█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024
❞ • والنفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية وتتنكر بما تطرح في الظاهر من ردود أفعال سلوكية وهي لا تعطي سرها أبداً حتى لصاحبها إذا بدأ يتدبرها كموضوع، لأنها ليست موضوع بل هي في جوهرها ((ذات)) بكر
إذا فضضت بكارتها وهتتكت استرارها وحاولت أن تقحمها بالنظرة الموضوعية استعصت عليك وتفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة وتحولت لشئ آخر ..
ولم تعد ((هي)).” . ❝
❞ الطبيعة في ضوء العلم وحده كابوس حقيقي و الحياة بالمنطق وحده سخافة و الواقع بالنظرة الموضوعية مسطح تماماً الطبيعة بدون شعر .. و بدون موسيقى غير طبيعية . ❝
❞ هل جربــت البنج الموضعـي ؟؟
هل جلسـت على كرسي طبيب الأسنان و فتحت فمك و أسلمته نفسك ليحقنك بالبنج .. ثم بدأت تتفرج عليه و هو يقتلع ضرسك من جذوره و يُخرجه بيده مغموساً بالدم .. و أنت تتفرج عليه في فضول و كأنه ضرس رجل آخر .. و قد مات شعورك تماماً .. ؟؟
إن منظر الجراح و هو يحاصر الجلد بالبنج ثم يقصه في هدوء كأنه يقص قطعة من الصوف الإنجليزي .. منظر غريب ..
و الأغرب منه منظر المريض و هو يتابع هذه العملية في دهشة .. و ينظر إلى جلده و المقص يقطع فيه بلا ألم .. و كأنه جلد رجل آخر لا يعرفه .. و ينظر إلى جسمه و كأنه ليس جسمه .. و ينظر إلى نفسه .. و كأنه شيء آخر غير ما هو عليه .
إنه يسأل نفسه :
مَنْ أنا .. ؟
أنا لا يمكن أن أكون ذلك الشيء الذي يقطعه الطبيب .. و يقصه و يرقعه .
أنا لست ذلك الجسم الذي يبتره الجراح .. أنا لست الشعور الذي مات .
أنا لست موضوع تلك العملية .
أنا مجرد متفرج على ذلك الشيء الموضوع على المائدة .
و هو إلهام صحيح تماماً .
إن الإنسان ليس موضوعاً .. و لا يمكن إحالته إلى موضوع يُنظَر إليه من خارج كما يُنظَر إلى خريطة جغرافية .
الإنسان هو الآخر له أعماق " جوانية " لا تحيط بها النظرة الموضوعية .
الإنسان داخله نهر من الأفكار و المشاعر .. متجدد .. متدفق بغير حدود ..
نهر من الأسرار .. غير مكشوف لأحد سواه هو .. و لا شيء يبدو من هذا النهر من خارجه .. و لا يمكن أن تحيط به نظرة موضوعية .
و أنت حينما تتخذ من الإنسان موضوعاً .. يفقد في يدك الحياة .. و يفقد الوحدة .. و يتفكك و يتحول إلى جسد .. إلى مادة تشريح .. إلى شيء .. أي شيء إلا الإنسان الذي تقصده .
واقع الإنسان المرئي الظاهر .. ليس هو الإنسان .. إنه إفرازه .
و العلم يتحسس الإنسان من خارجه فقط .. يفحص بوله و دمه و نخاعه و عرقه و لعابه .. يفحص إفرازاته .
و هو لا يستطيع أن يخطو عبر هذا المظهر .. إلا بالإستنتاج .
و لكن الفن يستطيع أن يدخل الإنسان عبر العقل و المنطق ليخاطبه من داخله .. ليخاطب مكمن الأسرار فيه مباشرة و كذلك الدين .. و الحب ..
لحظة الحب و الوجد .. مثل لحظة الكشف و الإلهام .. تتكاشف فيها القلوب بلا وساطة .
السر يخاطب السر .
و أنا أؤمن بالعِلم .. و لكني لا أكتفي به .
و أؤمن بالحواس الست .. و لكني لا أكتفي بها .
و أعتقد أن الطبيعة يكتنفها السر .
و أن الحقيقة مغلقة أمام كل محاولة لكشفها بالرادار و الترمومتر و المِجهر وحده .
و أن الطبيعة في ضوء العلم وحده كابوس حقيقي ..
و الحياة بالمنطق وحده سخافة ..
و الواقع بالنظرة الموضوعية مسطح تماماً .
الطبيعة بدون شِعر .. و بدون موسيقى .. غير طبيعية .
هل هي رومانتيكية الرجل الشرقي ؟
نعم أعتقد أني رجل شرقي تماماً .
و لا أعتذر من أجل شرقيتي .
