الفصل السابع:
الملف السابع – الوظيفة التي لم تُعقد
---
في حياة كل إنسان، هناك باب طرقه مراتٍ عديدة ولم يُفتح. أبواب الوظائف هي الأكثر صلابةً في وجوه الحالمين. هناك دائمًا إعلان يلوّح بالأمل: “مطلوب موظف… فرص واعدة… مستقبل مضمون”. يتدفق الناس، يحملون أوراقهم في ملفاتٍ أنيقة، يرتدون ما تيسّر من ملابس تليق بالمقام، ويجلسون في قاعات الانتظار، يتبادلون النظرات الخجولة، بينما يضبط كلٌّ منهم قلبه على إيقاع جديد من القلق.
لكن خلف تلك الأبواب، تُعقد مسرحيات خفية لا يدري عنها أحد. الوظيفة، غالبًا، لم تكن تبحث عنك أصلًا. إنها مجرد مقعد محجوز لاسمٍ معروف، بينما يُستدعى الآخرون ليكونوا “ديكورًا” يوهم بالنزاهة. هكذا، يصبح الحلم مجرد وظيفة لم تُعقد، رغم أن مئات العيون انتظرت إعلانها بفارغ الصبر.
رأيت شابًا يُدعى \"مروان\"، كان يحلم أن يصبح مهندسًا في هيئة كبرى. قضى سنوات بين المكاتب، يملأ الاستمارات، يشتري صورًا شخصية لا تنتهي، يوقّع على أوراق لا تحصى. وفي النهاية، قيل له:
– \"آسفين، الوظيفة راحت لابن فلان.\"
ضحك ضحكة قصيرة، وقال لي:
– \"يعني كنا مجرد كومبارس في مشهد مكتوب سلفًا.\"
كلماته لم تكن شكوى فقط، بل شهادة على واقع يتكرر: أن الوظائف في بلادنا كثيرًا ما تُعقد قبل أن تُعلن، وكأن الناس يركضون وراء سراب، بينما العطش يزداد في صدورهم.
أما \"ندى\"، فقد انتظرت سنوات لتُعيَّن في مدرسة حكومية بعد أن أنهت دراستها الجامعية بتفوق. كل عام، كانت تراجع كشوف التعيين، تفتش عن اسمها بين آلاف الأسماء. لكنها لم تجده قط. قالت لي وهي تغالب دموعها:
– \"أنا مش عايزة منصب كبير، أنا عايزة فصل صغير أعلّم فيه الأطفال. هل ده حلم كبير قوي؟\"
لم أعرف بماذا أجيب. كل ما تذكّرته وقتها أن أكثر الأحلام بساطة، هي في الغالب أصعبها منالًا.
ثم جاءني \"حسام\"، شاب طموح كان يحلم بالعمل في إحدى الشركات العالمية. اجتاز الاختبارات الأولية، أبهرهم بمهاراته، حتى جاء يوم المقابلة النهائية. جلس أمام لجنة من خمسة أشخاص، أجاب بثقة وذكاء، حتى ابتسم رئيس اللجنة في النهاية وقال:
– \"أنت ممتاز… لكن إحنا محتاجين حد عنده خبرة عشر سنين.\"
ضحك حسام في مرارة وقال لي بعدها:
– \"هو أنا هجيب العشر سنين منين؟! هو حد بيتولد ومعاه خبرة جاهزة؟\"
كل هذه الحكايات كانت تشبه خيوطًا تتقاطع في لوحة واحدة: لوحة الأبواب المغلقة. لا شيء يُنهك الروح مثل أن تُهيَّأ نفسيًّا لوظيفة ثم تُسحب من بين يديك في اللحظة الأخيرة.
