لم يكن الكرسي سوى قطعة خشب صامتة، مغطاة بقطعة قماشٍ باهتة. لكنه حين خلا، صار أثقل من مائة حضور. كان الفراغ الذي يتركه الجالس أشد حضورًا من أي إنسان.
في قاعةٍ مزدحمة، يمكنك أن ترى الكراسي مملوءة بالوجوه، متلاصقة بالضحكات أو الصمت. غير أن عينك — بلا وعي — تستقر على ذلك الكرسي الفارغ. وكأن غيابه يصرخ أعلى من أصوات الحاضرين جميعًا.
ذلك الكرسي لم يكن عاديًا. كان كرسيًّا محجوزًا لشخص لم يأتِ. لحظة غيابه كشفت حقيقة الحضور كلهم: أن لكل واحدٍ فينا فراغًا ينتظر من يملؤه، وأنّ كل مكان لا يصبح كاملًا إلا بمن نحب.
تساءلت: لماذا يحمل الكرسي الفارغ هذه السلطة؟ أليس هو جمادًا؟ ربما لأنه يذكّرنا بما نفقد. الأشياء الناقصة دائمًا أكثر تأثيرًا من المكتملة؛ فالنقص يثير فينا الرغبة، والحنين، والخوف معًا.
أتذكر أنني جلستُ يومًا في مطعم صغير. أمامي طاولة تتسع لاثنين. طلبتُ طعامًا لشخص واحد، لكن النادل أعاد السؤال: \"هل أنت وحدك؟\" وكأن حضوري لم يكتمل إلا بظلّ شخص آخر يجلس على الكرسي المقابل. نظرتُ إلى الكرسي الخالي طويلًا، وكدتُ أمدّ يدي لأصافحه.
الكرسي الفارغ هو المرآة التي تكشف أعمق وحداتنا. إنه يسألنا بلا صوت: \"لمن كنتَ تود أن يكون هنا؟\" وكل قلبٍ يجيب بصمته، بأسماءٍ لا تُقال، بذكرياتٍ لا تُمحى.
في الاجتماعات الرسمية، يُترك كرسي فارغ أحيانًا احترامًا لغائبٍ عظيم، أو رمزًا لفقيد. كأن الحضور نفسه يتسع للغياب، وكأننا نعترف أن الفراغ أحيانًا أبلغ من الامتلاء.
غير أن أشدّ الكراسي قسوة هو ذاك الذي يظل فارغًا إلى الأبد. كرسيّ الأب بعد رحيله، كرسيّ الأم التي غابت، كرسيّ الصديق الذي سافر ولم يعد. هذه المقاعد تتحول إلى علامات على الجرح، لا نجرؤ أن نملأها بآخرين، لأنها لم تُخلق إلا لأصحابها.
أحيانًا، يزورني حلم غريب: أرى قاعة مليئة بالكراسي، وكلها فارغة إلا كرسيًّا واحدًا أجلس فيه. أظل أنظر إلى المقاعد الفارغة من حولي، وأشعر أنني محاصر بغياباتٍ لا تُحصى. أستيقظ حينها بارتباك، كأن الفراغ يطاردني حتى من وراء النوم.
لكنّ الفراغ ليس عدوًّا دائمًا. الكرسي الفارغ يمكن أن يكون وعدًا. وعدًا بأن أحدهم سيأتي. بأن الحياة، مهما بدت ناقصة، تحمل دائمًا احتمال الامتلاء. الفراغ ليس فقط رمزًا للفقد، بل أيضًا مساحة للانتظار، نافذة للأمل.
تعلمت من الكرسي الفارغ أن أحترم الغياب بقدر ما أحتفي بالحضور. أن أترك مساحة في حياتي لمن رحلوا ولمن قد يجيئون. وأنني، مهما ملأت مقاعد الدنيا، سيظل في داخلي كرسي فارغ واحد لا يمسه أحد، إلا ذاك الذي خُلق لأجله.
وفي النهاية، ربما يكون الكرسي الفارغ درسًا مكتوبًا بالخشب: أن وجودنا لا يُقاس بعدد الحاضرين حولنا، بل بمن نفتقدهم ونحن جالسون بينهم.
يتبع الفصل السادس
لم يكن الكرسي سوى قطعة خشب صامتة، مغطاة بقطعة قماشٍ باهتة. لكنه حين خلا، صار أثقل من مائة حضور. كان الفراغ الذي يتركه الجالس أشد حضورًا من أي إنسان.
في قاعةٍ مزدحمة، يمكنك أن ترى الكراسي مملوءة بالوجوه، متلاصقة بالضحكات أو الصمت. غير أن عينك — بلا وعي — تستقر على ذلك الكرسي الفارغ. وكأن غيابه يصرخ أعلى من أصوات الحاضرين جميعًا.
ذلك الكرسي لم يكن عاديًا. كان كرسيًّا محجوزًا لشخص لم يأتِ. لحظة غيابه كشفت حقيقة الحضور كلهم: أن لكل واحدٍ فينا فراغًا ينتظر من يملؤه، وأنّ كل مكان لا يصبح كاملًا إلا بمن نحب.
تساءلت: لماذا يحمل الكرسي الفارغ هذه السلطة؟ أليس هو جمادًا؟ ربما لأنه يذكّرنا بما نفقد. الأشياء الناقصة دائمًا أكثر تأثيرًا من المكتملة؛ فالنقص يثير فينا الرغبة، والحنين، والخوف معًا.
أتذكر أنني جلستُ يومًا في مطعم صغير. أمامي طاولة تتسع لاثنين. طلبتُ طعامًا لشخص واحد، لكن النادل أعاد السؤال: ˝هل أنت وحدك؟˝ وكأن حضوري لم يكتمل إلا بظلّ شخص آخر يجلس على الكرسي المقابل. نظرتُ إلى الكرسي الخالي طويلًا، وكدتُ أمدّ يدي لأصافحه.
الكرسي الفارغ هو المرآة التي تكشف أعمق وحداتنا. إنه يسألنا بلا صوت: ˝لمن كنتَ تود أن يكون هنا؟˝ وكل قلبٍ يجيب بصمته، بأسماءٍ لا تُقال، بذكرياتٍ لا تُمحى.
في الاجتماعات الرسمية، يُترك كرسي فارغ أحيانًا احترامًا لغائبٍ عظيم، أو رمزًا لفقيد. كأن الحضور نفسه يتسع للغياب، وكأننا نعترف أن الفراغ أحيانًا أبلغ من الامتلاء.
غير أن أشدّ الكراسي قسوة هو ذاك الذي يظل فارغًا إلى الأبد. كرسيّ الأب بعد رحيله، كرسيّ الأم التي غابت، كرسيّ الصديق الذي سافر ولم يعد. هذه المقاعد تتحول إلى علامات على الجرح، لا نجرؤ أن نملأها بآخرين، لأنها لم تُخلق إلا لأصحابها.
أحيانًا، يزورني حلم غريب: أرى قاعة مليئة بالكراسي، وكلها فارغة إلا كرسيًّا واحدًا أجلس فيه. أظل أنظر إلى المقاعد الفارغة من حولي، وأشعر أنني محاصر بغياباتٍ لا تُحصى. أستيقظ حينها بارتباك، كأن الفراغ يطاردني حتى من وراء النوم.
لكنّ الفراغ ليس عدوًّا دائمًا. الكرسي الفارغ يمكن أن يكون وعدًا. وعدًا بأن أحدهم سيأتي. بأن الحياة، مهما بدت ناقصة، تحمل دائمًا احتمال الامتلاء. الفراغ ليس فقط رمزًا للفقد، بل أيضًا مساحة للانتظار، نافذة للأمل.
تعلمت من الكرسي الفارغ أن أحترم الغياب بقدر ما أحتفي بالحضور. أن أترك مساحة في حياتي لمن رحلوا ولمن قد يجيئون. وأنني، مهما ملأت مقاعد الدنيا، سيظل في داخلي كرسي فارغ واحد لا يمسه أحد، إلا ذاك الذي خُلق لأجله.
وفي النهاية، ربما يكون الكرسي الفارغ درسًا مكتوبًا بالخشب: أن وجودنا لا يُقاس بعدد الحاضرين حولنا، بل بمن نفتقدهم ونحن جالسون بينهم.
يتبع الفصل السادس
❞ حكايات لا يعرفها أحد
✍️ تأليف: هاني الميهى
---
الفصل الخامس: الأحلام المؤجَّلة
> ليس كل ما يولد يكبر، فبعض الأحلام تولد في لحظة شغف ثم تُحاصَر حتى تذبل. الإنسان لا يخون نفسه دائمًا بالكلمات أو بالأفعال، بل أحيانًا يخونها بالتأجيل. أن يقول: \"سأفعل غدًا\" وهو يعلم في قرارة نفسه أنّ الغد قد لا يأتي. وما أكثر ما امتلأت القلوب بمقابر صغيرة، فيها أحلام لم ترَ النور.
