❞ من العجيب أن التقدم الذي جاء بمزيد من وسائل الترف و الراحة و بمزيد من التسهيلات للإنسان.. قد قابله الإنسان بمزيد من الرفض و السخط و التبرم، فرأينا إحصائيات الانتحار ترتفع مع مؤشرات التقدم في كل بلد.. كلما ازداد البلد مدنيةً ازداد عدد الذين يطلقون على أنفسهم الرصاص و يلقون بأنفسهم من النوافذ و يبتلعون السم و يشربون ماء النار.. هذا غير الانتحار المستتر بالخمور و المخدرات و التدخين و المنومات و المسكنات و المنبهات.. و في مقدمة هؤلاء المنتحرين طلائع فن و فكر وثقافة تعود الناس أن يأخذوا عنهم الحكمة و العلم و التوجيه.
و وصلت الموجة إلى بلادنا فامتلأت أعمدة الصحف بأخبار ابتلاع السم و إطلاق الرصاص و الشنق و الحرق.. و قال المختصون إن نسبة الزيادة الإحصائية تجاوزت العشرين في المائة.. و هو رقم كبير.
و الازدياد متواصل سنة بعد سنة.
و السؤال.. لماذا.. و ما السر؟
و ما سبب الانتحار؟
و إذا تركنا التفاصيل جانباً و حاولنا تأصيل المشكلة وجدنا جميع أسباب الانتحار تنتهي إلى سبب واحد.. أننا أمام إنسان خابت توقعاته و لم يعد يجد في نفسه العزم أو الهمة أو الاستعداد للمصالحة مع الواقع الجديد أو الصبر على الواقع القديم.
إنها لحظة نفاد طاقة و نفاد صبر و نفاد حيلة و نفاد عزم.
لحظة إلقاء سلاح.. يأس.. ما يلبث أن ينقلب إلى اتهام و إدانة للآخرين و للدنيا ثم عداوة للنفس و للآخرين و للدنيا تظل تتصاعد و تتفاقم حتى تتحول إلى حرب من نوع مختلف يعلنها الواحد على نفسه و يشنها على باطنه، و في لحظة ذروة تلتقط يده السلاح لتقتلع المشكلة من جذورها.. و لتقتلع معها الإحساس المرير و ذلك بطمس العين التي تبصر و قطع اللسان الذي يذوق و تحطيم الدماغ الذي يفكر و تدمير اليد التي تفعل و القدم الذي يمشي.
و هو نوع من الانفراد بالرأي و الانفراد بالحل و مصادرة جميع الآراء الأخرى بل إنكار أحقية كل وجود آخر غير الذات.
و لهذا كانت لحظة الانتحار تتضمن بالضرورة الكفر بالله و إنكاره و إنكار فضله و اليأس من رحمته و اتهامه في صنعته و في عدله و رفض أياديه و رفض أحكامه و رفض تدخله.
فهي لحظة كبر و علو و غطرسة و استبداد.
و ليست لحظة ضعف و بؤس و انكسار.
و بدون هذا العلو و الكبر و الغطرسة لا يمكن أن يحدث الانتحار أبداً.
فالإنسان لا ينتحر إلا في لحظة دكتاتورية مطلقة و تعصب أعمى لا يرى فيه إلاّ نفسه.
و الانتحار في صميمه اعتزاز بالنفس و تأله و منازعة الله في ربوبيته.
و المنتحر يختار نفسه و يصادر كل أنواع الوجود الآخر في لحظة غل مطلق.. في لحظة جحيم..
و لهذا يقول الله أن من قتل نفسه يهوي إلى جحيم أبدي، لأنه قد اختار الغل و انتصر للغل و أخذ جانب الغل عند الاختيار النهائي للمصير.
و الانفراد المطلق في الرأي عصبية و غل و نارية إبليسية.. و النفس المتكبرة الأمارة بالسوء هي نار محضة و ظلمة..
