كأنّ الرحلة، بكل ما حملته من فصولٍ متشعبة، لم تكن سوى دائرةٍ تعيدني إلى النقطة الأولى. العودة ليست تراجعًا، بل اكتشافٌ جديد للمعنى الذي كدنا نضيّعه وسط الضجيج. حين ننتهي من التيه ونقف في منتصف العمر أو نهايته، نكتشف أنّ البداية لم تكن في أول خطوة، بل في الوعي بأننا بدأنا أصلًا.
العودة إلى البداية ليست رجوعًا إلى طفولةٍ ضاعت، ولا محاولة لإعادة عقارب الزمن. إنها وقوفٌ أمام المرآة بعد كل ما مرّ، وقولٌ صادق: \"ها أنا ذا، بنفس القلب الذي خاف وحلم وضاع ووجد نفسه من جديد\".
حين كنت صغيرًا، كنت أظن أن البداية هي مجرد ولادة. ثم كبرت فظننت أنها لحظة الانطلاق إلى العالم، أو أول حب، أو أول خسارة. لكنني اليوم أرى أن البداية الحقيقية تحدث كل مرة نجرؤ فيها أن نعيد ترتيب الداخل، أن نغفر لأنفسنا، أن نبدأ من جديد بلا خوف من التكرار.
في العودة إلى البداية، يصبح الماضي معلمًا لا عبئًا. نتذكر أننا لم نخسر كل شيء كما كنا نظن، وأنّ حتى الندوب التي تركها الزمن ما هي إلا وشمٌ يمنحنا شكلنا الخاص. العودة ليست مسحًا للتجربة، بل قبولًا بها كجزءٍ منّا، جزءٍ صنع هذا الوجه الذي صار يعرف نفسه أخيرًا.
أتأمل طفولتي فأرى ملامح الحلم الأول: بيتٌ بسيط، ضحكة بريئة، خوفٌ صغير من المجهول. أتأمل شبابي فأجد صخبًا، أحلامًا متراكضة، ورغبة في أن أمسك العالم بيدي. ثم أنظر إلى حاضري فأدرك أنّ كل تلك الطبقات لم تذهب هباءً، بل اجتمعت لتصنع هذه اللحظة: لحظة العودة إلى البداية وقد صرت أعرف قيمتها.
العودة إلى البداية تعني أن نفهم أنّ ما نبحث عنه خارجنا كان يسكننا منذ اللحظة الأولى. كل الطرق التي سرناها، بكل تعبها وخساراتها، كانت دائرةً تعيدنا إلى القلب. هناك فقط يبدأ كل شيء: الطمأنينة، الحب، الإبداع، وحتى السلام.
في لحظة العودة، أشعر أنّني لم أعد في سباق مع الزمن. لا يهم كم تبقى من أيام، المهم أنّ كل يوم هو بداية جديدة. أكتب لا كمن يهرب من النهاية، بل كمن يفتح بابًا جديدًا للحياة. أحبّ لا كمن يخشى الفقد، بل كمن يعي أن الحب نفسه هو البداية والنهاية معًا.
حين نعود إلى البداية، نتعلم أن البساطة ليست سذاجة، بل حكمة. أن الأشياء الصغيرة هي التي تحمل المعنى الكبير: فنجان قهوة في صباحٍ عادي، كلمة حبّ صادقة، لمسة يدٍ تطمئنك أنك لست وحدك. كل هذا هو البداية التي كنا نبحث عنها وسط المدن المزدحمة والأحلام الضخمة.
ربما، في النهاية، كل ما أردته من هذه الرحلة هو أن أصل إلى تلك اللحظة: أن أعود إلى نفسي كما كنت، لكن بوعيٍ أكبر، وبقلبٍ أرحب. أن أجد أن البداية لم تغادرني أبدًا، بل كنتُ أنا من ابتعد عنها.
العودة إلى البداية ليست ختامًا لهذه الصفحات، بل وعدٌ مفتوح. وعد بأن كل صباحٍ يمكن أن يكون بداية جديدة، وأنّ كل سقوط يمكن أن يكون نهوضًا، وأنّ النهاية ليست إلا بابًا آخر يقودنا إلى بداية أوسع.
النهايه تم النشر لكم جزيرة الشكر
#مرافئ_الروح
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ 📖 مرافئ الروح
✍️ هاني الميهى
الفصل الخامس عشر: العودة إلى البداية
كأنّ الرحلة، بكل ما حملته من فصولٍ متشعبة، لم تكن سوى دائرةٍ تعيدني إلى النقطة الأولى. العودة ليست تراجعًا، بل اكتشافٌ جديد للمعنى الذي كدنا نضيّعه وسط الضجيج. حين ننتهي من التيه ونقف في منتصف العمر أو نهايته، نكتشف أنّ البداية لم تكن في أول خطوة، بل في الوعي بأننا بدأنا أصلًا.
العودة إلى البداية ليست رجوعًا إلى طفولةٍ ضاعت، ولا محاولة لإعادة عقارب الزمن. إنها وقوفٌ أمام المرآة بعد كل ما مرّ، وقولٌ صادق: ˝ها أنا ذا، بنفس القلب الذي خاف وحلم وضاع ووجد نفسه من جديد˝.
حين كنت صغيرًا، كنت أظن أن البداية هي مجرد ولادة. ثم كبرت فظننت أنها لحظة الانطلاق إلى العالم، أو أول حب، أو أول خسارة. لكنني اليوم أرى أن البداية الحقيقية تحدث كل مرة نجرؤ فيها أن نعيد ترتيب الداخل، أن نغفر لأنفسنا، أن نبدأ من جديد بلا خوف من التكرار.
في العودة إلى البداية، يصبح الماضي معلمًا لا عبئًا. نتذكر أننا لم نخسر كل شيء كما كنا نظن، وأنّ حتى الندوب التي تركها الزمن ما هي إلا وشمٌ يمنحنا شكلنا الخاص. العودة ليست مسحًا للتجربة، بل قبولًا بها كجزءٍ منّا، جزءٍ صنع هذا الوجه الذي صار يعرف نفسه أخيرًا.
أتأمل طفولتي فأرى ملامح الحلم الأول: بيتٌ بسيط، ضحكة بريئة، خوفٌ صغير من المجهول. أتأمل شبابي فأجد صخبًا، أحلامًا متراكضة، ورغبة في أن أمسك العالم بيدي. ثم أنظر إلى حاضري فأدرك أنّ كل تلك الطبقات لم تذهب هباءً، بل اجتمعت لتصنع هذه اللحظة: لحظة العودة إلى البداية وقد صرت أعرف قيمتها.
العودة إلى البداية تعني أن نفهم أنّ ما نبحث عنه خارجنا كان يسكننا منذ اللحظة الأولى. كل الطرق التي سرناها، بكل تعبها وخساراتها، كانت دائرةً تعيدنا إلى القلب. هناك فقط يبدأ كل شيء: الطمأنينة، الحب، الإبداع، وحتى السلام.
