❞ و كان أول لقاء لي مع القرآن و أنا في الرابعة من العمر طفلا أجلس في صف بين عدة صفوف في كتاب الشيخ ( محمود ) أحملق في بلاهة إلى سبورة و إلى مؤشر يتحرك في يد الشيخ على كلمات منقوشة بالطباشير و هو يتلو.. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).. فنردد خلفه في آلية.. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).. لا نفهم من الكلام حرفاً.. و لا نعلم ما الضحى و لا كيف سجى.. و لكننا نردد مجرد مقاطع و مخارج حروف.
و كان عقلي آنذاك صفحة بيضاء نقية لم يُكتَب عليها شيء، و لم تتلق تأثيراً تربوباً خاصاً ، فقد نشأت في أسرة كل فرد فيها متروك لحاله.. يحب ما يحب ، و يكره ما يكره ، و يلعب حتى يشبع لعباً ، و أذكر أني رسبت في السنة الأولى ثلاث سنوات دون أن أتلقى تعنيفاً.. و كان الصفر بالقلم الأحمر يزين كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فلا يثير إلا الضحك. و كانوا إذا سألوني ماذا أخذت اليوم، كنت أقول اختصاراً للمهزلة و حتى لا أعود إلى شرح حكاية الصفر اليومي التي أصبحت بالنسبة لي مملة.. كنت أقول.. زي العادة.. و كانوا يضحكون.
هكذا كانت تجري الأمور في بيتنا، لا إرغام على مذاكرة و لا قهر على تدين.. و إنما لكلٍ حياته.. و على كلٍ تبعته.
لم نعرف غسيل المخ الذي عرفه كثير من الأطفال في أسر متزمتة تحشر العلم و الدين حشراً في عقول أطفالها بالكرباج و العصا.
كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذهن أبيض تماماً و دون تأثير مسبق مثلما أتلقى دروس الحساب و الجغرافيا و الإنشاء.
و كما بهرتني حكاية الكرة الأرضية المدورة و القارات كالجزر سابحة فيها، و كما بهرتني حكاية القمر يدور حول الأرض، و الأرض حول الشمس.. و الكل معلق في السماء، كذلك فعل بي القرآن شيئاً.
و أحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن.
و لا أجد الكلمات لتشرح هذا النوع من الاستقبال النفسي الغامض.. و كيف كانت الكلمات تعود من تلقاء نفسها فتراود سمعي و ذاكرتي و أنا وحدي فأراني أردد بلا صوت.. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).
و تقتحم علي العبارة القرآنية سكون طفولتي فأتذكر في ظلام الليل إلقاء الشيخ و هو يردد: (( و جاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى )).
تسعى العبارة إلى خيالي و كأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة.
و قطعاً أنا لم أكن أعلم ما الضحى و لا كيف سجى الليل.. و لا من هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.
و لعل المقاطع كانت تتردد في سمعي أشبه بمقاطع سلم موسيقي.. ( صول لا سي دو ري مي فا ).. مجرد حروف لا معنى لها و لا وقع سوى مدلولها الموسيقي.. مجرد نغم و مازورات موسيقية و إيقاع يطرب الوجدان.
نعم.. لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية.
و هذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني.. إنه ليس بالشعر و لا بالنثر و لا بالكلام المسجوع.. و إنما هو معمار خاص من الألفاظ صُفَّت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها.
و فرق كبير بين الموسيقى الباطنة و الموسيقى الظاهرة.
و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل ( عمر بن أبي ربيعة ) اشتهر بالموسيقى في شعره.. البيت الذي ينشد فيه:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب
أنت تسمع و تطرب و تهتز على الموسيقى.. و لكن الموسيقى هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية ثم تقفيل كل عبارة تقفيلا واحدا على الباء الممدودة.
الموسيقى تصل إلى أذنك من خارج العبارة و ليس من داخلها. من التقفيلات ( القافية ).. و من البحر و الوزن.. أما حينما تتلو:
(( وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) )) [ الضحى ]
فأنت أمام شطرة واحدة.. و هي بالتالي تخلو من التقفية و الوزن و التشطير، و مع ذلك فالموسيقى تقطر من كل حرف فيها.. من أين ؟ و كيف ؟
هذه هي الموسيقى الداخلية.