1 – بداية الحكاية
كل إنسان يبدأ حياته بمخزون من الأحلام: طفل يحلم بالطيران، شاب يحلم بالحب، فتاة تحلم بالحرية، رجل يحلم بمكانته، امرأة تحلم بصوتها مسموعًا. لكنّ المسافة بين الحلم والواقع ليست قصيرة، والرحلة لا تخلو من مطبّات. في الطريق، يواجه المرء نصائح الخائفين، وقيود المجتمع، وأثقال الحاجة اليومية. فيؤجّل حلمه مرّة بحجّة الوقت، وأخرى بحجّة الظروف، وثالثة بحجّة أنّ \"الفرصة لم تأت بعد\". وهكذا يتراكم التأجيل حتى يصبح هو نفسه قفصًا.
2 – وهم الغد
الغد هو أكبر خدعة اخترعها الإنسان ليبرّر استسلامه. يظنّ أنّ المستقبل متّسع، وأنّ ما لا يفعله اليوم يمكن تعويضه غدًا. لكنّ الغد يتوالى غدًا بعد غد، حتى يصبح سلسلة ممتدّة من الأيام المؤجّلة. وفي كل يومٍ يكتشف أنّ طاقته أقل، وحماسه أضعف، وشجاعته أخفت. في النهاية، يلتفت إلى الوراء ليجد أنّ الأحلام لم تمت فجأة، بل تآكلت ببطء في انتظار غدٍ لم يأتِ.
3 – أثر الصراع الداخلي
التأجيل لا يقتل الحلم فقط، بل يقتل صاحبه من الداخل. فكل حلم مؤجَّل يترك وراءه شعورًا بالذنب، كأنّ الإنسان خان نفسه عمدًا. هذا الشعور يتحوّل إلى عبءٍ يومي، يجعل صاحبه يعيش في حالة صراع دائم: بين ما يتمنّى أن يكون، وما يرضى أن يظلّ عليه. وربما يبدو للآخرين إنسانًا ناجحًا، مستقرًّا، لكنه في داخله يعرف أنّه يعيش نصف حياة، لأنّ نصفه الآخر ما زال عالقًا في أحلام لم تُنفَّذ.
4 – قصص صغيرة
الحياة مليئة بقصص الأحلام المؤجَّلة. شاب أراد أن يعزف، لكنّه انشغل بوظيفة ثابتة. امرأة أرادت أن تكتب، لكنّها خافت من رأي الناس. رجل أراد أن يسافر، لكنّه انتظر الوقت المناسب الذي لم يأتِ. فتاة أرادت أن تحب، لكنّها رضيت بالصمت خوفًا من الرفض. كلّهم ظنّوا أنّهم يحسنون التصرّف بالتأجيل، لكنّهم اكتشفوا بعد أعوام أنّ التأجيل كان اختيارًا آخر للهزيمة.
5 – الزمن كخصم
الزمن لا ينتظر أحدًا. كل يوم يمرّ يُقصي حلمًا إلى الخلف. وكل سنة تنقضي تُنقص من قدرة الإنسان على المحاولة. وما يبدو سهلًا في العشرين يصير أصعب في الثلاثين، وأثقل في الأربعين، وأقرب إلى المستحيل بعد ذلك. الزمن لا يعاقب الإنسان على أحلامه، بل على عدم سعيه لها. وما لا يُزرع في أوانه لا يُحصد أبدًا، حتى لو ظلّت البذور محفوظة في الأدراج.
6 – تواطؤ المجتمع
المجتمع نفسه شريك في هذه الجريمة الصامتة. فهو يبارك \"العقلانية\" الزائدة، ويصفّق لمن يضحّي بأحلامه بحجّة المسؤولية. يقولون للشاب: \"الموسيقى لا تطعم خبزًا.\" ويقولون للفتاة: \"الكتابة لا تبني بيتًا.\" ويقولون للرجل: \"الاستقرار أولى من المغامرة.\" هكذا يُشجّعون على التأجيل باسم الحكمة، بينما هم في الحقيقة يقتلون الجرأة في مهدها.
7 – لحظة الإدراك
لكن تأتي لحظة يفيق فيها الإنسان فجأة، ربما على مشهدٍ بسيط: رؤية طفل يجري وراء حلمه دون خوف، أو سماع أغنية قديمة تذكّره بما كان يريد أن يكون. حينها يدرك فجأة أنّه لم يعد شابًّا كما كان، وأنّ ما أخّره سنواتٍ طوال صار عبئًا فوق طاقته. قد يصرخ في داخله: \"لو كنت بدأت منذ ذلك اليوم، لكنت اليوم في مكانٍ آخر!\" لكنّ الإدراك المتأخّر لا يُرجع الزمن.
8 – بين الموت والحياة
الأحلام المؤجَّلة لا تموت تمامًا، بل تبقى حيّة كأشباح. تطلّ برأسها كلما جلس الإنسان في صمته، كلما رأى من يجرؤ على ما لم يجرؤ هو عليه. وتلك الأشباح تذكّره دائمًا بأنّ هناك حياة أخرى كان يمكن أن يعيشها، لكنه لم يفعل. وهكذا يعيش بين موتٍ لم يقع، وحياة لم تُعَش، عالقًا في منطقة رمادية من الحسرة والاحتمال.
9 – السؤال المفتوح
فهل هناك مخرج؟ هل يمكن للإنسان أن يستعيد حلمًا مؤجَّلًا حتى بعد أن شاخ الزمن؟ أم أنّ الأحلام مثل الزهور: إذا لم تُقطَف في موسمها ذبلت إلى الأبد؟ وهل الذنب الأكبر أن يحلم الإنسان بما لا يحقّقه، أم أن يتنازل عن الحلم قبل أن يحاول؟
> ليس كل ما يولد يكبر، فبعض الأحلام تولد في لحظة شغف ثم تُحاصَر حتى تذبل. الإنسان لا يخون نفسه دائمًا بالكلمات أو بالأفعال، بل أحيانًا يخونها بالتأجيل. أن يقول: ˝سأفعل غدًا˝ وهو يعلم في قرارة نفسه أنّ الغد قد لا يأتي. وما أكثر ما امتلأت القلوب بمقابر صغيرة، فيها أحلام لم ترَ النور.
1 – بداية الحكاية
كل إنسان يبدأ حياته بمخزون من الأحلام: طفل يحلم بالطيران، شاب يحلم بالحب، فتاة تحلم بالحرية، رجل يحلم بمكانته، امرأة تحلم بصوتها مسموعًا. لكنّ المسافة بين الحلم والواقع ليست قصيرة، والرحلة لا تخلو من مطبّات. في الطريق، يواجه المرء نصائح الخائفين، وقيود المجتمع، وأثقال الحاجة اليومية. فيؤجّل حلمه مرّة بحجّة الوقت، وأخرى بحجّة الظروف، وثالثة بحجّة أنّ ˝الفرصة لم تأت بعد˝. وهكذا يتراكم التأجيل حتى يصبح هو نفسه قفصًا.
2 – وهم الغد
الغد هو أكبر خدعة اخترعها الإنسان ليبرّر استسلامه. يظنّ أنّ المستقبل متّسع، وأنّ ما لا يفعله اليوم يمكن تعويضه غدًا. لكنّ الغد يتوالى غدًا بعد غد، حتى يصبح سلسلة ممتدّة من الأيام المؤجّلة. وفي كل يومٍ يكتشف أنّ طاقته أقل، وحماسه أضعف، وشجاعته أخفت. في النهاية، يلتفت إلى الوراء ليجد أنّ الأحلام لم تمت فجأة، بل تآكلت ببطء في انتظار غدٍ لم يأتِ.
3 – أثر الصراع الداخلي
التأجيل لا يقتل الحلم فقط، بل يقتل صاحبه من الداخل. فكل حلم مؤجَّل يترك وراءه شعورًا بالذنب، كأنّ الإنسان خان نفسه عمدًا. هذا الشعور يتحوّل إلى عبءٍ يومي، يجعل صاحبه يعيش في حالة صراع دائم: بين ما يتمنّى أن يكون، وما يرضى أن يظلّ عليه. وربما يبدو للآخرين إنسانًا ناجحًا، مستقرًّا، لكنه في داخله يعرف أنّه يعيش نصف حياة، لأنّ نصفه الآخر ما زال عالقًا في أحلام لم تُنفَّذ.
4 – قصص صغيرة
الحياة مليئة بقصص الأحلام المؤجَّلة. شاب أراد أن يعزف، لكنّه انشغل بوظيفة ثابتة. امرأة أرادت أن تكتب، لكنّها خافت من رأي الناس. رجل أراد أن يسافر، لكنّه انتظر الوقت المناسب الذي لم يأتِ. فتاة أرادت أن تحب، لكنّها رضيت بالصمت خوفًا من الرفض. كلّهم ظنّوا أنّهم يحسنون التصرّف بالتأجيل، لكنّهم اكتشفوا بعد أعوام أنّ التأجيل كان اختيارًا آخر للهزيمة.
5 – الزمن كخصم
الزمن لا ينتظر أحدًا. كل يوم يمرّ يُقصي حلمًا إلى الخلف. وكل سنة تنقضي تُنقص من قدرة الإنسان على المحاولة. وما يبدو سهلًا في العشرين يصير أصعب في الثلاثين، وأثقل في الأربعين، وأقرب إلى المستحيل بعد ذلك. الزمن لا يعاقب الإنسان على أحلامه، بل على عدم سعيه لها. وما لا يُزرع في أوانه لا يُحصد أبدًا، حتى لو ظلّت البذور محفوظة في الأدراج.