من كتاب / تأملات في دنيا الله
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ كان ذلك من زمن بعيد لست أذكره .. ربما كنت أدرج من الثالثة عشرة إلى الرابعة عشرة وربما قبل ذلك .. في مَطَالِعْ المراهقة .. حينما بدأت أتساءل في تمرد :
- تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق ولا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لكل موجود من موجِد .. صدقنا وآمنا .. فلتقولوا لي إذن مَن خلق الله .. أم أنه جاء بذاته ؟! .. فإذا كان قد جاء بذاته وصحّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر .. فلماذا لا يصح في تصوركم أيضاً أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال .
كنت أقول هذا فتصفر من حولي الوجوه وتنطلق الألسُن تمطرني باللعنات وتتسابق إليّ اللكمات عن يمين وشمال .. ويستغفر لي أصحاب القلوب التقية ويطلبون لي الهدى .. ويتبرأ مني المتزمتون ويجتمع حولي المتمردون .. فنغرق معاً في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ ولا يبدأ إلا ليسترسل .
وتغيب عني تلك الأيام الحقيقة الأولى وراء ذلك الجدل .
إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح وإعجابي بموهبة الكلام ومقارعة الحجج التي انفردت بها .. كان هو الحافز دائماً .. وكان هو المشجِع .. وكان هو الدافع .. وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب .
لقد رَفَضْتُ عبادة الله لأني إستغرقت في عبادة نفسي وأُعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة .
كانت هذه هي الحالة النفسية وراء المشهد الجدلي الذي يتكرر كل يوم . وغابت عني أيضاً أصول المنطق وأنا أعالج المنطق .. ولم أدرك أني أتناقض مع نفسي إذ كيف أعترف بالخالق ثم أقول : ومن خلق الخالق فأجعل منه مخلوقاً في الوقت الذي أسميه خالقاً .. وهي السفسطة بعينها .
ثم إن القول بسبب أول للوجود يقتضي أن يكون هذا السبب واجب الوجود في ذاته وليس معتمداً ولا محتاجاً لغيره لكي يوجد . أما أن يكون السبب في حاجة إلى سبب فإن هذا يجعله واحدة من حلقات السببية ولا يجعل منه سبباً أول .
هذه هي أبعاد القضية الفلسفية التي إنتهت بأرسطو إلى القول بالسبب الأول والمحرك الأول للوجود .
ولم تكن هذه الأبعاد واضحة في ذهني في ذلك الحين .
ولم أكُن قد عرفت بعد من هو أرسطو ولا ما هي القوانين الأولى للمنطق والجدل .
واحتاج الأمر إلى ثلاثين سنة من الغرق في الكتب وآلاف الليالي من الخلوةِ والتأمل والحوار مع النفس وإعادة النظر ثُمَّ إعادة النظر في إعادة النظر ..
ثُمَّ تقليب الفكر على كل وجه لأقطع فيه الطريق الشائكة من ( الله والإنسان ) إلى ( لغز الحياة ) إلى ( لغز الموت ) إلى ما أكتب من كلمات على درب اليقين ، لم يكن الأمر سهلاً .. لأني لم أشأ أن آخذ الأمر مأخذاً سهلاً .
ولو أني أصغيت إلى صوت الفطرة وتركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل .. ولقادتني الفطرة إلى الله ..
ولكنني جئت في زمن تَعَقّدِتْ فيه كل شيء وضَعِفَ صوت الفطرة حتى صار همساً وإرتفع صوت العقل حتى صار لجاجة وغروراً واعتداداً ..
والعقل معذور في إسرافه إذ يرى نفسه واقفاً على هرم هائل من المنجزات وإذ يرى نفسه مانحاً للحضارة بما فيها من صناعة وكهرباء وصواريخ وطائرات وغواصات وإذ يرى نفسه قد اقتحم البر والبحر والجو والماء وما تحت الماء .. فتصور نفسه القادر على كل شيء وزج نفسه في كل شيء وأقام نفسه حاكماً على ما يعلم وما لا يعلم .
وغرقت في مكتبة البلدية بطنطا وأنا صبي أقرأ لشبلي شميل وسلامة موسى وأتعرف على فرويد وداروين .
وشغفت بالكيمياء والطبيعة والبيولوجيا .. وكان لي معمل صغير في غرفتي أجضر فيه غاز ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأقتل الصراصير بالكلور وأشرِّح فيه الضفادع ، وكانت الصيحة التي غمرت العالم هي .. العلم .. العلم .. العلم .. ولا شيء غير العلم !!
النظرة الموضوعية هي الطريق .
لنرفض الغيبيات ولنكُف عن إطلاق البخور وترديد الخرافات .
من يعطينا دبابات وطائرات ويأخذ منا الأديان والعبادات ؟؟
وكان ما يصلنا من أنباء العلم الغربي باهراً يخطف أبصارنا وكنا نأخذ عن الغرب كل شيء .. الكتب والدواء والملابس والمنسوجات والقاطرات والسيارات .. وحتى الأطعمة المعلبة .. حتى قلم الرصاص والدبوس والإبرة .. حتى نظم التعليم وقوالب التأليف الأدبي من قصة ومسرحية ورواية .. حتى ورق الصحف .
