآ خطوة تصنيع الروبوتات فى ( مدينتنا ) بمثابة إنجاز عظيم ..
أبتسم له محمود وقال له : ما نعتبره نحن إنجاز فهو بمثابة نشاط يومى فى دولة اليابان و العديد من الدول المتقدمة الأخرى .. هم لم يكتفوا بصناعة الروبوتات لإنجاز العديد من المهام الصعبة فقط ، بل يخططون لتصنيع روبوتات تمتلك مشاعر أنسانية ، تحب و تكره كالأنسان ..
هم يستعدون لأدراج الروبوتات فى الحياة مثلها كمثل البشر و سيسهلون
إتاحة الزواج من الروبوت فيما بعد !!
كان خالد يستمع لمحمود و قد شهق انبهاراً لما سمعه ..
ثم سأل محمود صديقه عن مشروع الزراعة الذى تحول من مجرد حلم قديم لخالد و أصبح الآن حقيقة ملموسة على أرض الواقع ، تحدث معه خالد بفخر عن نجاح المشروع فى خطواته الأولى و التطورات الإيجابية التى ظهرت بوادرها و أنهم يمضون قدماً فى الطريق الصواب ..
كان محمود سعيداً لنجاح صديقه و لكنه آفاقه من حلمه الواقعى عندما سأله عن أخبار طليقته و أخبره أن الوقت بات مناسباً لكى تنصلح بينهما الأمور و تعود لسابق عهدها .. تبدلت ملامح خالد و أخبر صديقه بنبرة أنفعال : لا أمان لامرأة تخلت عن زوجها فى أزمته .. لقد أنتهى هذا الموضوع للأبد ..
حزن محمود لصديقه و تمنى له التوفيق فى حياته القادمة .. و قال له على أستحياء أنه يريد منه طلباً و أخبره أنه لو تمكن من أنجازه
فلن ينسى له هذه الخدمة ..
قال له خالد فى لهفة : أوامر يا صديقى .. خير ؟
قال له محمود :
أرغب فى تعيين والدى فى وظيفة محاسب فى مشروعك الضخم ..
أبتسم له خالد و قال له : هذا أمراً سهلاً .. لقد توقعت ما هو أعقد من ذلك .. لكن أعذرنى فى سؤالى يا صديقى : لماذا لم تقوم بذلك و قد أصبحت مديراً لمراكز الصيانة و بالطبع تمتلك الصلاحية لتقوم بمثل هذا الأمر ؟!
رد محمود قائلاً : أنت محق يا صديقى فلدى الصلاحية لتنفيذ ذلك ..
و لكن سيكون الوضع محرجاً اذا قمت به لأنى وقتها سأكون مديراً
و والدى موظفاً تحت إدارتى ..
من المستحيل أن يقبل الحاج طايع مثل هذا الوضع !
************************
عند أستخدام إمكانية التصوير الجوى فوق مدينة ( مدينتنا ) و سمحنا لطائرة ريموت كنترول مزودة بكاميرا أن تلتقط صوراً للمدينة من الأعلى ، سنجد أن أكثر من نصف المدينة يعكس اللون الأزرق و لا سيما الجانب الشرقى للمدينة ..
هذا اللون الذى أكتسبته فيلات الجانب الشرقى فى أعلاها يرجع لذكاء رجل الأعمال أحمد الماظة مؤسس ( مدينتنا ) ، و الذى عزم على تثبيت ألواح شمسية عملاقة على أسطح فيلات الجانب الشرقى ..
الماظة يمتلك مصنعاً صغيراً فى الجانب الشرقى نشاطه هو شحن بطاريات الطاقة الشمسية ، و هذه البطاريات ذات دورة عميقة و هى تعمل على تخزين الطاقة الكهربائية التى تولدها الألواح الشمسية الفولتوضوئية أثناء النهار فى وقت سطوح الشمس .. سواء من الألواح الشمسية المثبتة على أسطح الفيلات أو من الألواح الشمسية العديدة الأخرى المثبتة بحرفية عالية
بالقرب من مصنع البطاريات الشمسية ..
بالطبع كان ثمن هذه الألواح الشمسية المثبتة على أسطح الفيلات غير مضاف على ثمن الفيلات المباعة ، لأن الماظة هو المستفيد من تثبيت هذه الألواح .. لكن كان لابد أيضاً من مهاداة أصحاب هذه الفيلات لموافقتهم على وجود هذه الألواح الشمسية فى محيط سكنهم ، لذلك قام الماظة بأنشاء محطة شحن كهرباء صغيرة يظهر دور هذه المحطة فى حالة أنقطاع التيار الكهربائي عن المدينة حيث تقوم بأنارة الجانب الشرقى بأكمله مجاناً
حتى عودة التيار الكهربائى مرة أخرى ..
