❞ هدية إلى الأحباب
في تفسير أم الكتاب
ويليه
متن طالب التفسير
تأليف
أبي الحسن هشام
المحجوبي وأبي مريم
عبدالكريم صكاري
طبعة منقحة ومخرجة الأحاديث
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين˝ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ˝ ˝يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا˝ ˝يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)˝
وبعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار أجارنا الله جميعا من النار.
إن الله تعالى خلق الجن والإنس وأمرهم بعبادته فقال عزَّ من قائل ˝ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)˝ وبين سبحانه وتعالى كيفية عبادته في الكتب التي أنزل على أنبيائه وآخرها وأفضلها وناسخها القرآن الكريم قال تعالى: ˝ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ˝ ولايمكن أن يصل الإنسان إلى العبادة الصحيحة التي ترضي الله تعالى إلا من طريق علم التفسير الذي هو: علم يبحث في الكشف عن معاني القرآن على مراد الله وبمنهاج رسول الله وأصحابه
, لذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحفظون عشرة آيات من القرآن فلا يتعدونها حتى يعلموا معناه ويعملوا بما فيها
, عن ابن مسعود
, قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ
, ˝
فعلم التفسير يوصل إلى الفهم الصحيح للقرآن والفهم الصحيح يوصل إلى العمل الصحيح والعمل الصحيح يوصل إلى رضوان الله ورضوان الله يوصل إلى الجنة
, لذا يعد علم التفسير سيد العلوم وأشرفها وسبيل النجاة من الضلالات والانحرافات والخرافات.
وجميع العلوم الشرعية خادمة له فلا يمكن أن يفسر عالم القرآن حتى يكون ملما باللغة العربية التي هي لغة القرآن وعلم العقيدة وعلم أصول الفقه والفقه وعلم مصطلح الحديث وعلم السير والمغازي
, ومن بركات هذا العلم الكريم أن فاهم القرآن يتخشع في صلاته ويتدبر معانيه ويتلذذ بقراءته ما يدفعه إلى حفظ القرآن والإكثار من قراءته والتهجد والتنفل به قال تعالى: ˝ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ˝ وقال أبو جعفر ابن جرير الطبري: ˝ إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله
, كيف يلتذ بقراءته ˝ .
وقد ورد في فضل طالب العلم الجليل أن رحمة الله تغشاه وتنزل عليه الملائكة والسكينة ويذكره الله في الملإ الأعلى
, ففي الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني عن أَبِي هُرَيْرَةَ
, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى
, يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ
, إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ
, وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ
, وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ
, وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ»
و أفضل سور القرآن الفاتحة
, فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
, قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
, سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ
, فَرَفَعَ رَأْسَهُ
, فَقَالَ: ˝ هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ
, فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ
, فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ
, فَسَلَّمَ
, وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ
, وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
, لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ ˝ وعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى
, قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ
, فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ
, فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
, إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي
, فَقَالَ: ˝ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]. ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ
, قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ» . ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي
, فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ
, قُلْتُ لَهُ: «أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»
, قَالَ: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] «هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي
, وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»
و سميت بالفاتحة لأن المصحف يفتح بها وتفتح بها الصلاة
, فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
, قال
, قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
ومن أسمائها: أم الكتاب وأم القرآن
, قَال رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» أي المشتملة على أصول معاني القرآن اللذان هما توحيد الله واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم
, فالأصل الأول مضمن من أولها إلى قوله تعالى: ˝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ˝ والأصل الثاني مضمن من قوله تعالى ˝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ˝ إلى آخرها ـ ومن أسمائها السبع المثاني والقرآن العظيم أي آياتها السبع التي استثنيت بها أمة النبي صلى الله عليه وسلم بالتفضيل على باقي الأمم قال تعالى: ˝ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ˝ و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ» و من أسمائها الراقية لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرقي بها من الأمراض فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
, قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا
, حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ
, فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ
, فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ
, فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ
, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا
, لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ
, فَأَتَوْهُمْ
, فَقَالُوا: يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ
, وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ
, فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ
, وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْقِي
, وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا
, فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا
, فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ
, فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ
, وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ
, فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَابِهِ قَلَبَةٌ
, قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ
, فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اقْسِمُوا
, فَقَالَ الَّذِي رَقَى: لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ
, فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا
, فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ
, فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»
, ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ
, اقْسِمُوا
, وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا »فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا˝ ومن أسمائها الشافية أي يشفي الله بها عباده من الأمراض المعنوية كالضلال والأمراض الحسية
, قال صلى الله عليه وسلم: ˝ فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ˝ومن أسمائها الحمد لأنها تبتدئ به قال تعالى: ˝الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
و من أسمائها الصلاة أي روحها الصلاة وقيل لا تصح الصلاة إلا بها فعن أبي هريرة قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ˝ قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ
, وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ
, فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]
, قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي
, وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 1]
, قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي
, وإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
, قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي – وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي – فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
, وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ
, فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ˝
وقد سماها بعض العلماء بالكنز والأساس والكافية والواقية وغير ذلك.
فهي سورة مكية أي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وقيل مدنية وقيل نزل نصفها في مكة ونصفها في المدينة
, وقيل نزلت مرتين في مكة وفي المدينة
, والصحيح المشهور بين المفسرين القول الأول.
ولأن المؤمن يقرأ هذه السورة على الأقل سبع عشرة مرة في اليوم في صلواته المفروضة
, أقبلنا على تفسير هذه السورة العظيمة بأسلوب ميسر ومفصل وجامع لأجود ما ذكره سادتنا المفسرون في تفاسيرهم راجين من الله تعالى القبول والثواب وأن يجمعنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومع خدمة كتابه الكريم في جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تفسير الاستعاذة:
اتَّفق المفسِّرون أن(الاستعاذة)ليست من القرآن
, وأشهر صِيغها الواردة في السُّنة: ˝أعوذ بالله من الشيطان الرجيم˝
, ˝أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم˝
, وزِيد عليهما في بعض الروايات ˝من همزه ونفثه ونفخه˝
, وقد اشتق البعض من القرآن: ˝أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ˝ و ˝أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ˝ و˝أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ˝و ˝أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ˝
ويَجوز فيها السر والجهر على المشهور
, وقد اختلف العلماء في موضع قراءتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها قبل القراءة؛ لأن العِلة منها طرد وساوس الشيطان عند القراءة
, وقدَّروا فِعل: فإذا أردت أن تقرأ القرآن
, ˝فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ˝.
القول الثاني: يُحكى عن أبي هريرة وبعض العلماء أنها تكون بعد القراءة لطرد عُجب النفس والسُّمعة وعمَلاً بظاهر الآية: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ النحل: 98.
القول الثالث: ذهب بعض المفسِّرين إلى مشروعيتها قبل القراءة وبعدها عملاً بالوجهين
, والمشهور القول الأول
, وقد اختلفوا في حُكمها
, فذهبت طائفة من أهل العلم إلى وجوبها؛ لأن الأمر يفيد الوجوب ما لم تصرفه القرينة
, والصحيح - والله تعالى أعلم - أن الأمر مصروف إلى الاستحباب لقرينة أنه صلى الله عليه وسلم استدل ببعض الآيات من غير أن يستعيذ
, فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ
, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»
, ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ أي: ألتجئ وأعتصم وأتحَصَّن بالله من أذى الشيطان الرجيم
, و˝أعوذ˝ فعل مضارع يُفيد الاستمرار عكس الفعل الماضي الذي يفيد الانقطاع
,
والمعنى كأن الله تعالى يأمرنا بالمداومة على الاستعاذة؛ لأن الشيطان عَدُوٌّ مبين لا يَملُّ ولا يَكلُّ مِن سعْيه لإضلال الإنسان؛ قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168
, وقال على لسانه: ﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ الأعراف: 16
, 17
, وفي الحديث: ((إن الشيطان يبعث في الصباح سراياه فيقول من يُضلُّ اليوم مُسلمًا أُلبسه التاجَ))
وقد بُدئ الفعل المضارع بهمزة المضارعة لفائدتين - والله تعالى أعلم:
الفائدة الأولى: استدعاء حضور القلب عند القراءة؛ لأن الهمزة تُفيد الحضور.
