❞ وسائل التواصل الاجتماعي.
في زمنٍ تتسارعُ فيه الخُطى على نحوٍ لم يشهده التاريخُ من قبل، أصبح العالمُ أشبهَ بقريةٍ صغيرةٍ تتداخل طرقُها في لحظة، وتلتقي وجوهُها عبر شاشاتٍ مضيئةٍ تختصرُ المسافاتِ وتلغي الحدود. بضغطةِ زرٍّ يمكنُ للإنسان أن يعبُرَ القارات ويطلَّ على خبرٍ يولَدُ في أقصى الشرق ليصلَ إليه وهو جالسٌ في زاوية بيته المتواضع في أقصى الغرب. هذه الوسائلُ التي أطلقنا عليها تسميةَ ˝التواصل الاجتماعي˝ جاءت لِتكون الجسرَ الذي يربط بين الأفراد والمجتمعات، لكنها في الوقت ذاته أفرزت مفارقةً عميقة: لقد قرَّبتِ الأجسادَ البعيدة لكنها أبعدَتِ الأرواحَ القريبة، ومنحتنا وهْمَ الارتباط بينما تركتنا في عزلةٍ أكثر قسوةً من أيِّ عزلةٍ عرفها الإنسانُ من قبل. إنها معضلةُ العصر الرقمي: أن تكون حاضرًا في كلِّ مكانٍ وغائبًا عن ذاتك في اللحظة نفسها. وهذه ليست مفارقةً عابرةً، بل هي جوهرية تمسُّ كينونةَ الإنسان ووعيَه، وتُعيد تشكيلَ أسئلتِه القديمة عن الحرية والهوية والمعنى. ولعلَّ ما يجعلنا اليومَ أكثرَ حاجةً إلى التأمُّل الفلسفي هو هذا التناقضُ بين الوعدِ الذي منحَتْنا إيَّاه هذه الوسائلُ والواقعِ الذي سلَبَنا شيئًا من صفائنا الداخلي، وربما من حقيقتنا الإنسانية ذاتها.
لقد كسَرَ الإنترنتُ ووسائلُ التواصل الاجتماعي احتكارَ المعلومة الذي كان يومًا ما حِكرًا على مؤسَّسات محدودة، وفتَحَ أمام الأفراد أبوابًا واسعةً للتعلُّم ومتابعة الدورات والمحاضرات والمشاركة في النقاشات العالمية الكبرى. غير أنَّ هذه الوفرةَ لم تأتِ بلا ثمن، فالمعرفةُ التي كانت تُطلَبُ بجِدٍّ واجتهادٍ صارَتْ تُلقى إلينا في سيلٍ جارفٍ من الإشعارات والتوصيات والروابط. وهنا يظهر سؤالٌ فلسفي: هل المعرفةُ التي تأتينا بلا جهدٍ حقيقي تظلُّ معرفةً صافية، أم أنَّها تتحوَّل إلى مجرَّد تراكمٍ معلوماتيٍّ يثقل الذاكرةَ ولا يوقظ الفكر؟ أفلاطون كان قد حذَّر من ˝الكتابة˝ باعتبارها قد تجعل الإنسانَ يظنُّ أنَّه يعرف بينما هو في الحقيقة يحمل ظلالَ المعرفة فقط. واليوم يمكننا أن نعيدَ هذا التحذير في ثوبٍ جديد: وسائلُ التواصل الاجتماعي قد تمنحنا وَهْمَ المعرفة بينما نحن في الحقيقة نعيش على فتاتٍ من الأخبار المبتورة والمقولات المقتطعة والصور التي لا تمنحنا إلا سطحَ الأشياء.
ومن أكثر ما رسَّخته هذه الوسائل في وعينا هو ˝مسرحة الحياة˝، فكلُّ إنسانٍ صار ممثِّلًا على خشبةٍ يختار بعناية اللقطات التي يظهر بها أمام الآخرين، ويخفي ما وراء الكواليس من تعبٍ وألمٍ وهشاشة. نحن لا نرى الإنسانَ كما هو، بل نرى ما يريد أن يصدِّره للعالم. وهنا تكمن الخطورة: نحن نقارن حياتَنا الواقعية الممتلئة بنقصها وتعرُّجاتها وتناقضاتها بصورٍ مصقولةٍ لحياة الآخرين. وهذه المقارنة غير عادلة، بل مدمِّرة، إنها تجعلنا نعيش في شعورٍ دائمٍ بالنقص، كأنَّنا دائمًا متأخِّرون عن الرَّكْب، مع أن الحقيقة مختلفة؛ فنحن نرى الجزءَ المضيءَ من حياة الآخر بينما نعيش كلَّ تفاصيل حياتنا. لقد جعلتنا هذه الظاهرة نُعيد تعريف ˝الآخر˝، فلم يعدِ الآخرُ مجرَّد شخصٍ نلتقي به في الواقع، بل هو آلافُ الصور والملفات الشخصية والقصص التي تَنْهال علينا في كلِّ لحظة. ولعلَّ أشدَّ ما يهدِّد وعيَنا هنا هو أنْ نفقد القدرةَ على التمييز بين ما هو أصيلٌ وما هو مُختلَق، بين ما هو إنسانيٌّ وما هو تمثيل.