ومع ذلك، لم تكن القصة كلها عن الخيبة. فقد التقيت \"أحمد\"، الذي ظل يركض خلف التعيين في القطاع الحكومي عشر سنوات، حتى أصابه اليأس. لكنه في لحظة صدق مع نفسه قال:
– \"لماذا أضيّع عمري في انتظار وظيفة لن تأتي؟\"
بدأ مشروعًا صغيرًا بجهد فردي: ورشة لتصنيع الأثاث البسيط. ومع مرور الوقت، تحولت الورشة إلى مصنع صغير، وأصبح يشغّل عشرات العمال. حين قابلته بعد أعوام، قال لي مبتسمًا:
– \"الوظيفة التي لم تُعقد صنعتني، لأنها أجبرتني أخلق وظيفة لنفسي.\"
هنا أدركت أن الوظائف التي لا تُعقد ليست كلها لعنة. أحيانًا، هي دفعة صامتة تدفعنا خارج الطابور الطويل لنكتشف طريقًا لم نكن لنسلكه لولا خيبة الأمل.
كتبت في دفتري يومها:
\"ليست كل الأبواب المغلقة خسارة، أحيانًا يكون انسدادها بداية لبناء باب جديد، لا يملك أحد مفاتيحه غيرك.\"
وهكذا ظل هذا الملف في أرشيف الأحلام المؤجّلة شاهدًا على أن بعض المقاعد في مسرح الحياة لم تكن لنا أصلًا، وأن الأجمل من الجلوس عليها أن نصنع مسرحنا الخاص، بعرقنا، وبعزمنا، وبإيماننا أن الطريق لا يبدأ دائمًا من إعلان وظيفة، بل من قلب يعرف قيمته.
الفصل السابع:
الملف السابع – الوظيفة التي لم تُعقد
-
في حياة كل إنسان، هناك باب طرقه مراتٍ عديدة ولم يُفتح. أبواب الوظائف هي الأكثر صلابةً في وجوه الحالمين. هناك دائمًا إعلان يلوّح بالأمل: “مطلوب موظف… فرص واعدة… مستقبل مضمون”. يتدفق الناس، يحملون أوراقهم في ملفاتٍ أنيقة، يرتدون ما تيسّر من ملابس تليق بالمقام، ويجلسون في قاعات الانتظار، يتبادلون النظرات الخجولة، بينما يضبط كلٌّ منهم قلبه على إيقاع جديد من القلق.
لكن خلف تلك الأبواب، تُعقد مسرحيات خفية لا يدري عنها أحد. الوظيفة، غالبًا، لم تكن تبحث عنك أصلًا. إنها مجرد مقعد محجوز لاسمٍ معروف، بينما يُستدعى الآخرون ليكونوا “ديكورًا” يوهم بالنزاهة. هكذا، يصبح الحلم مجرد وظيفة لم تُعقد، رغم أن مئات العيون انتظرت إعلانها بفارغ الصبر.
رأيت شابًا يُدعى ˝مروان˝، كان يحلم أن يصبح مهندسًا في هيئة كبرى. قضى سنوات بين المكاتب، يملأ الاستمارات، يشتري صورًا شخصية لا تنتهي، يوقّع على أوراق لا تحصى. وفي النهاية، قيل له:
– ˝آسفين، الوظيفة راحت لابن فلان.˝
ضحك ضحكة قصيرة، وقال لي:
– ˝يعني كنا مجرد كومبارس في مشهد مكتوب سلفًا.˝
كلماته لم تكن شكوى فقط، بل شهادة على واقع يتكرر: أن الوظائف في بلادنا كثيرًا ما تُعقد قبل أن تُعلن، وكأن الناس يركضون وراء سراب، بينما العطش يزداد في صدورهم.
أما ˝ندى˝، فقد انتظرت سنوات لتُعيَّن في مدرسة حكومية بعد أن أنهت دراستها الجامعية بتفوق. كل عام، كانت تراجع كشوف التعيين، تفتش عن اسمها بين آلاف الأسماء. لكنها لم تجده قط. قالت لي وهي تغالب دموعها:
– ˝أنا مش عايزة منصب كبير، أنا عايزة فصل صغير أعلّم فيه الأطفال. هل ده حلم كبير قوي؟˝
لم أعرف بماذا أجيب. كل ما تذكّرته وقتها أن أكثر الأحلام بساطة، هي في الغالب أصعبها منالًا.