وحول أبطال الغرب وعبقرياته كنا ننسج أحلامنا ومُثُلِنا العليا .. حول باستير وماركوني ورونتجن وأديسون .. وحول نابليون وإبراهام لنكولن .. وكرستوفر كولمبس وماجلان .
كان الغرب هو التقدم ، وكان الشرق العربي هو التخلف والضعف والتخاذل والإنهيار تحت أقدام الإستعمار ، وكان طبيعيّاً أن نتصور أن كل ما يأتينا من الغرب هو النور والحق .. وهو السبيل إلى القوة والخلاص .
ودخلت كلية الطب لأتلقى العلوم بلغة إنجليزية وأدرس التشريح في مراجع إنجليزية وأتكلم مع أستاذي في المشفى باللغة الإنجليزية .. ليس لأن إنجلترا كانت تحتل القناة لكن لسبب آخر مشروع وعادل .. هو أن علم الطب الحديث كان صناعة غربية تماماً .. وما بدأه العرب في هذه العلوم أيام ابن سينا , كان مجرد أوليّات لا تفي بحاجات العصر .
وقد التقط علماء الغرب الخيط من حيث انتهى ابن سينا والباحثون العرب ثم استأنفوا الطريق بإمكانيات متطورة ومعامل ومختبرات وملايين الجنيهات المرصودة للبحث , فسبقوا الأولين من العرب والفُرس والعُجم , وأقاموا صرح علم الطب الحديث والفسيولوجيا والتشريح والباثولوجيا وأصبحوا بحق مرجعاً .
وتعلمت ما تعلمت في كتب الطب .. النظرة العلمية .. وأنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس .
وأن العلم يبدأ من المحسوس والمنظور والملموس وأن العلم ذاته هو عملية جمع شواهد واستخراج قوانين ، وما لا يقع تحت الحس فهو في النظرة العلمية غير موجود ، وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي .
بهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة وبالرغم من هذه الأرضية المادية والإنطلاق من المحسوسات الذي ينكر كل ما هو غيب فإني لم أستطع أن أنفي أو أستبعد القوة الإلهية .
كان العلم يقدم صورة عن الكون بالغة الإحكام والإنضباط .. كل شيء من ورقة الشجر إلى جناح الفراشة إلى ذرة الرمل فيها تناسق ونظام وجمال الكون كله مبني وفق هندسة وقوانين دقيقة .
وكل شيء يتحرك بحساب من الذرة المتناهية في الصغر إلى الفلَك العظيم إلى الشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التي يقول لنا الفَلك إن فيها أكثر من ألف مليون مجرة .
كل هذا الوجود اللامتناهي من أصغر إلكترون إلى أعظم جرم سماوي كنت أراه أشبه بمعزوفة متناسقة الأنغام مضبوطة التوزيع كل حركة فيها بمقدار .. أشبه بالبدن المتكامل الذي فيه روح .
كان العلم يمدني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية .
وفي هذه المرحلة تصورت أن الله هو الطاقة الباطنة في الكون التي تنظمه في منظومات جميلة من أحياء وجمادات وأراضٍ وسماوات .. هو الحركة التي كشفها العلم في الذرة وفي البروتوبلازم وفي الأفلاك ..
هو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء ..أو بعبارة القديس توماس " الفعل الخالص الذي ظل يتحول في الميكروب حتى أصبح إنساناً ومازال يتحول وسيظل يتحول إلى ما لانهاية " .
والوجود كان في تصوري لامحدوداً لانهائياً . إذ لا يمكن أن يحد الوجود إلا العدم .. والعدم معدوم .. ومن هنا يلزم منطقياً أن يكون الوجود غير محدود ولانهائي .
ولا يصح أن نسأل .. مَن الذي خلق الكون . إذ أن السؤال يستتبع أن الكون كان معدوماً في البداية ثم وُجِد .. وكيف يكون لمعدوم كيان ؟! .
إن العدم معدوم في الزمان والمكان وساقط في حساب الكلام ولا يصح القول بأنه كان .
وبهذا جعلت من الوجود حدثاً قديماً أبدياً أزلياً ممتداً في الزمان لا حدود له ولا نهاية .
وأصبح الله في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته .
الله هو الوجود .. والعدم قبله معدوم .
هو الوجود المادي الممتد أزلاً وأبداً بلا بدء وبلا نهاية .
وهكذا أقمت لنفسي نظرية تكتفي بالموجود .. وترى أن الله هو الوجود .. دون حاجة إلى افتراض الغيب والمغيبات .. ودون حاجة إلى التماس اللامنظور .
وبذلك وقعت في أسر فكرة وحدة الوجود الهندية وفلسفة سبينوزا .. وفكرة برجسون عن الطاقة الباطنة الخلاّقة ..
