الفصل الخامس عشر: ما بين الصمتين
بقلم: هاني الميهى
ها نحن نصل إلى الصفحة الأخيرة، حيث تتلاقى الفصول جميعها كخيوط نسيج واحد. كلّ فصل كان حجرًا صغيرًا في جدار التجربة، والآن يكتمل البناء. فما بين الصمتين وُلدت الحكاية، وما بينهما أيضًا تنطفئ لتترك أثرها في القلوب.
في الفصل الأول تعرّفنا على الصمت كمساحة لاختبار الذات، كملجأ نلوذ به حين يضجّ العالم من حولنا. ثم انتقلنا في الفصل الثاني إلى الزمن، الذي لا يسير على إيقاع الساعة، بل على إيقاع الذاكرة، فنكتشف أن اللحظة قد تساوي عمرًا بأكمله.
في الفصل الثالث وقفنا أمام المرآة، فرأينا الوجوه لا كما هي، بل كما تحملها قلوبنا من معانٍ وذكريات. وفي الرابع، تلمّسنا خيوط الحكايات الصغيرة التي تخبئها التفاصيل اليومية، لندرك أن لا شيء يضيع، فكل ما عشناه يترك أثرًا، مهما بدا عابرًا.
حين وصلنا إلى الفصل الخامس أدركنا أن الخوف ليس ضعفًا بل مرآة للشجاعة، وأننا لا نُختبر بما نملك، بل بما نفتقده. وفي الفصل السادس عبرنا عوالم الذكريات التي لا تموت، تلك التي تعيش فينا رغم محاولاتنا طمسها أو الهروب منها.
ثم جاءت الفصول السابع والثامن والتاسع لتضعنا في مواجهة مع الآخر: مع الوجوه التي تغيّرنا، مع الأماكن التي تُسكننا أكثر مما نسكنها، ومع الصمت الذي يفضح ما نخفيه أكثر مما يحجب.
وفي الفصل العاشر، أدركنا أن الإنسان ليس وحده في صراعه، بل هو جزء من شبكة من الأصوات والأحلام والخيبات، وأن كل فرد يحمل في داخله أكثر من حياة.
تتوالى الفصول حتى نصل إلى الثالث عشر حيث اكتشفنا أن الأماكن ليست جغرافيا فحسب، بل هي أزمنة مشبعة بالذكريات، ووجوه تسكن الجدران كما تسكن القلب. ثم في الرابع عشر، وقفنا أمام الوجوه العابرة التي لا تعبر حقًّا، بل تظل معنا، كأنها رسائل القدر المعلّقة.
وها نحن الآن في الفصل الخامس عشر، حيث يجتمع كل ما سبق ليشكّل رسالة واحدة:
إنّ الحياة لا تُقاس بطولها ولا بكثرة ما نعيشه، بل بعمق اللحظات التي تترك فينا أثرًا لا يزول. بين صمتين نُولد، وبين صمتين نغيب، وما بينهما ليس سوى فسحة من الأسئلة، من الحبّ، من الخوف، من الحكايات التي تظلّ تنبض فينا حتى بعد أن نرحل.
الصمت الأول كان بداية… والصمت الأخير سيكون ختامًا. لكن ما بينهما هو كل ما نحن عليه:
وجوه لا ترحل، أماكن تسكننا، حكايات تتوالد من التفاصيل، أصوات الأشياء الصامتة، وذاكرة لا تنطفئ.
وهكذا، فإن هذا الكتاب لم يكن سوى محاولة للقبض على تلك المسافة الخفية بين الصمتين… المسافة التي اسمها: الحياة.
الفصل الأخير
النهايه من كتاب #بين_صمتين
للكاتب #هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ بين صمتين
الفصل الخامس عشر: ما بين الصمتين
بقلم: هاني الميهى
ها نحن نصل إلى الصفحة الأخيرة، حيث تتلاقى الفصول جميعها كخيوط نسيج واحد. كلّ فصل كان حجرًا صغيرًا في جدار التجربة، والآن يكتمل البناء. فما بين الصمتين وُلدت الحكاية، وما بينهما أيضًا تنطفئ لتترك أثرها في القلوب.
في الفصل الأول تعرّفنا على الصمت كمساحة لاختبار الذات، كملجأ نلوذ به حين يضجّ العالم من حولنا. ثم انتقلنا في الفصل الثاني إلى الزمن، الذي لا يسير على إيقاع الساعة، بل على إيقاع الذاكرة، فنكتشف أن اللحظة قد تساوي عمرًا بأكمله.
