█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024
❞ ومنَّا أقوامٌ يسهرون اللّيل كلّه لكن في استراحات اللّهو، ويستكثرون أن يتوقَّفوا دقائق ليقفوا بين يدي الله. ومنَّا أقوامٌ يذهبُ ليلهم في تصفُّح شبكة الإنترنت، ومواقع التَّواصل الاجتماعي، ومشاهدةِ مقاطع اليوتيوب، وتعليقات تافهة لا تقرِّب من اللهِ، ويبخل على نفسه برُكيعات في آخرِ الليل لله جلَّ وعلا !! . ❝
❞ نشرَت جريدة الصنداي تايمز، هذا النهار، خبر تسرب شعاع غامض من مدينة أدرنَّة التركية على الحدود اليونانية، وتكهّن مواطن يوناني الْتقتهُ مراسلة الصحيفة، بأنهم على الحدّ الفاصل لليونان، شاهدوا ليومين متتاليين، أشِعّة أرجوانية اللون، غامضة تومض لدقائق ثم تنْساب على مدَى الأفق وكأنها طيفٌ خيالي، تبعتها رياح مُغْبّرة، وما زادَ الأمر تعقيدًا، إصابة كلّ من صادف تواجدهُ تلك الساعة بالمنطقة، بحكّة جلْدية شرِسة، وتوَسّعت المراسلة الصحفية في الخبر، بالتحقيق مع سكان المنطقتين من كلا الجانبين، ما أفضى بالنهاية، لتوْقيفها من قبل السلطات التركية ومصادرة الكاميرا ولكنها تمكّنت من تسريب صور التحقيق...
لم يلفت ذلك الخبر نظر العالم الذي كان مشغولاً بأخبار الأمير هاري وميغان، وحتى خبر الصنداي حول الشعاع الأرجواني نُشر بصفحةٍ داخلية، وغطى عليه بذات اليوم، خبر اغتيال قاسم سليماني...وحدهُ القرمزي، الذي قرأ الجريدة في المساء، متأخرًا عن عادة قراءتها في الصباح، بينما كان يحتسي قهوته السوداء في رصيف مقهى ميدان الكاتدرائيّة...
قربّ السفارة البحرينية في لندن نهار اليوم التالي، كان ثمّة بضعة عشرات من متظاهرين احتشدوا تحت رذاذ المطر، حملوا يافطات ورقية هزيلة مسَحَت قطرات المطر حِبرها، مطالبين بديمقراطية، بينمّا كان واحدٌ منهم يحمل صورة القتيل قاسم سليماني...كانت فجْوَة غير مُنصفة تلك اللحظة التي ضاع فيها خبر الصنداي، وعلى الضفة الأخرى من الشارع، تدخل البوليس لتفريق مجموعة مُتعرّية، حملت شعاراتٍ بيئية، كان الطقس ضبابيًا وحركة السير مرتبكة...
˝لا أستطيع دخول السفارة هذا اليوم، سوف الْفتُ الأنظار، وأخشى لو سلَمت الجواز لتجديده، تتم مصادرته، ما رأيكِ أوليفيا؟ هل استمر؟˝
وقف ناصر رجب، مرتديًا بدلة سوداء فضفاضة، متخفيًا بجهٍةٍ من الشارع، بجانب ثلاثة أجانب رجل وامرأتين يحاولون جرّ أحد الكلاب، قاوم رغبتهم في السير...كان يتحدّث في الهاتف ويحاول جاهدًا استراق النظر نحو ما يجري قربّ السفارة...