في لحظة العودة، أشعر أنّني لم أعد في سباق مع الزمن. لا يهم كم تبقى من أيام، المهم أنّ كل يوم هو بداية جديدة. أكتب لا كمن يهرب من النهاية، بل كمن يفتح بابًا جديدًا للحياة. أحبّ لا كمن يخشى الفقد، بل كمن يعي أن الحب نفسه هو البداية والنهاية معًا.
حين نعود إلى البداية، نتعلم أن البساطة ليست سذاجة، بل حكمة. أن الأشياء الصغيرة هي التي تحمل المعنى الكبير: فنجان قهوة في صباحٍ عادي، كلمة حبّ صادقة، لمسة يدٍ تطمئنك أنك لست وحدك. كل هذا هو البداية التي كنا نبحث عنها وسط المدن المزدحمة والأحلام الضخمة.
ربما، في النهاية، كل ما أردته من هذه الرحلة هو أن أصل إلى تلك اللحظة: أن أعود إلى نفسي كما كنت، لكن بوعيٍ أكبر، وبقلبٍ أرحب. أن أجد أن البداية لم تغادرني أبدًا، بل كنتُ أنا من ابتعد عنها.
العودة إلى البداية ليست ختامًا لهذه الصفحات، بل وعدٌ مفتوح. وعد بأن كل صباحٍ يمكن أن يكون بداية جديدة، وأنّ كل سقوط يمكن أن يكون نهوضًا، وأنّ النهاية ليست إلا بابًا آخر يقودنا إلى بداية أوسع.
كنتُ أظنّ أنّني أعيش وحيدًا، وأنّ انعكاسي في المرآة هو الرفيق الوحيد لخطواتي المرهقة في دهاليز الحياة. غير أنّني، مع مرور الوقت، اكتشفت أنّ وحدتي لم تكن خالية كما اعتقدت، بل كانت مكتظة بوجوهٍ غامضة تتراءى في داخلي، وجوه لم أعد أعرف هل هي من الماضي، أم من خيالي، أم أنّها مجرّد أشباحٍ صنعها عقلي لئلّا ينهار تحت وطأة الفراغ.
كلّ وجهٍ منها يحمل ملامح قصّة لم تكتمل، وندبة لم تلتئم، وحرفًا لم يُكتب بعد. أحيانًا كنت أرى وجوهًا قديمة، وجوهًا عبرت حياتي ورحلت، وأحيانًا أخرى تظهر وجوه لا أعرفها، كأنّها وجوه لم ألتقِ بها بعد، لكنها تُقيم في داخلي منذ الأزل.
أجلس في عتمة غرفتي، أطفئ الأنوار كي يتجلّى الصمت، فأراهم جميعًا. يقتربون، يتباعدون، يتهامسون، ويتركونني فريسةً لذكرياتٍ لم أعشها، وأحلامٍ لم أختبرها. كأنّ داخلي صار مسرحًا يُعرض فيه شريطٌ لا ينتهي، أبطاله وجوه لا تغادرني.
كنتُ أسمّي هذا الازدحام الداخلي \"ذاكرة الظلال\". فالوجوه التي تسكنني ليست واضحة الملامح تمامًا، بل تظلّ غائمة، مترددة بين الظهور والاختفاء، كأنّها ضوءٌ خافت يتردّد على جدران الروح.
---
من بين تلك الوجوه، كان وجه أبي يطلّ عليّ كثيرًا. لم يكن يبتسم، ولم يكن يعبس، بل كان يحمل نظرةً ثابتة، نظرة رجلٍ رحل قبل أن يُكمل وصاياه. كنتُ أسمع صوته في داخلي، يقول جملةً واحدة تتكرر: \"لا تترك نفسك للريح، ابحث عن المرفأ.\" كنتُ أتساءل في كل مرة: أيُّ مرفأ يقصد؟ وهل ثمّة مرفأ حقيقي لهذه الروح المتعبة؟
ثم يظهر وجه آخر: وجه امرأةٍ عابرة، ربما لم أرها في حياتي إلّا مرّة واحدة، في محطة قطار مزدحمة. لكنها تسكنني منذ ذلك اليوم. كنتُ أتذكّر عينيها الواسعتين، كأنّهما نافذتان على حزنٍ بلا نهاية. لم أكن أعرف اسمها، ولا قصتها، ومع ذلك، ظلّت صورتها محفورةً في داخلي كأنها رسالة غامضة لم أفكّ شيفرتها بعد.
---
هناك أيضًا وجوهٌ أكثر قسوة، وجوه من أصدقائي القدامى الذين خذلوني. يظهرون في داخلي ليس كأشخاصٍ عاديين، بل كظلالٍ داكنة تهمس لي كلما حاولت أن أنسى: \"نحن خيباتك الأولى، لا تحاول أن تمحو آثارنا.\"
وأحيانًا، حين أستسلم للتأمل العميق، يخرج من أعماقي وجهٌ يشبهني كثيرًا، لكنّه ليس أنا. يشبهني في الملامح، لكن نظرته مختلفة. نظرة تحمل جرأة لم أجرؤ عليها يومًا، تحمل تلك القدرة على اتخاذ القرارات التي طالما هربت منها. كنتُ أخاف من هذا الوجه، لأنّه يكشف لي صورة \"أنا\" التي لم أعشها، وكأنّ داخلي يخبرني: \"هكذا كان يمكن أن تكون لو لم تخَف.\"
---
كلّ هذه الوجوه جعلتني أستوعب أنّ الإنسان لا يعيش بوجهٍ واحد، بل بوجوهٍ عديدة تظلّ تلاحقه، بعضها من ماضيه، وبعضها من مستقبله، وبعضها من احتمالات لم تتحقق.
أحيانًا، في لحظات الصمت، كنت أشعر أن هذه الوجوه ليست سوى محطات روحية، مرافئ صغيرة ترسو عندها ذاكرتي المنهكة. فكما أنّ السفينة لا تستطيع أن تظلّ في عرض البحر إلى الأبد، كذلك الروح تحتاج إلى وجوهٍ ترسو عندها، حتى لو كانت وجوهًا منسية أو مجهولة.
كنتُ أراقب نفسي وأنا أتنقّل من وجهٍ إلى آخر، وكأنني أعبر قاراتٍ داخلية لا نهاية لها. كلّ وجهٍ يفتح بابًا على حكاية، وكلّ حكاية تحمل في طيّاتها درسًا لم أفهمه بعد.