أما بالنسبة لشحن بطاريات الطاقة الشمسية التى ينتجها المصنع فيقوم الماظة بتوريدها لبعض مصانع المدينة التى تحتاجها فى صناعاتها المختلفة ..
ما حدث من تطورات تكنولوجية فى ( مدينتنا ) قد نشط الحافز لدى الماظة لأن تستمر عجلة التكنولوجيا فى المدينة فى الدوران و الإبتكار ..
أخذت الفكرة وقتاً طويلاً لأن تختمر برأس الماظة
حتى بات الوقت مناسباً لتطبيقها ..
أستغل الماظة علاقاته الأخطبوطية و تواصل مع
( جهاز تنظيم مرفق الكهرباء و حماية المستهلك ) للحصول على تراخيص أنشاء محطة شحن كهرباء كبيرة فى الجانب الشرقى و مما سيسهل الوضع تواجد عدداً كبيراً من الألواح الشمسية بالجانب الشرقى ..
و تزامناً مع أستخراج التراخيص و الحصول عليها قام أيضاً الماظة بمراسلة شركة ( تيسلا ) فى فريمونت فى كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية
لأستيراد سيارات كهربائية !
ثم أعلن الماظة على جروب المدينة أنه سيتم أتاحة سيارات تعمل بالكهرباء من طراز ( تيسلا ٣ ) و سيتوفر منها ثلاث فئات مختلفة
و ستتباين أسعارها على النحو التالى :
50 الف دولار .. 58 الف دولار .. 69 الف دولار ..
على من يرغب فى تسجيل أسمه لحجز أحدى فئات سيارة ( تيسلا ٣ ) الكهربائية فليتقدم لمقر مصنع ( مدينتنا) لبطاريات الطاقة الشمسية لتأكيد الحجز ...
*********************. ❝ ⏤محمد حسن عبد الجابر
الفصل السادس
- 6 -
خضعت الروبوتات ( المخبولة) و التى أصابها فيروس ( جنون الروبوتات ) و تم صيانتها على يد المهندس المصرى محمود طايع ، للمراقبة و الملاحظة أثناء عملها على حسب نوع النشاط الذى تم تسخيرها من أجله ..
يتم كتابة تقارير يومية بحالة هذه الروبوتات التى تعمل فى مصانع و شركات متنوعة بالجانب الشرقى لـ ( مدينتنا ) .. يتم أرسال هذه التقارير بصفة دورية لمكتب الجزيرى ليقوم بفحصها و دراستها و متابعة الحالة الفنية لهم .. مضى أسبوعان على صيانة الروبوتات المصابة و أنخراطها مرة أخرى فى العمل ، بعد الأطلاع على التقارير و الحالة العامة لهذه الروبوتات خلال الأسبوعان الماضيين .. سادت حالة من الأطمئنان و زادت الثقة في مراكز صيانة ( مدينتنا ) و بالأحرى أرتفع شأن محمود
مهنياً و أرتقت مكانته لدرجات أعلى ..
كانت هذه الثقة المستمدة من واقع الأحداث الماضية وراء الدافع فى أن يستقر الجزيرى بدعم من الماظة و المنفلوطى على أرسال إيميل للشركة اليابانية الموردة للروبوتات ، يكون فيه نص الرسالة لاذعاً ..
بالفعل تم أرسال الإيميل و كانت به عبارات زجر و توبيخ ....... [المزيد]
: - 1 -
على طريق أسكندرية – القاهرة الصحراوى و تقريباً عند منتصف المسافة بين المحافظتين تقع هذه المدينة السكنية و تفرض وجودها و كأنها بقعة جغرافية معترف بها على الخريطة .. تشغل المدينة مساحة شاسعة على الطريق و تمتد للداخل لمساحات فسيحة , هى ليست مجرد مدينة سكنية فحسب و التى قام بتنفيذها على أرض الواقع رجل الأعمال الشاب أحمد ألماظة ..
هى مدينة تم تأسيسها و دعمها بخدمات على الطراز الذى يناسب طبقة الأثرياء و شريحة الشباب و كوكب النساء , خدمات تتماشى مع أغلب فئات المجتمع ..