و كل منا في داخله عدة احتمالات لنفوس متعددة.. في داخل كل منا نفس أمارة ظلمانية توسوس له بالشر و الشهوات.. و نفس لوامة نورانية تحضه على الخير ثم كل المراتب النفسية علواً و سفلاً فوق و تحت هاتين المنزلتين.
و كل نفس في حالة تذبذب مستمر بين هذه المراتب صاعدة هابطة فهي حيناً ترتفع إلى آفاق ملهمة و حيناً تهبط إلى مهاوٍ مظلمة شهوانية.
ثم في النهاية تستقر.. فإذا استقرت على الرفض و الكبر و الغطرسة و الغل ثم اقتلعت أسنانها و لسانها و سمعها و بصرها و قطعت رقبتها في غل نهائي لا مراجعة فيه.. هي قد اختارت الجحيم بالفعل.. بل إنها في ذاتها قبضة نار لا مكان لها إلا في الجحيم.
( ناراً وقودها الناس و الحجارة )
يقول ربنا إن هذه النفوس هي وقود النار و جمراتها و مصدر الطاقة النارية فيها، و معنى هذا أنها أشد نارية من النار.
و المنتحر يتصور أنه سوف يتخلص من نفسه، و لكن لا خلاص و لا مهرب لإنسان من ذاته، فهو لن يخرج بالانتحار إلى راحة، بل هو خارج من النار الصغرى إلى النار الكبرى و من النار الزمنية إلى النار الأبدية.
و لنتجنب هذا المصير فإننا لابد أن نتجنب المشكلة أصلاً.
و المشكلة أصلاً هي التعلق.. و من ليس له تعلق بشيء لا ينتحر لشيء.
و لا يجوز عند المؤمنين تعلق إلّا بالله فهو وحده جامع الكمالات، الدائم الباقي الذي لا يتغير و لا تخيب عنده التوقعات و لا تضيع الآمال.
و الله هو المحبوب وحده على وجه الأصالة و ما نحب في الآخرين إلا تجلياته و أنواره، فجمال الوجوه من نوره و حنان القلوب من حنانه فنحن لا نملك من أنفسنا شيئاً إلّا بقدر ما يخلع علينا سيدنا و مولانا من أنواره و أسمائه.
فنحن لا نحب في بعضنا إلّا هو.
و هو حاضر لا يغيب و لا يهجر و لا يغدر و لا يغلق بابه في وجه لاجيء و لا يطرد من رحابه ملهوف.
فالواقفون عنده مطمئنون راضون ناعمون لا يخطر لهم الانتحار على بال سعداء في جميع الأحوال.
إنما ينتحر الذي تعلق بغيره.
الذي تعلق بليلاه و معشوقته و ظن أن جمالها منها فتعلق بها لذاتها تعلق عبادة، و أصبح يتوقع منها ما يتوقع عبد من معبود و ربط نفسه بها رباط مصير. و نسى أنها ناقصة كسائر الخلق و محل للتغير و التبدل تتداول عليها الأحوال و التقلبات فتكره اليوم ما أحبته بالأمس و تزهد غداً فيما عشقته اليوم.
و نسى أن جمالها مستعار من خالقها و أنها إعارة لأجل و حينما ينتهي الأجل ستعود أقبح من القبح.
مثل هذا الرجل المحجوب الغافل إذا أفاق على الصحوة المريرة و فاجأه الغدر و التحول، يشعر شعور من فقد كل رصيده و أفلس إفلاس الموت و لم يبق له إلا الانتحار.
و لو أنه رأى جمالها من خالقها لأحب فيها إبداع صنعة الصانع و لكان من أهل التسبيح الذين يقولون عند رؤية كل زهرة.. الله.. فإذا رأوها في آخر النهار ذابلة.. قالوا حقاً لا إله إلا الله.. فحبهم لله و في الله و روابطهم روابط مودة و معروف لا مقصد لها و لا غرض و لا توقع.. فالغدر لا يفاجئهم و الهجر لا يصدمهم و شأنهم كما يقول المثل العامي.. اعمل الخير و ارمه البحر.. يبسطون أيديهم بالمعونة دون حساب لأي عائد و دون توقع لثمرة.