---
لكنّ الخوف كان يكمن في سؤالٍ واحد: ماذا لو فقدتُ قدرتي على التمييز بين هذه الوجوه وبين وجهي الحقيقي؟ ماذا لو صرتُ مجرد انعكاسٍ لظلال الآخرين الذين يسكنونني؟
في إحدى الليالي، وبينما كنتُ غارقًا في هذا التيه، رأيتُ مشهدًا غريبًا في منامي: كنتُ في قاعةٍ كبيرة، جدرانها من مرايا ضخمة، وفي كل مرآة ينعكس وجه مختلف من الوجوه التي أعرفها. كان عليَّ أن أختار وجهًا واحدًا لأخرج من القاعة، لكن كل وجهٍ كان يناديني باسمي، وكل وجهٍ كان يقنعني أنّه أنا.
استيقظتُ من الحلم مذعورًا، والعرق يتصبّب من جبيني. لم يكن الحلم مجرّد كابوس عابر، بل كان رسالة: أنني إن لم أجد مرفأً لروحي، فسوف أغرق في بحر الوجوه المتعددة إلى الأبد.
---
منذ ذلك اليوم، بدأتُ أتعامل مع هذه الوجوه لا كأشباحٍ تخيفني، بل كأدلةٍ ترشدني. كلّ وجهٍ يحمل إشارةً إلى جزءٍ مفقودٍ من ذاتي. وجه أبي يذكّرني بالثبات، وجه المرأة المجهولة يعلّمني أنّ الحزن أحيانًا أعمق من الكلام، وجوه الأصدقاء الخائنين تجعلني أكثر حذرًا، والوجه الذي يشبهني ولا يشبهني يذكّرني أنّ الفرص الضائعة يمكن أن تصبح بوصلة جديدة.
لقد فهمتُ أنّ الروح لا تُبنى من الفراغ، بل من الوجوه التي تترك بصمتها في داخلها. نحن لسنا سوى حصيلةٍ لكلّ من مرّ بنا، أحبّنا أو آذانا، ابتسم لنا أو تركنا.
---
هكذا صرتُ أكثر تصالحًا مع \"الوجوه التي تسكنني\". لم أعد أهرب منها، ولم أعد أطفئ الأنوار لأتخلّص منها، بل صرتُ أجلس معها كأنّها ضيوفٌ دائمون. وربما، في لحظة ما، أدركتُ أنّني أنا أيضًا وجهٌ يسكن الآخرين، كما يسكنونني. وأنّ المرافئ التي أبحث عنها ليست أماكن بعيدة، بل وجوهًا بشرية كانت دومًا حولي، تنتظر فقط أن أفتح الباب وأستقبلها.
في النهاية، لم يعد الخوف من هذه الوجوه كما كان، بل صار يقينًا بأنّها جزءٌ من الرحلة. فالروح، مثل سفينةٍ صغيرة، تحتاج إلى أن تمرّ على أكثر من مرفأ، وأن تحمل على ظهرها آثار كلّ ميناء ترسو فيه.
#مرافئ_الروح
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ كتاب مرافئ الروح
✍️ تأليف : هاني الميهى
الفصل الثالث: الوجوه التي تسكنني
كنتُ أظنّ أنّني أعيش وحيدًا، وأنّ انعكاسي في المرآة هو الرفيق الوحيد لخطواتي المرهقة في دهاليز الحياة. غير أنّني، مع مرور الوقت، اكتشفت أنّ وحدتي لم تكن خالية كما اعتقدت، بل كانت مكتظة بوجوهٍ غامضة تتراءى في داخلي، وجوه لم أعد أعرف هل هي من الماضي، أم من خيالي، أم أنّها مجرّد أشباحٍ صنعها عقلي لئلّا ينهار تحت وطأة الفراغ.
كلّ وجهٍ منها يحمل ملامح قصّة لم تكتمل، وندبة لم تلتئم، وحرفًا لم يُكتب بعد. أحيانًا كنت أرى وجوهًا قديمة، وجوهًا عبرت حياتي ورحلت، وأحيانًا أخرى تظهر وجوه لا أعرفها، كأنّها وجوه لم ألتقِ بها بعد، لكنها تُقيم في داخلي منذ الأزل.
أجلس في عتمة غرفتي، أطفئ الأنوار كي يتجلّى الصمت، فأراهم جميعًا. يقتربون، يتباعدون، يتهامسون، ويتركونني فريسةً لذكرياتٍ لم أعشها، وأحلامٍ لم أختبرها. كأنّ داخلي صار مسرحًا يُعرض فيه شريطٌ لا ينتهي، أبطاله وجوه لا تغادرني.
كنتُ أسمّي هذا الازدحام الداخلي ˝ذاكرة الظلال˝. فالوجوه التي تسكنني ليست واضحة الملامح تمامًا، بل تظلّ غائمة، مترددة بين الظهور والاختفاء، كأنّها ضوءٌ خافت يتردّد على جدران الروح.
-
من بين تلك الوجوه، كان وجه أبي يطلّ عليّ كثيرًا. لم يكن يبتسم، ولم يكن يعبس، بل كان يحمل نظرةً ثابتة، نظرة رجلٍ رحل قبل أن يُكمل وصاياه. كنتُ أسمع صوته في داخلي، يقول جملةً واحدة تتكرر: ˝لا تترك نفسك للريح، ابحث عن المرفأ.˝ كنتُ أتساءل في كل مرة: أيُّ مرفأ يقصد؟ وهل ثمّة مرفأ حقيقي لهذه الروح المتعبة؟
ثم يظهر وجه آخر: وجه امرأةٍ عابرة، ربما لم أرها في حياتي إلّا مرّة واحدة، في محطة قطار مزدحمة. لكنها تسكنني منذ ذلك اليوم. كنتُ أتذكّر عينيها الواسعتين، كأنّهما نافذتان على حزنٍ بلا نهاية. لم أكن أعرف اسمها، ولا قصتها، ومع ذلك، ظلّت صورتها محفورةً في داخلي كأنها رسالة غامضة لم أفكّ شيفرتها بعد.
-
هناك أيضًا وجوهٌ أكثر قسوة، وجوه من أصدقائي القدامى الذين خذلوني. يظهرون في داخلي ليس كأشخاصٍ عاديين، بل كظلالٍ داكنة تهمس لي كلما حاولت أن أنسى: ˝نحن خيباتك الأولى، لا تحاول أن تمحو آثارنا.˝
وأحيانًا، حين أستسلم للتأمل العميق، يخرج من أعماقي وجهٌ يشبهني كثيرًا، لكنّه ليس أنا. يشبهني في الملامح، لكن نظرته مختلفة. نظرة تحمل جرأة لم أجرؤ عليها يومًا، تحمل تلك القدرة على اتخاذ القرارات التي طالما هربت منها. كنتُ أخاف من هذا الوجه، لأنّه يكشف لي صورة ˝أنا˝ التي لم أعشها، وكأنّ داخلي يخبرني: ˝هكذا كان يمكن أن تكون لو لم تخَف.˝
-
كلّ هذه الوجوه جعلتني أستوعب أنّ الإنسان لا يعيش بوجهٍ واحد، بل بوجوهٍ عديدة تظلّ تلاحقه، بعضها من ماضيه، وبعضها من مستقبله، وبعضها من احتمالات لم تتحقق.