ثم جاءني ˝حسام˝، شاب طموح كان يحلم بالعمل في إحدى الشركات العالمية. اجتاز الاختبارات الأولية، أبهرهم بمهاراته، حتى جاء يوم المقابلة النهائية. جلس أمام لجنة من خمسة أشخاص، أجاب بثقة وذكاء، حتى ابتسم رئيس اللجنة في النهاية وقال:
– ˝أنت ممتاز… لكن إحنا محتاجين حد عنده خبرة عشر سنين.˝
ضحك حسام في مرارة وقال لي بعدها:
– ˝هو أنا هجيب العشر سنين منين؟! هو حد بيتولد ومعاه خبرة جاهزة؟˝
كل هذه الحكايات كانت تشبه خيوطًا تتقاطع في لوحة واحدة: لوحة الأبواب المغلقة. لا شيء يُنهك الروح مثل أن تُهيَّأ نفسيًّا لوظيفة ثم تُسحب من بين يديك في اللحظة الأخيرة.
ومع ذلك، لم تكن القصة كلها عن الخيبة. فقد التقيت ˝أحمد˝، الذي ظل يركض خلف التعيين في القطاع الحكومي عشر سنوات، حتى أصابه اليأس. لكنه في لحظة صدق مع نفسه قال:
– ˝لماذا أضيّع عمري في انتظار وظيفة لن تأتي؟˝
بدأ مشروعًا صغيرًا بجهد فردي: ورشة لتصنيع الأثاث البسيط. ومع مرور الوقت، تحولت الورشة إلى مصنع صغير، وأصبح يشغّل عشرات العمال. حين قابلته بعد أعوام، قال لي مبتسمًا:
– ˝الوظيفة التي لم تُعقد صنعتني، لأنها أجبرتني أخلق وظيفة لنفسي.˝
هنا أدركت أن الوظائف التي لا تُعقد ليست كلها لعنة. أحيانًا، هي دفعة صامتة تدفعنا خارج الطابور الطويل لنكتشف طريقًا لم نكن لنسلكه لولا خيبة الأمل.
كتبت في دفتري يومها:
˝ليست كل الأبواب المغلقة خسارة، أحيانًا يكون انسدادها بداية لبناء باب جديد، لا يملك أحد مفاتيحه غيرك.˝
وهكذا ظل هذا الملف في أرشيف الأحلام المؤجّلة شاهدًا على أن بعض المقاعد في مسرح الحياة لم تكن لنا أصلًا، وأن الأجمل من الجلوس عليها أن نصنع مسرحنا الخاص، بعرقنا، وبعزمنا، وبإيماننا أن الطريق لا يبدأ دائمًا من إعلان وظيفة، بل من قلب يعرف قيمته.
❞ وبينما كان ياسر يخطو مبتعدًا، سمع صوت رصاصة اخترق الصمت، وسقط ياسر على الأرض، الدماء تنزف من صدره، ألمه واضح على وجهه، رفع يده بتعب، لمس وجها المبلل بالدموع وهمس لها أخيرًا: \"سامحيني... لازم أتركك... بحبك...\"، ثم أغمض عينيه للأبد. موج صرخت باسمه، دموعها تملأ المكان، قلبها يتفطر على فراقه المفاجئ، وهي تمسك يده، تحاول تثبته للحظة أخرى في الحياة لكنها تعرف أن الموت أخذ حبيبها..... ❝ ⏤
❞ وبينما كان ياسر يخطو مبتعدًا، سمع صوت رصاصة اخترق الصمت، وسقط ياسر على الأرض، الدماء تنزف من صدره، ألمه واضح على وجهه، رفع يده بتعب، لمس وجها المبلل بالدموع وهمس لها أخيرًا: ˝سامحيني.. لازم أتركك.. بحبك..˝، ثم أغمض عينيه للأبد. موج صرخت باسمه، دموعها تملأ المكان، قلبها يتفطر على فراقه المفاجئ، وهي تمسك يده، تحاول تثبته للحظة أخرى في الحياة لكنها تعرف أن الموت أخذ حبيبها. ❝
❞ اتجهت لغرفتها فور عودتها تعمل على تشغيل هذا الهاتف فهى تحتاج أن تراقب حياتها الماضية علها تجد فى صورتها ما يدفعها للعودة إليها.