كانت أوليفيا روي على الطرفِ الآخر، من الهاتف تقبع بركنٍ من مطعم صغير، يطلّ على ساحل بُحَيرة، تحتجز بطرفِها عدّة قواربّ صغيرة، بعضها شراعي، وثمّة زبائن آخرين يحلِّقون على موائد الرصيف، وكان هنالك نباح كلب يأتي من مسافة...كانت تتحدّث بالهاتف وسرعان ما أنْهَت المكالمة لدي دخول بسام داوود الأسود...كان يحمل معه حقيبة رجل أعمال ويرتدي قميصًا أبيض ومعطفًا كحلي، مع سروال أسود، أبقى نظارته السوداء رغم الطقس الغائم...جلس مقابلاً لها، وعلت وجههُ ابتسامة صفراء...
˝أوليفيا˝
قال ذلك وهو يشير لنادل صغير السِنّ، أمْهَق البشرة، ضيق العينين، أقتربّ منه حالمّا لمح إشارته...
˝متى وصَلت َلوغانو؟˝
سألته المرأة السويسرية، وهي تُشير للنادل أن ينتظر لحظة...
˝الآن˝
أجابها وعادَ للنادل، طلب نبيذًا أحمر، التفتَ للمرأة يسألها بحِيرةٍ بدت على وجهه.
˝ماذا تأكلين؟˝
˝بيتزا˝
أجابتهُ.
عادَ للنادل وقال وهو يحُكّ ذقنه مفكرًا...
˝لا شيء، فقط نبيذ احمر˝
˝كنت على الهاتف منذ لحظة مع ناصر رجب، يواجه مشكلة انتهاء صلاحية جواز سفره، لهذا تأخر بالمجيء إلى ميلانو˝
بدت عليه العصبية، زفَر بحدّة وقال بنبرةٍ يائِسة...
˝هذا الأحمق لا يعرف كيف يتدَبر أمره بتاتًا، كيف تمكّن من الإثراء؟!
تنهّد ثانية واستدرك وهو ينظر لسيدة مُسِنّة دخلت المطعم وهي تواجه صعوبة في إغلاق مظلة المطر...
˝كيف تثقين به؟ ألا تخشين أن يورّطكِ؟˝
قطع تركيزه اصطدام إحدى النادلات بأحد الزبائن قادم من جهة الحمام كما يبدو، تصاعدَت رائحة شواء من الداخل، نظر الأسود إلى حقيبته بجانبه قربّ عمود الطاولة ثم التفت وراءه، وعاد ينظر للمرأة، كانت تحدّق بكوب القهوة أمامها...
˝أُفضل أن تسوي القضية معهم خارج المحكمة، مُجرّد ذهابكَ للمحاكمة سيشوِّش عليك، أنت تحت الأنظار منذ قضية الورق. اشْتر بعض المساهمين، وأضْمَن أنك ستكْسب أضعافًا لأنّني سأكون حرّة في عقد صفقات خارجية، دون إثارة الرأي العام في بلدك...˝
ارْجَع ظهره للوراء، قهقه بازدراءٍ وقال بنبرةِ مقت...
˝هؤلاء جشعون، لن يرضوا بالقليل، مع أنهم مفلسون ولا أصدق تعنتهم وعدم بيعهم للأسهم˝
وفجأة خرجت مُنفلِتة إحدى النادلات وهي تهرول، ولَحِق بها أحد الزبائن...انتصب بعض الرواد قربّ سياج المكان وراحوا يحدقون من النافذة بفضول ...
˝ماذا يجري في الخارج؟˝
سأل بسام الأسود باهتمام...
˝لوغانو أهدأ مكان على الأرض، لا تهتم˝
في الخارج كان يدور جدَل بين بعض الأفراد، وهناك على بعد مسافة أمتار بمحاذاة البحر طفق تجمعٌ يرْصدُ الأفق، كانت سيارات متنوِّعة تعبُر الشارع البحري من الجهتين، وثمّة أشخاصٌ يحاولون العبور، نحو الحشد الذي كان يتَطلَّع نحو لا شيء! الوقت قبل الغروب، والسماء غائِمة، ونسمات هواء باردة تُحرك أوراق الأشجار التي تساقط بعضها، صفراء على الأرض.