أحيانًا، في لحظات الصمت، كنت أشعر أن هذه الوجوه ليست سوى محطات روحية، مرافئ صغيرة ترسو عندها ذاكرتي المنهكة. فكما أنّ السفينة لا تستطيع أن تظلّ في عرض البحر إلى الأبد، كذلك الروح تحتاج إلى وجوهٍ ترسو عندها، حتى لو كانت وجوهًا منسية أو مجهولة.
كنتُ أراقب نفسي وأنا أتنقّل من وجهٍ إلى آخر، وكأنني أعبر قاراتٍ داخلية لا نهاية لها. كلّ وجهٍ يفتح بابًا على حكاية، وكلّ حكاية تحمل في طيّاتها درسًا لم أفهمه بعد.
-
لكنّ الخوف كان يكمن في سؤالٍ واحد: ماذا لو فقدتُ قدرتي على التمييز بين هذه الوجوه وبين وجهي الحقيقي؟ ماذا لو صرتُ مجرد انعكاسٍ لظلال الآخرين الذين يسكنونني؟
في إحدى الليالي، وبينما كنتُ غارقًا في هذا التيه، رأيتُ مشهدًا غريبًا في منامي: كنتُ في قاعةٍ كبيرة، جدرانها من مرايا ضخمة، وفي كل مرآة ينعكس وجه مختلف من الوجوه التي أعرفها. كان عليَّ أن أختار وجهًا واحدًا لأخرج من القاعة، لكن كل وجهٍ كان يناديني باسمي، وكل وجهٍ كان يقنعني أنّه أنا.
استيقظتُ من الحلم مذعورًا، والعرق يتصبّب من جبيني. لم يكن الحلم مجرّد كابوس عابر، بل كان رسالة: أنني إن لم أجد مرفأً لروحي، فسوف أغرق في بحر الوجوه المتعددة إلى الأبد.
-
منذ ذلك اليوم، بدأتُ أتعامل مع هذه الوجوه لا كأشباحٍ تخيفني، بل كأدلةٍ ترشدني. كلّ وجهٍ يحمل إشارةً إلى جزءٍ مفقودٍ من ذاتي. وجه أبي يذكّرني بالثبات، وجه المرأة المجهولة يعلّمني أنّ الحزن أحيانًا أعمق من الكلام، وجوه الأصدقاء الخائنين تجعلني أكثر حذرًا، والوجه الذي يشبهني ولا يشبهني يذكّرني أنّ الفرص الضائعة يمكن أن تصبح بوصلة جديدة.
لقد فهمتُ أنّ الروح لا تُبنى من الفراغ، بل من الوجوه التي تترك بصمتها في داخلها. نحن لسنا سوى حصيلةٍ لكلّ من مرّ بنا، أحبّنا أو آذانا، ابتسم لنا أو تركنا.
-
هكذا صرتُ أكثر تصالحًا مع ˝الوجوه التي تسكنني˝. لم أعد أهرب منها، ولم أعد أطفئ الأنوار لأتخلّص منها، بل صرتُ أجلس معها كأنّها ضيوفٌ دائمون. وربما، في لحظة ما، أدركتُ أنّني أنا أيضًا وجهٌ يسكن الآخرين، كما يسكنونني. وأنّ المرافئ التي أبحث عنها ليست أماكن بعيدة، بل وجوهًا بشرية كانت دومًا حولي، تنتظر فقط أن أفتح الباب وأستقبلها.
في النهاية، لم يعد الخوف من هذه الوجوه كما كان، بل صار يقينًا بأنّها جزءٌ من الرحلة. فالروح، مثل سفينةٍ صغيرة، تحتاج إلى أن تمرّ على أكثر من مرفأ، وأن تحمل على ظهرها آثار كلّ ميناء ترسو فيه.
العزلة… كلمة تبدو لأول وهلة وكأنها سجن، أو عقاب يُفرض على الروح. لكن حين نغوص في أعماقها، نكتشف أن العزلة ليست فراغًا، بل سيمفونية خفية لا تُسمع إلا لمن يملك الشجاعة على الصمت. هناك موسيقى تنبثق من الغياب، من الصمت، من المسافات التي تفصلنا عن العالم، لتصير عزلة الإنسان مع نفسه أعمق أشكال اللقاء.
العزلة كغرفة مغلقة… وباب مفتوح
حين ينغلق الإنسان على نفسه، يظن البعض أنه انسحب من الحياة، لكن الحقيقة أن العزلة باب آخر للحياة. هي مساحة ينسحب فيها المرء من ضوضاء العالم، ليعود فيسمع نبض قلبه، ويدرك أن داخله عالمًا لم يكتشفه بعد.
العزلة ليست هروبًا، بل عودة. هي المرفأ الذي ترسو فيه السفينة حين يرهقها الموج، لتصلح شراعها، وتستعيد قوتها، ثم تعود للإبحار من جديد.
الموسيقى الخفية
في لحظات العزلة، حين يسود الصمت، تبدأ الروح في عزف موسيقاها الخاصة. إنها ليست موسيقى تُسمع بالأذن، بل تُحَس بالقلب. حين نجلس وحيدين، نسمع أصواتًا لم نسمعها من قبل: همس الأفكار، حوار الذكريات، وقع الخطوات الغائبة، وحتى صدى الأمنيات التي لم تُولد بعد.
هذه الموسيقى ليست مجرد صمت، بل انسجام بين الداخل والخارج. العزلة تجعلنا نسمع كيف يتحدث العالم إلينا حين نصمت نحن.
عزلة المبدعين
ما من مبدع وُلد دون أن يمرّ بمرحلة عزلة. الشعراء، الفلاسفة، الرسامون، كلهم عرفوا أن العزلة ليست خيارًا بل قدر. في عزلاتهم نسجوا أجمل القصائد، ورسموا أعظم اللوحات، وكتبوا أعمق الأفكار.
العزلة هنا لم تكن هروبًا من الناس، بل مواجهة أصدق مع النفس. إنها المرآة التي لا تجمّل شيئًا ولا تخفي شيئًا. في العزلة يُمتحَن المبدع أمام ذاته: هل يملك الشجاعة لكتابة ما يراه؟ هل يحتمل مواجهة صوته الداخلي بلا أقنعة؟
العزلة كعلاج
في زمن الضوضاء، قد تكون العزلة شفاءً. كل يوم ينهال على الإنسان سيل من الأصوات، الأخبار، الصور، العلاقات المتشابكة، حتى يفقد القدرة على سماع صوته الخاص. هنا تأتي العزلة لتكون مساحة علاجية، تردّ للإنسان صوته الداخلي، وتعيد له القدرة على الإصغاء إلى ذاته.
كم من قرار مصيري وُلد في عزلة صافية؟ كم من جرح اندمل لأن صاحبه انسحب من صخب الناس ليعيد بناء نفسه في هدوء؟ العزلة، بهذا المعنى، دواء بطيء، لكنه فعال.