ليس من الصعب إيجاد الجميع على مواقع التواصل وفى لحظات كان أول حساب تراه بعد أن انشأت حساب باسم وهمى هو عماد.
أصبح شخصا غير الذي تركته صوره تغطى حسابه الذي يتابعه الآلاف حالياً وهو يشارك الكثير من أحداث يومه مع متابعيه، العديد والعديد من الفتيات والتعليقات الحالمة منهن
ضحكت بأعين دامعة لو عرفن حقيقته التى تختفى وراء هذه الواجهة البراقة لهربن فوراً.
تصفحت منشوراته فلم تجد ما يشير إلى ألم أو معاناة لقد تجاوز حتى موت صغيرته بلا ألم.
تبا لهذا القلب الذي خفق يوماً ما لوحش بصورة آدمية.
تركت حسابه لتتابع حساب عمها والذى رأت عليه صورة جديدة لابنه متفاخرا بسيارته الجديدة.
لا تحتاج لبذل جهد لتعلم كيف حصل عليها .
ضحكت مرة أخرى لكن هذه المرة فشلت في كبح دموعها التى تعبر عن مدى الألم الساكن بصدرها.
لم تستغرق الكثير من الوقت للوصول لحساب صديقة العمر، مراقبة حسابها يشق عليها فهى تحتفظ بخصوصية منشوراتها للأصدقاء وهى بحسابها ليست منهم ولن تلج لحسابها القديم فيعلم عماد الذى احتفظ بهاتفها وحاسوبها لذا كان عليها أن تنتظر وترسل طلب صداقة على أمل أن ترى قريباً ما يحويه الحساب.. ❝ ⏤محمد خالد خميس
❞ اتجهت لغرفتها فور عودتها تعمل على تشغيل هذا الهاتف فهى تحتاج أن تراقب حياتها الماضية علها تجد فى صورتها ما يدفعها للعودة إليها.
ليس من الصعب إيجاد الجميع على مواقع التواصل وفى لحظات كان أول حساب تراه بعد أن انشأت حساب باسم وهمى هو عماد.
أصبح شخصا غير الذي تركته صوره تغطى حسابه الذي يتابعه الآلاف حالياً وهو يشارك الكثير من أحداث يومه مع متابعيه، العديد والعديد من الفتيات والتعليقات الحالمة منهن
ضحكت بأعين دامعة لو عرفن حقيقته التى تختفى وراء هذه الواجهة البراقة لهربن فوراً.
تصفحت منشوراته فلم تجد ما يشير إلى ألم أو معاناة لقد تجاوز حتى موت صغيرته بلا ألم.
تبا لهذا القلب الذي خفق يوماً ما لوحش بصورة آدمية.
تركت حسابه لتتابع حساب عمها والذى رأت عليه صورة جديدة لابنه متفاخرا بسيارته الجديدة.
لا تحتاج لبذل جهد لتعلم كيف حصل عليها .
ضحكت مرة أخرى لكن هذه المرة فشلت في كبح دموعها التى تعبر عن مدى الألم الساكن بصدرها.