لو لم يتعثر أحمد ألماظة و يتزلزل مادياً أثناء تنفيذ هذه المدينة أكبر مشروع له فى حياته المهنية لكان باع بالثمن الثمين الذى حدده سواء للوحدات السكنية أو للمحال التجارية دون التنازل عن مليماً واحداً للسعر الذى وضعه لهما .. لكن تحقيق جميع الأمال دائماً يكون محال ..
ألماظة على قدر كبير من النضج التسويقى و يمتلك قسطاً وافراً من الدهاء و لكن أحياناً تنقلب النعم لنقم لأصحابها و أحياناً أخرى تمضى قدماً , و يعزى الفضل فى التحول لطريقة أستخدام هذه النعم ..
ألماظة كان مرغماً بعد أن مضى مئات العقود مع مئات المشتريين من الطبقة الرائقة مادياً بالثمن الذى حدده لوحداتهم , أن ينحدر بالسعر حتى كاد الأقتراب من هاوية - الخسارة القريبة - لباقى الوحدات الأخرى فى المدينة .. و ذلك ليجنى أى نقود تمكنه من أستكمال نموها و أن يصل بها للمرحلة النهائية و ينتهى من هذا المشروع الذى أستنزف طاقته المادية المحددة للمشروع ..
هذه التعثرات و التدهورات المادية التى مر بها ألماظة ترجع لتخبط الأسعار لجميع السلع و المنتجات و عدم أستقرارها لفترة زمنية طالت مدتها !
كان فكر صائب لألماظة عندما نفذ هذه الخطوة فنجح بالفعل فى بيع أغلب الوحدات المتبقية و أنهى تشطيبها فى مستوى أقل بكثير من الوحدات الأولى و لكن تغاضى ممتلكيها عن ذلك مقابل فرصة أقتناص سعرها و المغرى أكثر لهم تواجد وحداتهم السكنية على مقربة من منازل الأثرياء الفخمة كما أنها أيضاً قريبة من مراكز خدمات و أحياء محيطة بمنازل الأثرياء
و قد تعامل معها ممتلكين الوحدات الثانية على أنها أماكن ترفيهية ..
ما فعله ألماظة دون تخطيط منه لكنه كان تخطيط القدر , أنه جمع فى هذه المدينة طبقة الأثرياء مع طائفة الشباب حديثى الزواج بالأضافة لطائفة قدامى المتزوجون من الطبقة المتوسطة و طبقات متحورة أخرى .. و شبه أنعزالهم عن أى حياة سكنية خارج هذه المدينة و قد منحها ألماظة أسم مدينة ( مدينتنا ) سيرغمهم على تفاعل جميع هذه الطبقات مع بعضهم البعض ليتصدوا لصعوبات الحياة الجمة التى يتوقعون أن يواجهوها فى تجربتهم فى الأقامة بمدينة ( مدينتنا ) و قد أتخذت جميع طبقات مواطنيها هذا المكان على أنه ملجأ لهم يهرعون إليه هرباً من ضوضاء الحياة فى العالم الخارجى و أزدحام الحياة و التى تزداد سوقية و فجاجة ..
*******************************
كان التخطيط العمرانى لـ ( مدينتنا ) يتسم بالعنصرية فعمل أحمد ألماظة من البداية على أن يمنح الأثرياء الجانب الشرقى للمدينة لما تتمتع بها هذه الرقعة الواسعة من المدينة من ظروف مناخية ممتازة و موقع جغرافى رائع , بينما خصص الجانب الغربى للمدينة لباقى الطبقات الأخرى و بالطبع يقل مستوى الرفاهية سواء الجغرافى أو المناخى عن نظيره فى الجانب الشرقى ..
لم يختلف أحد و لن يحمل أحداً أعتراضاً على عنصرية التخطيط العمرانى للمدينة فجميعهم قانعين أن هذه عدالة شعرية طبقاً لما دفعوه مقابل أستلام وحداتهم السكنية ..
محمود طايع هو شاب فى مقتبل العمر يبدو عليه أنه قضى حوالى ثلاثون عاماً فى هذه الحياة .. بارع فى مجال البرمجيات و لديه مهارات متنوعة أخرى , كان يقبض بأنامله على أطراف ملف يزخر بأوراق تبدو فى الأغلب أنها شهادات الكورسات و السى فى الخاص به .. كان مظهره يوحى بذلك فكان يحمل الملف دون أكتراث و يكاد يجر قدميه أثر حالة نفسية مأزومة و كأن أبواب العالم قد أوصدت فى وجهه و أصبح أسير ذاته ..