وقد يبدو للوهلة الأولى أنَّ هذه الوسائل قد منحتنا حريةً لم نعرفها من قبل: حرية التعبير، وحرية الوصول إلى المعرفة، وحرية بناء العلاقات العابرة للحدود. لكن حين نتمعَّن نكتشف أنَّ هذه الحرية محاطةٌ بأغلال جديدة، بعضُها خفيّ؛ فنحن حين نكتُب أو نعلِّق نخضع في كثيرٍ من الأحيان لقوانين غير معلنة: قانون الإعجابات، وقانون الترند، وقانون الصورة المقبولة اجتماعيًّا. ومع مرور الوقت نصبح أسرى لعيون الآخرين؛ نبحث عن اعترافهم وإعجابهم، ونخاف من رفضهم أو تجاهلهم. فأيُّ حرية هذه التي تُقاس بعدد القلوب الحمراء أسفل منشور؟ الفيلسوف الفرنسي بودريار تحدَّث عن عالم ˝المحاكاة˝ حيث تصبح الرموز والتمثيلات أكثر حضورًا من الواقع نفسه. وفي عالم وسائل التواصل الاجتماعي، نحن نعيش فعلًا هذا الواقع؛ نصبح سجناء لرموز وإشعارات، ونقيس قيمتَنا بمدى انتشارنا في فضاء افتراضي لا ينتهي.
ولا يمكن إغفال الأثر النفسي العميق لوسائل التواصل؛ فهي لا تكتفي باستنزاف الوقت، بل تستنزف صفاء الذهن وتركيز الروح. في كل مرة نفتح فيها الهاتف نعتقد أننا نمضي دقائق قليلة، لنكتشف بعد ساعة أننا غرقنا في تيهٍ بلا قرار. وهذه الدقائق المسروقة ليست مجرَّد وقت، بل هي انتقاص من قدرة الإنسان على التأمُّل والإصغاء إلى صمته الداخلي وإعادة بناء علاقته بذاته. الفيلسوف الألماني هايدغر كان قد تحدَّث عن ˝الثرثرة˝ بوصفها إحدى صور السقوط في الوجود، والثرثرة اليوم لم تعد مقتصرة على الكلام العابر، بل صارت ثرثرة بصرية ونصية وصوتية تلاحقنا أينما ذهبنا. نحن نعيش في فيضان من الضجيج الرقمي، فلا يعود لدينا متَّسع لسماع الأصوات العميقة في داخلنا.
والمشكلة ليست في التقنية ذاتها، بل في الكيفية التي نتعامل بها معها. فالتقنية في أصلها أداة محايدة، يمكن أن تكون وسيلةً لتحرير الإنسان أو أداةً لاستعباده. غير أنَّ حيادها لا يعفي الإنسان من مسؤوليته؛ فنحن من يختار: إمَّا أن نكون أسيادًا لهذه الوسائل، أو أن نصبح عبيدًا لها. ومن هنا تبرز ضرورة الوعي؛ أن نعرف متى نستخدم هذه الوسائل ومتى نغلقها، أن نختار بوعي ما نقرأ وما نتجاوز، أن نتذكَّر أن الحقيقة لا تُختزَل في شاشة، وأن العالم أكبر من مربَّع مضيء بين أيدينا.
وقد يسأل أحدهم: هل الحل في الانسحاب الكامل من هذه الوسائل؟ والإجابة ليست بهذه البساطة؛ فالانسحاب يعني العزلة، والعزلة قد تكون قاتلة في عالم مترابط. لكن الحل يكمن في التوازن؛ في القدرة على العيش في هذه الوسائط دون أن نفقد حقيقتنا، في أن نستخدمها دون أن نسمح لها بابتلاع وعينا. إنَّ الإنسان المعاصر مدعوّ إلى إعادة صياغة علاقته بهذه الوسائل، كما يصوغ الفيلسوف علاقته بالحياة: لا كمنغمس بلا وعي، ولا كمنسحب تمامًا، بل كفاعلٍ حرٍّ قادر على أن يأخذ منها ما يثريه ويترك ما يشوِّش صفاءه.