العزلة والحرية
paradoxically، العزلة تمنحنا حرية أوسع. حين نبتعد عن الناس، نتحرر من نظراتهم، من أحكامهم، من ثقل توقعاتهم. نصبح قادرين على أن نكون كما نحن، بلا زيف ولا أقنعة.
في عزلة صافية، يمكن للإنسان أن يعترف بأخطائه بلا خوف، أن يبكي بلا حرج، أن يبتسم بلا سبب. الحرية هنا ليست فعلًا خارجيًا، بل انعتاق داخلي.
الخوف من العزلة
ومع ذلك، ليست العزلة سهلة. كثيرون يخافون منها لأنها تكشف لهم ما يحاولون إخفاءه. في صمت العزلة، تخرج الأصوات التي نحاول إغراقها في ضجيج الآخرين. لهذا يهرب الناس إلى الحشود، إلى الشاشات، إلى الضوضاء، حتى لا يواجهوا أنفسهم.
لكن الشجاعة الحقيقية هي أن ندخل العزلة ونصغي لما تقوله لنا. قد تكون الرسائل موجعة في البداية، لكنها السبيل الوحيد إلى الصدق.
موسيقى الغياب
العزلة أيضًا موسيقى الغياب. حين يغيب الآخرون، يترك فراغهم نغمة جديدة في داخلنا. نشعر بالحنين، بالافتقاد، وربما بالحرية. كل غياب يحمل لحنًا خاصًا: غياب صديق قديم، غياب الحبيب، غياب الوطن. هذه الألحان تُعزف في الداخل لتصير جزءًا من سيمفونية الروح.
عزلة الليل
الليل هو المسرح الأكبر لموسيقى العزلة. حين تنام
#مرافئ_الروح
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ مرافئ الروح
الكاتب : هاني الميهى
الفصل الثامن: موسيقى العزلة
العزلة… كلمة تبدو لأول وهلة وكأنها سجن، أو عقاب يُفرض على الروح. لكن حين نغوص في أعماقها، نكتشف أن العزلة ليست فراغًا، بل سيمفونية خفية لا تُسمع إلا لمن يملك الشجاعة على الصمت. هناك موسيقى تنبثق من الغياب، من الصمت، من المسافات التي تفصلنا عن العالم، لتصير عزلة الإنسان مع نفسه أعمق أشكال اللقاء.
العزلة كغرفة مغلقة… وباب مفتوح
حين ينغلق الإنسان على نفسه، يظن البعض أنه انسحب من الحياة، لكن الحقيقة أن العزلة باب آخر للحياة. هي مساحة ينسحب فيها المرء من ضوضاء العالم، ليعود فيسمع نبض قلبه، ويدرك أن داخله عالمًا لم يكتشفه بعد.
العزلة ليست هروبًا، بل عودة. هي المرفأ الذي ترسو فيه السفينة حين يرهقها الموج، لتصلح شراعها، وتستعيد قوتها، ثم تعود للإبحار من جديد.
الموسيقى الخفية
في لحظات العزلة، حين يسود الصمت، تبدأ الروح في عزف موسيقاها الخاصة. إنها ليست موسيقى تُسمع بالأذن، بل تُحَس بالقلب. حين نجلس وحيدين، نسمع أصواتًا لم نسمعها من قبل: همس الأفكار، حوار الذكريات، وقع الخطوات الغائبة، وحتى صدى الأمنيات التي لم تُولد بعد.
هذه الموسيقى ليست مجرد صمت، بل انسجام بين الداخل والخارج. العزلة تجعلنا نسمع كيف يتحدث العالم إلينا حين نصمت نحن.
عزلة المبدعين
ما من مبدع وُلد دون أن يمرّ بمرحلة عزلة. الشعراء، الفلاسفة، الرسامون، كلهم عرفوا أن العزلة ليست خيارًا بل قدر. في عزلاتهم نسجوا أجمل القصائد، ورسموا أعظم اللوحات، وكتبوا أعمق الأفكار.
العزلة هنا لم تكن هروبًا من الناس، بل مواجهة أصدق مع النفس. إنها المرآة التي لا تجمّل شيئًا ولا تخفي شيئًا. في العزلة يُمتحَن المبدع أمام ذاته: هل يملك الشجاعة لكتابة ما يراه؟ هل يحتمل مواجهة صوته الداخلي بلا أقنعة؟
العزلة كعلاج
في زمن الضوضاء، قد تكون العزلة شفاءً. كل يوم ينهال على الإنسان سيل من الأصوات، الأخبار، الصور، العلاقات المتشابكة، حتى يفقد القدرة على سماع صوته الخاص. هنا تأتي العزلة لتكون مساحة علاجية، تردّ للإنسان صوته الداخلي، وتعيد له القدرة على الإصغاء إلى ذاته.
كم من قرار مصيري وُلد في عزلة صافية؟ كم من جرح اندمل لأن صاحبه انسحب من صخب الناس ليعيد بناء نفسه في هدوء؟ العزلة، بهذا المعنى، دواء بطيء، لكنه فعال.
العزلة والحرية
paradoxically، العزلة تمنحنا حرية أوسع. حين نبتعد عن الناس، نتحرر من نظراتهم، من أحكامهم، من ثقل توقعاتهم. نصبح قادرين على أن نكون كما نحن، بلا زيف ولا أقنعة.
في عزلة صافية، يمكن للإنسان أن يعترف بأخطائه بلا خوف، أن يبكي بلا حرج، أن يبتسم بلا سبب. الحرية هنا ليست فعلًا خارجيًا، بل انعتاق داخلي.
الخوف من العزلة
ومع ذلك، ليست العزلة سهلة. كثيرون يخافون منها لأنها تكشف لهم ما يحاولون إخفاءه. في صمت العزلة، تخرج الأصوات التي نحاول إغراقها في ضجيج الآخرين. لهذا يهرب الناس إلى الحشود، إلى الشاشات، إلى الضوضاء، حتى لا يواجهوا أنفسهم.
لكن الشجاعة الحقيقية هي أن ندخل العزلة ونصغي لما تقوله لنا. قد تكون الرسائل موجعة في البداية، لكنها السبيل الوحيد إلى الصدق.
موسيقى الغياب
العزلة أيضًا موسيقى الغياب. حين يغيب الآخرون، يترك فراغهم نغمة جديدة في داخلنا. نشعر بالحنين، بالافتقاد، وربما بالحرية. كل غياب يحمل لحنًا خاصًا: غياب صديق قديم، غياب الحبيب، غياب الوطن. هذه الألحان تُعزف في الداخل لتصير جزءًا من سيمفونية الروح.