الموسيقى الباطنة.
سر من أسرار المعمار القرآني لا يشاركه فيه أي تركيب أدبي.
و كذلك حينما تقول:
(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) )) [ طه ]
و حينما تتلو كلمات زكريا لربه:
(( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) )) [ مريم ]
أو كلمة الله لموسى:
(( إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) )) [ طه ]
أو كلمته تعالى و هو يتوعد المجرمين:
((إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى (74) )) [ طه ]
كل عبارة بنيان موسيقي قائم بذاته تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات و من ورائها و من بينها بطريقة محيرة لا تدري كيف تتم.
و حينما يروي القرآن حكاية موسى بذلك الأسلوب ( السيمفوني ) المذهل:
(( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) )) [ طه ]
كلمات في غاية الرقة مثل (( يبساً )) أو لا تخاف (( دركاً )) بمعنى لا تخاف إدراكاً.
إن الكلمات تذوب في يد خالقها و تصطف و تتراص في معمار و رصف موسيقي فريد هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً و لاحقاً.
لا شبه بينه و بين الشعر الجاهلي، و لا بينه و بين الشعر و النثر المتأخر، و لا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التاريخ برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.
في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماما.. و كأنها ظاهرة بلا تبرير و لا تفسير سوى أن لها مصدرا آخر غير ما نعرف.
اسمع هذا الإيقاع المنغم الجميل:
(( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) )) [ غافر ]
(( فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ (95) )) [ الأنعام ]
(( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا.. (96) )) [ الأنعام ]
(( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) )) [ غافر ]
((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ.. (103) )) [ الأنعام ]
(( وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا.. (89) )) [ الأعراف ]
ثم هذه العبارة الجديدة في تكوينها و صياغتها.. العميقة في معناها و دلالتها على العجز عن إدراك كنه الخالق:
((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) )) [ الرعد ]
(( يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) )) [ الرعد ]
ثم هذا الاستطراد في وصف القدرة الإلهية:
(( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) )) [ الأنعام ]
و لكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، و إنما مع الموسيقى صفة أخرى هي الجلال.
و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها الله نهاية قصة الطوفان تستطيع أن تلمس ذلك الشيء (( الهائل )) (( الجليل )) في الألفاظ: ((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) )) [ هود ]
تلك اللمسات الهائلة.. كل لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود.. تنزل فإذا كل شيء، صمت.. سكون، هدوء، و قد كفت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة إلى ختامها:
((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) )) [ هود ]
إنك لتشعر بشيء غير بشري تماما في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان و كأن كل حرف فيها جبل الألب.
لا يمكنك أن تغير حرفا، أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع و النغم و الحركة و الثقل و الدلالة.. و حاول و جرب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر أن تغير حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة.
و لهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة و البلاغة وقع الصاعقة.
و لم يكن مستغربا من جاهلي مثل الوليد بن المغيرة عاش و مات على كفره أن يذهل، و ألا يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن، برغم كفره فيقول: و قد اعتبره من كلام محمد:
( و الله إن لقوله لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و لا يعلى عليه ).
و لما طلبوا منه أن يسبه قال:
( قولوا ساحر جاء بقول يفرق به بين المرء و أبيه، و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته ).
إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بها.
و إذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذهول، فالسبب هو التعود و الألفة و المعايشة منذ الطفولة و البلادة و الإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا.. ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكرون السورة من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني و تتسطح العبارات.. و بالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل ( اللعلعة ) دون أن ينبض شيء في قلبه.. ثم المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيها روتينيا.. ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل و توزع الانتباه و تحجر القلب و تعقدت النفوس و صدأت الأرواح.
و برغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة و يرتد فيها طفلا بكرا و ترتد له نفسه على شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد و النكهة المذهلة و الإيقاع المطرب الجميل في القرآن.. و كفيلة بأن توقفه مذهولا من جديد بعد قرابة ألف و أربعمائة سنة من نزول هذه الآيات و كأنها تنزل عليه لساعتها و توها.
اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل و امرأة بأسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مهذبة فريدة لا تجد لها مثيلا و لا بديلا في أي لغة:
(( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا.. (189) )) [ الأعراف ]
هذه الكلمة (( تغشاها )).. تغشاها رجلها.
أن يمتزج الذكر و الأنثى كما يمتزج ظلان و كما يغشى الليل النهار و كما تذوب الألوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذروة في التعبير.
و ألفاظ أخرى تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنيناً و أصداءً و صوراً حينما يقسم الله بالليل و النهار فيقول:
(( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) )) [ التكوير ]
(( عسعس )).. هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه.
(( و الصبح إذا تنفس )) إن ضوء الفجر هنا مرئي و مسموع.. إنك تكاد تسمع زقزقة العصفور و صيحة الديك.
فإذا كانت الآيات نذير الغضب و إعلان العقاب، فإنك تسمع الألفاظ تتفجر.. و ترى المعمار القرآني كله له جلجلة. اسمع ما يقول الله عن قوم عاد: (( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) )) [ الحاقة ]
إن الآيات كلها تصر فيها الرياح و تسمع فيها اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة الأرض الخراب.
و الصور القرآنية كلها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة و الظلال المحكمة و الألفاظ التي لها جرس و صوت و صورة.
و لهذه الأسباب مجتمعة كان القرآن كتاباً لا يترجم.
إنه قرآن في لغته. أما في اللغات الأخرى فهو شيء آخر غير القرآن: (( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.. (2) )) [ يوسف ] و في هذا تحديد فاصل.
و كيف يمكن أن تترجم آية مثل:
(( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) )) [ طه ]
إننا لسنا أمام معنى فقط. و إنما نحن بالدرجة الأولى أمام معمار.. أمام تكوين و بناء تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات، من قلبها لا من حواشيها، من خصائص اللغة العربية و أسرارها و ظلالها و خوافيها.
و لهذا انفردت الآية القرآنية بخاصية عجيبة.. إنها تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تلامس الأذن و قبل أن يتأمل العقل معانيها.. لأنها تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان و القلب لتوه و من قبل أن يبدأ العقل في العمل.
فإذا بدأ العقل يحلل و يتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة، و سوف يزداد خشوعاً.. و لكنها مرحلة ثانية.. قد تحدث و قد لا تحدث.. و قد تكشف لك الآية عن سرها و قد لا تكشفه.. و قد تؤتى البصيرة التي تفسر بها معاني القرآن و قد لا تؤتى هذه البصيرة.. و لكنك دائما خاشع لأن القرآن يخاطبك أولاً كمعمار فريد من الكلام بنيان.. ( فورم ).. طراز من الرصف يبهر القلب.. ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرها، و ليس أبداً محمد النبي الأمي الذي كان يرتجف كما ترتجف أنت و الوحي يلقي عليه بالآية: (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) )) [ العلق ] فيرتجف و يتصبب عرقا و لا يعرف من أي سماوات يلم به هذا الصوت الآمر.. و هو يلوذ بزوجته خديجة و هو لا يزال يرتجف فرقا لما سمع و قد بات يخشى على نفسه الجنون فتطمئنه خديجة بصوتها الحاني هامسة:
(( و الله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، و تحمل الكَل. و تكسب المعدوم.. و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق )).
و ينقطع عنه الوحي سنتين بعد هذه الكلمات القليلة الأولى، و يتركه في حيرة.. يذرع دروب الصحراء الملتهبة يكاد يجن من أمر هذا الصوت الذي نزل عليه ثم انقطع عنه.
و لو كان محمد مؤلفاً لألّف في هاتين السنتين كتاباً كاملاً.
و لكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في لحظة صفاء و جلاء فذهل كما تذهل و صُعقت حواسه أمام هذا التركيب الفريد المضيء.
و بعد سنتين من الصمت عاد الصوت ليهتف في أذنه:
(( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) )) [ المدثر ]
ثم بدأت آيات القرآن تنزل متوالية. و لم يكن محمد من أدعياء المعجزات.