في الفصل الثالث وقفنا أمام المرآة، فرأينا الوجوه لا كما هي، بل كما تحملها قلوبنا من معانٍ وذكريات. وفي الرابع، تلمّسنا خيوط الحكايات الصغيرة التي تخبئها التفاصيل اليومية، لندرك أن لا شيء يضيع، فكل ما عشناه يترك أثرًا، مهما بدا عابرًا.
حين وصلنا إلى الفصل الخامس أدركنا أن الخوف ليس ضعفًا بل مرآة للشجاعة، وأننا لا نُختبر بما نملك، بل بما نفتقده. وفي الفصل السادس عبرنا عوالم الذكريات التي لا تموت، تلك التي تعيش فينا رغم محاولاتنا طمسها أو الهروب منها.
ثم جاءت الفصول السابع والثامن والتاسع لتضعنا في مواجهة مع الآخر: مع الوجوه التي تغيّرنا، مع الأماكن التي تُسكننا أكثر مما نسكنها، ومع الصمت الذي يفضح ما نخفيه أكثر مما يحجب.
وفي الفصل العاشر، أدركنا أن الإنسان ليس وحده في صراعه، بل هو جزء من شبكة من الأصوات والأحلام والخيبات، وأن كل فرد يحمل في داخله أكثر من حياة.
تتوالى الفصول حتى نصل إلى الثالث عشر حيث اكتشفنا أن الأماكن ليست جغرافيا فحسب، بل هي أزمنة مشبعة بالذكريات، ووجوه تسكن الجدران كما تسكن القلب. ثم في الرابع عشر، وقفنا أمام الوجوه العابرة التي لا تعبر حقًّا، بل تظل معنا، كأنها رسائل القدر المعلّقة.
وها نحن الآن في الفصل الخامس عشر، حيث يجتمع كل ما سبق ليشكّل رسالة واحدة:
إنّ الحياة لا تُقاس بطولها ولا بكثرة ما نعيشه، بل بعمق اللحظات التي تترك فينا أثرًا لا يزول. بين صمتين نُولد، وبين صمتين نغيب، وما بينهما ليس سوى فسحة من الأسئلة، من الحبّ، من الخوف، من الحكايات التي تظلّ تنبض فينا حتى بعد أن نرحل.
الصمت الأول كان بداية… والصمت الأخير سيكون ختامًا. لكن ما بينهما هو كل ما نحن عليه:
وجوه لا ترحل، أماكن تسكننا، حكايات تتوالد من التفاصيل، أصوات الأشياء الصامتة، وذاكرة لا تنطفئ.
وهكذا، فإن هذا الكتاب لم يكن سوى محاولة للقبض على تلك المسافة الخفية بين الصمتين… المسافة التي اسمها: الحياة.
❞ في الماضي، كان الغريب هو ذاك الذي يقطع الصحارى ويبحر عبر الموانئ. اليوم، صار الغريب هو من يجلس بين أحبّته ويشعر أنّه منفيّ بينهم. الغربة تغيّرت ملامحها، لم تعد في جغرافيا المكان، بل في تفاصيل الروح.. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ في الماضي، كان الغريب هو ذاك الذي يقطع الصحارى ويبحر عبر الموانئ. اليوم، صار الغريب هو من يجلس بين أحبّته ويشعر أنّه منفيّ بينهم. الغربة تغيّرت ملامحها، لم تعد في جغرافيا المكان، بل في تفاصيل الروح. ❝
❞ تأمّل كيف صارت حياتنا مربوطة بأجهزة صغيرة، وكيف انتقلت رهبة المجهول من الطرقات واللقاءات إلى شاشات مضيئة. صار الهاتف، بكل بروده، أشبه بباب زجاجي يطلّ على عوالم عديدة، بعضها يُسعدك وبعضها يكسرك، وبعضها يمرّ دون أثر، لكنه يذكّرك دومًا أنّك لست وحدك.. ❝ ⏤هانى الميهى
❞ تأمّل كيف صارت حياتنا مربوطة بأجهزة صغيرة، وكيف انتقلت رهبة المجهول من الطرقات واللقاءات إلى شاشات مضيئة. صار الهاتف، بكل بروده، أشبه بباب زجاجي يطلّ على عوالم عديدة، بعضها يُسعدك وبعضها يكسرك، وبعضها يمرّ دون أثر، لكنه يذكّرك دومًا أنّك لست وحدك. ❝
الفصل الثاني عشر: الأصوات التي لا تُقال
بقلم: هاني الميهى
هناك أصوات كثيرة لا تعبر الحنجرة، لا تخرج من الفم، ولا تسلك طريقها إلى الآذان. أصوات تختبئ في الصدور مثل أسرار محرّمة، تتردّد في الداخل كأنها موسيقى مكتومة لا يسمعها أحد سوانا. تلك الأصوات ليست مجرد كلمات لم تُقال، بل هي أحمال كاملة من المشاعر التي لم تجد مكانها في العالم.