˝مجرّد وميضٍ خريفي من ذلك الذي يسْبقُ فترة تباين الفصول، الناس في المدينة الناعِسة، تهتم بتفاصيل رتيبة لعدمِ وجود ما يثير هنا، أي شيءٍ تافه ولو انتحار نحلة يحرك الناس!˝
قالت أوليفيا ذلك بنغمةٍ لا مبالية لدى انتهاء لقائهما... وقبل أن ينفصلا عند واجهة رصيف المطعم، سأل الأسود أحد المارَّة، وفي نظرتهِ فضول تجاه بقايا التجمع عند مرفأ البحر، مقابل شارع رئيسي، لم تتوقف عليه حركة السيارات، بكلّا الاتجاهين...
˝يقال وميض شمسي حاد قصَف بعض من كانوا يتنزهون على الساحل˝
أجاب رجل متوسط العمر تبدو عليه ملامح جنوب آسيا...ثم مضى في سبيله.
˝غريب˝
قال الأسود بعدمِ مبالاة
˝ ما وجهُ الغرابة؟˝
سألَت أوليفيا روي وهي تهم بالانصراف وقد تدَلّت حقيبة بيضاء بكتفِها، فيما حمل الأسود حقيبة رجل الأعمال بيده اليسرى.
˝ألم تسمعِ منذ أيام خبر الصنداي تايمز؟˝!!
مطّت شفتيها، بمُجرّد مغادرتهِ، سارَت بتمَهُّلٍ نحو رصيف الشارع، توقفَت عند نافورة مياه، أشعلَت سيجارة، وتلفَّتَت حوْلها، لمحَت زوجين عجوزين، يقبِّلان بعضهما، بينما شابين مراهقين، يتشاجران برتابةٍ مُمِلّة، مقابلهما...بدت حائرة حتى نطَّ فجأة بجانبِها طفلٌ بسنِّ الخامسة أفلَتَ من يدِ والده الخمسيني العمر، الذي انْشغل بتَملُّقِ فتاة تصْغرهُ سنّا ونسي طفلهُ...تعلَّق بأوليفيا وخاطبَها ببراءةٍ ورأسه لفوْق يحدّق بها...
˝تشبهين جدتي˝
مطاردة هزيلة
بداية موْسِم خريفي، زخَرت فيه سماء مدينة ميلانو، بطقْسٍ رمادي اللون، ملأّت أرصفتها وريقاتٌ صفراء، بكثافةٍ، وفاحَت طرقاتها بنكهةِ الأشجار والأزهار، امْتزَجت بروائح عطر المارَّة من سكانها، صادف أحمد القرمزي، مرّة أخرى، غازي فلاح في ساحة ميركاتي تبعه خلال تجوّلهُ بشارع فيا دانتي، حتى حديقة بريرا! كان قد جَمدَ بالبدءِ في مكانه لومضةٍ خاطفة...شعر بأنهُ إن تأخر عن متابعتهِ سوف يتيه الرجل منهُ بزحْمة الشارع بذلك المساء الذي سبق غروب الشمس التي كانت في الأصلِ شحيحة منذ بداية النهار...
خرج القرمزي مرتديًا قميصًا أزرق قطنيًا سميكًا اعتقد أنه سيكْفيه بتلك الأمسية، حتى اصطدم ببرودة الطقس الغائم جزئيًا، كما شعر بضيقِ سرواله الجينز، ممّا زاده ضيقًا، ظنًا منه أنه ثَخُن، حتى تبيّن له أنّهُ بعد الغسْل يختلف ويضيق عن ارتدائه للمرّة الأولى، ما أزاح عنه شعور الاكتئاب المُباغت وصرف نظره عن العودّة للشَقّة، وفيما كان يمضي بالسيّر نحو مقهاه المسائي، في جوْلة قرّر خلالها الاكتفاء بالبطالة والبدء في العمل...فاجأه العقيد غازي فلاح يتمَشّى وقد ارتدي زيًا رياضيًا وبيده قارورة مياه صغيرة...بدا حيويًا نقيض المرّة السابقة التي صادفهُ فيها، ما أوْحَى إليه أن الرجل، لم يتلاشَ ضمير الجلاد منهُ...