وكلها فلسفات تبدأ من الأرض .. من الحواس الخمس .. ولا تعترف بالمغيبات ، ووحدة الوجود الهندية تمضي إلى أكثر من ذلك فتلغي الثنائية بين المخلوق والخالق .. فكل المخلوقات في نظرها هي عيني الخالق .
وفي سفر اليوبانيشاد صلاة هندية قديمة تشرح هذا المعنى في أبيات رقيقة من الشعر ...
إن الإله براهماً الذي يسكن قلب العالم يتحدث في همس قائلاً :
إذا ظن القاتل أنه قاتل ......
والمقتول أنه قتيل .........
فليسا يدريان ما خفي من أساليبي ....
حيث أكون الصدر لمن يموت ........
والسلاح لمن يقتل .......
والجناح لمن يطير ......
وحيث أكون لمن يشك في وجودي ......
كل شيء حتى الشك نفسه ....
وحيث أكون أنا الواحد .....
وأنا الأشياء .....
إنه إله يشبه النور الأبيض .. واحد .. وبسيط .. ولكنه يحتوى في داخله على ألوان الطيف السبعة ، وعشت سنوات في هذا الضباب الهندي وهذه الماريجوانا الصوفية ومارست اليوجا وقرأتها في أصولها وتلقيت تعاليمها على أيدي أساتذة هنود .
وسيطرَت عليَّ فكرة التناسخ مدة طويلة وظهرت روايات لي مثل ( العنكبوت ) و ( الخروج من التابوت ) ، ثم بدأت أفيق على حالة من عدم الرضا وعدم الإقتناع .
واعترفت بيني وبين نفسي أن هذه الفكرة عن الله فيها الكثير من الخلط . ومرة أخرى كان العلم هو دليلي ومنقذي ومرشدي ، عكوفي على العلم وعلى الشريحة الحية تحت الميكروسكوب قال لي شيئاً آخر .
وحدة الوجود الهندية كانت عبارة شعرية صوفية .. ولكنها غير صادقة ..
والحقيقة المؤكدة التي يقولها العلم أن هناك وحدة في الخامة لا أكثر .. وحدة في النسيج والسُنن الأولية والقوانين .. وحدة في المادة الأولية التي بُنيَ منها كل شيء .. فكل الحياة من نبات وحيوان وإنسان بنيت من تواليف الكربون مع الآيدروجين والأكسجين .. ولهذا تتحول كلها إلى فحم بالإحتراق .. وكل صنوف الحياة تقوم على الخلية الواحدة ومضاعفاتها .
ومرة أخرى نتعلم من الفلَك والكيمياء والعلوم النووية أن الكربون ذاته وكذلك جميع العناصر المختلفة جاءت من طبخ عنصر واحد في باطن الأفران النجمية الهائلة هو الآيدروجين .
الآيدروجين يتحول في باطن الأفران النجمية إلى هليوم وكربون وسليكون وكوبالت ونيكل وحديد إلى آخر قائمة العناصر وذلك بتفكيكه وإعادة تركيبه في درجات حرارة وضغوط هائلة ، وهذا يرد جميع صنوف الموجودات إلى خامة واحدة .. إلى فتلة واحدة حريرية غُزِل منها الكون في تفصيلات وتصميمات وطُرُز مختلفة .
والخلاف بين صنف وصنف وبين مخلوق ومخلوق هو خلاف في العلاقات الكيفية والكمية .. في المعادلة والشفرة التكوينية .. لكن الخامة واحدة .. وهذا سر الشعور بالنَسَب والقرابة والمصاهرة وصلة الرحم بين الإنسان والحيوان وبين الوَحش ومُروِضه وبين الأنف التي تشم والوهرة العاطرة وبين العين ومنظر الغروب الجميل .
هذا هو سر الهارموني والإنسجام ، إن كل الوجود أفراد أسرة واحدة من أب واحد ، وهو أمر لا يستتبع أبداً أن نقول إن الله هو الوجود , وأن الخالق هو المخلوق فهذا خلط صوفيّ غير وارد .
والأمر شبيه بحالة الناقد الذواقة الذي دخل معرضاً للرسم فاكتشف وحدة فنية بين جميع اللوحات .. واكتشف أنها جميعاً مرسومة على الخامة نفسها .. وبذات المجموعة الواحدة من الألوان , وأكثر من هذا أن أسلوب الرسم واحد .
والنتيجة الطبيعية أن يقفز إلى ذهن الناقد أن خالق جميع هذه اللوحات واحد . وأن الرسّام هو بيكاسو أو شاجال أو موديلياني .. مثلاً ، فالوحدة بين الموجودات تعني وحدة خالقها .
ولكنها لا تعني أبداً أن هذه الموجدات هي ذاتها الخالق ، ولا يقول الناقد أبداً إن هذه الرسوم هي الرسّام ، إن وحدة الوجود الهندية شطحة صوفيّة خرافية .. وهي تبسيط وجداني لا يصادق عليه العلم ولا يرتاح إليه العقل .