نحن نصمت أحيانًا ليس لأننا لا نملك شيئًا نقوله، بل لأننا نمتلك الكثير حدّ الاختناق. الصمت هنا ليس فراغًا، بل امتلاء مفرطًا، كإناء يغلي داخله الماء لكنه يخشى الانفجار. إنّه صمت يشبه جدارًا شفافًا بيننا وبين الآخرين؛ يروننا هادئين بينما نحن نغلي من الداخل.
الأصوات التي لا تُقال تتخذ أشكالًا شتى: كلمة حبّ لم نجد شجاعةً لنبوح بها، خوف لم نعترف به حتى لأنفسنا، اعتراض خنقناه خشية العقاب أو خسارة العلاقة، شكر لم ننطق به وظلّ مدفونًا تحت ثقل الاعتياد. وربما أقسى تلك الأصوات هو الاعتذار الذي لم يُقال في حينه، حتى صار عبئًا ثقيلًا يتراكم مع السنين.
إنّ الإنسان يشيخ حين يزدحم داخله ما لم يقله. كلّ جملة صادقة لم تخرج تتحوّل إلى تجعيدة على الروح، وإلى مرارة في الحلق، وإلى صمت متخشّب في الملامح. لهذا كثيرون يبدون أكبر من أعمارهم، ليس بسبب الزمن، بل بسبب ثقل الأصوات المطمورة في الداخل.
لكن، هل كل ما لا يُقال هو خسارة؟ ربما لا. هناك أصوات تحتاج إلى الصمت كي تنضج. أحيانًا يكون السكوت أكثر بلاغة من أي خطاب، وأشدّ صدقًا من أي اعتراف. الصمت قد يكون رسالة في ذاته، واعترافًا مكتملًا دون حروف. كم من حبيبَين جلسا طويلًا دون أن يتبادلا جملة واحدة، ومع ذلك فهم كلّ منهما ما يجيش في صدر الآخر!
ومع ذلك، يبقى السؤال معلّقًا: ماذا نفعل بكل هذه الأصوات التي لم تُقال؟ هل ندفنها للأبد ونمضي؟ أم نمنحها فرصة لتخرج يومًا ما، ولو في شكل كتابة، أو دمعة، أو دعاء خافت في آخر الليل؟
الحقيقة أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحمل داخله أصواتًا صامتة إلى ما لا نهاية. إمّا أن تتحوّل تلك الأصوات إلى كلمات تُقال، أو إلى أفعال تُترجم، أو إلى جراح تتسرّب ببطء وتغدو جزءًا من ملامحنا. إنّنا في النهاية مجموع ما قُلنا وما لم نقله، وما اخترنا أن نخفيه عن العالم.
في أعماق كلّ واحد منّا غرفة سرّية، تملؤها الأصوات التي لم تُقال. قد تُفتح يومًا ما بالصدفة، أمام شخص ما يستحقّ أن يسمع، أو في لحظة ضعف نادرة، أو حتى على فراش الموت حين تنفلت الكلمات بلا حراسة. عندها فقط، نكتشف أنّ تلك الأصوات لم تكن عبثًا، بل كانت حياتنا الحقيقية التي لم تُعاش.
إنّ الأصوات التي لا تُقال ليست دائمًا ضعفًا؛ أحيانًا تكون حكمة. وأحيانًا أخرى تكون جرحًا لم نرد أن نُعمّقه بالكلام. لكنها تظلّ، في النهاية، مرآة صامتة لما لم نستطع مواجهته. وما لم نواجهه يظلّ يطاردنا، حتى نعترف به يومًا ما، أو نُسلّم به صمتًا، كمن يضع حجرًا على صدره ويعتاد ثقله.