كان محمود يمشى وقت الظهيرة فى الجانب الشرقى لـ ( مدينتنا ) هائماً على وجهه مفعماً بالبؤس .. لم يتمكن حتى من أقتناص مجرد وظيفة روتينية فى أحدى شركات الجانب الشرقى , بدا ذلك جلياً من مظهره و من حافظة الأوراق المهنية التى يحملها فى وهن .. سمع محمود صوت الأذان يأتى من مكان ما ثم بدأت الأصوات تتنامى من حوله و تتداخل لتعدد المساجد فمال قلبه و أنجذب لدخول أقرب مسجد و كان تقريباً أكبر مساجد المدينة ..
توضأ محمود و أستعد لصلاة الظهر فى جماعة و بالفعل صلى محمود و أفرغ ما فى قلبه فى حوار روحانى مع رب العباد و ما أن أنتهت صلاة الظهر حتى طلب الأمام من المصليين عدم المغادرة لأداء صلاة الجنازة على أمرأة متوفية فما كان على محمود غير أن يلبى النداء و تموقع المصليين بينما الأمام يلقى على مسامعهم كيفية صلاة الجنازة و بدأت الصلاة و أستمرت بشكل طبيعى إلى أن جائت الركعة الثالثة و التى تخص الدعاء للمتوفى !
فعل محمود ما يفعله جميع المصليين و ما أعتاد هو فعله فى جميع صلوات الجنازات التى حضرها على مدار حياته .. لقد تفوهت شفتيه فى تمتمة شبه مسموعة و هو يدعى للمتوفية أن يتغمدها الله برحمته و يبدلها داراً خيراً من دارها و زوجاً خيراً من زوجها .. هنا كانت ولادة المأزق .. يتفاجأ محمود بأحد المصليين و الذى يقف أمامه فى الصلاة مباشرة قد خرج من صلاته و أستدار ليصبح وجهه فى مواجهة وجه محمود و بدأ يخاطب محمود و هو
مشتاط غضباً و أخذ يوبخه : ليه بتدعيلها بزوج خيراً منى ؟؟
تعرف أيه عنى أنت وحش ؟؟ تعرفنا أصلاً ؟؟
محمود أصابه الذعر و قد خرج من خشوع الصلاة بل خرج من صلاة الجنازة ذاتها هو و كل من حوله بعد أن تسلل الهرج فسلم الأمام و أنهى الصلاة ليلتفت و يستوعب ماذا حدث خلف ظهره أثناء الصلاة ..
كان محمود ينظر بعينان مذهولتان للزوج الثائر و كان يحاول تفادى الرذاذ المنطلق من فمه و رد عليه بنبرة هادئة : أهدى يا حاج .. انا معرفكش .. انا بدعى زى ما أتعلمت فى الخطب الدينية
ما أقصدش حضرتك بالأخص يعنى .. سامحنى ..
أستطرد الزوج بنفس ثورته و كأنه لم يسمع محمود من الأساس : دخلك أيه بينا أنت علشان تدعى لمراتى بزوج تانى أحسن منى ؟!
هنا تدخل الشيخ الذى كان يصلى بهم و حاول تهدئة الزوج الثائر و قد شاعت على وجه الشيخ أبتسامة معسولة بعد أستيعابه للموقف فأشتكى له الزوج الثائر و هو يعيد على مسامع الشيخ الرواية للمرة الألف تقريباً فشد الشيخ من أزره و هو يربت على كتفه و يبدى له أعجابه بغيرته و وفائه لزوجته و أخبره ضرورة الألتزام فى الصلاة و حفظ قدسيتها و أخبرهم بأعادة صلاة الجنازة فقاطعه الزوج الثائر : و محدش يقول زوجاً خيراً من زوجها !!
كانت الأبتسامة المعسولة ترتسم على وجه الشيخ كلما كرر الزوج الأرمل جملته , كان الشيخ يوزع نظراته بين الزوج و محمود و باقى المصليين و يعد الزوج بصوت مرتفع عمداً ليخبر المصليين أن لا أحد سيذكر هذا الجزء من الدعاء .. فأومأ الزوج برأسه يعلن تأكيد كلام الشيخ , فأضاف الشيخ و قال للمصليين أدعوا فى سركم أحسن ..