كلمّا لمحهُ استيقظَت في رأسهِ صور ومشاهد وحوارات، جميعها مشحونةٌ بإهاناتٍ وإذلال أذاقهُ إياه لسنواتٍ...هل يريد الانتقام منه؟ أم مواجهته فقط والاكتفاء بتذكّيره...
˝لن أُسامحهُ بالطبع، وإلا محوْتُ ذاتي حين أتتني فرصة استعادتها˝
سار خلفه بخطواتٍ مُتلافي الاقتراب منه، كان قلبه يخفق كما في كلّ مرّة يراه، بل ولمُجرّد تذكّره، لا يعْرفُ الهدف من ملاحقتهِ، وإن كان يدفعه فضولٌ قوي، لمعْرفّة أينّ وصلَ الرجل في حياتهِ...كيف يعيش؟ ماذا يفعل؟ هل تغيّر؟ ما الذي يفعله في إيطاليا؟ هل هي صُدفة أن يتواجدا على أرضٍ واحدة بعد سنوات الجمْر؟ أو هو قدَرٌ أن يلقاه لتصفية حسابه معه...؟ لا يمكن للحياة أن تتناهَى بهما عند نقطة المُنْعطَف هذه إلا وقد رسَمَت هدفًا إلهيًا وربّمّا إنسانيًا من ذلك...هكذا فكَّر حين بلغ معه طرف الحديقة حيث توقَف الرجل، وتلفّت حوْلهُ ثم سار نحو البوابة، وهناك توقف...
أدرك القرمزي أنه لم يقْصدَ الحديقة النباتية التي كانت تفتح لفتراتٍ محدّدةٍ، من شهر سبتمبر حتى أكتوبر، برسومٍ أو مجانًا بحسَب الظّروف... سبق له واستمتع مرّات عدّة بأجوائِها التي تعجُ بأشجارٍ وأزهار خيالية وبأشكالٍ غيْر مسبوقة، وثمّة قصر وتماثيل...ترك تفكّيره في الحديقة وشدّدَ انتباههُ إلى صاحبه الذي كان بالانتظار...
خلال دقائق، وصلت سيارة فولكس واجن صفراء، توَقَّفت عند رصيف الطريق، توجّه غازي فلاح نحوها...فتح الباب ووَلَجَ...لم يتحرك السائق بدا ثمّة حديث بينه وبين سائقها، بعد فترة خرج الاثنان، انتصبا بجانب السيارة وراحا يدخنان بصمتٍ...
برز سائق السيارة، شابٌ ثلاثيني، ذو وجه صغير مستطيل عظْميّ، وأنْف مدبّب يشبه حبّة الّلوْز، بشرته جافَة، لونها نبيذي فاتح، متوسّط القامَة، نحيف لدرجة الضمور ...تساءل في داخله عن هوية الشاب، وعلاقته بكهلٍ جلاد؟ كانت أفكاره تعود به إلى سجن دياره، فترة الجَمْر، ثم سرعان ما يتَسلّل شريطُ الأحداث ويفْسد عليه خياره بانتقاء ميلانو ملجأ راحة واسترخاء وعمل، ليلاحقه كابوسٌ فرَّ منه في الأصل ليتبعه إلى هنا، تذكّر ليلاف سعيد، وما روَتهُ له في إحدى فضْفضَتها الشجيّة، عن وجود جودت باور ضابط الجيش التركي... الذي يعيش سرًا، تحت اسم مستعار، أنيس أبيك X وهو مُعذِبُها مع آلاف الأكراد خلال غزْو عفرين...
˝ترى تحت أي اسم مستعار، ينام غازي فلاح، هنا في ميلانو؟˝!!