وهكذا نعيش بين عالمين: عالم نملأه بالكلمات التي نُجاهر بها، وعالم آخر يسكنه الصمت بما لم نستطع قوله. وبين هذين العالمين، نمضي حياتنا، نحاول أن نوازن بين البوح والكتمان، بين الجرأة والحذر، بين الأصوات المسموعة وتلك التي تظلّ سرّية. وفي هذا التوازن تكمن إنسانيّتنا.
يتبع الفصل الثالث عشر
#بين_صمتين
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ بين صمتين
الفصل الثاني عشر: الأصوات التي لا تُقال
بقلم: هاني الميهى
هناك أصوات كثيرة لا تعبر الحنجرة، لا تخرج من الفم، ولا تسلك طريقها إلى الآذان. أصوات تختبئ في الصدور مثل أسرار محرّمة، تتردّد في الداخل كأنها موسيقى مكتومة لا يسمعها أحد سوانا. تلك الأصوات ليست مجرد كلمات لم تُقال، بل هي أحمال كاملة من المشاعر التي لم تجد مكانها في العالم.
نحن نصمت أحيانًا ليس لأننا لا نملك شيئًا نقوله، بل لأننا نمتلك الكثير حدّ الاختناق. الصمت هنا ليس فراغًا، بل امتلاء مفرطًا، كإناء يغلي داخله الماء لكنه يخشى الانفجار. إنّه صمت يشبه جدارًا شفافًا بيننا وبين الآخرين؛ يروننا هادئين بينما نحن نغلي من الداخل.
الأصوات التي لا تُقال تتخذ أشكالًا شتى: كلمة حبّ لم نجد شجاعةً لنبوح بها، خوف لم نعترف به حتى لأنفسنا، اعتراض خنقناه خشية العقاب أو خسارة العلاقة، شكر لم ننطق به وظلّ مدفونًا تحت ثقل الاعتياد. وربما أقسى تلك الأصوات هو الاعتذار الذي لم يُقال في حينه، حتى صار عبئًا ثقيلًا يتراكم مع السنين.
إنّ الإنسان يشيخ حين يزدحم داخله ما لم يقله. كلّ جملة صادقة لم تخرج تتحوّل إلى تجعيدة على الروح، وإلى مرارة في الحلق، وإلى صمت متخشّب في الملامح. لهذا كثيرون يبدون أكبر من أعمارهم، ليس بسبب الزمن، بل بسبب ثقل الأصوات المطمورة في الداخل.
لكن، هل كل ما لا يُقال هو خسارة؟ ربما لا. هناك أصوات تحتاج إلى الصمت كي تنضج. أحيانًا يكون السكوت أكثر بلاغة من أي خطاب، وأشدّ صدقًا من أي اعتراف. الصمت قد يكون رسالة في ذاته، واعترافًا مكتملًا دون حروف. كم من حبيبَين جلسا طويلًا دون أن يتبادلا جملة واحدة، ومع ذلك فهم كلّ منهما ما يجيش في صدر الآخر!
ومع ذلك، يبقى السؤال معلّقًا: ماذا نفعل بكل هذه الأصوات التي لم تُقال؟ هل ندفنها للأبد ونمضي؟ أم نمنحها فرصة لتخرج يومًا ما، ولو في شكل كتابة، أو دمعة، أو دعاء خافت في آخر الليل؟
الحقيقة أنّ الإنسان لا يستطيع أن يحمل داخله أصواتًا صامتة إلى ما لا نهاية. إمّا أن تتحوّل تلك الأصوات إلى كلمات تُقال، أو إلى أفعال تُترجم، أو إلى جراح تتسرّب ببطء وتغدو جزءًا من ملامحنا. إنّنا في النهاية مجموع ما قُلنا وما لم نقله، وما اخترنا أن نخفيه عن العالم.
في أعماق كلّ واحد منّا غرفة سرّية، تملؤها الأصوات التي لم تُقال. قد تُفتح يومًا ما بالصدفة، أمام شخص ما يستحقّ أن يسمع، أو في لحظة ضعف نادرة، أو حتى على فراش الموت حين تنفلت الكلمات بلا حراسة. عندها فقط، نكتشف أنّ تلك الأصوات لم تكن عبثًا، بل كانت حياتنا الحقيقية التي لم تُعاش.
إنّ الأصوات التي لا تُقال ليست دائمًا ضعفًا؛ أحيانًا تكون حكمة. وأحيانًا أخرى تكون جرحًا لم نرد أن نُعمّقه بالكلام. لكنها تظلّ، في النهاية، مرآة صامتة لما لم نستطع مواجهته. وما لم نواجهه يظلّ يطاردنا، حتى نعترف به يومًا ما، أو نُسلّم به صمتًا، كمن يضع حجرًا على صدره ويعتاد ثقله.