و يوم دفن ولده الوحيد إبراهيم حدث كسوف كلي للشمس فسره الناس على أنه معجزة و مشاركة من الطبيعة لحزن محمد فقال محمد كلمته المشهورة:
(( إن الشمس و القمر آياتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته )).
و لو كان في طبعه الإدعاء لالتمس فيما حدث سبباً للدعاية لنفسه، و لكنه كان الصادق الأمين من أول يوم في حياته إلى آخر يوم.
و الوحي يلقي إلى محمد بما لا يعلم محمد.
(( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) )) [ آل عمران ]
(( تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) )) [ هود ]
و هو يلقي إليه بأسرار في التوراة و الإنجيل.. و لم تكن هذه الكتب قد ترجمت إلى العربية في ذلك العصر البعيد – و أول نص مسيحي ترجم إلى العربية هو مخطوط بمكتبة ( القديس بطرسبرج ) كتب حوالي عام 1060 ميلادية – كانت هذه الكتب أسرارا عبرية لا يعرفها إلا أصحابها.
و هو يتحدى اليهود بأن يخرجوا مخطوطاتهم و يقرأوها:
(( قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) )) [ آل عمران ]
ثم هو يصحح بعض تفاصيل التوراة.
ففي رواية التوراة لقصة يوسف يقول النص إن إخوة يوسف استخدموا في سفرهم (( الحمير )) و القرآن يروي أنهم استخدموا (( العير )) و هي الإبل.
و الحمار حيوان حضري عاجز عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين إلى مصر.. و حكاية العير هي حكاية أدق و أصدق:
ألم يلعن أرميا: (( أقلام النساخ الكاذبة )).
إن الوحي يلقي على محمد ما لا يعلمه محمد لا هو و لا أصحابه و لا قومه و لا نساخ التوراة و حفاظها.. ثم هو يلقي عليه من فواتح السور ما هو أشبه بالشفرة و الألغاز مثل: ( كهيعص ).. ( طسم ).. ( حم ).. ( عسق ) مما لم يقل لنا النبي إنه يعلم له تفسيراً.
و لو أن محمداً هو الذي وضع القرآن لبث فيه أشجانه و حالاته النفسية و أزماته و أحزانه.. و القرآن غير هذا تماما فهو يبدو من البدء إلى النهاية معزولا عن النفس المحمدية بما فيها من مشاغل و هموم.. بل إن الآية لتنزل مناقضة للإرادة المحمدية:
(( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.. (114) )) [ طه ]
كل هذا يضع أمامنا القرآن كظاهرة متعالية معزولة عن النفس التي أخبرتنا بها.. فهي لا أكثر من واسطة سمعت فأخبرت.
أما القرآن ذاته فهو – لفظاً و معنى – من الله الذي أحاط بكل شيء علما.
~
مقال : المعمار القرآني
كتاب : القرآن محاولة لفهم عصري
للــدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ و كان أول لقاء لي مع القرآن و أنا في الرابعة من العمر طفلا أجلس في صف بين عدة صفوف في كتاب الشيخ ( محمود ) أحملق في بلاهة إلى سبورة و إلى مؤشر يتحرك في يد الشيخ على كلمات منقوشة بالطباشير و هو يتلو. (( و الضحى و الليل إذا سجى )). فنردد خلفه في آلية. (( و الضحى و الليل إذا سجى )). لا نفهم من الكلام حرفاً. و لا نعلم ما الضحى و لا كيف سجى. و لكننا نردد مجرد مقاطع و مخارج حروف.
و كان عقلي آنذاك صفحة بيضاء نقية لم يُكتَب عليها شيء، و لم تتلق تأثيراً تربوباً خاصاً ، فقد نشأت في أسرة كل فرد فيها متروك لحاله. يحب ما يحب ، و يكره ما يكره ، و يلعب حتى يشبع لعباً ، و أذكر أني رسبت في السنة الأولى ثلاث سنوات دون أن أتلقى تعنيفاً. و كان الصفر بالقلم الأحمر يزين كل صفحة من كراساتي مرة بعد مرة فلا يثير إلا الضحك. و كانوا إذا سألوني ماذا أخذت اليوم، كنت أقول اختصاراً للمهزلة و حتى لا أعود إلى شرح حكاية الصفر اليومي التي أصبحت بالنسبة لي مملة. كنت أقول. زي العادة. و كانوا يضحكون.