تساءل وهو يُحدّق فيه وقد بدا بصحةٍ وحيوية، ولو تقوّس ظهره قليلاً، وتدلت كتفاه وظهر بسحنةِ النهاية، لكن ما فتِئ َتنبثق من عينيه، جمْرة التعذيب المجنون الذي سقاهُ إياه...
شعر، أنه أفْسَد مساءهُ بهذه المطاردة التي أحسَّ بها هزيلَة، ولن توْصلهُ إلى نتيجة، طالما ظلّ يكتفي بمطاردته كلمّا صادفه...
˝لابد من خطّة لمواجهتهِ˝
إلى متى سيظلّ يكتفي بتسْمِيم حياته حتى وهو هنا، هاربّا من كوابيس دياره، ليجد نفسه، في دوامة الماضي المُعْتم؟
مرّت خمس دقائق ولعلّها أكثر، دون حوار بين الاثنين، لكنه لمح في نهايتها، قيام السائق الشاب بتسليم ورقة صغيرة للجلاد، مقابل أوراق لم يتبيّن ماهيتها، إن كانت أوراقًا مالية، أو شيئًا آخر...عندما غادر السائق المكان، التفَّ فلاح منكفئًا من ذات الطريق...زَفَر القرمزي وتبعه...!
*** . ❝
❞ كل منا يحمل جثته على كتفيه..
ليس هناك أغرب من الموت..
إنه حادث غريب..
أن يصبح الشيء .. لا شيء..
ثياب الحداد .. و السرادق .. و المباخر .. و نحن كأننا
نتفرج على رواية .. و لا نصدق و لا أحد يبدو عليه أنه يصدق..
حتى المشيعين الذين يسيرون خلف الميت لا يفكرون إلا في المشوار.
و أولاد الميت لا يفكرون إلا في الميراث.
و الحانوتية لا يفكرون إلا في حسابهم.
و المقرئون لا يفكرون إلا في أجورهم..
و كل واحد يبدو أنه قلق على وقته أو صحته أو فلوسه..
و كل واحد يتعجل شيئاً يخشى أن يفوته .. شيئاً ليس الموت أبداً.
إن عملية القلق على الموت بالرغم من كل هذا المسرح التأثيري هي مجرد قلق على الحياة..
لا أحد يبدو أنه يصدق أو يعبأ بالموت .. حتى الذي يحمل النعش على أكتافه.
الخشبة تغوص في لحم أكتافه .. و عقله سارح في اللحظة المقبلة و كيف يعيشها..
الموت لا يعني أحداً .. و إنما الحياة هي التي تعني الكل.
نكتة.. !
من الذي يموت إذاً ؟..
الميت ؟..
و حتى هذا .. لا يدري مصيره..
إن الجنازة لا تساوي إلا مقدار الدقائق القليلة التي تعطل فيها المرور و هي تعبر الشارع..
و هي عطلة نتراكم فيها العربات على الجانبين .. كل عربة تنفخ في غيرها في قلق . لتؤكد مرة أخرى
أنها تتعجل الوصول إلى هدفها .. و أنها لا تفهم .. هذا الشيء الذي اسمه الموت.
ما الموت .. و ما حقيقته..
و لماذا يسقط الموت من حسابنا دائماً . حتى حينما نواجهه.
* * *
لأن الموت في حقيقته حياة.
و لأنه لا يحتوي على مفاجأة..
و لأن الموت يحدث في داخلنا في كل لحظة حتى و نحن أحياء..
كل نقطة لعاب .. و كل دمعة .. و كل قطرة عرق .. فيها خلايا ميتة .. نشيعها إلى الخارج دون
احتفال..
ملايين الكرات الحمر تولد و تعيش و تموت .. في دمنا .. دون أن ندري عنها شيئاً .. و مثلها الكرات
البيض .. و خلايا اللحم و الدهن و الكبد و الأمعاء .. كلها خلايا قصيرة العمر تولد و تموت و يولد
غيرها و يموت .. و تدفن جثثها في الغدد أو تطرد في الإفرازات في هدوء و صمت .. دون أن نحس أن
شيئاً ما قد يحدث.