الفائدة الثانية: استِشعار التواضع والتبرُّؤ من الكِبْر الذي أضل الشيطان
, لأن الهمزة تُفيد الإفراد
, ولو كانت بدَلها النون لأفادت الإحساس بالتعظيم.
الله: أصل الأسماء الحسنى وأعظمها
, وهو المعبود الذي يتقرَّب إليه العباد بشتى الطاعات حبًّا وتعظيمًا
, مشتق من ألَه يأْله إلهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة؛ ففي قراءة ابن عباس: ﴿ وَيَذَرَكَ وَإلَهَتَكَ ﴾
, وقيل: الذي حيَّر العقول
, مشتقٌّ من الولَه؛ أي: الحيرة وهو بعيد
, وقيل: غير مشتق
, والصحيح المشهور: القول الأول.
وأما الشيطان فهو الجِنِّي أو الإنسيُّ الكافر المُحارِب للإسلام
, مشتقٌّ من شَطَن أي: بعُد عن رحمة الله
, وقيل: الشِّياط
, والمقصود في هذا السياق شيطان الجنِّ.
الرجيم: وصف له
, وهو مفعول في معناه على وزن فعيل
, قيل: سُمِّي بالرجيم لأنه أتى إبراهيم عليه السلام وهاجر وإسماعيل في منى
, فاستعطف إبراهيمَ حتى لا يذبح ولده
, فقال: أعوذ بالله منك فرجمه
, ثم استعطف هاجر على ولدها فقالت: أعوذ بالله منك فرجمته
, ثم استعطف إسماعيل عليه السلام على نفسه
, فقال: أعوذ بالله منك فرجمه˝
, فصار الرجم من مناسك الحج إلى يوم القيامة
,
وقيل: سُمِّي بالرجيم؛ لأنه يسترق السمع في السماء فترجُمُه الملائكة؛ قال سبحانه: ﴿ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ ﴾ [الحجر: 18]
, وقيل: وُصف بذلك لأن أتباعه يرجمونه في النار.
السميع: اسم من أسماء الله الحسنى
, ومعناه الذي لا يَخفى عليه صوت مهما خَفُت
, وينقسم إلى سمع عام وهو الذي عرفناه
, وسمع خاص ومعناه: الذي يستجيب دعاء عباده.
وأما العليم: فهو من أسماء الله الحسنى
, ومن أسمائه أيضًا: العالم والعلّام والأعلم والخبير
, ومعناه: صاحب العلم الواسع المطلق؛ بحيث لا يَخفى عليه شيء.
وأما الهمز والنفث والنفخ
, فالهمز: جنس من الجنون يُقال له: الموتة
, والنفث: الشِّعر القبيح
, والنفْخ: الكِبر
, فعن ابن جبير بن مطعم
, عن أبيه
, أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة
, قال عمرو: لا أدرى أي صلاة هي
, فقال: ((الله أكبر كبيرًا
, الله أكبر كبيرًا
, الله أكبر كبيرًا
, والحمد لله كثيرًا
, والحمد لله كثيرًا
, والحمد لله كثيرًا
, وسبحان الله بكرة وأصيلاً)) ثلاثًا
, ((أعوذ بالله من الشيطان من نفخه
, ونفثه
, وهمزه))
, قال: نفثه: الشِّعر
, ونفخه: الكبر
, وهمزه: الموتة.