6 – تواطؤ المجتمع
المجتمع نفسه شريك في هذه الجريمة الصامتة. فهو يبارك ˝العقلانية˝ الزائدة، ويصفّق لمن يضحّي بأحلامه بحجّة المسؤولية. يقولون للشاب: ˝الموسيقى لا تطعم خبزًا.˝ ويقولون للفتاة: ˝الكتابة لا تبني بيتًا.˝ ويقولون للرجل: ˝الاستقرار أولى من المغامرة.˝ هكذا يُشجّعون على التأجيل باسم الحكمة، بينما هم في الحقيقة يقتلون الجرأة في مهدها.
7 – لحظة الإدراك
لكن تأتي لحظة يفيق فيها الإنسان فجأة، ربما على مشهدٍ بسيط: رؤية طفل يجري وراء حلمه دون خوف، أو سماع أغنية قديمة تذكّره بما كان يريد أن يكون. حينها يدرك فجأة أنّه لم يعد شابًّا كما كان، وأنّ ما أخّره سنواتٍ طوال صار عبئًا فوق طاقته. قد يصرخ في داخله: ˝لو كنت بدأت منذ ذلك اليوم، لكنت اليوم في مكانٍ آخر!˝ لكنّ الإدراك المتأخّر لا يُرجع الزمن.
8 – بين الموت والحياة
الأحلام المؤجَّلة لا تموت تمامًا، بل تبقى حيّة كأشباح. تطلّ برأسها كلما جلس الإنسان في صمته، كلما رأى من يجرؤ على ما لم يجرؤ هو عليه. وتلك الأشباح تذكّره دائمًا بأنّ هناك حياة أخرى كان يمكن أن يعيشها، لكنه لم يفعل. وهكذا يعيش بين موتٍ لم يقع، وحياة لم تُعَش، عالقًا في منطقة رمادية من الحسرة والاحتمال.
9 – السؤال المفتوح
فهل هناك مخرج؟ هل يمكن للإنسان أن يستعيد حلمًا مؤجَّلًا حتى بعد أن شاخ الزمن؟ أم أنّ الأحلام مثل الزهور: إذا لم تُقطَف في موسمها ذبلت إلى الأبد؟ وهل الذنب الأكبر أن يحلم الإنسان بما لا يحقّقه، أم أن يتنازل عن الحلم قبل أن يحاول؟
❞ 📖 اسم الكتاب سيرتك كما صنعتها
✍️ اسم الكاتب هانى الميهى
📝 الفصل الخامس
مرايا الروح
---
تُشبه الروحُ بيتًا مليئًا بالمرايا، بعضها صافية تُريك صورتك كما هي، وبعضها مُغشّى بضبابٍ أو غبارٍ يُشوّه الملامح ويزيد الغموض. والإنسان، في رحلته بين الأمس واليوم والغد، لا يكف عن النظر في تلك المرايا الداخلية بحثًا عن إجابة واحدة: من أنا؟
قد يُخيَّل للمرء أن المرايا لا تكذب، لكن الحقيقة أن الروح أكثر مكرًا من الزجاج. فهي تُريك أحيانًا ما تُريدك أن تراه، وتُخفي عنك ما تخشى أن تواجهه. ولهذا يعيش كثيرون أعمارهم في مصالحةٍ ناقصة مع أنفسهم، يرون انعكاساتٍ مبتورة لا تُظهر إلا نصف الحقيقة، بينما يظل النصف الآخر مختبئًا خلف ستائر كثيفة من الإنكار أو الخوف أو التردد.
وليس أقسى على المرء من لحظة يقف فيها أمام مرآة روحه فيكتشف فجأة أنّه لم يكن يومًا ما ظنّه عن نفسه. قد يرى وجهًا غريبًا لا يشبه الصورة التي رسمها بيده لسنوات، أو يسمع صدى أصوات لم يتوقع أن تسكن داخله. وهنا تبدأ المواجهة الأصعب: مواجهة الذات العارية بلا أقنعة.
المرايا الداخلية لا تُطلب لزينة، بل لصدق. فكما أن المرآة الخارجية تُريك ملامح وجهك لتُصلح ما اعوجّ، كذلك المرايا الروحية تُريك عيوبك لتُهذّبها، وتُريك أيضًا مكامن الجمال فيك لتُنمّيها. من يُغلق عينيه عن تلك الانعكاسات يعيش منقوصًا، ومن يجرؤ على النظر مليًّا يبدأ أولى خطوات اكتماله.
لكن… أيّ المرايا أصدق؟ أهي تلك التي تُقدّمها لحظة صمتٍ في الليل، أم تلك التي تُشعلها كلمة ناقد صريح، أم تلك التي تنعكس في عيون شخص أحبك بصدق ورأى فيك ما لم تره أنت؟ لعل الحقيقة موزّعة بينها جميعًا، وما على الإنسان إلا أن يجمع شظاياها ليصنع صورته الكاملة.
المرايا تُربكنا لأنها لا ترحم، لكنها تُنقذنا لأنها تُذكّرنا دومًا أنّ وراء كل قناع وجهًا، ووراء كل خطوة ظلًّا، ووراء كل كلمة نيةً هي الأصل. إنها ليست عدوًّا ولا صديقًا، بل معلمًا صامتًا يُدير حواره معنا بلمعانٍ عابر لا يحتاج إلى لغة سوى الصدق.
في كل إنسانٍ مرآتان أساسيتان: مرآةٌ يرى بها نفسه، ومرآةٌ يراه بها الآخرون. وما بين الانعكاسين تنشأ الهوة الواسعة التي قد تُغرق بعضهم في التناقض. فالمرء قد يرى نفسه نقيًّا، عادلًا، صادقًا، بينما يرى فيه الآخرون أثرًا للكبرياء أو ظلًّا للأنانية. وفي هذا التباين يكمن سرّ الصراع الداخلي، إذ لا يُدرك الإنسان تمامًا أيّ صورةٍ أصدق.
قد يقف أحدنا أمام نفسه فيقول: \"أنا بخير، لم أؤذِ أحدًا\". لكنّ مرآة الآخر تُعيد إليه مشهدًا لم يكن يتخيله: كلمة جارحة قالها دون انتباه، أو صمتًا حمل قسوةً أشد من ألف جملة. هنا تبدأ رحلة المراجعة، فالمرايا الخارجية ليست دائمًا عدوًّا، بل قد تكون يدًا خفيةً تُرشدك إلى عيبٍ لم تلتفت إليه، أو ثغرة لم تظنها موجودة.
الروح، حين تُحاصرها المرايا من كل صوب، تُصبح مسرحًا للجدل. يعلو صوت العقل ليُبرّر، وصوت القلب ليُعاتب، وصوت الضمير ليُذكّر، بينما تظل الصور تتوالى كأنها مشاهد فيلم طويل لا نهاية له. ولعل أصعب ما في الأمر أن المرايا لا تُمهلك وقتًا للهرب؛ فهي تُحاصرك حتى في صمتك، حتى في نومك، حتى في أحلامك التي تظنها بريئة من الرقابة.
ومع ذلك، يظل في المرايا عزاءٌ خفيّ: فهي تمنحك فرصة البدء من جديد. ما تراه فيها قد يُؤلمك، لكنه أيضًا يُوقظك. لا أحد يولد كاملًا، ولا أحد يظل ناقصًا إلى الأبد. المرايا، بقدر قسوتها، تُتيح لك أن تُعيد تشكيل نفسك، أن تُرمّم ما انكسر، أن تضع لمساتٍ جديدة تُقرّبك من الصورة التي تتمناها.
وقد يختلف الناس في قوة احتمالهم لتلك المواجهة. بعضهم يختار الهروب، يُغطّي المرايا بالأقمشة حتى لا يرى، وبعضهم يتهرّب بالانشغال الدائم، بالعمل أو الصخب أو الضحكات الزائفة. لكن مهما فعل، فإن لحظة الصمت الحقيقية كفيلة بأن تُعيد المرايا إلى الواجهة، لتقف أمامك كحقيقةٍ لا تُشترى ولا تُستعار.
الذي ينجو حقًّا هو من يُصادق مراياه، لا من يُعاديها. يقترب منها بلا خوف، يضع يده على قلبه ويسأل نفسه: \"هل هذا أنا فعلًا؟\" فإن وجد صدقًا ارتاح، وإن وجد زيفًا حاول أن يُصلحه. فالمصالحة مع المرايا ليست ترفًا، بل ضرورة تُنقذ الروح من الغربة داخل جسدها.
حين يتأمل الإنسان مراياه الداخلية، يكتشف أنّ بعضها لا يُظهر الملامح بل يكشف الطبقات الخفيّة. هناك مرآةٌ تُريك خوفك، مهما حاولت أن تتظاهر بالقوة، فتجد في عينيك ارتعاشةً صغيرة لا يراها غيرك. وهناك مرآةٌ تُظهر حنينك إلى ماضٍ لم تَعُد قادرًا على استعادته، فتبدو ملامحك وكأنها تُطارد ظلّ زمنٍ هارب.