وإنما تقول النظرة العلمية المتأملة لظواهر الخلق والمخلوقات , إن هناك وحدة بينها .. وحدة أسلوب ووحدة قوانين ووحدة خامات تعني جميعها أن خالقها واحد لم يشرك معه شريكاً يسمح بأسلوب غير أسلوبه .
وتقول لنا أيضاً إن هذا الخالق هو عقل كلّي شامل ومحيط , يُلهم مخلوقاته ويهديها في رحلة تطورها ويسلّحها بوسائل البقاء , فهو يخلق لبذور الأشجار الصحراوية أجنحةً لتستطيع أن تعبر الصحاري الجرداء بحثاً عن ماء وعن ظروف إنبات موالية .
وهو يزود بيضة البعوضة بكيسين للطفو لتطفو على الماء لحظة وضعها ولا تغرق . وما كان من الممكن للبعوضة أن تدرك قوانين أرشميدس للطفو فتصنع لبيضها تلك الأكياس .
وإنما هو العقل الكلي الشامل المحيط الذي خلق .. هو الذي يزود كل مخلوق بأسباب حياته .. وهو خالق متعالٍ على مخلوقاته .. يعلم ما لا تعلم ويقدر على ما لا تقدر ويرى ما لا ترى ، فهو واحد أحد قادر عالم محيط سميع بصير خبير .. وهو متعال يعطي الصفات ولا تحيط به صفات .
* * *
والصلة دائماً معقودة بين هذا الخالق ومخلوقاته فهو أقرب إليها من دمها الذي يجري فيها ، وهو المبدِع الذي عزف الإبداع هذه المعزوفة الكونية الرائعة ، هو العادل الذي أحكم قوانينها وأقامها على نواميس دقيقة لا تخطئ ، وهكذا قدم لي العلم الفكرة الإسلامية الكاملة عن الله .
* * *
أما القول بأزلية الوجود لأن العدم معدوم والوجود موجود , فهو جدل لفظي لا يقوم إلا على اللعب بالألفاظ ، والعدم في واقع الأمر غير معدوم ، وقيام العدم في التصور والفكر ينفي كونه معدوماً .
والعدم هو على الأكثر نفي ٌ لما نعلم ولكنه نفياً مطلقاً مساوياً للمحو المطلق . وفكرة العدم المطلق فرضية مثل فرضية الصفر الرياضي .. ولا يصح الخلط بين الإفتراض والواقع ولا يصح تحميل الواقع فرضاً نظرياً , فنقول اعتسافاً إن العدم معدوم , ونعتبر أن هذا الكلام قضية وجودية نبني عليها أحكاماً في الواقع .. هذا تناقض صريح وسفسطة جدلية ، وبالمثل القول بأن الوجود موجود .. هنا نفس الخلط .. فالوجود تجريد ذهني والموجود واقع حسيّ ..
وكلمة العدم وكلمة الوجود تجريدات ذهنية كالصفر ،واللانهاية لا يصح أن نخلط بينها وبين الواقع الملموس المتعيَّن ،والكون الكائن المحدد أمام الحواس ،، الكون إذن ليس أزليا ً،، وإنما هو كون مخلوق كان لا بد له بدء بدليل آخرمن قاموس العلم هو ما نعرفه باسم القانون الثاني للديناميكا الحرارية ،، ويقرر هذا القانون أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان فيتوقف التبادل الحراري .
ولو كان الكون أبديا أزليا بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف في تلك الآباد الطويلة المتاحة وبالتالي لتوقفت كل صور الحياة ولبردت النجوم وصارت بدرجة حرارة الصقيع والخواء حولها وانتهى كل شيء ،،إن هذا القانون هو ذاته دليل على أن الكون له بدء .
والقيامة الصغرى التي نراها حولنا في موت الحضارات وموت الأفراد وموت النجوم وموت الحيوان والنبات وتناهي اللحظات والحُقَبْ والدهور .. هي لمحة أُخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لابد أن ينتهي إليها الكون ..
إن العلم الحَق لم يكن أبداً مناقضاً للدين بل إنه دالٌ عليه مؤكَد بمعناه .
وإنما نصف العلم هو الذي يوقع العقل في الشبهة والشك ..
وبخاصة إن كان ذلك العقل مزهوّاً بنفسه معتدّاً بعقلانيته .. وبخاصة إذا دارت المعركة في عصر يتصور فيه العقل أنه كلّ شيء .. وإذا حاصرت الإنسان شواهد حضارة ماديّة صارخة تزأر فيها الطائرات وسفن الفضاء والأقمار الصناعيّة .. هاتفةً كلّ لحظة :
أنا المادة ....
أنا كل شيء ....