لم تستغرق الكثير من الوقت للوصول لحساب صديقة العمر، مراقبة حسابها يشق عليها فهى تحتفظ بخصوصية منشوراتها للأصدقاء وهى بحسابها ليست منهم ولن تلج لحسابها القديم فيعلم عماد الذى احتفظ بهاتفها وحاسوبها لذا كان عليها أن تنتظر وترسل طلب صداقة على أمل أن ترى قريباً ما يحويه الحساب. ❝
❞ الكتاب: أرشيف الأحلام المؤجّلة
الكاتب: هانى الميهى
الفصل التاسع:
الملف التاسع – الموسيقى التي لم تُعزف
---
الموسيقى ليست مجرد نغماتٍ تُعزف على أوتار، بل هي أرواح تبحث عن منفذ لتتنفّس. كلّ لحنٍ يولد في صدر إنسان يشبه جنينًا ينتظر ميلاده. لكن، ما أكثر الألحان التي اختنقت قبل أن ترى النور، وما أكثر السيمفونيات التي بقيت حبيسة الصمت، تنتظر يدًا لا تأتي، أو زمنًا لا يسمح. هكذا كان حال الذين التقيت بهم في هذا الملف: موسيقيون، أو عشّاق للموسيقى، ظلّت أنغامهم تائهة في الصدور.
بدأت الحكاية مع \"حسام\"، عازف الكمان الذي جلس أمامي ذات مساء، وعينيه كأنهما نافذتان على حزنٍ قديم. قال لي:
– \"كتبت عشرات القطع الموسيقية. كل واحدة منها كانت تمثل مرحلة من حياتي… لكنني لم أجد من يعزفها غيري، ولم أملك أن أسجّلها. كنت أخشى أن تموت معي.\"
ثم أمسك بالكمان، وأخذ يمرر القوس على الأوتار دون صوت. كان صمته أشدّ وقعًا من أي لحن.
أما \"ليلى\"، الطالبة التي حلمت بأن تصبح عازفة بيانو محترفة، فقد اصطدمت بجدار الواقع سريعًا. عائلتها لم تستطع شراء آلة، ولم تجد معهدًا يقبلها بلا مال. قالت وهي تضحك بسخرية:
– \"كنت أضع أصابعي على الطاولة وأتخيلها مفاتيح بيانو. كنت أسمع اللحن في رأسي وأعزفه في الهواء. لكنني لم أسمعه يومًا يخرج بصوتٍ حقيقي.\"
كلماتها كانت أشبه بمرثيةٍ لأحلام كثيرة، تُعزف في الخيال فقط.
لم تكن الحكايات كلها عن آلات ضائعة. \"طارق\"، مؤلف موسيقي مغمور، كتب أوبرا كاملة عن قصة بلده وتاريخها. عشر سنوات من العمل، من البحث والكتابة والتلحين، ثم أودعها في صندوق خشبي قديم. كلما سألته: لماذا لم تقدّمها؟ كان يجيب:
– \"لأن أحدًا لن يستمع. في بلداننا، نغنّي للحظات، لا للتاريخ.\"
لكن وسط هذا الصمت، التقيت \"سارة\"، التي آمنت أن الموسيقى التي لا تُعزف علنًا لا تموت. كانت تكتب نوتاتها على الورق وتوزعها على تلاميذها في المدرسة. قالت لي:
– \"ربما لن يسمعني الجمهور الكبير، لكن يكفيني أن طفلًا صغيرًا يعزف لحني، ولو خطأً.\"
حين عزف أحد طلابها مقطعًا بسيطًا من لحنها في حفل المدرسة، انهمرت دموعها. كان ذلك الاعتراف الوحيد الذي حصلت عليه، لكنه كان كافيًا ليمنح حياتها معنى.