المرآة ليست سطحًا جامدًا، بل كائنٌ حيّ يُعيد تشكيل صورتك بحسب صدقك. كلما اقتربت بصفاء، ردّت إليك صورةً أوضح، وكلما حملت إليها زيفًا، أعادت إليك قناعًا جديدًا يُثقلك بدل أن يُخفيك. ومن هنا كان الصراع الأبدي بين الإنسان وذاته: هل يُواجه المرايا بوجهه العاري أم يُخفيه خلف طبقاتٍ من التبريرات والأقنعة؟
في لحظة الصدق النادرة، حين يجرؤ المرء على النظر إلى مرآته بلا خوف، يكتشف أنّ الروح ليست عدوًّا له بل مرشدًا. يرى أخطاءه لا لتُدينه، بل لتُذكّره أنّه ما زال قادرًا على التغيير. يرى ضعفه لا ليُهينه، بل ليُعلّمه التواضع. يرى جراحه لا لتُدمى من جديد، بل لتدلّه على مواضع الشفاء.
غير أنّ هذه المواجهة لا تحدث بسهولة. كثيرون يُمضون أعمارهم في الهروب من مراياهم، يفضّلون صخب العالم على صمت الداخل، لأن مواجهة الذات أصعب من مواجهة أي عدو خارجي. العالم قد يُخاصمك يومًا ويُصالحك يومًا آخر، لكن مرآتك الداخلية لا تعرف المصالحة إلا بالحقيقة.
ومن المثير أنّ المرآة ليست دائمًا مُنزّهة. أحيانًا تُشوّهها عواصف التجارب، أو يُلطّخها الغرور، أو يُعكّر صفاءها الحزن. وهنا يحتاج المرء إلى تنظيفها، لا بالزجاج الملموس، بل بمراجعة القلب والعقل معًا. فالروح حين تتطهر، تنعكس صورتها نقية كالماء، بلا خدوش ولا ضباب.
وتبقى المفارقة أنّ المرايا لا تُرينا ما نُريد، بل ما نحن عليه حقًّا. وقد يكون هذا هو الدرس الأكبر: أن تقبل صورتك كما هي، ثم تسعى لتحسينها بوعيٍ لا بخداع. فما من إنسانٍ خرج من مرآته كاملًا، لكن كل إنسانٍ قادر أن يعود إليها أكثر صدقًا مما كان.
حين تتعدّد المرايا من حولك، تُدرك أنّك لست كائنًا واحدًا بل صورًا متباينة في عيون الآخرين. فأنت في نظر والديك ابنٌ يحمل براءته الأولى مهما تقدّم بك العمر، وأنت في عيون أصدقائك رفيقُ لحظةٍ ومشاركُ طريق، بينما يراك خصومك ظلًّا من الأخطاء التي ارتكبتها أو ظنّوها فيك. ومع كل صورة تُعرض أمامك، يزداد ارتباك الروح: أيّ هذه الصور هي أنت حقًّا؟
إنّ الوعي الناضج لا ينخدع بتلك الانعكاسات الجزئية، بل يسعى لجمعها في لوحةٍ واحدة تُقارب الحقيقة. يدرك أنّ المرء ليس ما يراه الآخرون فقط، ولا ما يظنّه عن نفسه وحده، بل هو تفاعلٌ دائم بين الداخل والخارج، بين الصوت الخفيّ في أعماقه، والأصداء التي ترتدّ إليه من وجوه الناس وأحاديثهم.
وإذا كان المرء مضطرًا للعيش وسط هذه المرايا الكثيرة، فإنّ التوازن لا يأتي بالهرب منها، بل بالاعتراف بها مع وضع حدود. أن تعرف أنّ رأي الآخرين فيك ليس دائمًا مرآة نقية، وأنّ صورتك عن نفسك ليست دائمًا بريئة من الأوهام. بذلك فقط تتعلم أن تختار أيّ الصور تستحق الإصغاء، وأيّها لا تستحق سوى أن تمرّ كالظلّ.
لقد قال الحكماء قديمًا: \"اعرف نفسك\". لكنّ معرفة الذات لم تكن يومًا أمرًا بسيطًا، فهي لا تتحقق بلمحةٍ عابرة في مرآة عادية، بل برحلةٍ طويلة من التأمل والمراجعة والاعتراف. وكلما طال الطريق، كلما ازدادت المرايا التي تُلزمك بأن ترى ما لم تُرِد أن تراه.
ومع ذلك، فإنّ هذه المرايا القاسية تمنحك أثمن ما قد يُعطى لإنسان: الحرية. فحين ترى نفسك كما هي، وتتصالح مع ضعفك وقوتك، لا يعود الآخر قادرًا على أن يُقيّدك بظنونه. لقد عرفت مرآتك الداخلية، ومن عرفها صار سيد نفسه، مهما تكاثرت حوله مرايا الآخرين.
وفي النهاية، ليست المرايا إلا أصواتًا صامتة، تُخبرك أنّك كائن متغيّر، وأنّك تستطيع أن تصنع سيرتك كما تشاء. لا تطلب منها الكمال، بل اطلب منها الصدق. ولا تُعاديها إذا آلمتك، بل اشكرها لأنها لم تدعك تغرق في وهمٍ أكبر.
إنّ أعظم امتحانٍ تخوضه الروح أمام مراياها هو لحظة الانفراد بنفسك، حين تخفت الأصوات من حولك، ولا يبقى إلا صدى داخلي يُحاورك بلا مجاملة. في تلك اللحظة يسقط كل قناع، ويذوب كل مظهر، فلا يبقى منك سوى جوهرٍ عارٍ يواجه صورته بلا وساطة. هنا يُختبر صدقك مع ذاتك: هل تستطيع أن تتحمّل ما ترى؟ أم أنّك ستسارع إلى البحث عن ضوءٍ خارجي يُعمّي عينيك عن الحقيقة؟
المرايا لا تُدينك بقدر ما تُعلّمك. فإذا رأيت فيها ضعفك، فذلك لتتعلّم أنّ القوة ليست دائمة، وأنّ الإنسان لا يُبنى إلا من هشاشته قبل صلابته. وإذا رأيت فيها أثر خطيئة، فذلك لتدرك أنّ الغفران ممكن، وأنّ الطريق إلى التصحيح ما زال مفتوحًا. وإذا انعكس فيها حزنٌ غائر، فذلك لتُذكّرك بأنّك لم تُخلق حجرًا، بل روحًا قادرة على البكاء والتجدّد.
ولعلّ أجمل ما في المرايا أنّها لا تُحابي أحدًا. الغني والفقير، القوي والضعيف، العاقل والمجنون—allهم سواء أمام صمتها الصريح. لا تعترف بالمراتب، ولا تُؤمن بالألقاب. إنّها تكشف الحقيقة بلا رتوش، وتجعل الإنسان في النهاية إنسانًا، مجردًا من كل ما يُزيّنه أو يُخفيه عن أعين الآخرين.
لكنّ هناك مرآةً واحدة لا تُشبه باقي المرايا: مرآة الزمن. فهي لا تُريك صورتك كما أنت الآن، بل تُريك كيف تغيّرت مع مرور الأيام. تراها في تجاعيد الوجه، في نبرة الصوت، في بطء الخطى، وفي الذكريات التي تزداد حضورًا كلما ابتعد الحاضر. هذه المرآة لا يمكن كسرها أو الهروب منها، فهي تُلاحقك حتى آخر نفس. ومع ذلك، فإنّ صدقها قد يكون عزاءً؛ إذ تقول لك: \"لقد عشت، لقد مررت، لقد صنعت سيرةً تخصك وحدك.\"
وفي نهاية المطاف، تُصبح مرايا الروح كتابًا مفتوحًا. لا أحد يقرأه سواك، ولا أحد يملك أن يُغيّر سطوره إلا أنت. إنّها تُخبرك أنّ حياتك ليست سلسلة صورٍ جامدة، بل حكاية قابلة لإعادة الكتابة. كل يومٍ مرآة جديدة، وكل مرآة فرصة جديدة لتُعيد صياغة ذاتك.
، صنعت لنا سيرة لا يملك الزمن أن يُنكرها.
يتبع الفصل السادس
هكذا تُعلّمنا المرايا أنّ السيرة ليست ما يراه الناس فينا، ولا ما نُجمّله لأنفسنا، بل هي مجموع اللحظات التي واجهنا فيها صورنا بصدق. إنّها مرايا الروح، التي إن صادقناها
❞ 📖 اسم الكتاب سيرتك كما صنعتها
✍️ اسم الكاتب هانى الميهى
📝 الفصل الخامس
مرايا الروح
-
تُشبه الروحُ بيتًا مليئًا بالمرايا، بعضها صافية تُريك صورتك كما هي، وبعضها مُغشّى بضبابٍ أو غبارٍ يُشوّه الملامح ويزيد الغموض. والإنسان، في رحلته بين الأمس واليوم والغد، لا يكف عن النظر في تلك المرايا الداخلية بحثًا عن إجابة واحدة: من أنا؟
قد يُخيَّل للمرء أن المرايا لا تكذب، لكن الحقيقة أن الروح أكثر مكرًا من الزجاج. فهي تُريك أحيانًا ما تُريدك أن تراه، وتُخفي عنك ما تخشى أن تواجهه. ولهذا يعيش كثيرون أعمارهم في مصالحةٍ ناقصة مع أنفسهم، يرون انعكاساتٍ مبتورة لا تُظهر إلا نصف الحقيقة، بينما يظل النصف الآخر مختبئًا خلف ستائر كثيفة من الإنكار أو الخوف أو التردد.