هكذا كانت تجري الأمور في بيتنا، لا إرغام على مذاكرة و لا قهر على تدين. و إنما لكلٍ حياته. و على كلٍ تبعته.
لم نعرف غسيل المخ الذي عرفه كثير من الأطفال في أسر متزمتة تحشر العلم و الدين حشراً في عقول أطفالها بالكرباج و العصا.
كنت إذن أتلقى أول عبارة من القرآن بذهن أبيض تماماً و دون تأثير مسبق مثلما أتلقى دروس الحساب و الجغرافيا و الإنشاء.
و كما بهرتني حكاية الكرة الأرضية المدورة و القارات كالجزر سابحة فيها، و كما بهرتني حكاية القمر يدور حول الأرض، و الأرض حول الشمس. و الكل معلق في السماء، كذلك فعل بي القرآن شيئاً.
و أحار في وصف الشعور الذي تلقيت به أول عبارة من القرآن.
و لا أجد الكلمات لتشرح هذا النوع من الاستقبال النفسي الغامض. و كيف كانت الكلمات تعود من تلقاء نفسها فتراود سمعي و ذاكرتي و أنا وحدي فأراني أردد بلا صوت. (( و الضحى و الليل إذا سجى )).
و تقتحم علي العبارة القرآنية سكون طفولتي فأتذكر في ظلام الليل إلقاء الشيخ و هو يردد: (( و جاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى )).
تسعى العبارة إلى خيالي و كأنها مخلوق حي مستقل له حياته الخاصة.
و قطعاً أنا لم أكن أعلم ما الضحى و لا كيف سجى الليل. و لا من هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.
و لعل المقاطع كانت تتردد في سمعي أشبه بمقاطع سلم موسيقي. ( صول لا سي دو ري مي فا ). مجرد حروف لا معنى لها و لا وقع سوى مدلولها الموسيقي. مجرد نغم و مازورات موسيقية و إيقاع يطرب الوجدان.
نعم. لقد اكتشفت منذ تلك الطفولة البعيدة دون أن أدري حكاية الموسيقى الداخلية الباطنة في العبارة القرآنية.
و هذا سر من أعمق الأسرار في التركيب القرآني. إنه ليس بالشعر و لا بالنثر و لا بالكلام المسجوع. و إنما هو معمار خاص من الألفاظ صُفَّت بطريقة تكشف عن الموسيقى الباطنة فيها.
و فرق كبير بين الموسيقى الباطنة و الموسيقى الظاهرة.
و كمثل نأخذ بيتا لشاعر مثل ( عمر بن أبي ربيعة ) اشتهر بالموسيقى في شعره. البيت الذي ينشد فيه:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب القتول أخت الرباب
أنت تسمع و تطرب و تهتز على الموسيقى. و لكن الموسيقى هنا خارجية صنعها الشاعر بتشطير الكلام في أشطار متساوية ثم تقفيل كل عبارة تقفيلا واحدا على الباء الممدودة.
الموسيقى تصل إلى أذنك من خارج العبارة و ليس من داخلها. من التقفيلات ( القافية ). و من البحر و الوزن. أما حينما تتلو:
كلمات في غاية الرقة مثل (( يبساً )) أو لا تخاف (( دركاً )) بمعنى لا تخاف إدراكاً.
إن الكلمات تذوب في يد خالقها و تصطف و تتراص في معمار و رصف موسيقي فريد هو نسيج وحده بين كل ما كتب بالعربية سابقاً و لاحقاً.
لا شبه بينه و بين الشعر الجاهلي، و لا بينه و بين الشعر و النثر المتأخر، و لا محاولة واحدة للتقليد حفظها لنا التاريخ برغم كثرة الأعداء الذين أرادوا الكيد للقرآن.
في كل هذا الزحام تبرز العبارة القرآنية منفردة بخصائصها تماما. و كأنها ظاهرة بلا تبرير و لا تفسير سوى أن لها مصدرا آخر غير ما نعرف.
و لكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، و إنما مع الموسيقى صفة أخرى هي الجلال.