مقال / اللــــــّـــــه
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود ( رحمه الله ) . ❝
❞ هل أنت صادق ؟
سؤال سوف يجيب عليه الكل بنعم .. فكل واحد يتصور أنه صادق وأنه لا يكذب .. وقد يعترف أحدهم بكذبة أو بكذبتين ويعتبر نفسه بلغ الغاية من الدقة والصراحة مع النفس وأنه أدلى بحقيقة لا تقبل مراجعة .
ومع ذلك فدعونا نراجع معًا هذا الإدعاء العريض وسوف نكتشف أن الصدق شيء نادر جدّاً .. وأن الصادق الحقيقي يكاد يكون غير موجود .
وأكثرنا في الواقع مغشوش في نفسه حينما يتصور أنه من أهل الصدق .
بل إننا نبدأ في الكذب من لحظة أن نتيقظ في الصباح وقبل أن نفتح فمنا بكلمة .
أحياناً تكون مجرد تسريحة الشعر التي نختارها كذبة .
الكهل الذي يسرح شعره خنافس ليبدو أصغر من سِنه يكذب , والمرأة العجوز التي تصبغ شعرها لتبدو أصغر من سنها تكذب .
والباروكة على رأس الأصلع كذبة .
وطقم الأسنان في فم الأهتم كذبة .
والبدلة السبور الخفيفة التي تخفي تحتها فانلة صوف كذبة .
والكورسيه والمشدّات حول البطن المترهلة كذبة .
والنهد الكاوتشوك على الصدر المنهك من الرضاع كذبة .
والمكياج الذي يحاول صاحبه إن يخفي به التجاعيد هو نوع آخر من الكذب الصامت .
والبودرة والأحمر والكحل والريميل والرموش الصناعية .. كلها أكاذيب ينطق بها لسان الحال قبل أن يفتح الواحد منا فمه ويتكلم .
بل إن مجرد ضفيرة المدارس على رأس بنت الثلاثين كذبة .
واللبانة في فم رجل كهل هي كذبة أكثر وقاحة .
كل هذا ولم يبدأ اللسان ينطق ولم يُفتح الفم بعد .
فإذا فتح الواحد منا فمه وقال صباح الخير .. فإنه يقولها على سبيل العرف والعادة .. لم ينوي له الخير ولم ينوي له الشر .. فهو يكذب .. وهو يقرأ السلام على من يبيت له العدوان .. فهو يكذب .
فإذا رفع سماعة التليفون مضى يطلب ما لا يريد من الأشياء لمجرد أنها مظاهر ومجاملات .. فهو يكذب .. وقد يرفض ما يريد خجلًا وادعاء .. فهو يكذب .
والولد والبنت يتكلمان طوال ساعتين في كل شيء إلا ما يتحرقان شوقًا إلى أن يتصارحا به .. فهما يكذبان .
وفتاة البار تبدؤك الحديث بالحب وهو لا يخطر لها على بال ولا تشغلها سوى حافظة نقودك . وكم زجاجة من الشمبانيا ستفتح لها .
والإعلان الذي يصف لك نكهة السيجارة وفوائدها الصحية يكذب عليك .
والإعلان الذي يقول لك إن قرص الإسبرين يشفي من الإنفلونزا كذب حتى بالقياس إلى علم الأدوية ذاته .
وكل ما يدور في عالم البيع والشراء يبدأ بالكذب .
وصورة لاعب التنس في يده زجاجة ويسكي وصورة الأسد الذي يحتضن زجاجة الكينا .. وبطل الجري الذي يدخن سيجارة فرجينيا كلها صنوف من الأكاذيب الظريفة التي تراها ملصقة على الجدران وعلى أغلفة الصحف وفي إعلانات السينما والتلفزيون وكأنما أصبح الكذب عُرفًا تجاريًا لا لوم عليه .
وفي عالم السياسة والسياسيين وفي أروقة الأمم المتحدة وعلى أفواه الدبلوماسيين نجد أن الكذب هو القاعدة .
بل إن فن الدبلوماسية الرفيع هو كيف تستطيع أن تجعل الكذب يبدو كالصدق .. وكيف تقول ما لا تعني .. وكيف تخفي ما تريد .. وكيف تحب ما تكره .. وكيف تكره ما تحب .
وأذكر بهذه المناسبة النكتة التي رويت عن تشرشل حينما رأى شاهد مقبرة مكتوبًا عليها ..
(( هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي العظيم )) .
فقال ضاحكاً :
هذه أول مرة أرى فيها رجلين يدفنان في تابوت واحد .
فلم يكن من الممكن إطلاقاً في نظر تشرشل أن يكون الرجل الصادق والسياسي العظيم رجلاً واحداً .. إذ أن أول مؤهلات العظمة السياسية في نظر تشرشل هو الكذب .
وشرط السياسة هو أن تخفي الحقيقة لحساب المصلحة .. وتتأخر العاطفة لتتقدم الحيلة .. والفطنة .. والذكاء .. والمراوغة .