وفي النهاية، وسائل التواصل الاجتماعي ليست قدرًا محتومًا بل خيارًا إنسانيًّا. هي مرآة تُظهر ما بداخلنا أكثر مما تفرض علينا من خارجنا. فإذا كنّا ضعفاء أمام وهم المقارنات، فهي تكشف هشاشتنا. وإذا كنّا نبحث عن المعرفة، فهي تمنحنا أبوابًا لذلك. وإذا كنّا نلهث وراء الاعتراف، فهي تضعنا أمام أسئلة عن معنى الحرية الحقيقية. لا تدع هذه الوسائل تصوغ هويتك، ولا تجعلها تتحوَّل من نافذة على العالم إلى قيد على ذاتك. خذ منها ما ينفعك، واترك ما يسرقك من نفسك. وتذكَّر دائمًا أنَّك لست مجرَّد متلقٍّ لما يُعرض عليك، بل أنت فاعل يختار ويصنع عالمه الخاص بعيدًا عن ضوضاء الشاشات. فالوعي هو السلاح الأخير الذي يملكه الإنسان في مواجهة طوفان التقنية، والحرية ليست في الهروب منها، بل في أن تبقى سيد نفسك وسط صخبها.. ❝ ⏤مأمون محمد
❞ وسائل التواصل الاجتماعي.
في زمنٍ تتسارعُ فيه الخُطى على نحوٍ لم يشهده التاريخُ من قبل، أصبح العالمُ أشبهَ بقريةٍ صغيرةٍ تتداخل طرقُها في لحظة، وتلتقي وجوهُها عبر شاشاتٍ مضيئةٍ تختصرُ المسافاتِ وتلغي الحدود. بضغطةِ زرٍّ يمكنُ للإنسان أن يعبُرَ القارات ويطلَّ على خبرٍ يولَدُ في أقصى الشرق ليصلَ إليه وهو جالسٌ في زاوية بيته المتواضع في أقصى الغرب. هذه الوسائلُ التي أطلقنا عليها تسميةَ ˝التواصل الاجتماعي˝ جاءت لِتكون الجسرَ الذي يربط بين الأفراد والمجتمعات، لكنها في الوقت ذاته أفرزت مفارقةً عميقة: لقد قرَّبتِ الأجسادَ البعيدة لكنها أبعدَتِ الأرواحَ القريبة، ومنحتنا وهْمَ الارتباط بينما تركتنا في عزلةٍ أكثر قسوةً من أيِّ عزلةٍ عرفها الإنسانُ من قبل. إنها معضلةُ العصر الرقمي: أن تكون حاضرًا في كلِّ مكانٍ وغائبًا عن ذاتك في اللحظة نفسها. وهذه ليست مفارقةً عابرةً، بل هي جوهرية تمسُّ كينونةَ الإنسان ووعيَه، وتُعيد تشكيلَ أسئلتِه القديمة عن الحرية والهوية والمعنى. ولعلَّ ما يجعلنا اليومَ أكثرَ حاجةً إلى التأمُّل الفلسفي هو هذا التناقضُ بين الوعدِ الذي منحَتْنا إيَّاه هذه الوسائلُ والواقعِ الذي سلَبَنا شيئًا من صفائنا الداخلي، وربما من حقيقتنا الإنسانية ذاتها.
لقد كسَرَ الإنترنتُ ووسائلُ التواصل الاجتماعي احتكارَ المعلومة الذي كان يومًا ما حِكرًا على مؤسَّسات محدودة، وفتَحَ أمام الأفراد أبوابًا واسعةً للتعلُّم ومتابعة الدورات والمحاضرات والمشاركة في النقاشات العالمية الكبرى. غير أنَّ هذه الوفرةَ لم تأتِ بلا ثمن، فالمعرفةُ التي كانت تُطلَبُ بجِدٍّ واجتهادٍ صارَتْ تُلقى إلينا في سيلٍ جارفٍ من الإشعارات والتوصيات والروابط. وهنا يظهر سؤالٌ فلسفي: هل المعرفةُ التي تأتينا بلا جهدٍ حقيقي تظلُّ معرفةً صافية، أم أنَّها تتحوَّل إلى مجرَّد تراكمٍ معلوماتيٍّ يثقل الذاكرةَ ولا يوقظ الفكر؟ أفلاطون كان قد حذَّر من ˝الكتابة˝ باعتبارها قد تجعل الإنسانَ يظنُّ أنَّه يعرف بينما هو في الحقيقة يحمل ظلالَ المعرفة فقط. واليوم يمكننا أن نعيدَ هذا التحذير في ثوبٍ جديد: وسائلُ التواصل الاجتماعي قد تمنحنا وَهْمَ المعرفة بينما نحن في الحقيقة نعيش على فتاتٍ من الأخبار المبتورة والمقولات المقتطعة والصور التي لا تمنحنا إلا سطحَ الأشياء.