مع كل شهيق و زفير .. يدخل الأكسجين .. مثل البوتوجاز إلى فرن الكبد فيحرق كمية من اللحم و
يولد حرارة تطهي لنا لحماً آخر جديداً نضيفه إلى أكتافنا.
هذه الحرارة هي الحياة..
و لكنها أيضاً احتراق .. الموت في صميمها .. و الهلاك في طبيعتها.
أين المفاجأة إذن و كل منا يشبه نعشاً يدب على الساقين .. كل منا يحمل جثته على كتفيه في كل لحظة
..
حتى الأفكار تولد و تورق و تزدهر في رؤوسنا ثم تذبل و تسقط .. حتى العواطف .. تشتعل و تتوهج
في قلوبنا ثم تبرد .. حتى الشخصية كلها تحطم شرنقتها مرة بعد أخرى .. و تتحول من شكل .. إلى
شكل..
إننا معنوياً نموت و أدبياً نموت و مادياً نموت في كل لحظة.
و أصدق من هذا أن نقول أننا نعيش . مادياً نعيش و أدبياً نعيش و معنوياً نعيش .. لأنه لا فرق يذكر
بين الموت و الحياة .. لأن الحياة هي عملية الموت.
لأن الأوراق التي تنبت من فروع الشجرة .. ثم تذبل و تموت و تسقط .. و ينبت غيرها .. و غيرها ..
هذه العملية الدائبة هي الشجرة..
لأن الحاضر هو جثة الماضي في نفس الوقت.
لأن الحركة هي وجودي في مكان ما و انعدامي من هذا المكان في نفس اللحظة . فبهذا وحده أمشي و
أتحرك .. و تمضي معي الأشياء..
لأن الحياة ليست تعادلية , و لكنها شد و جذب و صراع بين نقيضين , و محاولة عاجزة للتوفيق بينها في
تراكيب واهية هي في ذاتها في حاجة للتوفيق بينها .. مرة .. و مرة و مرات .. بدون نهاية و بدون نجاح
أبداً .. و بدون الوصول إلى أي تعادلية..
الحياة ليست تعادلية بين الموت و الوجود و لكنها اضطراب بين الاثنين و صراع يرفع أحدهما مرة و
يخفضه مرة أخرى.
الحياة أزمة .. و توتر..
و نحن نذوق الموت في كل لحظة .. و نعيشه .. فلا نضطرب بل على العكس .. نحس بكياننا من خلال
هذا الموت الذي داخلنا .. و نفوز بأنفسنا , و ندركها , و نستمتع بها..
و لا نكتفي بهذا.. بل ندخل في معركة مع مجتمعنا .. و ندخل في موت و حياة من نوع آخر . موت و
حياة على نطاق واسع تتصارع فيه مجتمعات و نظم و تراكيب إنسانية كبيرة.
و من خلال هذا الصراع الأكبر . نحس بأنفسنا أكثر .. و أكثر .. إنها ليست خلايا تتولد و تموت في
جسد رجل واحد . و لكنها أيضاً مجموعات بشرية تولد و تموت في جسم المجتمع كله.
إ.ا الموت يحدث على مستويات أكبر.
الموت إذن حدث دائب مستمر .. يعتري الإنسان و هو على قدميه و يعتري المجتمعات و هي في عنفوانها
.
و هو في نسيج الإنسان .. في جسده .. و في كل نبضة ينبضها قلبه مهما تدفقت بالصحة و العافية.
و بالموت تكون الحياة .. و تأخذ شكلها الذي نحسه و نحياه .. لأن ما نحسه و نحياه هو المحصلة بين
القوتين معاً .. الوجود و العدم و هما يتناوبان الإنسان شداً .. و جذباً.