هؤلاء هم أهل السلامة دائماً.
و هم أهل الطمأنينة و السكينة لا تزلزلهم الزلازل و لا تحركهم النوازل.
هم أهل الطمأنينة اليوم.
و هم أهل الطمأنينة يوم الفزع الأكبر.. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، و يوم لا ينفع مال و لا بنون.
و هؤلاء لا يتعلقون إلّا بالله.
و لا يؤملون إلّا في الله.
و لا يتوقعون إلّا من الله.
إن المشكلة هي بالدرجة الأولى مشكلة إيمان.. فكلما وضعت التكنولوجيا في يد الإنسان قوة و ثروة و استغناء ازداد بعداً و غروراً و كبراً و تمرداً، و ازداد تعلقاً و ارتباطاً بالأصنام المادية التي خلقها، و ازداد خضوعاً للملذات التي يسّرها لنفسه.. و تصور أن قوته سوف تعصمه و علمه سوف يحميه فأمعن في غروره.
و هل عصم الجبل ابن نوح من الطوفان ؟!
بل كان من المغرقين.
( فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ).
ضع يدك في يد الله و لا تبرح و حسبك من علاقتك بالناس أن تبذل لهم مودتك و رحمتك على غير توقع لشيء.. فذلك هو قارب النجاة في عالم اليوم.. عالم الانتحار و المنتحرين
مقال / الانتحار
من كتاب / أناشيد الإثم والبراءة
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ من العجيب أن التقدم الذي جاء بمزيد من وسائل الترف و الراحة و بمزيد من التسهيلات للإنسان. قد قابله الإنسان بمزيد من الرفض و السخط و التبرم، فرأينا إحصائيات الانتحار ترتفع مع مؤشرات التقدم في كل بلد. كلما ازداد البلد مدنيةً ازداد عدد الذين يطلقون على أنفسهم الرصاص و يلقون بأنفسهم من النوافذ و يبتلعون السم و يشربون ماء النار. هذا غير الانتحار المستتر بالخمور و المخدرات و التدخين و المنومات و المسكنات و المنبهات. و في مقدمة هؤلاء المنتحرين طلائع فن و فكر وثقافة تعود الناس أن يأخذوا عنهم الحكمة و العلم و التوجيه.
و وصلت الموجة إلى بلادنا فامتلأت أعمدة الصحف بأخبار ابتلاع السم و إطلاق الرصاص و الشنق و الحرق. و قال المختصون إن نسبة الزيادة الإحصائية تجاوزت العشرين في المائة. و هو رقم كبير.
و الازدياد متواصل سنة بعد سنة.
و السؤال. لماذا. و ما السر؟
و ما سبب الانتحار؟
و إذا تركنا التفاصيل جانباً و حاولنا تأصيل المشكلة وجدنا جميع أسباب الانتحار تنتهي إلى سبب واحد. أننا أمام إنسان خابت توقعاته و لم يعد يجد في نفسه العزم أو الهمة أو الاستعداد للمصالحة مع الواقع الجديد أو الصبر على الواقع القديم.
إنها لحظة نفاد طاقة و نفاد صبر و نفاد حيلة و نفاد عزم.
لحظة إلقاء سلاح. يأس. ما يلبث أن ينقلب إلى اتهام و إدانة للآخرين و للدنيا ثم عداوة للنفس و للآخرين و للدنيا تظل تتصاعد و تتفاقم حتى تتحول إلى حرب من نوع مختلف يعلنها الواحد على نفسه و يشنها على باطنه، و في لحظة ذروة تلتقط يده السلاح لتقتلع المشكلة من جذورها. و لتقتلع معها الإحساس المرير و ذلك بطمس العين التي تبصر و قطع اللسان الذي يذوق و تحطيم الدماغ الذي يفكر و تدمير اليد التي تفعل و القدم الذي يمشي.