كتبت في دفتري، وأنا أتأمل هذه الوجوه:
\"الموسيقى التي لم تُعزف ليست ضائعة، إنها تظلّ تدور في فضاء الأرواح. قد لا تجد مسرحًا أو جمهورًا، لكنها تحيا في ذاكرة من حلم بها. ربما تكون تلك الألحان التي لم تُسمع يومًا هي أكثر صدقًا، لأنها لم تلوثها قيود الشهرة ولا حسابات السوق.\"
❞ الكتاب: أرشيف الأحلام المؤجّلة
الكاتب: هانى الميهى
الفصل التاسع:
الملف التاسع – الموسيقى التي لم تُعزف
-
الموسيقى ليست مجرد نغماتٍ تُعزف على أوتار، بل هي أرواح تبحث عن منفذ لتتنفّس. كلّ لحنٍ يولد في صدر إنسان يشبه جنينًا ينتظر ميلاده. لكن، ما أكثر الألحان التي اختنقت قبل أن ترى النور، وما أكثر السيمفونيات التي بقيت حبيسة الصمت، تنتظر يدًا لا تأتي، أو زمنًا لا يسمح. هكذا كان حال الذين التقيت بهم في هذا الملف: موسيقيون، أو عشّاق للموسيقى، ظلّت أنغامهم تائهة في الصدور.
بدأت الحكاية مع ˝حسام˝، عازف الكمان الذي جلس أمامي ذات مساء، وعينيه كأنهما نافذتان على حزنٍ قديم. قال لي:
– ˝كتبت عشرات القطع الموسيقية. كل واحدة منها كانت تمثل مرحلة من حياتي… لكنني لم أجد من يعزفها غيري، ولم أملك أن أسجّلها. كنت أخشى أن تموت معي.˝
ثم أمسك بالكمان، وأخذ يمرر القوس على الأوتار دون صوت. كان صمته أشدّ وقعًا من أي لحن.
أما ˝ليلى˝، الطالبة التي حلمت بأن تصبح عازفة بيانو محترفة، فقد اصطدمت بجدار الواقع سريعًا. عائلتها لم تستطع شراء آلة، ولم تجد معهدًا يقبلها بلا مال. قالت وهي تضحك بسخرية:
– ˝كنت أضع أصابعي على الطاولة وأتخيلها مفاتيح بيانو. كنت أسمع اللحن في رأسي وأعزفه في الهواء. لكنني لم أسمعه يومًا يخرج بصوتٍ حقيقي.˝
كلماتها كانت أشبه بمرثيةٍ لأحلام كثيرة، تُعزف في الخيال فقط.
لم تكن الحكايات كلها عن آلات ضائعة. ˝طارق˝، مؤلف موسيقي مغمور، كتب أوبرا كاملة عن قصة بلده وتاريخها. عشر سنوات من العمل، من البحث والكتابة والتلحين، ثم أودعها في صندوق خشبي قديم. كلما سألته: لماذا لم تقدّمها؟ كان يجيب:
– ˝لأن أحدًا لن يستمع. في بلداننا، نغنّي للحظات، لا للتاريخ.˝
لكن وسط هذا الصمت، التقيت ˝سارة˝، التي آمنت أن الموسيقى التي لا تُعزف علنًا لا تموت. كانت تكتب نوتاتها على الورق وتوزعها على تلاميذها في المدرسة. قالت لي:
– ˝ربما لن يسمعني الجمهور الكبير، لكن يكفيني أن طفلًا صغيرًا يعزف لحني، ولو خطأً.˝
حين عزف أحد طلابها مقطعًا بسيطًا من لحنها في حفل المدرسة، انهمرت دموعها. كان ذلك الاعتراف الوحيد الذي حصلت عليه، لكنه كان كافيًا ليمنح حياتها معنى.
كتبت في دفتري، وأنا أتأمل هذه الوجوه:
˝الموسيقى التي لم تُعزف ليست ضائعة، إنها تظلّ تدور في فضاء الأرواح. قد لا تجد مسرحًا أو جمهورًا، لكنها تحيا في ذاكرة من حلم بها. ربما تكون تلك الألحان التي لم تُسمع يومًا هي أكثر صدقًا، لأنها لم تلوثها قيود الشهرة ولا حسابات السوق.˝