ومن أكثر ما رسَّخته هذه الوسائل في وعينا هو ˝مسرحة الحياة˝، فكلُّ إنسانٍ صار ممثِّلًا على خشبةٍ يختار بعناية اللقطات التي يظهر بها أمام الآخرين، ويخفي ما وراء الكواليس من تعبٍ وألمٍ وهشاشة. نحن لا نرى الإنسانَ كما هو، بل نرى ما يريد أن يصدِّره للعالم. وهنا تكمن الخطورة: نحن نقارن حياتَنا الواقعية الممتلئة بنقصها وتعرُّجاتها وتناقضاتها بصورٍ مصقولةٍ لحياة الآخرين. وهذه المقارنة غير عادلة، بل مدمِّرة، إنها تجعلنا نعيش في شعورٍ دائمٍ بالنقص، كأنَّنا دائمًا متأخِّرون عن الرَّكْب، مع أن الحقيقة مختلفة؛ فنحن نرى الجزءَ المضيءَ من حياة الآخر بينما نعيش كلَّ تفاصيل حياتنا. لقد جعلتنا هذه الظاهرة نُعيد تعريف ˝الآخر˝، فلم يعدِ الآخرُ مجرَّد شخصٍ نلتقي به في الواقع، بل هو آلافُ الصور والملفات الشخصية والقصص التي تَنْهال علينا في كلِّ لحظة. ولعلَّ أشدَّ ما يهدِّد وعيَنا هنا هو أنْ نفقد القدرةَ على التمييز بين ما هو أصيلٌ وما هو مُختلَق، بين ما هو إنسانيٌّ وما هو تمثيل.
وقد يبدو للوهلة الأولى أنَّ هذه الوسائل قد منحتنا حريةً لم نعرفها من قبل: حرية التعبير، وحرية الوصول إلى المعرفة، وحرية بناء العلاقات العابرة للحدود. لكن حين نتمعَّن نكتشف أنَّ هذه الحرية محاطةٌ بأغلال جديدة، بعضُها خفيّ؛ فنحن حين نكتُب أو نعلِّق نخضع في كثيرٍ من الأحيان لقوانين غير معلنة: قانون الإعجابات، وقانون الترند، وقانون الصورة المقبولة اجتماعيًّا. ومع مرور الوقت نصبح أسرى لعيون الآخرين؛ نبحث عن اعترافهم وإعجابهم، ونخاف من رفضهم أو تجاهلهم. فأيُّ حرية هذه التي تُقاس بعدد القلوب الحمراء أسفل منشور؟ الفيلسوف الفرنسي بودريار تحدَّث عن عالم ˝المحاكاة˝ حيث تصبح الرموز والتمثيلات أكثر حضورًا من الواقع نفسه. وفي عالم وسائل التواصل الاجتماعي، نحن نعيش فعلًا هذا الواقع؛ نصبح سجناء لرموز وإشعارات، ونقيس قيمتَنا بمدى انتشارنا في فضاء افتراضي لا ينتهي.
ولا يمكن إغفال الأثر النفسي العميق لوسائل التواصل؛ فهي لا تكتفي باستنزاف الوقت، بل تستنزف صفاء الذهن وتركيز الروح. في كل مرة نفتح فيها الهاتف نعتقد أننا نمضي دقائق قليلة، لنكتشف بعد ساعة أننا غرقنا في تيهٍ بلا قرار. وهذه الدقائق المسروقة ليست مجرَّد وقت، بل هي انتقاص من قدرة الإنسان على التأمُّل والإصغاء إلى صمته الداخلي وإعادة بناء علاقته بذاته. الفيلسوف الألماني هايدغر كان قد تحدَّث عن ˝الثرثرة˝ بوصفها إحدى صور السقوط في الوجود، والثرثرة اليوم لم تعد مقتصرة على الكلام العابر، بل صارت ثرثرة بصرية ونصية وصوتية تلاحقنا أينما ذهبنا. نحن نعيش في فيضان من الضجيج الرقمي، فلا يعود لدينا متَّسع لسماع الأصوات العميقة في داخلنا.