و هو نوع من الانفراد بالرأي و الانفراد بالحل و مصادرة جميع الآراء الأخرى بل إنكار أحقية كل وجود آخر غير الذات.
و لهذا كانت لحظة الانتحار تتضمن بالضرورة الكفر بالله و إنكاره و إنكار فضله و اليأس من رحمته و اتهامه في صنعته و في عدله و رفض أياديه و رفض أحكامه و رفض تدخله.
فهي لحظة كبر و علو و غطرسة و استبداد.
و ليست لحظة ضعف و بؤس و انكسار.
و بدون هذا العلو و الكبر و الغطرسة لا يمكن أن يحدث الانتحار أبداً.
فالإنسان لا ينتحر إلا في لحظة دكتاتورية مطلقة و تعصب أعمى لا يرى فيه إلاّ نفسه.
و الانتحار في صميمه اعتزاز بالنفس و تأله و منازعة الله في ربوبيته.
و المنتحر يختار نفسه و يصادر كل أنواع الوجود الآخر في لحظة غل مطلق. في لحظة جحيم.
و لهذا يقول الله أن من قتل نفسه يهوي إلى جحيم أبدي، لأنه قد اختار الغل و انتصر للغل و أخذ جانب الغل عند الاختيار النهائي للمصير.
و الانفراد المطلق في الرأي عصبية و غل و نارية إبليسية. و النفس المتكبرة الأمارة بالسوء هي نار محضة و ظلمة.
و كل منا في داخله عدة احتمالات لنفوس متعددة. في داخل كل منا نفس أمارة ظلمانية توسوس له بالشر و الشهوات. و نفس لوامة نورانية تحضه على الخير ثم كل المراتب النفسية علواً و سفلاً فوق و تحت هاتين المنزلتين.
و كل نفس في حالة تذبذب مستمر بين هذه المراتب صاعدة هابطة فهي حيناً ترتفع إلى آفاق ملهمة و حيناً تهبط إلى مهاوٍ مظلمة شهوانية.
ثم في النهاية تستقر. فإذا استقرت على الرفض و الكبر و الغطرسة و الغل ثم اقتلعت أسنانها و لسانها و سمعها و بصرها و قطعت رقبتها في غل نهائي لا مراجعة فيه. هي قد اختارت الجحيم بالفعل. بل إنها في ذاتها قبضة نار لا مكان لها إلا في الجحيم.
( ناراً وقودها الناس و الحجارة )
يقول ربنا إن هذه النفوس هي وقود النار و جمراتها و مصدر الطاقة النارية فيها، و معنى هذا أنها أشد نارية من النار.
و المنتحر يتصور أنه سوف يتخلص من نفسه، و لكن لا خلاص و لا مهرب لإنسان من ذاته، فهو لن يخرج بالانتحار إلى راحة، بل هو خارج من النار الصغرى إلى النار الكبرى و من النار الزمنية إلى النار الأبدية.
و لنتجنب هذا المصير فإننا لابد أن نتجنب المشكلة أصلاً.
و المشكلة أصلاً هي التعلق. و من ليس له تعلق بشيء لا ينتحر لشيء.
و لا يجوز عند المؤمنين تعلق إلّا بالله فهو وحده جامع الكمالات، الدائم الباقي الذي لا يتغير و لا تخيب عنده التوقعات و لا تضيع الآمال.
و الله هو المحبوب وحده على وجه الأصالة و ما نحب في الآخرين إلا تجلياته و أنواره، فجمال الوجوه من نوره و حنان القلوب من حنانه فنحن لا نملك من أنفسنا شيئاً إلّا بقدر ما يخلع علينا سيدنا و مولانا من أنواره و أسمائه.
فنحن لا نحب في بعضنا إلّا هو.
و هو حاضر لا يغيب و لا يهجر و لا يغدر و لا يغلق بابه في وجه لاجيء و لا يطرد من رحابه ملهوف.
فالواقفون عنده مطمئنون راضون ناعمون لا يخطر لهم الانتحار على بال سعداء في جميع الأحوال.
إنما ينتحر الذي تعلق بغيره.