تفسير البسملة
فالبسملة اختصار لـ ˝بسم الله الرحمن الرحيم˝ كالحمدلة والصلصلة والحوقلة
, جاء في فضلها حديث موقوف حُكمه الرفع
, عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ˝مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنَ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيجعل اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا جُنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ˝ .
ومعناها الإجمالي: طلب العون والبركة من الله وأسمائه الحسنى صاحِبِ الرحمة الشاملة والخاصة قبل الشروع في القول أو الفعل.
فالباء للاستعانة والتبرُّك
, و˝اسم˝ مجرور بالباء وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره
, ومعناه اللفظ الذي وُضع للشيء لِرِفعة شأنه وتمييزه عن غيره
, مشتق من السُّموِّ
, وقيل: من السِّمة
, والمعنى هنا: أستعين وأتبرك بجميع أسماء الله الحسنى؛ لأن المفرد المضاف يفيد العموم
, كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]؛ أي: جميع نعم الله؛ لأن ﴿ نِعْمَةَ ﴾ مفرد مضاف إلى اسم الجلالة.
الله: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره
, وهو أعظم اسم من أسماء الله الحسنى؛ لذلك جاء مُبَيَّنًا بعد العموم؛ لأن الخاص بعد العام يفيد الأهمية والشرف
, ومعناه المعبود الذي يَتقرب إليه العباد حبًّا وتعظيمًا بشتى الطاعات
, مشتق من ألَه يأْله إلاهة؛ أي: عَبَد يعبد عبادة
, قال سبحانه: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُو ﴾ [الحشر: 22]
, وقد استنبط المحققون من أهل العلم من هذا الاسم العظيم أن المخلوقات في الأصل لا أول لها؛ لأنه سبحانه وتعالى الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء في ذاته وأسمائه وصفاته
, ويلزم من هذا الاسم وجود العباد له
, فالمخلوقات في جنسها وأفرادها لها أوَّل كما لها آخر
, أما في أصل الخَلق فلا أول له؛ لأن من أسمائه اللهَ والخالق والرب وغيرها
, والله تعالى أعلم.
الرحمن الرحيم: اسمان عظيمان من أسماء الله الحسنى
, قال تعالى: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]
, وهما بدل من الله تابعان له في جره
, وقيل: نعت.
الرحمن: على وزن فعلان
, وهذا الوزن يفيد السَّعَة والامتلاء؛ أي: صاحب الرحمة الشاملة التي تشمل جميع الخَلق
, فلولاها لما رُزق الكافر قطرة ماء
, قال سبحانه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ [طه: 5]
, فعرشه سبحانه يتوسط الكون ويعلوه
, وهو سبحانه وتعالى فوق عرشه يُغدق رحمته على جميع خلقه.
الرحيم: على وزن فعيل؛ أي: صاحب الرحمة الخاصة بالمؤمنين
, فبها وُفِّقوا إلى طاعته وأُدخِلوا الجنة
, قال تعالى: ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 43]
, وفي الحديث الصحيح: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ
, فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ
, وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ
, وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا
, وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً
, يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
, فالجزء الأول يرجع إلى اسم الرحمن
, والتسعة والتسعون جزءًا يرجعون إلى اسم الرحيم.
وقيل: الرحمن الذي إذا سُئل أعطى
, والرحيم إذا لم يُسأل يغضب
, وهما مشتقان من الرحم
, قال النبي صلى الله عليه وسلم: ˝قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي فَمَنْ وصلها وصلته ومن قطعها بتته˝ .
والجار والمجرور متعلق بفعل تقديره: ˝أبدأ˝
, ويجوز أن يُقدَّر اسمًا ˝ابتدائي˝ على أنه مبتدأ
, والمشهور أن يُقدَّر فعلاً لبلاغته
, ويجوز أن يُقدَّر خاصًّا: أقرأ أو أتلو
, والأفضل - والله أعلم - أن يُقدر عامًّا ˝أبدأ˝؛ لأنه يشمل جميع العبادات والأفعال
, فمثلاً تلاوة القرآن فيها القراءة والتدبر والنظر إلى المصحف.