والمشكلة ليست في التقنية ذاتها، بل في الكيفية التي نتعامل بها معها. فالتقنية في أصلها أداة محايدة، يمكن أن تكون وسيلةً لتحرير الإنسان أو أداةً لاستعباده. غير أنَّ حيادها لا يعفي الإنسان من مسؤوليته؛ فنحن من يختار: إمَّا أن نكون أسيادًا لهذه الوسائل، أو أن نصبح عبيدًا لها. ومن هنا تبرز ضرورة الوعي؛ أن نعرف متى نستخدم هذه الوسائل ومتى نغلقها، أن نختار بوعي ما نقرأ وما نتجاوز، أن نتذكَّر أن الحقيقة لا تُختزَل في شاشة، وأن العالم أكبر من مربَّع مضيء بين أيدينا.
وقد يسأل أحدهم: هل الحل في الانسحاب الكامل من هذه الوسائل؟ والإجابة ليست بهذه البساطة؛ فالانسحاب يعني العزلة، والعزلة قد تكون قاتلة في عالم مترابط. لكن الحل يكمن في التوازن؛ في القدرة على العيش في هذه الوسائط دون أن نفقد حقيقتنا، في أن نستخدمها دون أن نسمح لها بابتلاع وعينا. إنَّ الإنسان المعاصر مدعوّ إلى إعادة صياغة علاقته بهذه الوسائل، كما يصوغ الفيلسوف علاقته بالحياة: لا كمنغمس بلا وعي، ولا كمنسحب تمامًا، بل كفاعلٍ حرٍّ قادر على أن يأخذ منها ما يثريه ويترك ما يشوِّش صفاءه.
وفي النهاية، وسائل التواصل الاجتماعي ليست قدرًا محتومًا بل خيارًا إنسانيًّا. هي مرآة تُظهر ما بداخلنا أكثر مما تفرض علينا من خارجنا. فإذا كنّا ضعفاء أمام وهم المقارنات، فهي تكشف هشاشتنا. وإذا كنّا نبحث عن المعرفة، فهي تمنحنا أبوابًا لذلك. وإذا كنّا نلهث وراء الاعتراف، فهي تضعنا أمام أسئلة عن معنى الحرية الحقيقية. لا تدع هذه الوسائل تصوغ هويتك، ولا تجعلها تتحوَّل من نافذة على العالم إلى قيد على ذاتك. خذ منها ما ينفعك، واترك ما يسرقك من نفسك. وتذكَّر دائمًا أنَّك لست مجرَّد متلقٍّ لما يُعرض عليك، بل أنت فاعل يختار ويصنع عالمه الخاص بعيدًا عن ضوضاء الشاشات. فالوعي هو السلاح الأخير الذي يملكه الإنسان في مواجهة طوفان التقنية، والحرية ليست في الهروب منها، بل في أن تبقى سيد نفسك وسط صخبها. ❝
❞ 📘 اسم الكتاب: الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب
✍️ اسم الكاتب: هانى الميهى
الفصل الحادي عشر: ما بعد الهروب – لحظة المواجهة مع الذات
🔹 الجزء الرابع (الختام)
في تلك المرحلة التي تلي الهروب،
يتحوّل الصمت إلى مدرسةٍ تُدرّسك ما لم يقله أحد.
تجلس مع نفسك دون أقنعة،
تسمع صوتك الداخلي كما لم تسمعه من قبل.
لم يعد يهمّك من عاد أو من اختفى،
فقد صرت تدرك أن بقاءهم أو رحيلهم لم يكن مصادفة،
بل ضرورة كي تفهم شيئًا فيك، لا فيهم.
الهارب حين يهدأ يبدأ في فهم أنه لم يكن يهرب من الآخر،
بل من مرآةٍ أظهرت له ضعفه، من وجعٍ لم يملك شجاعته بعد.
والمطارد حين يتوقف عن الركض،
يكتشف أنه لم يكن يبحث عن حبٍّ،
بل عن تصديقٍ لذاته، عن طمأنينةٍ كان يظنها في يد إنسانٍ آخر.
وهنا تتضح الحقيقة الكبرى:
أن كل علاقةٍ كانت تمرينًا على فهم نفسك.
أن كل جرحٍ كان رسالةً بلغةٍ مختلفة،
وأن الخيبة لم تأتِ لتكسرَك، بل لتعيدك إلى المسار.
ثم تأتي لحظة النور،
حين تشعر أنك لم تعد تشتاق للعودة،
ولا ترغب في الانتقام،
ولا تحزن على ما ضاع…
بل تبتسم لأنك خرجت من الدائرة،
وعرفت أين كان الخلل: لم يكن فيهم فقط،
بل فيك أيضًا، حين منحت أكثر مما يجب،
وسكتّ حين كان يجب أن تتكلم.