و في العبارة البسيطة المقتضبة التي روى بها الله نهاية قصة الطوفان تستطيع أن تلمس ذلك الشيء (( الهائل )) (( الجليل )) في الألفاظ: ((وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) )) [ هود ]
تلك اللمسات الهائلة. كل لفظ له ثقل الجبال و وقع الرعود. تنزل فإذا كل شيء، صمت. سكون، هدوء، و قد كفت الطبيعة عن الغضب و وصلت القصة إلى ختامها:
إنك لتشعر بشيء غير بشري تماما في هذه الألفاظ الهائلة الجليلة المنحوتة من صخر صوان و كأن كل حرف فيها جبل الألب.
لا يمكنك أن تغير حرفا، أو تستبدل كلمة بأخرى، أو تؤلف جملة مكان جملة، تعطي نفس الإيقاع و النغم و الحركة و الثقل و الدلالة. و حاول و جرب لنفسك في هذه العبارة البسيطة ذات الكلمات العشر أن تغير حرفا أو تستبدل كلمة بكلمة.
و لهذا وقعت العبارة القرآنية على آذان عرب الجاهلية الذين عشقوا الفصاحة و البلاغة وقع الصاعقة.
و لم يكن مستغربا من جاهلي مثل الوليد بن المغيرة عاش و مات على كفره أن يذهل، و ألا يستطيع أن يكتم إعجابه بالقرآن، برغم كفره فيقول: و قد اعتبره من كلام محمد:
( و الله إن لقوله لحلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إن أسفله لمغدق و إنه ليعلو و لا يعلى عليه ).
و لما طلبوا منه أن يسبه قال:
( قولوا ساحر جاء بقول يفرق به بين المرء و أبيه، و بين المرء و أخيه، و بين المرء و زوجته، و بين المرء و عشيرته ).
إنه السحر حتى على لسان العدو الذي يبحث عن كلمة يسبه بها.
و إذا كانت العبارة القرآنية لا تقع على آذاننا اليوم موقع السحر و العجب و الذهول، فالسبب هو التعود و الألفة و المعايشة منذ الطفولة و البلادة و الإغراق في عامية مبتذلة أبعدتنا عن أصول لغتنا. ثم أسلوب الأداء الرتيب الممل الذي نسمعه من مرتلين محترفين يكرون السورة من أولها إلى آخرها بنبرة واحدة لا يختلف فيها موقف الحزن من موقف الفرح من موقف الوعيد من موقف البشرى من موقف العبرة. نبرة واحدة رتيبة تموت فيها المعاني و تتسطح العبارات. و بالمثل بعض المشايخ ممن يقرأ القرآن على سبيل ( اللعلعة ) دون أن ينبض شيء في قلبه. ثم المناسبات الكثيرة التي يُقرأ القرآن فيها روتينيا. ثم الحياة العصرية التي تعددت فيها المشاغل و توزع الانتباه و تحجر القلب و تعقدت النفوس و صدأت الأرواح.
و برغم هذا كله فإن لحظة صفاء ينزع الواحد فيها نفسه من هذه البيئة اللزجة و يرتد فيها طفلا بكرا و ترتد له نفسه على شفافيتها، كفيلة بأن تعيد إليه ذلك الطعم الفريد و النكهة المذهلة و الإيقاع المطرب الجميل في القرآن. و كفيلة بأن توقفه مذهولا من جديد بعد قرابة ألف و أربعمائة سنة من نزول هذه الآيات و كأنها تنزل عليه لساعتها و توها.
اسمع القرآن يصف العلاقة الجنسية بين رجل و امرأة بأسلوب رفيع و بكلمة رقيقة مهذبة فريدة لا تجد لها مثيلا و لا بديلا في أي لغة:
أن يمتزج الذكر و الأنثى كما يمتزج ظلان و كما يغشى الليل النهار و كما تذوب الألوان بعضها في بعض، هذا اللفظ العجيب الذي يعبر به القرآن عن التداخل الكامل بين اثنين هو ذروة في التعبير.
و ألفاظ أخرى تقرؤها في القرآن فتترك في السمع رنيناً و أصداءً و صوراً حينما يقسم الله بالليل و النهار فيقول:
(( عسعس )). هذه الحروف الأربعة هي الليل مصورا بكل ما فيه.