وليس أقسى على المرء من لحظة يقف فيها أمام مرآة روحه فيكتشف فجأة أنّه لم يكن يومًا ما ظنّه عن نفسه. قد يرى وجهًا غريبًا لا يشبه الصورة التي رسمها بيده لسنوات، أو يسمع صدى أصوات لم يتوقع أن تسكن داخله. وهنا تبدأ المواجهة الأصعب: مواجهة الذات العارية بلا أقنعة.
المرايا الداخلية لا تُطلب لزينة، بل لصدق. فكما أن المرآة الخارجية تُريك ملامح وجهك لتُصلح ما اعوجّ، كذلك المرايا الروحية تُريك عيوبك لتُهذّبها، وتُريك أيضًا مكامن الجمال فيك لتُنمّيها. من يُغلق عينيه عن تلك الانعكاسات يعيش منقوصًا، ومن يجرؤ على النظر مليًّا يبدأ أولى خطوات اكتماله.
لكن… أيّ المرايا أصدق؟ أهي تلك التي تُقدّمها لحظة صمتٍ في الليل، أم تلك التي تُشعلها كلمة ناقد صريح، أم تلك التي تنعكس في عيون شخص أحبك بصدق ورأى فيك ما لم تره أنت؟ لعل الحقيقة موزّعة بينها جميعًا، وما على الإنسان إلا أن يجمع شظاياها ليصنع صورته الكاملة.
المرايا تُربكنا لأنها لا ترحم، لكنها تُنقذنا لأنها تُذكّرنا دومًا أنّ وراء كل قناع وجهًا، ووراء كل خطوة ظلًّا، ووراء كل كلمة نيةً هي الأصل. إنها ليست عدوًّا ولا صديقًا، بل معلمًا صامتًا يُدير حواره معنا بلمعانٍ عابر لا يحتاج إلى لغة سوى الصدق.
في كل إنسانٍ مرآتان أساسيتان: مرآةٌ يرى بها نفسه، ومرآةٌ يراه بها الآخرون. وما بين الانعكاسين تنشأ الهوة الواسعة التي قد تُغرق بعضهم في التناقض. فالمرء قد يرى نفسه نقيًّا، عادلًا، صادقًا، بينما يرى فيه الآخرون أثرًا للكبرياء أو ظلًّا للأنانية. وفي هذا التباين يكمن سرّ الصراع الداخلي، إذ لا يُدرك الإنسان تمامًا أيّ صورةٍ أصدق.
قد يقف أحدنا أمام نفسه فيقول: ˝أنا بخير، لم أؤذِ أحدًا˝. لكنّ مرآة الآخر تُعيد إليه مشهدًا لم يكن يتخيله: كلمة جارحة قالها دون انتباه، أو صمتًا حمل قسوةً أشد من ألف جملة. هنا تبدأ رحلة المراجعة، فالمرايا الخارجية ليست دائمًا عدوًّا، بل قد تكون يدًا خفيةً تُرشدك إلى عيبٍ لم تلتفت إليه، أو ثغرة لم تظنها موجودة.
الروح، حين تُحاصرها المرايا من كل صوب، تُصبح مسرحًا للجدل. يعلو صوت العقل ليُبرّر، وصوت القلب ليُعاتب، وصوت الضمير ليُذكّر، بينما تظل الصور تتوالى كأنها مشاهد فيلم طويل لا نهاية له. ولعل أصعب ما في الأمر أن المرايا لا تُمهلك وقتًا للهرب؛ فهي تُحاصرك حتى في صمتك، حتى في نومك، حتى في أحلامك التي تظنها بريئة من الرقابة.
ومع ذلك، يظل في المرايا عزاءٌ خفيّ: فهي تمنحك فرصة البدء من جديد. ما تراه فيها قد يُؤلمك، لكنه أيضًا يُوقظك. لا أحد يولد كاملًا، ولا أحد يظل ناقصًا إلى الأبد. المرايا، بقدر قسوتها، تُتيح لك أن تُعيد تشكيل نفسك، أن تُرمّم ما انكسر، أن تضع لمساتٍ جديدة تُقرّبك من الصورة التي تتمناها.
وقد يختلف الناس في قوة احتمالهم لتلك المواجهة. بعضهم يختار الهروب، يُغطّي المرايا بالأقمشة حتى لا يرى، وبعضهم يتهرّب بالانشغال الدائم، بالعمل أو الصخب أو الضحكات الزائفة. لكن مهما فعل، فإن لحظة الصمت الحقيقية كفيلة بأن تُعيد المرايا إلى الواجهة، لتقف أمامك كحقيقةٍ لا تُشترى ولا تُستعار.
الذي ينجو حقًّا هو من يُصادق مراياه، لا من يُعاديها. يقترب منها بلا خوف، يضع يده على قلبه ويسأل نفسه: ˝هل هذا أنا فعلًا؟˝ فإن وجد صدقًا ارتاح، وإن وجد زيفًا حاول أن يُصلحه. فالمصالحة مع المرايا ليست ترفًا، بل ضرورة تُنقذ الروح من الغربة داخل جسدها.
حين يتأمل الإنسان مراياه الداخلية، يكتشف أنّ بعضها لا يُظهر الملامح بل يكشف الطبقات الخفيّة. هناك مرآةٌ تُريك خوفك، مهما حاولت أن تتظاهر بالقوة، فتجد في عينيك ارتعاشةً صغيرة لا يراها غيرك. وهناك مرآةٌ تُظهر حنينك إلى ماضٍ لم تَعُد قادرًا على استعادته، فتبدو ملامحك وكأنها تُطارد ظلّ زمنٍ هارب.
المرآة ليست سطحًا جامدًا، بل كائنٌ حيّ يُعيد تشكيل صورتك بحسب صدقك. كلما اقتربت بصفاء، ردّت إليك صورةً أوضح، وكلما حملت إليها زيفًا، أعادت إليك قناعًا جديدًا يُثقلك بدل أن يُخفيك. ومن هنا كان الصراع الأبدي بين الإنسان وذاته: هل يُواجه المرايا بوجهه العاري أم يُخفيه خلف طبقاتٍ من التبريرات والأقنعة؟
في لحظة الصدق النادرة، حين يجرؤ المرء على النظر إلى مرآته بلا خوف، يكتشف أنّ الروح ليست عدوًّا له بل مرشدًا. يرى أخطاءه لا لتُدينه، بل لتُذكّره أنّه ما زال قادرًا على التغيير. يرى ضعفه لا ليُهينه، بل ليُعلّمه التواضع. يرى جراحه لا لتُدمى من جديد، بل لتدلّه على مواضع الشفاء.
غير أنّ هذه المواجهة لا تحدث بسهولة. كثيرون يُمضون أعمارهم في الهروب من مراياهم، يفضّلون صخب العالم على صمت الداخل، لأن مواجهة الذات أصعب من مواجهة أي عدو خارجي. العالم قد يُخاصمك يومًا ويُصالحك يومًا آخر، لكن مرآتك الداخلية لا تعرف المصالحة إلا بالحقيقة.
ومن المثير أنّ المرآة ليست دائمًا مُنزّهة. أحيانًا تُشوّهها عواصف التجارب، أو يُلطّخها الغرور، أو يُعكّر صفاءها الحزن. وهنا يحتاج المرء إلى تنظيفها، لا بالزجاج الملموس، بل بمراجعة القلب والعقل معًا. فالروح حين تتطهر، تنعكس صورتها نقية كالماء، بلا خدوش ولا ضباب.
وتبقى المفارقة أنّ المرايا لا تُرينا ما نُريد، بل ما نحن عليه حقًّا. وقد يكون هذا هو الدرس الأكبر: أن تقبل صورتك كما هي، ثم تسعى لتحسينها بوعيٍ لا بخداع. فما من إنسانٍ خرج من مرآته كاملًا، لكن كل إنسانٍ قادر أن يعود إليها أكثر صدقًا مما كان.
حين تتعدّد المرايا من حولك، تُدرك أنّك لست كائنًا واحدًا بل صورًا متباينة في عيون الآخرين. فأنت في نظر والديك ابنٌ يحمل براءته الأولى مهما تقدّم بك العمر، وأنت في عيون أصدقائك رفيقُ لحظةٍ ومشاركُ طريق، بينما يراك خصومك ظلًّا من الأخطاء التي ارتكبتها أو ظنّوها فيك. ومع كل صورة تُعرض أمامك، يزداد ارتباك الروح: أيّ هذه الصور هي أنت حقًّا؟
إنّ الوعي الناضج لا ينخدع بتلك الانعكاسات الجزئية، بل يسعى لجمعها في لوحةٍ واحدة تُقارب الحقيقة. يدرك أنّ المرء ليس ما يراه الآخرون فقط، ولا ما يظنّه عن نفسه وحده، بل هو تفاعلٌ دائم بين الداخل والخارج، بين الصوت الخفيّ في أعماقه، والأصداء التي ترتدّ إليه من وجوه الناس وأحاديثهم.