والأصل أن يُقدَّر في أول الكلمة: ˝أبدأ بسم الله الرحمن الرحيم˝
, لكن الأفضل أن يُقدر في آخرها: ˝بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ˝؛ لأن تأخير ما حقُّه التقديم يفيد الحصر والقصر والاختصاص
, فيكون المعنى: أي لا أطلب العون والبركة إلا من الله
, وفي هذا إدخال للتوحيد في البسملة
, الذي هو إفراد الله بالعبادة.
وقد ذهب أكثر العلماء إلى استحبابها قبل الأقوال والأفعال؛ فبِها بدأ الله كلامه
, وكان يبدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل أكله وشربه وجِماعه ودخوله إلى الخلاء ودخوله إلى البيت وخروجه منه
, وغير ذلك.
واتفق العلماء أنها جزء آية من سورة النمل: ﴿ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [النمل: 29
, 30]
, وأنها ليست في أول سورة التوبة التي فُضح فيها المنافقون ووُعدوا فيها بأشد العذاب
, فلا يليق أن تُبدأ برحمة الله
,
واختلفوا هل هي جزء آية من أول كل سورة
, أو آية
, أو ليست بآية أصلاً
, أو آية من سورة الفاتحة؟ والصحيح - والله تعالى أعلم - الذي ترجح لنا أنها آية منفردة في المصحف ليست من السور
, أُنزلت للفصل بينها
, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الفصل ما بين السورة والسورة
, حتى ينزل عليه جبريل بـ˝بسم الله الرحمن الرحيم˝.
ويجوز الإسرار بها والجهر في الصلاة وغيرها؛ جمعًا بين الروايات.
وقد بيَّن القُرَّاء أوجه قراءتها
, فأباحوا جميع الأوجه
, ومنعوا واحدًا:
الأوجه الجائزة:
أولاً: الفصل بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثانيًا: الجمع بينها وبين آخر السورة وأول السورة التي تليها.
ثالثًا: الفصل بينها وبين آخر السورة وجمعها بأول السورة التي تليها.
رابعًا: حذفها بالكلية.
أما الوجه الممنوع؛ فهو جمعها بآخر السورة وفصلها عن أول السورة التي تليها؛ مخافة أن يُظنَّ أنها من آخر السورة
, وفيه تعطيل لمعناها المتعلق بالبدء لا بالانتهاء.
فهذا تفسير البسملة الذي ينبغي لكل طالب علم أن يَعْلَمه ويُتقنه؛ لوجودها في أول كلام الله وأوائل المتون والكتب العلمية
, ولكل مسلم؛ حتى يحضر قلبه ويخشى ربه ويتذوق حلاوة البَدء بها.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)}:
إعراب الآية:
الحمد: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
لله: ل: حرف جر
, الله: اسم جلالة مجرور اختياري وعلامة جره الكسرة الظاهرة في آخره
, وشبه جملة من الجار والمجرور في محل رفع خبر مبتدأ.
رب: بدل من الله تابع له في جره وقيل نعت تابع له في جره وهو مضاف.
العالمين: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء.
وجه المناسبة بين البسملة وهذه الآية والله تعالى أعلم أن الله تعالى يعد قارئ القرآن ومفسره والعامل به بالرحمة الواسعة في الدنيا والآخرة
و المعنى الإجمالي للآية أي جميع الثناء والشكر والمدح مستحق لله تعالى خالق ومالك ومدبر جميع شؤون خلقه ˝فالحمد˝ هو الثناء على شيء بحب وتقدير وهو قريب من الشكر والمدح
, فالفرق بينه وبين الشكر من وجهين.