ما السر إذن في هذه الدهشة التي تصبينا حينما يقع أحدنا ميتاً.
و لماذا يبدو لنا هذا الحديث .. غير معقول , غير قابل للتصديق.
و لماذا نقف مشدوهين أمام الحادث نكذّب عيوننا .. و نكذّب حواسنا و نكذّب عقولنا .. ثم نمضي ..
و قد أسقطنا كل شيء من حسابنا .. وصرفنا النظر .. و اعتبرنا ما كان .. واجباً .. و لباقة . و مجاملة
.. أديناها و انتهينا منها.
لماذا لا نحمل هذا الحادث على محمل الجد..
ولماذا نرتجف من الرعب حينما نفكر فيه .. و تنخلع قلوبنا حينما نصدقه و تضطرب حياتنا حينما ندخله
في حسابنا و نضعه موضع الاعتبار.
السبب أنه الحادث الوحيد المصحوب برؤية مباشرة .. فما يحدث داخلنا من موت لا نراه .. لا نرى
كرات الدم و هي تولد و تموت .. لا نرى الخلايا و هي تحترق .. لا نرى صراع الميكروبات و هي
تقتلنا و نقتلها..
و خلايانا لا ترى نفسها و هي تفنى..
كل ما يحدث في داخلنا يحدث في الظلام .. و نحن ننام ملء جفوننا و قلوبنا تدق بانتظام و تنفسنا يتردد
في هدوء.
الموت يسترق الخطى كاللص تحت جنح الليل .. و يمشي على رؤوسنا فتبيض له شعراتنا .. شعرة ..
شعرة .. دون أن نحس .. لأن دبيبه و هو يمشي هو دبيب الحياة نفسها.
إن أوراق الشجر تتساقط و لكن الشجرة تظل مائلة للعيان دائمة الخضرة دائمة الازدهار .. تظل هكذا
حتى تهب عاصفة تخلعها من جذورها وتلقي بها في عرض الطريق..
و حينئذ فقط يبدو منظرها قاتماً يبعث على التشاؤم .. تبدو فروعها معروفة عارية .. و جذورها نخرة ..
و أوراقها مصفرة..
لقد انتهت .. لم تعد شجرة .. أصبحت شيئاً آخر .. أصبحت خشباً.
و هذا ما يحدث .. حينما نشاهد الإنسان و هو يسقط جثة هامدة.
إنه يبدو شيئاً آخر و يبدو الحادث الذي حدث فجأة .. حادثاً غريباً بلا مقدمات..
لقد انتهى الإنسان كله فجأة..
و يبدأ العقل في التساؤل..
هل أنتهي أنا أيضاً كلي فجأة كما انتهى ذلك الإنسان .. و كيف و لا شيء في إحساسي يدل على
هذه النهاية أبداً.
كيف يحدث هذا .. و أنا جياش بالرغبة . ممتلئ بالإرادة .. بل أنا الامتلاء نفسه.
كيف يتحول الامتلاء إلى فراغ .. و فجوة.
أنا .. أنا ؟ .. !الذي أحتوي على الدنيا .. كيف أنتهي هكذا و أصبح شيئاً تحتوي عليه الدنيا.
أنا ؟..
إن كلمة .. أنا .. كلمة كهربائية .. إنها كالضوء أرى بها كل شيء .. و لا يستطيع شيء أن يراها ..
إنها أكبر من أي كلمة أخرى و أكبر من أي حقيقة .. لأن بها تكون الحقائق حقائق..
إنها فوق كل شيء و فوقي أنا أيضاً لأنها تراني و تشعر بي..
إنها مصدر الإشعاع كله .. و حيث يتمثل لي هذا المنظر المفجع الذي يلقى فيه الإنسان مصرعه .. فهي
فوق هذا المنظر أيضاً .. لأنها تراه .. و فوق الطبيعة .. و فوق قوانينها .. و فوق ظواهرها.