❞ مرافئ الروح
✍️ تأليف : هاني الميهى
---
الفصل الرابع: خرائط الغياب
الغياب كلمةٌ صغيرة، لكنها تحمل في طياتها عالَمًا كاملًا من الفراغات، كأنها بحر ممتد بلا شاطئ، أو صحراء لا تُرى نهايتها. حين يطرق الغياب أبوابنا، لا يدخل خفيفًا، بل يقتحم الروح اقتحامًا، ويترك فيها ندوبًا عميقة لا يراها أحد، لكنها تظل تنبض سرًا مع كل خطوة نخطوها.
في طفولتي، كنت أظن أن الغياب هو غياب الجسد فقط، أن يغيب أبي إلى عمله، أو أن تسافر أمي يومًا إلى زيارة أهلها، فأعدّ الساعات انتظارًا. كنت أظن أن كل غياب له نهاية، وأن كل من يبتعد سيعود لا محالة. لكن الزمن، هذا المعلّم القاسي، أثبت لي أن بعض الغيابات لا عودة منها، وأن هناك وجوهًا يغمرها الغياب كما يغمر البحر حبات الرمل، فلا تعود كما كانت أبدًا.
اليوم، وأنا أجلس أمام دفتر أوراقي، أجدني أرسم خرائط خفية، ليست خرائط لمدن أو بلدان، بل خرائط للوجوه التي غابت عني، للأصوات التي سكنت سكونًا أبديًّا. كل نقطة على هذه الخريطة هي جرح قديم، وكل خط فيها هو أثر ليدٍ كانت تمسك بي ثم أفلتتني. الغياب يا صديقي، ليس حدثًا عابرًا، بل هو جغرافيا كاملة تنمو في الداخل حتى تبتلع شيئًا من ملامحك أنت نفسك.
أتذكر جيدًا أول مرة واجهت غيابًا حقيقيًا. لم يكن سفرًا ولا غيابًا مؤقتًا، بل موتًا مباغتًا. وجدت نفسي في مواجهة كبرى مع السؤال الذي لا إجابة له: لماذا يختفي الذين نحبهم؟ لماذا يتركنا البعض فجأة في منتصف الطريق؟ في تلك اللحظة، شعرت أن الغياب ليس مساحة فارغة، بل امتلاء خانق، كأنه ملأ رئتيّ بالأسى، ومنعني أن أتنفس إلا ببطء.
منذ ذلك الحين، أدركت أن الغياب لا يُقاس بالمسافة، بل بالوجع. قد يكون من تحب قريبًا منك جسديًا، لكنه غائب عنك بروحه، وقد يكون بعيدًا آلاف الأميال لكن حضوره في قلبك يملأ الفراغ كله. الغياب الحقيقي إذن، ليس أن يختفي الجسد، بل أن يتركك الآخر بلا معنى، بلا أثر حيّ.
ولأن الروح لا تحتمل الفراغ، فإنها تبدأ بصناعة خرائط خفية، خرائط تحفظ بها أثر الغائبين، كأنها ترفض أن تستسلم للعدم. أجدني أستعيد كلمات قديمة، ضحكات تلاشت، نظرات عبرت، وكأن ذاكرتي تحوّلت إلى أرشيف لا ينتهي. أحيانًا أظن أنني أعيش أكثر في خرائط الغياب مما أعيش في واقع الحضور.
لقد علّمني الغياب أن لكل إنسان في حياتي مكانًا خاصًا في داخلي، فإذا غاب، بقي مكانه فارغًا لكنه محدّد بدقة، كجزيرة في وسط محيط، لا تراها السفن لكنها مسجلة في دفاتر الملاحين. بعض هذه الجزر تنطفئ مع الزمن، وبعضها يظل يضيء كمنارة، يستحيل تجاهلها.
الغياب أيضًا يعلّم الصبر، لكنه صبر مُرّ. أن تعيش مع سؤال معلّق بلا جواب، أن تبتسم للناس بينما في داخلك جدار ينهار كل يوم، أن تواصل حياتك وأنت تدرك أن شيئًا أساسيًا لن يعود أبدًا. إنه امتحان طويل المدى، لكنه يصقل الروح، يجعلها أكثر وعيًا بقيمة ما بقي، وأشد حذرًا من إهدار لحظة مع من نحب.
ومع ذلك، لا أستطيع أن أصف الغياب بالعدو فقط. ففي قلب الغياب يكمن المعنى أيضًا. حين يغيب عنا من نحبهم، نكتشف أن حضورهم لم يكن عاديًا، بل كان نعمة لم ندرك قيمتها. الغياب يضعنا أمام المرآة لنرى أنفسنا عراة من الأوهام، ويجبرنا أن نسأل: ما الذي يبقى من كل علاقة؟ ما الذي ينجو من الزمن؟
كل غياب، في النهاية، يتحوّل إلى معلم على طريق الرحلة. نتعثر عنده، ننزف، ثم نواصل السير، لكننا لا نعود كما كنا قبل أن نمرّ به. الغياب لا يُمحى، لكنه يُهذّب. إنه مثل علامات الطريق التي يرسمها المسافرون على الصخور: تذكير بأن أحدًا قد مرّ من هنا، وأنك لست وحدك في هذا التيه.
وها أنا أكتب هذه الكلمات، كأنني أرسم خريطة جديدة، أضع عليها أسماء من غابوا، وأترك مساحة بيضاء لغيابات قادمة أعلم أنها ستطرق بابي. لكني هذه المرة، لا أرتجف كما كنت أفعل في البداية، بل أستعد. فالغياب صار رفيقًا مألوفًا، وصارت خرائطه كتابًا مفتوحًا أتعلم منه في كل صفحة.
وأقول لنفسي:
\"إن الغياب، مهما طال، لا يملك أن يطفئ نور الحضور. هو فقط يغيّر شكله، يحوّل الحضور من صورة خارجية إلى جذور غائرة في القلب.\"
#مرافئ_الروح
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ مرافئ الروح
✍️ تأليف : هاني الميهى
-
الفصل الرابع: خرائط الغياب
الغياب كلمةٌ صغيرة، لكنها تحمل في طياتها عالَمًا كاملًا من الفراغات، كأنها بحر ممتد بلا شاطئ، أو صحراء لا تُرى نهايتها. حين يطرق الغياب أبوابنا، لا يدخل خفيفًا، بل يقتحم الروح اقتحامًا، ويترك فيها ندوبًا عميقة لا يراها أحد، لكنها تظل تنبض سرًا مع كل خطوة نخطوها.
في طفولتي، كنت أظن أن الغياب هو غياب الجسد فقط، أن يغيب أبي إلى عمله، أو أن تسافر أمي يومًا إلى زيارة أهلها، فأعدّ الساعات انتظارًا. كنت أظن أن كل غياب له نهاية، وأن كل من يبتعد سيعود لا محالة. لكن الزمن، هذا المعلّم القاسي، أثبت لي أن بعض الغيابات لا عودة منها، وأن هناك وجوهًا يغمرها الغياب كما يغمر البحر حبات الرمل، فلا تعود كما كانت أبدًا.