الذي تعلق بليلاه و معشوقته و ظن أن جمالها منها فتعلق بها لذاتها تعلق عبادة، و أصبح يتوقع منها ما يتوقع عبد من معبود و ربط نفسه بها رباط مصير. و نسى أنها ناقصة كسائر الخلق و محل للتغير و التبدل تتداول عليها الأحوال و التقلبات فتكره اليوم ما أحبته بالأمس و تزهد غداً فيما عشقته اليوم.
و نسى أن جمالها مستعار من خالقها و أنها إعارة لأجل و حينما ينتهي الأجل ستعود أقبح من القبح.
مثل هذا الرجل المحجوب الغافل إذا أفاق على الصحوة المريرة و فاجأه الغدر و التحول، يشعر شعور من فقد كل رصيده و أفلس إفلاس الموت و لم يبق له إلا الانتحار.
و لو أنه رأى جمالها من خالقها لأحب فيها إبداع صنعة الصانع و لكان من أهل التسبيح الذين يقولون عند رؤية كل زهرة. الله. فإذا رأوها في آخر النهار ذابلة. قالوا حقاً لا إله إلا الله. فحبهم لله و في الله و روابطهم روابط مودة و معروف لا مقصد لها و لا غرض و لا توقع. فالغدر لا يفاجئهم و الهجر لا يصدمهم و شأنهم كما يقول المثل العامي. اعمل الخير و ارمه البحر. يبسطون أيديهم بالمعونة دون حساب لأي عائد و دون توقع لثمرة.
هؤلاء هم أهل السلامة دائماً.
و هم أهل الطمأنينة و السكينة لا تزلزلهم الزلازل و لا تحركهم النوازل.
هم أهل الطمأنينة اليوم.
و هم أهل الطمأنينة يوم الفزع الأكبر. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، و يوم لا ينفع مال و لا بنون.
و هؤلاء لا يتعلقون إلّا بالله.
و لا يؤملون إلّا في الله.
و لا يتوقعون إلّا من الله.
إن المشكلة هي بالدرجة الأولى مشكلة إيمان. فكلما وضعت التكنولوجيا في يد الإنسان قوة و ثروة و استغناء ازداد بعداً و غروراً و كبراً و تمرداً، و ازداد تعلقاً و ارتباطاً بالأصنام المادية التي خلقها، و ازداد خضوعاً للملذات التي يسّرها لنفسه. و تصور أن قوته سوف تعصمه و علمه سوف يحميه فأمعن في غروره.
و هل عصم الجبل ابن نوح من الطوفان ؟!
بل كان من المغرقين.
( فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ).
ضع يدك في يد الله و لا تبرح و حسبك من علاقتك بالناس أن تبذل لهم مودتك و رحمتك على غير توقع لشيء. فذلك هو قارب النجاة في عالم اليوم. عالم الانتحار و المنتحرين
مقال / الانتحار
من كتاب / أناشيد الإثم والبراءة
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله). ❝
❞ للصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، و استفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات ، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتب عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، ولما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية ويكسر الجوع والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتها ، ويُذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين ، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويُسكنُ كُلَّ عضو منها وكُل قوة عن جماحه ، وتُلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجُنَّةُ المحاربين ، ورياضة الأبرار والمقربين ، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئاً ، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده ، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته ، وهو سر بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليه سواه ، والعباد قد يَطَّلِعُونَ منه على ترك المفطرات الظاهرة ، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لا يطلع عليه بشر ، وذلك حقيقة الصوم ، وقال النبي ﷺ ( الصَّوْمُ جُنَّة ) وأمَرَ مَن اشتدَّتْ عليه شَهوة النكاح ، ولا قدرة له عليه بالصيام ، وجعله وجَاءَ هذه الشهوة ، والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة ، شرعه الله لعباده رحمة بهم ، وإحساناً إليهم ، وحميةً لهم وجُنَّةٌ. ❝ ⏤محمد ابن قيم الجوزية