يا صديقي،
ما بعد الهروب ليس فرارًا من الواقع،
بل عودةٌ واعية إلى أصل الوجود.
حين تفهم أنك لم تُخلق لتلاحق أحدًا،
ولا لتكون مرآةً لوجع آخر،
بل لتكمل رحلتك نحو وعيٍ يليق بروحك.
ستتعلم أن تترك دون أن تغضب،
وأن تغفر دون أن تنسى،
وأن تمضي دون أن تلتفت،
لأنك لم تعد تبحث عن أحد،
بل عن ذاتك التي وجدت طريقها أخيرًا.
الهروب الحقيقي ليس من البشر،
بل من الجهل إلى الفهم،
ومن الضعف إلى القوة،
ومن الضياع إلى نفسك..
❞ 📘 اسم الكتاب: الهارب والمطارد – فلسفة التعلّق والانسحاب
✍️ اسم الكاتب: هانى الميهى
الفصل الحادي عشر: ما بعد الهروب – لحظة المواجهة مع الذات
🔹 الجزء الرابع (الختام)
في تلك المرحلة التي تلي الهروب،
يتحوّل الصمت إلى مدرسةٍ تُدرّسك ما لم يقله أحد.
تجلس مع نفسك دون أقنعة،
تسمع صوتك الداخلي كما لم تسمعه من قبل.
لم يعد يهمّك من عاد أو من اختفى،
فقد صرت تدرك أن بقاءهم أو رحيلهم لم يكن مصادفة،
بل ضرورة كي تفهم شيئًا فيك، لا فيهم.
الهارب حين يهدأ يبدأ في فهم أنه لم يكن يهرب من الآخر،
بل من مرآةٍ أظهرت له ضعفه، من وجعٍ لم يملك شجاعته بعد.
والمطارد حين يتوقف عن الركض،
يكتشف أنه لم يكن يبحث عن حبٍّ،
بل عن تصديقٍ لذاته، عن طمأنينةٍ كان يظنها في يد إنسانٍ آخر.
وهنا تتضح الحقيقة الكبرى:
أن كل علاقةٍ كانت تمرينًا على فهم نفسك.
أن كل جرحٍ كان رسالةً بلغةٍ مختلفة،
وأن الخيبة لم تأتِ لتكسرَك، بل لتعيدك إلى المسار.
ثم تأتي لحظة النور،
حين تشعر أنك لم تعد تشتاق للعودة،
ولا ترغب في الانتقام،
ولا تحزن على ما ضاع…
بل تبتسم لأنك خرجت من الدائرة،
وعرفت أين كان الخلل: لم يكن فيهم فقط،
بل فيك أيضًا، حين منحت أكثر مما يجب،
وسكتّ حين كان يجب أن تتكلم.
يا صديقي،
ما بعد الهروب ليس فرارًا من الواقع،
بل عودةٌ واعية إلى أصل الوجود.
حين تفهم أنك لم تُخلق لتلاحق أحدًا،
ولا لتكون مرآةً لوجع آخر،
بل لتكمل رحلتك نحو وعيٍ يليق بروحك.
ستتعلم أن تترك دون أن تغضب،
وأن تغفر دون أن تنسى،
وأن تمضي دون أن تلتفت،
لأنك لم تعد تبحث عن أحد،
بل عن ذاتك التي وجدت طريقها أخيرًا.
الهروب الحقيقي ليس من البشر،
بل من الجهل إلى الفهم،
ومن الضعف إلى القوة،
ومن الضياع إلى نفسك.
❞ \"أصداء الوحدة وظلم الذكريات\"
الذكريات تتسلل في صمت، تحمل معها وحدتي وظلم الأيام. كل لحظة مضت، كانت تجسيدًا لألم لا ينتهي، وكأن الزمن كان ظالمًا لا يرحم. الوحدة تلاحقني في كل زاوية من ذاكرتي، تذكرني بكل من رحلوا وبكل لحظة ضاعت دون أن أستحقها. الظلم الذي عايشته في صمت، يظل يرافقني، يغمض عيني عن الأمل، ويُصمّ أذني عن صوت الطمأنينة. والذكريات، رغم ألمها، تبقى رفيقة درب، تذكرني أنني كنت يومًا ما، في مكانٍ ما، أحلم بأن يكون لدي ما أفتقده الآن
گ: يمنى يحى أحمد. ❝ ⏤yomna yehey
❞ ˝أصداء الوحدة وظلم الذكريات˝
الذكريات تتسلل في صمت، تحمل معها وحدتي وظلم الأيام. كل لحظة مضت، كانت تجسيدًا لألم لا ينتهي، وكأن الزمن كان ظالمًا لا يرحم. الوحدة تلاحقني في كل زاوية من ذاكرتي، تذكرني بكل من رحلوا وبكل لحظة ضاعت دون أن أستحقها. الظلم الذي عايشته في صمت، يظل يرافقني، يغمض عيني عن الأمل، ويُصمّ أذني عن صوت الطمأنينة. والذكريات، رغم ألمها، تبقى رفيقة درب، تذكرني أنني كنت يومًا ما، في مكانٍ ما، أحلم بأن يكون لدي ما أفتقده الآن
الظلّ رفيق لا يفارقنا، يولد معنا مع أول ضوء، ويغيب حين يغيب النهار. قد نظنّه انعكاسًا خاملاً، مجرّد صورة صامتة تلاحق خطواتنا، لكنه في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير؛ إنّه الوجه الآخر الذي لا يشيخ ولا يتقدّم ولا يختفي إلا بانطفاء النور.