وإذا كان المرء مضطرًا للعيش وسط هذه المرايا الكثيرة، فإنّ التوازن لا يأتي بالهرب منها، بل بالاعتراف بها مع وضع حدود. أن تعرف أنّ رأي الآخرين فيك ليس دائمًا مرآة نقية، وأنّ صورتك عن نفسك ليست دائمًا بريئة من الأوهام. بذلك فقط تتعلم أن تختار أيّ الصور تستحق الإصغاء، وأيّها لا تستحق سوى أن تمرّ كالظلّ.
لقد قال الحكماء قديمًا: ˝اعرف نفسك˝. لكنّ معرفة الذات لم تكن يومًا أمرًا بسيطًا، فهي لا تتحقق بلمحةٍ عابرة في مرآة عادية، بل برحلةٍ طويلة من التأمل والمراجعة والاعتراف. وكلما طال الطريق، كلما ازدادت المرايا التي تُلزمك بأن ترى ما لم تُرِد أن تراه.
ومع ذلك، فإنّ هذه المرايا القاسية تمنحك أثمن ما قد يُعطى لإنسان: الحرية. فحين ترى نفسك كما هي، وتتصالح مع ضعفك وقوتك، لا يعود الآخر قادرًا على أن يُقيّدك بظنونه. لقد عرفت مرآتك الداخلية، ومن عرفها صار سيد نفسه، مهما تكاثرت حوله مرايا الآخرين.
وفي النهاية، ليست المرايا إلا أصواتًا صامتة، تُخبرك أنّك كائن متغيّر، وأنّك تستطيع أن تصنع سيرتك كما تشاء. لا تطلب منها الكمال، بل اطلب منها الصدق. ولا تُعاديها إذا آلمتك، بل اشكرها لأنها لم تدعك تغرق في وهمٍ أكبر.
إنّ أعظم امتحانٍ تخوضه الروح أمام مراياها هو لحظة الانفراد بنفسك، حين تخفت الأصوات من حولك، ولا يبقى إلا صدى داخلي يُحاورك بلا مجاملة. في تلك اللحظة يسقط كل قناع، ويذوب كل مظهر، فلا يبقى منك سوى جوهرٍ عارٍ يواجه صورته بلا وساطة. هنا يُختبر صدقك مع ذاتك: هل تستطيع أن تتحمّل ما ترى؟ أم أنّك ستسارع إلى البحث عن ضوءٍ خارجي يُعمّي عينيك عن الحقيقة؟
المرايا لا تُدينك بقدر ما تُعلّمك. فإذا رأيت فيها ضعفك، فذلك لتتعلّم أنّ القوة ليست دائمة، وأنّ الإنسان لا يُبنى إلا من هشاشته قبل صلابته. وإذا رأيت فيها أثر خطيئة، فذلك لتدرك أنّ الغفران ممكن، وأنّ الطريق إلى التصحيح ما زال مفتوحًا. وإذا انعكس فيها حزنٌ غائر، فذلك لتُذكّرك بأنّك لم تُخلق حجرًا، بل روحًا قادرة على البكاء والتجدّد.
ولعلّ أجمل ما في المرايا أنّها لا تُحابي أحدًا. الغني والفقير، القوي والضعيف، العاقل والمجنون—allهم سواء أمام صمتها الصريح. لا تعترف بالمراتب، ولا تُؤمن بالألقاب. إنّها تكشف الحقيقة بلا رتوش، وتجعل الإنسان في النهاية إنسانًا، مجردًا من كل ما يُزيّنه أو يُخفيه عن أعين الآخرين.
لكنّ هناك مرآةً واحدة لا تُشبه باقي المرايا: مرآة الزمن. فهي لا تُريك صورتك كما أنت الآن، بل تُريك كيف تغيّرت مع مرور الأيام. تراها في تجاعيد الوجه، في نبرة الصوت، في بطء الخطى، وفي الذكريات التي تزداد حضورًا كلما ابتعد الحاضر. هذه المرآة لا يمكن كسرها أو الهروب منها، فهي تُلاحقك حتى آخر نفس. ومع ذلك، فإنّ صدقها قد يكون عزاءً؛ إذ تقول لك: ˝لقد عشت، لقد مررت، لقد صنعت سيرةً تخصك وحدك.˝
وفي نهاية المطاف، تُصبح مرايا الروح كتابًا مفتوحًا. لا أحد يقرأه سواك، ولا أحد يملك أن يُغيّر سطوره إلا أنت. إنّها تُخبرك أنّ حياتك ليست سلسلة صورٍ جامدة، بل حكاية قابلة لإعادة الكتابة. كل يومٍ مرآة جديدة، وكل مرآة فرصة جديدة لتُعيد صياغة ذاتك.
، صنعت لنا سيرة لا يملك الزمن أن يُنكرها.
يتبع الفصل السادس
هكذا تُعلّمنا المرايا أنّ السيرة ليست ما يراه الناس فينا، ولا ما نُجمّله لأنفسنا، بل هي مجموع اللحظات التي واجهنا فيها صورنا بصدق. إنّها مرايا الروح، التي إن صادقناها
الفصل الخامس:
الملف الخامس – الحلم الذي عبر الحدود
---
الحلم مثل مسافرٍ عنيد، لا يعرف حدودًا ولا جوازات عبور. يظل يتسلل من بين الخطوط الفاصلة بين الدول، يختبئ في الحقائب الصغيرة، أو يركب على أجنحة الطائرات دون أن يلحظه أحد. وربما كان أخطر من اللاجئين أنفسهم، لأنه لا يطلب تصريحًا ولا فيزا، لكنه قادر أن يربك حياة كاملة بمجرد ظهوره.
كنت دائمًا أتصور أن الحلم يخص مكانه الأول فقط، ينبت في أرضٍ محددة، ثم يذبل إذا حاول صاحبه أن يزرعه في أرضٍ أخرى. لكنني كنت مخطئًا. هناك أحلام تملك القدرة على القفز، أن تخرج من جغرافيا ضيقة وتبحث عن تربة جديدة، كأنها تعرف أنّها أكبر من حدود رسمها بشر.
أتذكر جيدًا تلك الليلة التي التقيت فيها \"آدم\"، شاب في أوائل الثلاثينات، جلس بجواري في مقهى صغير بإحدى المدن الأوروبية. كنا غريبين عن المكان، غريبين حتى عن أنفسنا، لكن شيئًا ما جمع بيننا. سألته عن حكايته، فقال وهو يضحك بمرارة:
– \"أنا مشيت من مصر من غير ما أعرف أنا رايح فين. كنت فاكر إن الحلم بتاعي هيموت جوه الحدود هناك. قلت يمكن ألاقي له حياة تانية هنا.\"
كان \"آدم\" قد درس الهندسة، لكنه تركها بعد أن سُدّت في وجهه كل الأبواب. عمل في مهنٍ لا علاقة لها بما حلم به: نادل، عامل مخازن، وسائق دراجة لتوصيل الطلبات. قال إن كل عمل كان بمثابة قفص صغير، لكنه ظل يحافظ على صورة قديمة مطوية في محفظته: تصميم لجسر ابتكره أيام الجامعة. كان يؤمن أن ذلك الجسر سيُبنى يومًا ما، حتى لو في بلدٍ لا يعرفه.
أدهشني إصراره. قلت له:
– \"طيب، وإيه اللي مخليك متأكد إنه هيقوم يوم من الأيام؟\"
ابتسم وقال:
– \"لأن الحلم مش بيحتاج وطن… بيحتاج وقت، ومساحة يمد رجليه فيها.\"
ظلّت كلماته تطاردني. هل الحلم فعلًا بلا جنسية؟ هل يمكن أن يعيش الحلم في منفى أفضل مما عاش في موطنه؟
في تلك المدينة كنت أرى وجوهًا كثيرة تشبه \"آدم\". شباب وفتيات جاؤوا من أماكن بعيدة، يحملون قصصًا مختلفة، لكن يجمعهم خيط واحد: أحلام لم تجد مكانًا لها في أوطانها. بعضهم وجد في الغربة فرصة للانطلاق، وبعضهم دفن حلمه أكثر وأكثر حتى صار مجرد ذكرى.
أذكر أنني التقيت بفتاة سورية اسمها \"ليان\"، كانت تعزف على الكمان في محطة المترو. سألتها لماذا لا تعزف في مسرح أو قاعة موسيقية. قالت بابتسامة واثقة:
– \"الموسيقى بتعبر الحدود من غير ما تحتاج لجواز سفر. المحطة دي أكبر مسرح في العالم. اللي بيسمعني هنا من عشرين جنسية مختلفة. يمكن ده الحلم اللي ماكنتش هحققه لو فضلت في بلدي.\"
كان واضحًا أنّها حوّلت المنفى إلى منصة. لم تعد تنتظر أن يُفتح لها باب رسمي، صنعت بابها بنفسها. وهنا فهمت أنّ الأحلام التي تملك القدرة على العبور هي التي تغيّر مسار التاريخ، بينما الأحلام التي تخشى الرحيل تذبل وتموت.