❞ للصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها ، و استفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويُعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات ، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى ( يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتب عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، ولما كان المقصود من الصيام حبس النفس عن الشهوات وفطامها عن المألوفات ، وتعديل قوتها الشهوانية ، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية ويكسر الجوع والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتها ، ويُذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين ، وتضيق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب ، وتحبس قوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، ويُسكنُ كُلَّ عضو منها وكُل قوة عن جماحه ، وتُلجم بلجامه ، فهو لجام المتقين ، وجُنَّةُ المحاربين ، ورياضة الأبرار والمقربين ، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال ، فإن الصائم لا يفعل شيئاً ، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده ، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته ، وهو سر بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليه سواه ، والعباد قد يَطَّلِعُونَ منه على ترك المفطرات الظاهرة ، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده ، فهو أمر لا يطلع عليه بشر ، وذلك حقيقة الصوم ، وقال النبي ﷺ ( الصَّوْمُ جُنَّة ) وأمَرَ مَن اشتدَّتْ عليه شَهوة النكاح ، ولا قدرة له عليه بالصيام ، وجعله وجَاءَ هذه الشهوة ، والمقصود أن مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة والفطر المستقيمة ، شرعه الله لعباده رحمة بهم ، وإحساناً إليهم ، وحميةً لهم وجُنَّةٌ. ❝
❞ و لا تيأس مهما بلغت أوزارك و لا تقنط مهما بلغت خطاياك.. فما جعل الله التوبة إلا للخطاة و ما أرسل الأنبياء إلا للضالين و ما جعل المغفرة إلا للمذنبين و ما سمى نفسه الغفار التواب العفو الكريم إلا من أجل أنك تخطئ فيغفر.
جدد استغفارك كل لحظة تجدد معرفتك و تجدد العهد بينك و بين ربك و تصل ما انقطع بغفلتك.
و اعلم أن الله لا يمل دعاء الداعين.. و أنه يحب السائلين الطالبين الضارعين الرافعي الأكف على بابه.. و إنما يمقت الله المتكبر المستغني المختال المعجب بنفسه الذي يظن أنه استوفى الطاعة و بلغ غاية التقوى و قارب الكمال.. ذلك الذي يكلم الناس من عل و يصافحهم بأطراف الأنامل.
ثم بعد التوبة و الاستغفار و التخلي عن الذنوب و التبرؤ من الحول و الطول.. يأتي التحبب و التقرب و التخلق و التحقق.
حاول أن تتحلى بأخلاق سيدك.. فإذا كان هو الكريم الحليم الصبور الشكور العفو الغفور.. فحاول أن يكون لك من هذه الصفات نصيب.
فإذا غالبتك نفسك الأمارة.. اسجد و ابك و تضرع و توسل.. و قل بين دموعك:
يا من عطفت على الطين فنفخت فيه من جمالك و كمالك.
يا من أخرجت النور من الظلمة.
يا من تكرمت على العدم
أخرجني من كثافتي و حررني من طينتي و خلصني من ظلمتي و قوني على ضعفي و أعني على نفسي.. فلا أحد سواك يستطيع أن يفعل هذا.. أنت يا صانعي بيديك.
ثم يقول سادتنا الأكابر :
إن الجهاد يطول فلا تتعجل الثمر.. فكلما عظمت الأهداف طال الطريق.. فلا تبرح الباب.. و أطل السجود.. و أدم البكاء.. فإنك لا تطلب نيشاناً أو جائزة و إنما تطلب وجه صاحب العرش العظيم.
تطلب رب السماوات.
تطلب العزيز الذي لا يرام.
و ذلك مطلب لا يبلغه طالب إلا بعد أن يبتلى و يمتحن و يتحقق إخلاصه.. و يشهد الملائكة منزلته و يرى الملأ الأعلى بينته.
فكيف يصحب الملائكة المقربين إلا النفر الكرام الذين تخلقوا بأخلاقهم.