اليوم، وأنا أجلس أمام دفتر أوراقي، أجدني أرسم خرائط خفية، ليست خرائط لمدن أو بلدان، بل خرائط للوجوه التي غابت عني، للأصوات التي سكنت سكونًا أبديًّا. كل نقطة على هذه الخريطة هي جرح قديم، وكل خط فيها هو أثر ليدٍ كانت تمسك بي ثم أفلتتني. الغياب يا صديقي، ليس حدثًا عابرًا، بل هو جغرافيا كاملة تنمو في الداخل حتى تبتلع شيئًا من ملامحك أنت نفسك.
أتذكر جيدًا أول مرة واجهت غيابًا حقيقيًا. لم يكن سفرًا ولا غيابًا مؤقتًا، بل موتًا مباغتًا. وجدت نفسي في مواجهة كبرى مع السؤال الذي لا إجابة له: لماذا يختفي الذين نحبهم؟ لماذا يتركنا البعض فجأة في منتصف الطريق؟ في تلك اللحظة، شعرت أن الغياب ليس مساحة فارغة، بل امتلاء خانق، كأنه ملأ رئتيّ بالأسى، ومنعني أن أتنفس إلا ببطء.
منذ ذلك الحين، أدركت أن الغياب لا يُقاس بالمسافة، بل بالوجع. قد يكون من تحب قريبًا منك جسديًا، لكنه غائب عنك بروحه، وقد يكون بعيدًا آلاف الأميال لكن حضوره في قلبك يملأ الفراغ كله. الغياب الحقيقي إذن، ليس أن يختفي الجسد، بل أن يتركك الآخر بلا معنى، بلا أثر حيّ.
ولأن الروح لا تحتمل الفراغ، فإنها تبدأ بصناعة خرائط خفية، خرائط تحفظ بها أثر الغائبين، كأنها ترفض أن تستسلم للعدم. أجدني أستعيد كلمات قديمة، ضحكات تلاشت، نظرات عبرت، وكأن ذاكرتي تحوّلت إلى أرشيف لا ينتهي. أحيانًا أظن أنني أعيش أكثر في خرائط الغياب مما أعيش في واقع الحضور.
لقد علّمني الغياب أن لكل إنسان في حياتي مكانًا خاصًا في داخلي، فإذا غاب، بقي مكانه فارغًا لكنه محدّد بدقة، كجزيرة في وسط محيط، لا تراها السفن لكنها مسجلة في دفاتر الملاحين. بعض هذه الجزر تنطفئ مع الزمن، وبعضها يظل يضيء كمنارة، يستحيل تجاهلها.
الغياب أيضًا يعلّم الصبر، لكنه صبر مُرّ. أن تعيش مع سؤال معلّق بلا جواب، أن تبتسم للناس بينما في داخلك جدار ينهار كل يوم، أن تواصل حياتك وأنت تدرك أن شيئًا أساسيًا لن يعود أبدًا. إنه امتحان طويل المدى، لكنه يصقل الروح، يجعلها أكثر وعيًا بقيمة ما بقي، وأشد حذرًا من إهدار لحظة مع من نحب.
ومع ذلك، لا أستطيع أن أصف الغياب بالعدو فقط. ففي قلب الغياب يكمن المعنى أيضًا. حين يغيب عنا من نحبهم، نكتشف أن حضورهم لم يكن عاديًا، بل كان نعمة لم ندرك قيمتها. الغياب يضعنا أمام المرآة لنرى أنفسنا عراة من الأوهام، ويجبرنا أن نسأل: ما الذي يبقى من كل علاقة؟ ما الذي ينجو من الزمن؟
كل غياب، في النهاية، يتحوّل إلى معلم على طريق الرحلة. نتعثر عنده، ننزف، ثم نواصل السير، لكننا لا نعود كما كنا قبل أن نمرّ به. الغياب لا يُمحى، لكنه يُهذّب. إنه مثل علامات الطريق التي يرسمها المسافرون على الصخور: تذكير بأن أحدًا قد مرّ من هنا، وأنك لست وحدك في هذا التيه.
وها أنا أكتب هذه الكلمات، كأنني أرسم خريطة جديدة، أضع عليها أسماء من غابوا، وأترك مساحة بيضاء لغيابات قادمة أعلم أنها ستطرق بابي. لكني هذه المرة، لا أرتجف كما كنت أفعل في البداية، بل أستعد. فالغياب صار رفيقًا مألوفًا، وصارت خرائطه كتابًا مفتوحًا أتعلم منه في كل صفحة.
وأقول لنفسي:
˝إن الغياب، مهما طال، لا يملك أن يطفئ نور الحضور. هو فقط يغيّر شكله، يحوّل الحضور من صورة خارجية إلى جذور غائرة في القلب.˝
الزمن كائنٌ لا يُرى، لكن أثره حاضرٌ في كل تفاصيل حياتنا. لا يطرق بابًا، ولا يستأذن قلبًا، لكنه يسكن بين أنفاسنا، في حركة عقارب الساعة، وفي تجاعيد الوجوه، وفي ارتجافةٍ عابرة نلمسها حين ندرك فجأة أنّ العمر يمضي بلا توقف.
كثيرًا ما شعرت أنّ الزمن ليس مجرد سياقٍ تتعاقب فيه الأحداث، بل هو بحرٌ هائل نحن غرقاه. نحاول أن نسبح فيه، نضحك أحيانًا، نبني ونحلم، ثم نفاجأ بموجةٍ جارفة تسحبنا إلى أعماقه، فلا نجد من أنفسنا إلّا فتاتًا يتناثر على الشاطئ. الزمن لا يُمهلنا كي نستعيد أنفاسنا، بل يواصل ابتلاعنا شيئًا فشيئًا، حتى نصبح نحن أنفسنا مجرد ذكرى في ذاكرة الآخرين.
في لحظات الصمت العميق كنت أتساءل: ما الزمن حقًا؟ أهو أرقامٌ تتحرك على ساعة جدارٍ مملة؟ أم هو تلك اللحظات التي نخسرها حين نصمت عن قول كلمة حب؟ أم هو ذلك الحنين الذي يداهمنا فجأة فيجعل الماضي حاضرًا وكأنه لم يغب؟
الزمن يبتلعنا حين نهمل أن نعيشه، حين نظن أن الغد مضمون، وأن اللحظة يمكن أن تنتظر. لكنه لا ينتظر. الزمن لا يعرف المجاملات، ولا يلتفت إلى الأماني المؤجلة. الزمن يمشي بخطواته الحادة، لا يلتفت خلفه أبدًا، ولا يمنحنا فرصة إعادة ما فات.
حين نظرت إلى وجهي في المرآة، رأيت آثار الزمن أكثر مما رأيت ملامحي. لم تكن التجاعيد هي ما أرعبني، بل تلك اللحظات التي لم أعشها كما يجب. الزمن لا يسرقنا بالسنوات، بل باللحظات الصغيرة التي نتركها تفلت من أيدينا.