فالحمد أعم من الشكر من جهة السبب فهو يكون مقابل الإحسان وفي غيره
, نقول: ˝ فلان يحمد على حسن خلقته ˝ كما يقال: ˝ يحمد على حسن ضيافته ˝ فأما الشكر فلا يكون إلا مقابل الإحسان فهو أعم من الحمد من جهة الآلة فهو يكون باللسان والجوارح وأما الحمد فيكون باللسان قال تعالى: ˝اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ˝سورة سبأ – الآية: 12
, فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ
, فَقَالَتْ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
, وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا»
و أما الفرق بين الحمد والمدح:
-فالحمد يكون بحب وأما المدح فيكون بحب وبغير حب.
- والحمد يكون للعاقل والمدح يكون للعاقل وغير العاقل نقول مدح شاعر الحمراء مراكش
,
- والحمد يكون موجزا وأما المدح فيكون في الأغلب أوسع من الحمد
, وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الحمد أفضل ذكر بعد القرآن الكريم لأن الله تعالى بدأ به كتابه الكريم وأثنى به على نفسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ به خطبه
, إذ ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ به خطبه فيقول:
«إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ
, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ
, مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ
, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ
, وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
, وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
, أَمَّا بَعْدُ» و هو ذكر أهل الجنة يلهمونه كما يلهمون النفس فهو في الدنيا تكليف وفي الآخرة تشريف
, قال تعالى: ˝ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ˝. سورة يونس الآيات: 9- 10
و هو ذكر الحافين بالعرش قال تعالى: ˝وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝ سورة الزمر - الآية: 75
و لازِمه جميع معاني الأذكار فما استَحق الثناءَ سبحانه وتعالى إلا وهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له المنزه عن النقص والرذائل الأكبر من كل شيء
, وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ˝ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ˝ : فيحمل على من أفضل
, ومثال ذلك عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ
, قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ
, مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: ˝ أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
, وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ ˝
, قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْإِيمَانُ ˝
, قَالَ: وَمَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: ˝ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
, وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ˝
, قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْهِجْرَةُ ˝
, قَالَ: فَمَا الْهِجْرَةُ؟ قَالَ: ˝ تَهْجُرُ السُّوءَ ˝
, قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ الْجِهَادُ ˝
, قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: ˝ أَنْ تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إِذَا لَقِيتَهُمْ ˝
, قَالَ: فَأَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ˝ مَنْ عُقِرَ جَوَادُهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ ˝
, قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ˝ ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا: حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ˝
˝ رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
˝رَبِّ ˝: الرب لغة: السيد أو المالك نقول رب الأسرة
, وقال سيدنا يوسف على العزيز ˝ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ˝سورة يوسف – الآية: 23
و شرعا: هو الخالق المالك المدبر
, من أسماء الله الحسنى المتضمنة لصفات أصلية لازمها باقي صفات الكمال فهو سبحانه ما كان خالقا ومالكا ومدبرا حتى كان عليما خبيرا غنيا حكيما رزاقا.
˝الْعَالَمِينَ˝: جمع عالم قيل هو كل جنس مخلوق عاقل كعالم الملائكة وعالم الإنس وعالم الجن
, وقيل كل جنس مخلوق فيه روح
, وقيل كل جنس مخلوق على الإطلاق وهو الصحيح المشهور.
فهذه الآية الكريمة اشتملت على أصل الإسلام العظيم الذي هو التوحيد فتوحيد الألوهية مضمن في قوله تعالى ˝: الحمد لله ˝ وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات مضمن في قوله تعالى: ˝رَبِّ الْعَالَمِينَ ˝
, وهنا لنا وقفة لبيان التوحيد.
إنّ توحيد الله لا يتحقق إلا إذا قام على التصديق بأن الله هو الربّ والإله الذي لا شريك له ولا مثيل.
لقد أكد كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على حقيقة التوحيد في صيغ متعددة. فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1- 4]
, وقوله تعالى: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾سورة البقرة – الآية: 163
, وقوله: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ المائدة - الآية: 73
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ˝لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ˝إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيه أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى...˝
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ˝بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ
, وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ ˝