لكن الحقيقة الأكثر إيلامًا أن ليس كل حلم ينجو. بعض الأحلام تسقط عند الحدود، تُسحق تحت أختام جوازات السفر أو تُعلّق على بوابات السفارات. رأيت شبابًا جلسوا على الأرصفة بعيونٍ خاوية، كأنهم دفنوا كل شيء عند أول مطار رفض دخولهم.
حين عدت إلى غرفتي في تلك الليلة، كتبت في دفتري:
\"الأحلام المهاجرة لا تُشبه البشر المهاجرين فقط، بل تتفوق عليهم. البشر قد يُعادون من الحدود، أما الحلم فلا يُعاد. إما أن يتسرب ويستقر، أو يختفي إلى الأبد.\"
في اليوم التالي، التقيت \"آدم\" مرة أخرى. أخبرني أنه حصل على فرصة للعمل في مكتب هندسي صغير. قال بحماس:
– \"يمكن ده مش الجسر اللي حلمت بيه… بس ده أول حجر فيه.\"
ابتسمت وأنا أراه يخرج من المقهى بخطواتٍ مختلفة، كأنه تحوّل فجأة من لاجئ إلى مهندس. لم يكن المكان هو الذي صنع الفرق، بل جرأة الحلم على أن يعبر.
ومنذ ذلك اليوم، صرتُ أؤمن أن الحلم الذي يملك أجنحة لا يخشى الخرائط، ولا تحكمه القوانين. هو وحده الذي يقرر أين يولد وأين يكبر. وربما تكون أعظم معجزة في حياتنا أننا نستطيع أن نرافقه، حتى لو اضطررنا لعبور قاراتٍ كاملة وراءه.
الفصل الخامس:
الملف الخامس – الحلم الذي عبر الحدود
-
الحلم مثل مسافرٍ عنيد، لا يعرف حدودًا ولا جوازات عبور. يظل يتسلل من بين الخطوط الفاصلة بين الدول، يختبئ في الحقائب الصغيرة، أو يركب على أجنحة الطائرات دون أن يلحظه أحد. وربما كان أخطر من اللاجئين أنفسهم، لأنه لا يطلب تصريحًا ولا فيزا، لكنه قادر أن يربك حياة كاملة بمجرد ظهوره.
كنت دائمًا أتصور أن الحلم يخص مكانه الأول فقط، ينبت في أرضٍ محددة، ثم يذبل إذا حاول صاحبه أن يزرعه في أرضٍ أخرى. لكنني كنت مخطئًا. هناك أحلام تملك القدرة على القفز، أن تخرج من جغرافيا ضيقة وتبحث عن تربة جديدة، كأنها تعرف أنّها أكبر من حدود رسمها بشر.
أتذكر جيدًا تلك الليلة التي التقيت فيها ˝آدم˝، شاب في أوائل الثلاثينات، جلس بجواري في مقهى صغير بإحدى المدن الأوروبية. كنا غريبين عن المكان، غريبين حتى عن أنفسنا، لكن شيئًا ما جمع بيننا. سألته عن حكايته، فقال وهو يضحك بمرارة:
– ˝أنا مشيت من مصر من غير ما أعرف أنا رايح فين. كنت فاكر إن الحلم بتاعي هيموت جوه الحدود هناك. قلت يمكن ألاقي له حياة تانية هنا.˝
كان ˝آدم˝ قد درس الهندسة، لكنه تركها بعد أن سُدّت في وجهه كل الأبواب. عمل في مهنٍ لا علاقة لها بما حلم به: نادل، عامل مخازن، وسائق دراجة لتوصيل الطلبات. قال إن كل عمل كان بمثابة قفص صغير، لكنه ظل يحافظ على صورة قديمة مطوية في محفظته: تصميم لجسر ابتكره أيام الجامعة. كان يؤمن أن ذلك الجسر سيُبنى يومًا ما، حتى لو في بلدٍ لا يعرفه.
أدهشني إصراره. قلت له:
– ˝طيب، وإيه اللي مخليك متأكد إنه هيقوم يوم من الأيام؟˝
ابتسم وقال:
– ˝لأن الحلم مش بيحتاج وطن… بيحتاج وقت، ومساحة يمد رجليه فيها.˝
ظلّت كلماته تطاردني. هل الحلم فعلًا بلا جنسية؟ هل يمكن أن يعيش الحلم في منفى أفضل مما عاش في موطنه؟
في تلك المدينة كنت أرى وجوهًا كثيرة تشبه ˝آدم˝. شباب وفتيات جاؤوا من أماكن بعيدة، يحملون قصصًا مختلفة، لكن يجمعهم خيط واحد: أحلام لم تجد مكانًا لها في أوطانها. بعضهم وجد في الغربة فرصة للانطلاق، وبعضهم دفن حلمه أكثر وأكثر حتى صار مجرد ذكرى.
أذكر أنني التقيت بفتاة سورية اسمها ˝ليان˝، كانت تعزف على الكمان في محطة المترو. سألتها لماذا لا تعزف في مسرح أو قاعة موسيقية. قالت بابتسامة واثقة:
– ˝الموسيقى بتعبر الحدود من غير ما تحتاج لجواز سفر. المحطة دي أكبر مسرح في العالم. اللي بيسمعني هنا من عشرين جنسية مختلفة. يمكن ده الحلم اللي ماكنتش هحققه لو فضلت في بلدي.˝
كان واضحًا أنّها حوّلت المنفى إلى منصة. لم تعد تنتظر أن يُفتح لها باب رسمي، صنعت بابها بنفسها. وهنا فهمت أنّ الأحلام التي تملك القدرة على العبور هي التي تغيّر مسار التاريخ، بينما الأحلام التي تخشى الرحيل تذبل وتموت.
لكن الحقيقة الأكثر إيلامًا أن ليس كل حلم ينجو. بعض الأحلام تسقط عند الحدود، تُسحق تحت أختام جوازات السفر أو تُعلّق على بوابات السفارات. رأيت شبابًا جلسوا على الأرصفة بعيونٍ خاوية، كأنهم دفنوا كل شيء عند أول مطار رفض دخولهم.
حين عدت إلى غرفتي في تلك الليلة، كتبت في دفتري:
˝الأحلام المهاجرة لا تُشبه البشر المهاجرين فقط، بل تتفوق عليهم. البشر قد يُعادون من الحدود، أما الحلم فلا يُعاد. إما أن يتسرب ويستقر، أو يختفي إلى الأبد.˝
في اليوم التالي، التقيت ˝آدم˝ مرة أخرى. أخبرني أنه حصل على فرصة للعمل في مكتب هندسي صغير. قال بحماس:
– ˝يمكن ده مش الجسر اللي حلمت بيه… بس ده أول حجر فيه.˝
ابتسمت وأنا أراه يخرج من المقهى بخطواتٍ مختلفة، كأنه تحوّل فجأة من لاجئ إلى مهندس. لم يكن المكان هو الذي صنع الفرق، بل جرأة الحلم على أن يعبر.
ومنذ ذلك اليوم، صرتُ أؤمن أن الحلم الذي يملك أجنحة لا يخشى الخرائط، ولا تحكمه القوانين. هو وحده الذي يقرر أين يولد وأين يكبر. وربما تكون أعظم معجزة في حياتنا أننا نستطيع أن نرافقه، حتى لو اضطررنا لعبور قاراتٍ كاملة وراءه.
❞ 📖 هندسة الروح
✍️#الكاتب_هاني_الميهي
---
الفصل الخامس: رحلة التصالح مع النفس
لم يكن الطريق إلى التصالح مع النفس يومًا طريقًا مستقيمًا أو ممهَّدًا بالورود. إنّه أشبه بمتاهة واسعة تتداخل فيها الأزقّة، يظنّ السائر أنّه اقترب من المخرج، ثم يكتشف أنّه ما زال في منتصف الدائرة. التصالح مع النفس ليس شعارًا يُرفع في لحظة صفاء عابرة، بل هو مسار طويل، يحمل في طيّاته معارك داخلية، وانكسارات، وانتصارات صغيرة تزرع في القلب يقينًا بأنّ الخلاص ممكن.
في لحظة ما، يستفيق الإنسان على صدى صوته الداخلي، ذاك الذي ظلّ يتجاهله سنوات طويلة. يكتشف أنّه عاش حياة يفرضها الآخرون، أو يوجّهها المجتمع، أو تحكمها الأوهام التي غرسها منذ طفولته. حينها، يبدأ السؤال العميق: \"من أنا حقًّا؟\"؛ سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنّه في جوهره زلزال ينسف الركام الذي بُني فوق الروح.