في صمت الظلّ تكمن أسرار لم نجرؤ على النظر إليها. فهو يعرف كيف نمشي حين نرتبك، وكيف ننحني حين نُثقل، وكيف نمدّ أيدينا حين نطلب. قد نخدع الآخرين بابتسامة مصطنعة أو بكلمات متماسكة، لكنّ الظل لا ينخدع، بل يفضح ارتعاشتنا الخفيّة، ويعكس ضعفنا على الأرض بوضوح قاسٍ.
الظلّ ليس مجرّد تبعيّة للجسد، بل هو شهادة حيّة على وجودنا. إنّه يسجّل حركاتنا وسكناتنا، ويتحوّل أحيانًا إلى صدى داخليّ يذكّرنا بأنّنا لسنا وحدنا. وربما لهذا السبب كان الظلّ دائمًا حاضرًا في الأساطير، كرمز للروح أو للقرين، لأنّه يرافق الإنسان في كلّ مكان، من غير أن يُسأل أو يُستأذن.
أحيانًا، نشعر أنّ الظلّ يسبقنا. نمشي فنراه ممتدًّا أمامنا، كأنّه يختبر الطريق قبلنا. وأحيانًا أخرى، يتأخّر خلفنا كرفيق كسول لا يريد أن يشاركنا العناء. وفي اللحظات التي نقف فيها بين ضوءين متقابلين، يتشعّب الظلّ إلى أكثر من جهة، وكأنّنا انقسمنا إلى نسخ متعدّدة من أنفسنا.
ثمة من يخاف من الظلّ، ومن يرى فيه وجهًا آخر مخفيًّا يطارده. وثمة من يأنس به كرفيق لا يخون. لكنّ الحقيقة أنّ الظلّ ليس سوى مرآة صامتة، تكشفنا في هيئةٍ مجردة من الألوان، فتجعلنا وجوهًا مظلمة بلا تفاصيل، كأنّها تقول: \"هذا أنتم، بعد أن تجرَّدتم من زينة المظاهر\".
في لحظات الغروب، حين يطول الظلّ ويتسع، نشعر بأنّه يبتلعنا شيئًا فشيئًا. وكأنّه يذكّرنا بحقيقة الفناء، بأنّنا سنذوب يومًا كما يذوب هو عند آخر خيط ضوء. أمّا عند الفجر، حين يكون قصيرًا متردّدًا، فإنّه يمنحنا إيحاءً ببداية جديدة، بطفولة ثانية تُولد مع النهار.
يبقى الظلّ شاهدًا على حياتنا، رفيقًا يلازمنا حتى آخر لحظة. فإذا انطفأ نور الوجود، غاب هو معنا. وكأنّه لم يكن إلا دليلاً على أننا مررنا من هنا، وأنّنا كنّا يومًا أجسادًا تتحرّك بين الضوء والعتمة.
يتبع الفصل الحادى عشر
#بين_صمتين
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ بين صمتين
الفصل العاشر: الظل الذي يتبعنا
بقلم: هاني الميهى
الظلّ رفيق لا يفارقنا، يولد معنا مع أول ضوء، ويغيب حين يغيب النهار. قد نظنّه انعكاسًا خاملاً، مجرّد صورة صامتة تلاحق خطواتنا، لكنه في الحقيقة أكثر من ذلك بكثير؛ إنّه الوجه الآخر الذي لا يشيخ ولا يتقدّم ولا يختفي إلا بانطفاء النور.