*****************************
فى الجانب الغربى للمدينة كانت تتواجد الأسواق التقليدية لبيع الخضروات و الفواكه و تنتشر المحال التجارية التى تبيع السلع الغذائية المحلية , من كان يريد السلع المستوردة كان عليه أن يمر للجانب الشرقى و يذهب للهايبرات الكبرى و المولات ليبتاع ما تشتهيه نفسه من أجود المنتجات و أبهظها ثمناً ..
لم ينكر و لن ينسى أحداً حالة الكساد الأقتصادى التى أكتسحت البلاد بل العالم أجمع بعد جائحة كورونا و ما تعانيه البلاد من حالة ركود قد أصابت بالطبع
مدينة ( مدينتنا ) و طالتها فلم ينجو أحداً من طوفان الأنكماش الأقتصادى .. الأسواق باتت شبه مهجورة .. المحال التجارية تجد تكدس على قلة منها و البقية لم يلمس غبار الأحذية بلاطها .. و يعزى الفضل فى ذلك لشقين :
الشق الأول و هو يخص التجار الذين يتعاملون فى تجارتهم و كأنها تجارة مع الله فيعملون بحديث من غشنا فليس منا و يتقون الله فى تجارتهم و فى حياتهم و لذلك يجعل الله لهم دوماً مخرج من أزماتهم و فى ذروة هذه الأزمة الأقتصادية محالهم التجارية لا تخلو من الزبائن و البركة لا تغادرها !
الشق الثانى خاص بـ تجار كانت محالهم التجارية ستنال نفس نظافة بلاط المحال الخاوية من الزبائن المجاورة لهم لولا أنهم لجأوا لأقذر حيلة أقتصادية فى التاريخ و هى أحتكار بعض السلع لتعطيش السوق لها ثم طرحها فى الأسواق بعد أختفائها و يسعرونها على أهوائهم و يتعاملون متوهمون
أن بيدهم المنح و المنع !!
كانت هذه الأجواء المستجدة على المدينة كفيلة لأن تخلق فى الجانب الغربى صراعات عديدة و متنوعة .. ناهيك عن الحقد و الغيرة و كأن الرزق يُجذب بالحسد !!
صراعات بين أصحاب المحال التجارية الخاوية مع التجار الذين يمارسون التجارة الأسلامية و محالهم التجارية مكتظة بالزبائن .. صراعات بين المواطنين قليلى الحيلة مع التجار الذين ترسخت فيهم غريزة الطمع الذين يحتكرون السلع فيحتقرهم الناس !
لقد تسللت لمدينة ( مدينتنا ) السوقية والفجاجة التى هرب منها مواطنين ( مدينتنا ) من الخارج , يبدو أنهما أصبحا من قوانين الحياة و لكل قانون قوة !
***************************************
غادر محمود المسجد بعد أن صلى الظهر و صلى أغرب صلاة جنازة فى حياته لا يعلم أن كان سيكررها مرة أخرى أم لا .. طمئن نفسه أنه يملك طرق عديدة أخرى لعمل الخير و أقتناص الحسنات غير صلوات الجنازات ..
سأل محمود نفسه فى حوار ذاتى داخلى هل المرحلة العصيبة التى يمر بها هذه الأشهر بدون عمل و بدون حب و بدون أى شئ هل ستتبع مقولة ( ما تضيق إلا لما تفرج ) أم أنها سترجح مقولة ( المشاكل لا تأتى فرادى ) و ستستمر ؟؟
حتى لو أجابه عقله الباطن بالمقولة الأولى كانت حالته النفسية العامة سترجح و تميل للثانية لما يمر به فى هذه المرحلة الأنتقالية فى حياته من أزمات و كبوات ..
ترجل محمود هائماً على وجهه شارداً لفترة زمنية لا بأس بها حتى وصل للجانب الغربى للمدينة دون أن يشعر بمشقة سيره لمسافة طويلة ..
أنتبه محمود أنه وصل لمحيط سكنه من صوت المشاجرة القائمة بين أحد المواطنين مع أحد تجار الحوائج .. نظر لتجمهر الناس من حولهما فى موقف مكرر يومياً مع أختلاف الأشخاص لكن دون جدوى .. فلا المواطن يقبل الأستغلال و لا التاجر ينتوى أن يفقد حتى قرش مكسب من القيمة التى سعرها لمنتجاته .. مشهد بات فى ناظرى محمود مملاً أكثر منه مؤلماً .. أستمر محمود فى خطواته يشاهد المشاجرات و الصراعات و الحالة العامة التى خيمت على وجوه أهل الجانب الغربى و كأنه يشحن طاقته السلبية حتى أمتلأت عن أخرها بوصوله لوحدته السكنية فأختفى عن الشارع و صعد لمنزله حاملاً اليأس على كتفيه يوحى لمن تقع عليه عيناه أنه ينوى عمل شئ ما
لكنه شخصياً مازال عاجزاً عن معرفته !