وهكذا نعيش بين عالمين: عالم نملأه بالكلمات التي نُجاهر بها، وعالم آخر يسكنه الصمت بما لم نستطع قوله. وبين هذين العالمين، نمضي حياتنا، نحاول أن نوازن بين البوح والكتمان، بين الجرأة والحذر، بين الأصوات المسموعة وتلك التي تظلّ سرّية. وفي هذا التوازن تكمن إنسانيّتنا.
المرايا، منذ اختراعها، لم تكن مجرّد زجاجٍ مصقول، بل نافذة غريبة، تسمح لنا أن نرى أنفسنا كما لا يرانا أحد. لكنّها في الوقت ذاته خادعة، فهي تُظهر وجوهنا، ولا تكشف ما في أعماقنا. إنّها تمنحنا صورة، لكنّها صورة بلا روح.
في غرفة قديمة رأيت يومًا مرآة مشروخة. كلما اقتربت منها، انعكست صورتي متكسّرة إلى قطع. عيناي لم تعودا في مكانهما الصحيح، ابتسامتي انقسمت نصفين، وجهي بدا غريبًا عليّ. عندها تساءلت: ألسنا نحن أيضًا مرايا مكسورة؟ نُظهر للآخرين شظايا من حقيقتنا، ولا نمنحهم الصورة كاملة.
المرايا السليمة تُخدعنا بالاكتمال، لكنّ المرايا المكسورة تكشف عورات الصورة. فهي تُذكّرنا بأنّنا لسنا وحدة متماسكة، بل كيان يتجزأ بين الماضي والحاضر، بين الرغبات والقيود، بين ما نظهره وما نخفيه. كل شقٍّ في الزجاج هو حكاية لم تُروَ، كل كسر هو ندبة من صراعٍ قديم.
ثمّة لحظة قاسية يمرّ بها كل إنسان: حين ينظر في المرآة فلا يتعرّف على نفسه. ليس لأن الزجاج مكسور، بل لأن الزمن نفسه حطّم الملامح. التجاعيد، الخطوط الدقيقة، العيون المثقلة بالتجارب؛ كلها تقول: \"لقد تغيّرت\". في تلك اللحظة، ندرك أنّ المرآة ليست مجرد أداة، بل شهادة على مرورنا، كأنها دفتر حضور يومي، لا يغفل ولا يرحم.
أحيانًا نكسر المرآة عمدًا، هربًا من صورتنا. نتصوّر أن تفتّت الزجاج سيلغي ما لا نحبّ أن نراه. لكنّ الحقيقة أن الصورة لا تختفي، بل تتضاعف في كل شظية. كل كسرة تعكس جزءًا آخر، وتذكّرنا أنّنا لا نستطيع الهروب من ذواتنا. إنّ محاولة تحطيم المرآة ليست سوى إعلان عجز عن مواجهة الحقيقة.
الغريب أنّ المرايا تحتفظ ببراءة مطلقة: هي لا تكذب. تعكس ما أمامها بلا تحيّز. لكنّنا نحن الذين نحمّلها ما لا تحتمل. نغضب من انعكاسها، بينما هي لم تفعل سوى أن تقول: \"هذا أنت\". هي كاتب محايد، يسجل وجودنا بصمت، ولا يزيد حرفًا واحدًا من عنده.
لكن، ماذا عن المرايا الداخلية؟ تلك التي لا نراها، بل نشعر بها في أعماقنا. كل إنسان يحمل مرآة داخلية مكسورة، يرى نفسه فيها بعيون الندم والخيبة والتمنّي. هذه المرايا أخطر من الزجاج، لأنها لا تُظهر الحقيقة كما هي، بل كما نريد أو كما نخشى أن تكون. ولذا، يعيش كثيرون أسرى لمرايا داخلية مشوهة، لا يملكون الشجاعة لتصحيح انعكاسها.
لقد علّمتني المرايا المكسورة أنّ الكمال وهم. لا أحد يملك صورة صافية عن نفسه. كلّنا نتوزّع بين شقوق، نرتقها يومًا ونمزّقها يومًا آخر. جمالنا لا يكمن في اكتمالنا، بل في قدرتنا على جمع الشظايا معًا، وصناعة وجهٍ يستطيع أن يواصل الحياة.