والدبلوماسي الذي يجاهر بعاطفته هو دبلوماسي أبله .. بل إنه لا يكون دبلوماسيّاً على الإطلاق .
وفي عالم الدين ودنيا العبادات يطل الكذب الخفي من وراء الطقوس والمراسيم .
شهر الصيام الذي هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل فتظهر المشهيات والحلويات والمخللات والمتبلات .. من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات ويرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان فتقول لنا الإحصاءات بالأرقام إنه يصل إلى الضعف ويصبح شهر رمضان هو شهر الصواني والطواجن .
وبين كل مائة مُصَل أكثر من تسعين يقفون بين يدي الله وهم شاردون مشغولون بصوالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم في الحقيقة يعبدون مصالحهم وأغراضهم ويركعون الركعة لتُقضَى لهم هذه المصالح والأغراض .
وقد عاش بابوات القرون الوسطى في ترف الملوك والسلاطين وسبحوا في الذهب والحرير والسلطة والنفوذ , وامتلكوا الإقطاعيات والقصور بإسم الدين وبإسم الإنجيل الذي يقول إن الغني لن يدخل ملكوت الله إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة .
بل إنهم تصوروا أنهم امتلكوا الجنة فباعوها صكوكًا لطالبي الغفران .
وفي دولة الحب نجد أن مخادعة النفس هي الأسلوب المتعارف عليه .. يخدع كل واحد نفسه ويخدع الآخر أحيانًا بوعي وأحيانًا بدون وعي .. فيتحدث العاشقان عن الحب وهما يريدان أن يقدما مبررًا شريفًا مقبولًا للوصول إلى الفراش .. ويخيل للحبيب أنه قد جن حبّاً وهو في الواقع يلتمس لنفسه وسيلة للهرب من واقع مرير .
كنوع من إظهار البراعة والمهارة أو كمظهر من مظاهر النجاح .
وأحياناً تكون كلمة الحب كذبة معسولة تخفي وراءها رغبة شريرة في الإمتلاك والإستحواذ والسيطرة .
وأحياناً تكون كلمة الحب خطة محبوكة وشِركاً للوصول إلى ميراث .
وهي في أكثر صورها شيوعاً وسيلة للوصول إلى لذّة سريعة وطريقة لتدليك الضمير والتغلب على الخجل ورفع الكلفة .
وهي ذريعتنا الدائمة للتغلب على عقدة الذنب فتخلع المرأة آخر قطعة ثياب وهي تطمئن نفسها بأنها ضحية الحب .. وأن الحب إحساس طاهر وأنه أمر الله وأنه قضاء وقدر .. وأنها ليست أول من أحبت ولا آخر من أعطت .
ولا توجد شبكة حريرية من الأكاذيب كما توجد في الحب .. ففي كل كلمة كذبة .. وفي كل لمسة كذبة .. والغريزة الجنسية ذاتها تكذب فما أسرع ما تشتعل وما أسرع ما تنطفئ . وما أسرع ما تضجر وتمل وتطالب بتغيير الطعام .
والصدق في الحب وقصص الحب نادر أندر من الماس في الصحاري .. وهو من أخلاق الصديقين وليس من أخلاق الغمر العادي من الناس .
وتتواطأ أغاني الحب وقصص الحب وتتآمر هي الأخرى لتنصب شراكاً من الأكاذيب المنمقة الجميلة وترسي دعامات ساحرة من الأوهام والأحلام الوردية والصور البراقة الخادعة عن القبلة والضمة ولقاء الفراش ولذة العذاب وعذاب اللذة ولسعة الحرمان ودموع الوسادة وإغماء السعادة وصحوة الفراق .. وضباب وضباب .. وعطور وصور خلابة مرسومة بريشة فنانين كذابين عظام .
والكذب في الفن عادة قديمة بدأها الشعراء من زمن طويل .
وقصائد المديح وقصائد الهجاء في شعرنا العربي شاهد على انتشار هذه العادة السيئة .
والفن وليد الهوى والخاطر والمزاج .. والمزاج متقلب .
ما أكثر الكذب حقّاً !
إننا لنكذب حتى في الأكل فنأكل حتى ونحن شبعانون .
أين الصدق إذن ؟
ومتى تأتي هذه اللحظة الشحيحة التي نتحرى فيها الحق والحق وحده ؟
إنها تأتي على ندرة .
في معمل العالم الذي يضع عينه على ميكروسكوب بحثاً عن حقيقة .
هنا نجد العقل يتطلع في شوق حقيقي وصادق ويبحث في حياد مطلق .. ويفكر في موضوعية على هدى أرقام دقيقة ومقادير وقوانين .
والعلم بذاته هو النظرة الموضوعية المستقلة عن الهوى والمزاج وأداته الوحيدة .. صدق الإستقراء .. وصدق الفراسة .
واللحظة الأخرى الصادقة هي لحظة الخلوة مع النفس حينما يبدأ ذلك الحديث السري .. ذلك الحوار الداخلي .