********************
دخل محمود الشقة بكل يسر فلم يتكبد عناء طرق الباب لقد كان مفتوحاً عن أخره واصل سيره بالداخل سامعاً أصواتاً متداخلة داخل شقته عندما ميزها أكتشف فيها رنين صوت والدته مع امرأة ما , كاد أن لا يبالى لكن أصطدمت قدميه بكرتونة عملاقة تحوى سلعاً غذائية متنوعة من سكر و أرز و عبوات صلصة و زجاجات زيت طعام .. تعثرت قدمى محمود أثر أصطدامهما بالكرتونة فأختل توازنه و بدأ فى عمل حركات السقوط البهلوانية محاولاً التعلق بأى قشاية تظهر أمامه فكانت الحاجة نورا هى القشاية التى برزت فجأة لكنها لم تتحمل تشبثه بها فأنهارت قدماها و سقطت فوق محمود أرضاً .. هنا ساهمت الحاجة زكية و الدة محمود فى الموقف و قد ظهرت مؤخراً و صرخت مؤازرة للحاجة نورا و كأنها تحاول أنقاذها من خلال صرخاتها !
نهض محمود مرتبكاً ليحاول مساعدة الحاجة نورا و قد أقتربت الحاجة زكية تشارك محمود المساعدة و هما يحاولان تجاهل تمتمة الحاجة نورا التى تحمل سباً و قذفاً لما ألحقه بها محمود ..
ذهبت الحاجة زكية من أمامها بحجة أحضار كوباً من الماء و قد جذبت محمود من ذراعه و دخلا المطبخ و حدثته الحاجة زكية فى توبيخ :
كنت فين كل دة يا فاشل ؟؟ و أيه اللى هببته فى الولية دة ؟؟ عارف مين دى ؟؟
لم يدب الحماس فى جسد محمود من الصباح الباكر لكنه تحرك فى عروقه عند سؤال والدته فقال لها : أيوة بقى منا عايز أعرف مين الست دى ؟؟ و أيه اللى جابها عندنا بالكرتونة دى ؟
ردت الحاجة زكية بكل طلاقة : دى مرات المعلم أبو كرش ..
أكبر تجار أحتكار السلع فى المدينة ..
حدق محمود فى ذهول فى والدته و قال : مالك يا أمى ؟؟
هو البيت بقى مركز التجار الأشرار .. أنا مش فاهم حاجة ؟!
أستطردت والدته بنفس الطلاقة و الثقة : هى بتاخد البضاعة من جوزها بسعر الجملة و تحسبهالى بسعر الجملة .. فقاطعها محمود و قال :
ليه ماسكة عليها ذلة ؟؟
والدته : لا .. بس بطلب من ابوك يجيب من مصنع التونة اللى شغال فيه كراتين تونة و بحسبها بسعر الجملة و بنبدل مع بعض بعد حسبة بسيطة تقديرية للكمية المتبادلة على حسب سعرها جملة و بعد كدة هى بتاجر فى كراتين التونة دى لأنها من أجود ألأصناف و كل شوية بتقل فى المحلات و مطلوبة كتير فى الجانب الشرقى للمدينة .. هى بتسعرها سياحى و تبيعها من غير المعلم أبو كرش ما يعرف و بتحوش فلوسها و تشترى بيهم دهب ..
و أنا كدة بكون أشتريت خزين البيت بسعر الجملة ..
قال لها محمود فى فزلكة : و أيه اللى يضمن أنها بتبلغك سعر الجملة الحقيقى لبضاعتها اللى بتقايضك بيها ؟؟ دى مرات أبو كرش !
ردت الحاجة زكية بكل ثقة : و أنا مرات طايع .. أنا بقى بسأل على سعر البضاعة فى المحلات بس بروح عند تجار الخير مش عند أبو كرش و أمثاله و بكتب الأسعار .. بعد كدة بنقص أتنين جنيه من السعر و يبقى كدة بنحط سعر تقريبى لسعرها جملة .. غير أن البضاعة
اللى بتنقص فى المحلات هى بتوفرهالى ..