أنا الموت..!
من أنا
ومن هذا الذي مات..
إنه بعض مني .. منظر ملايين المناظر الذي تعبر خاطري . فكيف أموت أنا أيضاً..
إن التساؤل ما يلبث أن يتحول على تمزق فظيع يحطم فيه المنطق نفسه بنفسه .. و يصطدم باستحالات لا
حل لها..
و هكذا تبدأ المشكلة الأزلية..
لغز الموت..
إن مصدر اللغز هو هذا الموقف الذي ينتقل فيه العقل من رؤية مباشرة للموت إلى استنتاج مباشر عن
موته هو أيضاً .. و هو أبو الأشياء .. و نظامها .. و تفسيرها .. و نورها.
و لكنه يعود فيقول:
لا..
إن الذين يموتون هم الآخرون.
إن التاريخ كله لا يروي قصة واحدة عن موت ال .. أنا..
إن الموضوعات تتغير و تتبدل و تولد و تذبل و تموت و الآخرون يموتون.
أنا أنا .. هذه ال أنا .. لا توجد سابقة واحدة عن موتها.
أنا من مادة أخرى غير كل هذه الموضوعات .. و لهذا أمسك بها و أتناولها و أفهمها .. و لا أستطيع أن
أمسك بنفسي و أنا أتناولها و أفهمها.
أنا فوق متناول الجميع .. و فوق متناولي أنا أيضاً .. و فوق متناول القوانين و الظواهر..
هناك حلقة مفقودة..
و هي تفتح باباً تدخل منه الفلسفة .. و يتسلل منه الفكر .. و لكنه باب ضيق .. ضيق جداً .. يؤدي
إلى سراديب أغلبها مغلقة و رحلة الفكر في هذه السراديب مخيفة مزعجة و لكنها تثير الاهتمام.
و أي شيء يبعث الاهتمام أكثر من الحياة .. والمصير .. و من أين .. و إلى أين .. و كيف.
مقال / اللغز
من كتاب / لغز الموت
للدكتور / مصطفي محمود (رحمه الله) . ❝
❞ فإذا كان تعريف الغربية هو الأصول اليونانية/الرومانية، فإن أوغسطينوس لا يُعدّ -في هذا المجال- من الأصول الغربية. كما أن المسيحية لم تحمل الهوية الغربية إلا بعد أن استعارت الإمبراطورية الرومانية ذلك الدين السامي من الشرق. والأمر ينطبق على الفلسفة كذلك؛ فهي قامت في بلاد اليونان التي تتصل جذور ثقافتها بحضارات الشرق الأوسط، ثم بعد ذلك طورها المسلمون، ليتعرف عليها الغرب من مصادرها العربية. قد كتب مارك غراهام في كتابه (كيف صنع الإسلام العالم الحديث):
˝ولكن أوروبا، في الحقيقة، تعلمت وتتلمذت على يد علماء المسلمين مدة نصف ألفية، فبالإضافة إلى كون المسلمين شعوبًا حفظت العلم واحتضنته، كان المسلمون يمثلون كل تلك الأشياء التي أنكرتها عليهم تلك الكتب المنهجية، فقد كانوا فنانين وشعراء وفلاسفة وعلماء رياضيات وكيمياء وفلك وفيزياء. باختصار كانوا متحضرين في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تتمرغ في الهمجية... فإنها أثرت بشكل مباشر في أوروبا ككيان ثقافي وقوة علمية وسياسية، وبقدر ما يستنكف البعض من الاعتراف به، فإن العالم الإسلامي هو العملاق الذي بنيت على أكتافه النهضة الأوروبية˝.
عندها بدأت أوروبا التعرف على الفكر الفلسفي العربي في القرون الوسطى، وبدأت تقرأ بالفعل كتابات الفلاسفة المسلمين، كان المنطلق، بالطبع، هو الفارابي في كتابه (آراء المدينة الفاضلة) . ❝