تلك المكالمة الإنفرادية حيث يصغي الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أذناً أخرى تتلصص على الخط .
ذلك الإفضاء والإفشاء والإعتراف والطرح الصريح من الأعماق إلى سطح الوعي في محاولة مخلصة للفهم .
وهي لحظة من أثمن اللحظات .
إن الحياة تتوقف في تلك اللحظة لتبوح بحكمتها .
والزمن يتوقف ليعطي ذلك الشعور المديد بالحضور .. حيث نحن في حضرة الحق .. وحيث لا يجوز الكذب والخداع والتزييف .. كما لا يجوز لحظة الموت ولحظة الحشرجة .
إننا نكتشف ساعتها أننا عشنا عمرنا من أجل هذه اللحظة .. وأننا تألمنا وتعذبنا من أجل أن نصل إلى هذه المعرفة الثمينة عن نفوسنا .
وقد تأتي تلك اللحظة في العمر مرة فتكون قيمتها بالعمر كله .
أما إذا تأخرت ولم تأت إلا ساعة الموت .. فقد ضاع العمر دون معنى ودون حكم .. و أكلته الأكاذيب .. وجاءت الصحوة بعد فوات الأوان .
ولهذا كانت الخلوة مع النفس شيئاً ضروريّاً ومقدساً بالنسبة لإنسان العصر الضائع في متاهات الكذب والتزييف .. وهي بالنسبة له طوق النجاة وقارب الإنقاذ .
والإنسان يولد وحده ويموت وحده ويصل إلى الحق وحده .
وليست مبالغة أن توصف الدنيا .. بأنها باطل الأباطيل .. الكل باطل وقبض الريح ..
فكل ما حولنا من مظاهر الدنيا يتصف بالبطلان والزيف .
ونحن نقتل بعضنا بعضاً في سبيل الغرور وإرضاء لكبرياء كاذب .
والدنيا ملهاة قبل أن تكون مأساة .
ومع ذلك نحن نتحرق شوقاً في سبيل الحق ونموت سعداء في سبيله .
والشعور بالحق يملؤنا تماماً وإن كنا نعجز عن الوصول إليه .
إننا نشعر به ملء القلب وإن كنا لا نراه حولنا .
وهذا الشعور الطاغي هو شهادة بوجوده .
إننا وإن لم نر الحق وإن لم نصل إليه وإن لم نبلغه فهو فينا .. وهو يحفزنا .. وهو مثال مطلق لا يغيب عن ضميرنا لحظة وبصائرنا مفتوحة عليه دوماً .
ولحظة التأمل الصافي تقودنا إليه .
والعلم يقودنا إليه .
ومراقبتنا لأنفسنا من الداخل تقودنا إليه .
وبصائرنا تهدي إليه .
والحق في القرآن هو الله .. وهو أحد أسمائه الحسنى .
وكل هذه المؤثرات الداخلية تدل عليه .
وهو متجاوز للدنيا متعالٍ عليها .
نراه رؤية بصيرة لا رؤية بصر .
وتبرهن عليه أرواحنا بكل شوقها وبكل نزوعها .
والعجب كل العجب لمن يسألنا عن برهان على وجود الله .. على وجود الحق .. وهو نازع إليه بكليته مشغوف به بجماع قلبه .
وكيف يكون موضع شك من هو قِلبة كل القلوب ومهوى جميع الأفئدة وهدف جميع البصائر ؟
كيف نشك في وجوده وهو مستولٍ على كل مشاعرنا ؟
كيف نشك في الحق ونطلب عليه دليلاً من الباطل ؟
كيف ننزلق مع المنطق المراوغ إلى هذه الدرجة من التناقض فنجعل من لب الوجود وحقيقة حقائقه محل سؤال ؟
إني لا أجد نصيحة أثمن من أن أقول ليعد كل منا إلى فطرته .. ليعد إلى بكارته وعذريته التي لم تدنسها لفلفات المنطق ومراوغات العقل .
ليعد كل منا إلى قلبه في ساعة خلوة .
وليسأل قلبه .
وسوف يدل قلبه على كل شيء .
فقد أودع الله في قلوبنا تلك البوصلة التي لا تخطئ .. والتي اسمها الفطرة والبداهة .
وهي فطرة لا تقبل التبديل ولا التشويه لأنها محور الوجود ولُبَه ومداره وعليها تقوم كل المعارف والعلوم .
(( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ))
(الروم – 30)
لقد جعل الله هذه الفطرة نازعة إليه بطبيعتها تطلبه دواماً كما تطلب البوصلة أقطابها مشيرة إليه دالة عليه .
فليكن كل منا كما تملي عليه طبيعته لا أكثر .
وسوف تدله طبيعته على الحق .
وسوف تهديه فطرته إلى الله بدون جهد .
كن كما أنت .. وسوف تهديك نفسك إلى الصراط .
مقال / ماذا قالت لي الخلوة ؟!
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