أرتسمت على وجه محمود أبتسامة فاترة و قال لوالدته :
بتحاربى الغلاء بطريقتك يا زكية !
جاء صوت من الخارج كان عالياً و ممطوطاً : مـــــــــــ ــــيــــــ ــــــــة ..
فأنتفضا محمود و والدته و خرجت الحاجة زكية
تحاول أسراع خطواتها حاملة كوباً من الماء ..
*****************************
مشى محمود بخطوات ثقيلة قاصداً غرفته .. كان يستظل بسحابة من الفشل و يتجرع كؤوساً من الأحباط بعد أن مكث شهوراً يبحث عن فرصة عمل مقبولة و هو مهندس برمجيات ناهيك عن أنه يجيد لغتين و لديه مهارات أخرى رغم ذلك لم يتغير الوضع المادى له فتغير الوضع النفسى له للأسوأ .. دخل غرفته و هو خائر العزم يمشى بنفس خطوات من أقدم على الأنتحار .. خطوات أشبه بخطوات الزومبى .. كان يتحرك و كأن أحداً يوجهه من على بعد بالريموت .. حتى جلس على سريره و مدد قدماه و أصبح فى وضع الزاوية 90 , رفع هاتفه و شرع فى فعل شئ ما على شاشته .. يبدو أنه ينوى الأنتحار فبدأ فى ممارسة طقوس الأنتحار المعتادة .. كل المنتحرين فى هذا العصر يكتبون رسالتهم الأخيرة على الفيس أولاً قبل التنفيذ و كأنها محاولة بائسة أخيرة منهم لأيجاد أى مُنقذ !
أستغرق محمود حوالى نصف ساعة فى وضع الزاوية القائمة و هو منهمك مع هاتفه , أنتهى محمود أخيراً مما يفعل و بدأ مرحلة جنى ثمار ما غرس ..
بدأ محمود متابعة صفحة الفيس التى أنشأها منذ لحظات بعنوان ( موطن الفاشلين ) و قد أعلن عنها و سوق لها أيضاً بلينك الصفحة و قد قام بتشييره فى العديد من الجروبات مع وصف مبسط لفكرة الصفحة .. وصف يلخص تقييم محمود لنفسه بمصفوفة صغيرة تضم شهاداته و خبراته مع الوظائف التى شغلها سابقاً و التى لا تطلب من الأصل شهادات للقيام بها .. حتى هذه الوظائف السطحية باتت له كـ حلم زجاجة ماء لتائه فى الصحراء .. يعلن على الصفحة أنه فشل فى حياته المهنية فشل فى حياته العاطفية فشل فى حياته الأجتماعية أعلن محمود أنه بكل شفافية و شجاعة أول فاشل فى التاريخ يعترف أنه فاشل .. ليس ذلك فحسب .. أعلن محمود أنه قد وصل لأخر ليفل فى جيم الفشل و لن يصل إليه أحد مثله و من يرى نفسه فاشل بائس فلينضم لدولتنا !!
ما فعله محمود هى خطوات ما قبل الأنتحار لمن يقدم عليه , فيجلد المنتحر نفسه ذاتياً داخلياً فيرتفع أفراز الأدرينالين فى جسمه فينهى حياته ..
ما فعله محمود أنه قام بجلد ذاته لكن جهراً ..
لقد أنتحر محمود ألكترونياً !!
***************************************
أنتهت الحاجة زكية من طهى الطعام و تنظيمه على السفرة لتناول وجبة الغذاء , كان موعد الغذاء ثابتاً كباقى الوجبات فلكل منها وقتاً محدداً كما جرت العادة فى منزل طايع و أسرته , طايع يقدس النظام و يطبقه فى ممارسة شئون حياته .. عاد من عمله فى مصنع التونة الشهير فى الجانب الشرقى للمدينة , أتخذ مقعده على طاولة الطعام و جلست جواره الحاجة زكية و ندهت بصوت عال على محمود : الغدا هيبرد يا فــاشــل ..
قال طايع لزكية وقد ملأ شدقيه بالأرز : بطلى تناديه بفاشل ..
أنتى قربتى تنسينى أسمه ..
خرج محمود من غرفته بنفس حالته التى دخل بها الغرفة , سحب مقعداً ليجالسهم على المائدة و لم ينطق سوى بألقاء السلام على والده و أوحى لهما أنه يأكل حتى لا يسأله أحد عن ما به .. واضعاً هاتفه المحمول
على المائدة بجوار طبق الأرز الخاص به ..