الخطوة الأولى في التصالح مع النفس تبدأ بالاعتراف. الاعتراف بأنّنا لسنا مثاليين، وأنّنا نحمل داخلنا عيوبًا وخطايا وأخطاء. الاعتراف لا يعني جلد الذات أو الاستسلام للشعور بالذنب، بل يعني أن نواجه حقيقتنا كما هي، بلا تجميل ولا هروب. إنّ الإنسان الذي يجرؤ على مواجهة ضعفه هو الإنسان القادر على تجاوزه، أمّا من ينكر ضعفه فسيظلّ أسيرًا له.
ثمّ تأتي الخطوة الثانية: الغفران. ليس الغفران للآخرين فحسب، بل الغفران لأنفسنا أولًا. كثيرون يعيشون في سجن داخلي صنعوه بأيديهم؛ يكررون أخطاء الماضي، يعيدون تشغيل مشاهد الخذلان، ويوبّخون أنفسهم بلا رحمة. لكن، هل يمكن للإنسان أن يمضي إلى الأمام وهو يجلد ذاته ليلًا ونهارًا؟ الغفران للنفس ليس تبريرًا للخطأ، بل هو قبول بأنّنا بشر، وأنّ الفشل جزء من نسيج التجربة الإنسانية.
بعد الاعتراف والغفران، تبدأ مرحلة أصعب: إعادة بناء الحوار مع الذات. النفس ليست عدوًّا كما يتخيّل البعض، بل هي شريك أبدي لا يمكن التخلّي عنه. حين نُصغي إلى أصواتها المختلفة، نكتشف أنّ بداخلنا طفلًا خائفًا، ومتمرّدًا غاضبًا، وحكيمًا صامتًا ينتظر أن نمنحه المساحة. التصالح مع النفس يعني أن نمنح لكلّ صوت داخلي حقّه في الظهور، ثم نعيد ترتيبهم في سيمفونية متوازنة لا تطغى فيها طبلة الغضب على وتر الحكمة.
لكنّ الطريق محفوف بالاختبارات. في كلّ مرة يقترب فيها الإنسان من التصالح، يظهر الماضي بظلاله الثقيلة ليذكّره بالخيبات، وتأتي الضغوط الاجتماعية لتعيده إلى القوالب القديمة. عندها، يصبح الثبات على قرار التصالح تمرينًا يوميًّا، يحتاج إلى شجاعة وإصرار. التصالح مع النفس ليس محطة أخيرة، بل هو ممارسة مستمرة، أشبه برياضة روحية تتطلّب التكرار والالتزام.
ولعلّ أجمل ما في رحلة التصالح أنّها تكشف للإنسان معنى الحرية. الحرية الحقيقية ليست في كسر القيود الخارجية، بل في التحرّر من قيود الداخل: قيود الخوف، والندم، والكراهية، والشعور بالنقص. حين يتخفّف القلب من هذه الأثقال، يصبح خفيفًا، قادرًا على أن يحلّق بعيدًا، ويقترب من معنى الطمأنينة.
إنّ الإنسان المتصالح مع نفسه لا يبحث عن الكمال، بل عن السلام. السلام الذي يمنحه القدرة على أن يعيش يومه بلا صراع داخلي، أن ينظر إلى المرآة فيبتسم، أن يواجه العالم بثقة دون أن يتظاهر بما ليس فيه. هذا السلام لا يُشترى ولا يُمنح من أحد، بل يُصنع في أعماق القلب، حيث يلتقي الإنسان بذاته، ويصافحها بعد طول خصام.
وهكذا، يصبح التصالح مع النفس بذرة نهوض حقيقية. فكما أنّ الشجرة لا تستطيع أن تنمو وجذورها مريضة، كذلك الإنسان لا يمكن أن يزدهر وهو في حرب مع داخله. التصالح هو التربة التي ينبت فيها الأمل، والظلّ الذي يحتمي به القلب حين يشتدّ القيظ. ومن أدرك هذه الحقيقة، أدرك أنّ رحلته ليست مع الآخرين، بل مع ذاته أولًا وأخيرًا.
يتبع الفصل السادس
#كتاب_هندسة_الروح
#تأليف_هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
لم يكن الطريق إلى التصالح مع النفس يومًا طريقًا مستقيمًا أو ممهَّدًا بالورود. إنّه أشبه بمتاهة واسعة تتداخل فيها الأزقّة، يظنّ السائر أنّه اقترب من المخرج، ثم يكتشف أنّه ما زال في منتصف الدائرة. التصالح مع النفس ليس شعارًا يُرفع في لحظة صفاء عابرة، بل هو مسار طويل، يحمل في طيّاته معارك داخلية، وانكسارات، وانتصارات صغيرة تزرع في القلب يقينًا بأنّ الخلاص ممكن.
في لحظة ما، يستفيق الإنسان على صدى صوته الداخلي، ذاك الذي ظلّ يتجاهله سنوات طويلة. يكتشف أنّه عاش حياة يفرضها الآخرون، أو يوجّهها المجتمع، أو تحكمها الأوهام التي غرسها منذ طفولته. حينها، يبدأ السؤال العميق: ˝من أنا حقًّا؟˝؛ سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنّه في جوهره زلزال ينسف الركام الذي بُني فوق الروح.
الخطوة الأولى في التصالح مع النفس تبدأ بالاعتراف. الاعتراف بأنّنا لسنا مثاليين، وأنّنا نحمل داخلنا عيوبًا وخطايا وأخطاء. الاعتراف لا يعني جلد الذات أو الاستسلام للشعور بالذنب، بل يعني أن نواجه حقيقتنا كما هي، بلا تجميل ولا هروب. إنّ الإنسان الذي يجرؤ على مواجهة ضعفه هو الإنسان القادر على تجاوزه، أمّا من ينكر ضعفه فسيظلّ أسيرًا له.
ثمّ تأتي الخطوة الثانية: الغفران. ليس الغفران للآخرين فحسب، بل الغفران لأنفسنا أولًا. كثيرون يعيشون في سجن داخلي صنعوه بأيديهم؛ يكررون أخطاء الماضي، يعيدون تشغيل مشاهد الخذلان، ويوبّخون أنفسهم بلا رحمة. لكن، هل يمكن للإنسان أن يمضي إلى الأمام وهو يجلد ذاته ليلًا ونهارًا؟ الغفران للنفس ليس تبريرًا للخطأ، بل هو قبول بأنّنا بشر، وأنّ الفشل جزء من نسيج التجربة الإنسانية.
بعد الاعتراف والغفران، تبدأ مرحلة أصعب: إعادة بناء الحوار مع الذات. النفس ليست عدوًّا كما يتخيّل البعض، بل هي شريك أبدي لا يمكن التخلّي عنه. حين نُصغي إلى أصواتها المختلفة، نكتشف أنّ بداخلنا طفلًا خائفًا، ومتمرّدًا غاضبًا، وحكيمًا صامتًا ينتظر أن نمنحه المساحة. التصالح مع النفس يعني أن نمنح لكلّ صوت داخلي حقّه في الظهور، ثم نعيد ترتيبهم في سيمفونية متوازنة لا تطغى فيها طبلة الغضب على وتر الحكمة.
لكنّ الطريق محفوف بالاختبارات. في كلّ مرة يقترب فيها الإنسان من التصالح، يظهر الماضي بظلاله الثقيلة ليذكّره بالخيبات، وتأتي الضغوط الاجتماعية لتعيده إلى القوالب القديمة. عندها، يصبح الثبات على قرار التصالح تمرينًا يوميًّا، يحتاج إلى شجاعة وإصرار. التصالح مع النفس ليس محطة أخيرة، بل هو ممارسة مستمرة، أشبه برياضة روحية تتطلّب التكرار والالتزام.
ولعلّ أجمل ما في رحلة التصالح أنّها تكشف للإنسان معنى الحرية. الحرية الحقيقية ليست في كسر القيود الخارجية، بل في التحرّر من قيود الداخل: قيود الخوف، والندم، والكراهية، والشعور بالنقص. حين يتخفّف القلب من هذه الأثقال، يصبح خفيفًا، قادرًا على أن يحلّق بعيدًا، ويقترب من معنى الطمأنينة.
إنّ الإنسان المتصالح مع نفسه لا يبحث عن الكمال، بل عن السلام. السلام الذي يمنحه القدرة على أن يعيش يومه بلا صراع داخلي، أن ينظر إلى المرآة فيبتسم، أن يواجه العالم بثقة دون أن يتظاهر بما ليس فيه. هذا السلام لا يُشترى ولا يُمنح من أحد، بل يُصنع في أعماق القلب، حيث يلتقي الإنسان بذاته، ويصافحها بعد طول خصام.
وهكذا، يصبح التصالح مع النفس بذرة نهوض حقيقية. فكما أنّ الشجرة لا تستطيع أن تنمو وجذورها مريضة، كذلك الإنسان لا يمكن أن يزدهر وهو في حرب مع داخله. التصالح هو التربة التي ينبت فيها الأمل، والظلّ الذي يحتمي به القلب حين يشتدّ القيظ. ومن أدرك هذه الحقيقة، أدرك أنّ رحلته ليست مع الآخرين، بل مع ذاته أولًا وأخيرًا.