في ليالٍ كثيرة شعرت أنّ الزمن ليس عدوًا مطلقًا. نعم، هو يبتلعنا، لكنه في الوقت نفسه يهبنا معنى. لولا فناؤنا، ما كانت للحظة قيمتها. لولا أن العمر قصير، لما كان للحبّ تلك الجاذبية التي تدفعنا لأن نعيشه بشغفٍ لا يتكرّر. الزمن يعلّمنا أنّ كل ما نملكه حقًا هو \"الآن\"، وأنّ الغد ليس وعدًا مضمونًا.
حين يستيقظ الليل ويصمت كل شيء، كنت أسمع وقع الزمن وهو يعبر داخلي. كان أشبه بقطارٍ يمضي بسرعة هائلة، يحمل على متنه وجوهًا أحببتها، وأحلامًا بدأت وانتهت، وخيباتٍ تركت ندوبها في القلب. كل محطةٍ يمرّ بها القطار كانت تحمل اسمًا: طفولة، شباب، خسارة، بداية، نضج… وكل محطةٍ تُغلق أبوابها بمجرد أن نغادرها.
أدركت أن الزمن لا يُقاس بطول العمر، بل بكثافة التجربة. هناك من يعيش سنوات طويلة فارغة، وهناك من يحيا أيّامًا قليلة لكنها مكتظة بما يكفي ليترك أثرًا خالدًا. الزمن لا يبتلع الجميع بالطريقة نفسها، لكنه يمتحنهم جميعًا بالسؤال ذاته: \"كيف ستعيش اللحظة؟\".
كلما تأملت في الزمن، وجدت نفسي بين خوفٍ ورغبة. أخاف أن ينتهي قبل أن أقول ما في قلبي، وأرغب أن أعيشه بكامل حضوره كأنني لن أراه ثانية. هذا التناقض هو ما يجعلني أسيرًا له، وأحيانًا حرًّا بفضله.
في النهاية، الزمن يبتلعنا جميعًا، لكنه لا يبتلع أثرنا. ما نكتبه، ما نتركه في قلوب الآخرين، ما نغرسه من حبٍّ أو فكرة أو جمال، يبقى شاهدًا على مرورنا، حتى بعد أن نغيب.
#مرافئ_الروح
#هانى_الميهى. ❝ ⏤هاني الميهي
❞ 📖 مرافئ الروح
✍️ هاني الميهى
الفصل الرابع عشر: الزمن الذي يبتلعنا
الزمن كائنٌ لا يُرى، لكن أثره حاضرٌ في كل تفاصيل حياتنا. لا يطرق بابًا، ولا يستأذن قلبًا، لكنه يسكن بين أنفاسنا، في حركة عقارب الساعة، وفي تجاعيد الوجوه، وفي ارتجافةٍ عابرة نلمسها حين ندرك فجأة أنّ العمر يمضي بلا توقف.
كثيرًا ما شعرت أنّ الزمن ليس مجرد سياقٍ تتعاقب فيه الأحداث، بل هو بحرٌ هائل نحن غرقاه. نحاول أن نسبح فيه، نضحك أحيانًا، نبني ونحلم، ثم نفاجأ بموجةٍ جارفة تسحبنا إلى أعماقه، فلا نجد من أنفسنا إلّا فتاتًا يتناثر على الشاطئ. الزمن لا يُمهلنا كي نستعيد أنفاسنا، بل يواصل ابتلاعنا شيئًا فشيئًا، حتى نصبح نحن أنفسنا مجرد ذكرى في ذاكرة الآخرين.
في لحظات الصمت العميق كنت أتساءل: ما الزمن حقًا؟ أهو أرقامٌ تتحرك على ساعة جدارٍ مملة؟ أم هو تلك اللحظات التي نخسرها حين نصمت عن قول كلمة حب؟ أم هو ذلك الحنين الذي يداهمنا فجأة فيجعل الماضي حاضرًا وكأنه لم يغب؟
الزمن يبتلعنا حين نهمل أن نعيشه، حين نظن أن الغد مضمون، وأن اللحظة يمكن أن تنتظر. لكنه لا ينتظر. الزمن لا يعرف المجاملات، ولا يلتفت إلى الأماني المؤجلة. الزمن يمشي بخطواته الحادة، لا يلتفت خلفه أبدًا، ولا يمنحنا فرصة إعادة ما فات.
حين نظرت إلى وجهي في المرآة، رأيت آثار الزمن أكثر مما رأيت ملامحي. لم تكن التجاعيد هي ما أرعبني، بل تلك اللحظات التي لم أعشها كما يجب. الزمن لا يسرقنا بالسنوات، بل باللحظات الصغيرة التي نتركها تفلت من أيدينا.
في ليالٍ كثيرة شعرت أنّ الزمن ليس عدوًا مطلقًا. نعم، هو يبتلعنا، لكنه في الوقت نفسه يهبنا معنى. لولا فناؤنا، ما كانت للحظة قيمتها. لولا أن العمر قصير، لما كان للحبّ تلك الجاذبية التي تدفعنا لأن نعيشه بشغفٍ لا يتكرّر. الزمن يعلّمنا أنّ كل ما نملكه حقًا هو ˝الآن˝، وأنّ الغد ليس وعدًا مضمونًا.
حين يستيقظ الليل ويصمت كل شيء، كنت أسمع وقع الزمن وهو يعبر داخلي. كان أشبه بقطارٍ يمضي بسرعة هائلة، يحمل على متنه وجوهًا أحببتها، وأحلامًا بدأت وانتهت، وخيباتٍ تركت ندوبها في القلب. كل محطةٍ يمرّ بها القطار كانت تحمل اسمًا: طفولة، شباب، خسارة، بداية، نضج… وكل محطةٍ تُغلق أبوابها بمجرد أن نغادرها.
أدركت أن الزمن لا يُقاس بطول العمر، بل بكثافة التجربة. هناك من يعيش سنوات طويلة فارغة، وهناك من يحيا أيّامًا قليلة لكنها مكتظة بما يكفي ليترك أثرًا خالدًا. الزمن لا يبتلع الجميع بالطريقة نفسها، لكنه يمتحنهم جميعًا بالسؤال ذاته: ˝كيف ستعيش اللحظة؟˝.
كلما تأملت في الزمن، وجدت نفسي بين خوفٍ ورغبة. أخاف أن ينتهي قبل أن أقول ما في قلبي، وأرغب أن أعيشه بكامل حضوره كأنني لن أراه ثانية. هذا التناقض هو ما يجعلني أسيرًا له، وأحيانًا حرًّا بفضله.
في النهاية، الزمن يبتلعنا جميعًا، لكنه لا يبتلع أثرنا. ما نكتبه، ما نتركه في قلوب الآخرين، ما نغرسه من حبٍّ أو فكرة أو جمال، يبقى شاهدًا على مرورنا، حتى بعد أن نغيب.