في صمت الظلّ تكمن أسرار لم نجرؤ على النظر إليها. فهو يعرف كيف نمشي حين نرتبك، وكيف ننحني حين نُثقل، وكيف نمدّ أيدينا حين نطلب. قد نخدع الآخرين بابتسامة مصطنعة أو بكلمات متماسكة، لكنّ الظل لا ينخدع، بل يفضح ارتعاشتنا الخفيّة، ويعكس ضعفنا على الأرض بوضوح قاسٍ.
الظلّ ليس مجرّد تبعيّة للجسد، بل هو شهادة حيّة على وجودنا. إنّه يسجّل حركاتنا وسكناتنا، ويتحوّل أحيانًا إلى صدى داخليّ يذكّرنا بأنّنا لسنا وحدنا. وربما لهذا السبب كان الظلّ دائمًا حاضرًا في الأساطير، كرمز للروح أو للقرين، لأنّه يرافق الإنسان في كلّ مكان، من غير أن يُسأل أو يُستأذن.
أحيانًا، نشعر أنّ الظلّ يسبقنا. نمشي فنراه ممتدًّا أمامنا، كأنّه يختبر الطريق قبلنا. وأحيانًا أخرى، يتأخّر خلفنا كرفيق كسول لا يريد أن يشاركنا العناء. وفي اللحظات التي نقف فيها بين ضوءين متقابلين، يتشعّب الظلّ إلى أكثر من جهة، وكأنّنا انقسمنا إلى نسخ متعدّدة من أنفسنا.
ثمة من يخاف من الظلّ، ومن يرى فيه وجهًا آخر مخفيًّا يطارده. وثمة من يأنس به كرفيق لا يخون. لكنّ الحقيقة أنّ الظلّ ليس سوى مرآة صامتة، تكشفنا في هيئةٍ مجردة من الألوان، فتجعلنا وجوهًا مظلمة بلا تفاصيل، كأنّها تقول: ˝هذا أنتم، بعد أن تجرَّدتم من زينة المظاهر˝.
في لحظات الغروب، حين يطول الظلّ ويتسع، نشعر بأنّه يبتلعنا شيئًا فشيئًا. وكأنّه يذكّرنا بحقيقة الفناء، بأنّنا سنذوب يومًا كما يذوب هو عند آخر خيط ضوء. أمّا عند الفجر، حين يكون قصيرًا متردّدًا، فإنّه يمنحنا إيحاءً ببداية جديدة، بطفولة ثانية تُولد مع النهار.
يبقى الظلّ شاهدًا على حياتنا، رفيقًا يلازمنا حتى آخر لحظة. فإذا انطفأ نور الوجود، غاب هو معنا. وكأنّه لم يكن إلا دليلاً على أننا مررنا من هنا، وأنّنا كنّا يومًا أجسادًا تتحرّك بين الضوء والعتمة.
❞ تعود إلى أوطانها أسراب الطيور المهاجرة.
تعانق الذكريات بروحها، وتنسج لحن العودة، بقلب يضنيه الحنين.
لا تهجر الطيور مواطنها إلا حين يكون الداعي إلى ذلك، تفوق سطوته ما بمقدرتهم على الاختيار.
وحين لا يملك الطير من أمره سوى الإذعان، فلا تسله لماذا يهجر أرضه.
هجرة الطيورة تظل ذكرى حكايتها عالقة بوجدانهم، فلا تنفك عنه إلا حين تفترق الروح عنهم.
تمر سويعات النهار مسرعة نحو الغروب.
وبالأفق نلمح أمنيات قلوبنا، مع خيوط الشمس تهبط بالمغيب.
تلاحقنا الأحلام، إلى حافة الأمل في ترقب.
متى تأذن الحياة، لنلمس تلك الأماني، لحظة في العمر الطويل.
رواية هجرة الطيور
عمر حسين. ❝ ⏤عمر حسين
❞ تعود إلى أوطانها أسراب الطيور المهاجرة.
تعانق الذكريات بروحها، وتنسج لحن العودة، بقلب يضنيه الحنين.
لا تهجر الطيور مواطنها إلا حين يكون الداعي إلى ذلك، تفوق سطوته ما بمقدرتهم على الاختيار.
وحين لا يملك الطير من أمره سوى الإذعان، فلا تسله لماذا يهجر أرضه.
هجرة الطيورة تظل ذكرى حكايتها عالقة بوجدانهم، فلا تنفك عنه إلا حين تفترق الروح عنهم.
تمر سويعات النهار مسرعة نحو الغروب.
وبالأفق نلمح أمنيات قلوبنا، مع خيوط الشمس تهبط بالمغيب.
تلاحقنا الأحلام، إلى حافة الأمل في ترقب.
متى تأذن الحياة، لنلمس تلك الأماني، لحظة في العمر الطويل.
رواية هجرة الطيور
عمر حسين. ❝