في النهاية، المرايا المكسورة ليست نقمة، بل رسالة. هي تقول لنا: تذكّر أنّك لست صورة ثابتة، بل كائن يتكسّر ويتجدّد، وأنّك قادر دائمًا على أن ترى في شظاياك لوحة جديدة.
يتبع الفصل التاسع
#بين_صمتين
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ بين صمتين
الفصل الثامن: مرايا مكسورة
بقلم: هاني الميهى
المرايا، منذ اختراعها، لم تكن مجرّد زجاجٍ مصقول، بل نافذة غريبة، تسمح لنا أن نرى أنفسنا كما لا يرانا أحد. لكنّها في الوقت ذاته خادعة، فهي تُظهر وجوهنا، ولا تكشف ما في أعماقنا. إنّها تمنحنا صورة، لكنّها صورة بلا روح.
في غرفة قديمة رأيت يومًا مرآة مشروخة. كلما اقتربت منها، انعكست صورتي متكسّرة إلى قطع. عيناي لم تعودا في مكانهما الصحيح، ابتسامتي انقسمت نصفين، وجهي بدا غريبًا عليّ. عندها تساءلت: ألسنا نحن أيضًا مرايا مكسورة؟ نُظهر للآخرين شظايا من حقيقتنا، ولا نمنحهم الصورة كاملة.
المرايا السليمة تُخدعنا بالاكتمال، لكنّ المرايا المكسورة تكشف عورات الصورة. فهي تُذكّرنا بأنّنا لسنا وحدة متماسكة، بل كيان يتجزأ بين الماضي والحاضر، بين الرغبات والقيود، بين ما نظهره وما نخفيه. كل شقٍّ في الزجاج هو حكاية لم تُروَ، كل كسر هو ندبة من صراعٍ قديم.
ثمّة لحظة قاسية يمرّ بها كل إنسان: حين ينظر في المرآة فلا يتعرّف على نفسه. ليس لأن الزجاج مكسور، بل لأن الزمن نفسه حطّم الملامح. التجاعيد، الخطوط الدقيقة، العيون المثقلة بالتجارب؛ كلها تقول: ˝لقد تغيّرت˝. في تلك اللحظة، ندرك أنّ المرآة ليست مجرد أداة، بل شهادة على مرورنا، كأنها دفتر حضور يومي، لا يغفل ولا يرحم.
أحيانًا نكسر المرآة عمدًا، هربًا من صورتنا. نتصوّر أن تفتّت الزجاج سيلغي ما لا نحبّ أن نراه. لكنّ الحقيقة أن الصورة لا تختفي، بل تتضاعف في كل شظية. كل كسرة تعكس جزءًا آخر، وتذكّرنا أنّنا لا نستطيع الهروب من ذواتنا. إنّ محاولة تحطيم المرآة ليست سوى إعلان عجز عن مواجهة الحقيقة.
الغريب أنّ المرايا تحتفظ ببراءة مطلقة: هي لا تكذب. تعكس ما أمامها بلا تحيّز. لكنّنا نحن الذين نحمّلها ما لا تحتمل. نغضب من انعكاسها، بينما هي لم تفعل سوى أن تقول: ˝هذا أنت˝. هي كاتب محايد، يسجل وجودنا بصمت، ولا يزيد حرفًا واحدًا من عنده.
لكن، ماذا عن المرايا الداخلية؟ تلك التي لا نراها، بل نشعر بها في أعماقنا. كل إنسان يحمل مرآة داخلية مكسورة، يرى نفسه فيها بعيون الندم والخيبة والتمنّي. هذه المرايا أخطر من الزجاج، لأنها لا تُظهر الحقيقة كما هي، بل كما نريد أو كما نخشى أن تكون. ولذا، يعيش كثيرون أسرى لمرايا داخلية مشوهة، لا يملكون الشجاعة لتصحيح انعكاسها.
لقد علّمتني المرايا المكسورة أنّ الكمال وهم. لا أحد يملك صورة صافية عن نفسه. كلّنا نتوزّع بين شقوق، نرتقها يومًا ونمزّقها يومًا آخر. جمالنا لا يكمن في اكتمالنا، بل في قدرتنا على جمع الشظايا معًا، وصناعة وجهٍ يستطيع أن يواصل الحياة.
في النهاية، المرايا المكسورة ليست نقمة، بل رسالة. هي تقول لنا: تذكّر أنّك لست صورة ثابتة، بل كائن يتكسّر ويتجدّد، وأنّك قادر دائمًا على أن ترى في شظاياك لوحة جديدة.