و كيف تصعد إلى السماوات إلا بعد أن تلقي بمتاعك الأرضي و أثقالك.. ثم تلقي بنفسك الحيوانية من حالق.. ثم تلقي بغرورك و أنانيتك و شهواتك و أطماعك.. و تتجرد من دواعي بشريتك.. و تعود كما خلقك الله نوراً من نوره.
حينئذ تبلغ الحرية حقاً.. و تشاكل الأبرار و الشهداء و القديسين و الملائكة.
و ذلك معراج يحتاج إلى عمر بطوله و إلى زاد من التقوى و المحبة و الطاعة و صبر على البلاء و لا يقدر على هذا إلا آحاد.
و لهذا خلقت الجنة.
و لهذا كانت الأكثرية ترتع في النار من الآن.
. ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ و لا تيأس مهما بلغت أوزارك و لا تقنط مهما بلغت خطاياك. فما جعل الله التوبة إلا للخطاة و ما أرسل الأنبياء إلا للضالين و ما جعل المغفرة إلا للمذنبين و ما سمى نفسه الغفار التواب العفو الكريم إلا من أجل أنك تخطئ فيغفر.
جدد استغفارك كل لحظة تجدد معرفتك و تجدد العهد بينك و بين ربك و تصل ما انقطع بغفلتك.
و اعلم أن الله لا يمل دعاء الداعين. و أنه يحب السائلين الطالبين الضارعين الرافعي الأكف على بابه. و إنما يمقت الله المتكبر المستغني المختال المعجب بنفسه الذي يظن أنه استوفى الطاعة و بلغ غاية التقوى و قارب الكمال. ذلك الذي يكلم الناس من عل و يصافحهم بأطراف الأنامل.
ثم بعد التوبة و الاستغفار و التخلي عن الذنوب و التبرؤ من الحول و الطول. يأتي التحبب و التقرب و التخلق و التحقق.
حاول أن تتحلى بأخلاق سيدك. فإذا كان هو الكريم الحليم الصبور الشكور العفو الغفور. فحاول أن يكون لك من هذه الصفات نصيب.
فإذا غالبتك نفسك الأمارة. اسجد و ابك و تضرع و توسل. و قل بين دموعك:
يا من عطفت على الطين فنفخت فيه من جمالك و كمالك.
يا من أخرجت النور من الظلمة.
يا من تكرمت على العدم
أخرجني من كثافتي و حررني من طينتي و خلصني من ظلمتي و قوني على ضعفي و أعني على نفسي. فلا أحد سواك يستطيع أن يفعل هذا. أنت يا صانعي بيديك.
ثم يقول سادتنا الأكابر :
إن الجهاد يطول فلا تتعجل الثمر. فكلما عظمت الأهداف طال الطريق. فلا تبرح الباب. و أطل السجود. و أدم البكاء. فإنك لا تطلب نيشاناً أو جائزة و إنما تطلب وجه صاحب العرش العظيم.
تطلب رب السماوات.
تطلب العزيز الذي لا يرام.
و ذلك مطلب لا يبلغه طالب إلا بعد أن يبتلى و يمتحن و يتحقق إخلاصه. و يشهد الملائكة منزلته و يرى الملأ الأعلى بينته.
فكيف يصحب الملائكة المقربين إلا النفر الكرام الذين تخلقوا بأخلاقهم.
و كيف تصعد إلى السماوات إلا بعد أن تلقي بمتاعك الأرضي و أثقالك. ثم تلقي بنفسك الحيوانية من حالق. ثم تلقي بغرورك و أنانيتك و شهواتك و أطماعك. و تتجرد من دواعي بشريتك. و تعود كما خلقك الله نوراً من نوره.
حينئذ تبلغ الحرية حقاً. و تشاكل الأبرار و الشهداء و القديسين و الملائكة.
و ذلك معراج يحتاج إلى عمر بطوله و إلى زاد من التقوى و المحبة و الطاعة و صبر على البلاء و لا يقدر على هذا إلا آحاد.
و لهذا خلقت الجنة.