عادة طايع كباقى عادات أغلب المصريين , بدأ يتناقش مع زوجته زكية فى بعض أمور العمل و ضغوط الحياة أثناء تناول وجبة الغذاء .. دور الزوجة فى هذه المواقف يكون تبسيط الأمور و تهوين الوضع رغم عدم أقتناعها ! أستطرد طايع و هو يعرض على زكية مشاكل العمل : فى عجز فى بعض الخامات فى المصنع و دة هيأثر على مسيرة الأنتاج الفترة الجاية .. حاولى تحافظى على كراتين التونة اللى جبتهالك يا زكية علشان مش هنعرف نجيب زيها الفترة اللى جاية ..
هنا سقطت الملعقة من بين أنامل زكية و أحدثت رنيناً لأحتكاكها بطبق الأرز
فأنتبه لها محمود و تلاقت نظراتهما فى حوار تراجيدى كوميدى صامت ..
لم يقطع تبادل نظراتهما غير صوت طايع المرتفع وهو يفور غضباً موجهاً غضبه لمحمود يوبخه و يأمره بأن يغلق هاتفه المزعج الذى لم يتوقف منذ لحظة جلوسه عن أصدار أصوات مستفزة - صوت أشعارات الفيس - !!
تناول محمود هاتفه فى عجلة ليغلق أتصاله بشبكة الواى فاى لكنه ما أن تناول هاتفه حتى أصابه الذهول و أتسعت عيناه و هو ينظر للهاتف و قام عن مقعده فى محاولة لمغادرة المائدة مما لفت أنتباه والده طايع الذى خاطبه بصوت أجش يأمره بأن يكمل طعامه فرد عليه محمود و هو شارد .. الحمد الله .. الحمد الله ..
محمود كان لا يدرك هل حقاً يقول الحمد الله لوالده مكتفياً بما سقط فى جوفه من قلائل الطعام أم يقولها لنفسه لأن صفحته على الفيس التى أنشأها منذ حوالى ساعة فقط قد أجتذبت ما يقرب من حوالى مائة ألف متابع !!
( موطن الفاشلين ) سكنه ما يقرب من مائة ألف فاشل حتى اللحظة الراهنة قابلين للزيادة .. حمد الله فى سره على أنه نجح أخيراً فى شئ ما !
بعد ثوان معدودة أكتشف محمود أن أول أمر ينجح فيه هو الفشل !!!
لقد نجح فى أجتذاب مائة ألف فاشل و تم تنصيبه تلقائياً كزعيماً لهم !
سأل محمود نفسه متحيراً .. و قد جال بخاطره لحظة أنشاء هذه الصفحة أنه كان مجرد يفرغ شحناته السلبية بهذه الوسيلة !
الأن ماذا سأفعل مع ( موطن الفاشلين ) و ما الذى سأقدمه لهم ؟؟
- 1 -
على طريق أسكندرية – القاهرة الصحراوى و تقريباً عند منتصف المسافة بين المحافظتين تقع هذه المدينة السكنية و تفرض وجودها و كأنها بقعة جغرافية معترف بها على الخريطة .. تشغل المدينة مساحة شاسعة على الطريق و تمتد للداخل لمساحات فسيحة , هى ليست مجرد مدينة سكنية فحسب و التى قام بتنفيذها على أرض الواقع رجل الأعمال الشاب أحمد ألماظة ..
هى مدينة تم تأسيسها و دعمها بخدمات على الطراز الذى يناسب طبقة الأثرياء و شريحة الشباب و كوكب النساء , خدمات تتماشى مع أغلب فئات المجتمع ..
لو لم يتعثر أحمد ألماظة و يتزلزل مادياً أثناء تنفيذ هذه المدينة أكبر مشروع له فى حياته المهنية لكان باع بالثمن الثمين الذى حدده سواء للوحدات السكنية أو للمحال التجارية دون التنازل عن مليماً واحداً للسعر الذى وضعه لهما .. لكن تحقيق جميع الأمال دائماً يكون محال ..
ألماظة على قدر كبير من النضج التسويقى و يمتلك قسطاً وافراً من الدهاء و لكن أحياناً تنقلب النعم لنقم لأصحابها و أحياناً أخرى تمضى قدماً , و يعزى الفضل فى التحول لطريقة أستخدام هذه النعم ..
ألماظة كان ....... [المزيد]