(( و الصبح إذا تنفس )) إن ضوء الفجر هنا مرئي و مسموع. إنك تكاد تسمع زقزقة العصفور و صيحة الديك.
فإذا كانت الآيات نذير الغضب و إعلان العقاب، فإنك تسمع الألفاظ تتفجر. و ترى المعمار القرآني كله له جلجلة. اسمع ما يقول الله عن قوم عاد: (( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) )) [ الحاقة ]
إن الآيات كلها تصر فيها الرياح و تسمع فيها اصطفاق الخيام و أعجاز النخل الخاوي و صورة الأرض الخراب.
و الصور القرآنية كلها تجدها مرسومة بهذه اللمسات السريعة و الظلال المحكمة و الألفاظ التي لها جرس و صوت و صورة.
و لهذه الأسباب مجتمعة كان القرآن كتاباً لا يترجم.
إنه قرآن في لغته. أما في اللغات الأخرى فهو شيء آخر غير القرآن: (( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. (2) )) [ يوسف ] و في هذا تحديد فاصل.
إننا لسنا أمام معنى فقط. و إنما نحن بالدرجة الأولى أمام معمار. أمام تكوين و بناء تنبع فيه الموسيقى من داخل الكلمات، من قلبها لا من حواشيها، من خصائص اللغة العربية و أسرارها و ظلالها و خوافيها.
و لهذا انفردت الآية القرآنية بخاصية عجيبة. إنها تحدث الخشوع في النفس بمجرد أن تلامس الأذن و قبل أن يتأمل العقل معانيها. لأنها تركيب موسيقي يؤثر في الوجدان و القلب لتوه و من قبل أن يبدأ العقل في العمل.
فإذا بدأ العقل يحلل و يتأمل فإنه سوف يكتشف أشياء جديدة، و سوف يزداد خشوعاً. و لكنها مرحلة ثانية. قد تحدث و قد لا تحدث. و قد تكشف لك الآية عن سرها و قد لا تكشفه. و قد تؤتى البصيرة التي تفسر بها معاني القرآن و قد لا تؤتى هذه البصيرة. و لكنك دائما خاشع لأن القرآن يخاطبك أولاً كمعمار فريد من الكلام بنيان. ( فورم ). طراز من الرصف يبهر القلب. ألقاه عليك الذي خلق اللغة و يعرف سرها، و ليس أبداً محمد النبي الأمي الذي كان يرتجف كما ترتجف أنت و الوحي يلقي عليه بالآية: (( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) )) [ العلق ] فيرتجف و يتصبب عرقا و لا يعرف من أي سماوات يلم به هذا الصوت الآمر. و هو يلوذ بزوجته خديجة و هو لا يزال يرتجف فرقا لما سمع و قد بات يخشى على نفسه الجنون فتطمئنه خديجة بصوتها الحاني هامسة:
(( و الله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، و تحمل الكَل. و تكسب المعدوم. و تقري الضيف، و تعين على نوائب الحق )).
و ينقطع عنه الوحي سنتين بعد هذه الكلمات القليلة الأولى، و يتركه في حيرة. يذرع دروب الصحراء الملتهبة يكاد يجن من أمر هذا الصوت الذي نزل عليه ثم انقطع عنه.
و لو كان محمد مؤلفاً لألّف في هاتين السنتين كتاباً كاملاً.
و لكنه لم يكن أكثر من مستمع أمين سمع كما تسمع أنت تلك الكلمات ذات الموسيقى العلوية في لحظة صفاء و جلاء فذهل كما تذهل و صُعقت حواسه أمام هذا التركيب الفريد المضيء.
و هو يلقي إليه بأسرار في التوراة و الإنجيل. و لم تكن هذه الكتب قد ترجمت إلى العربية في ذلك العصر البعيد – و أول نص مسيحي ترجم إلى العربية هو مخطوط بمكتبة ( القديس بطرسبرج ) كتب حوالي عام 1060 ميلادية – كانت هذه الكتب أسرارا عبرية لا يعرفها إلا أصحابها.
ففي رواية التوراة لقصة يوسف يقول النص إن إخوة يوسف استخدموا في سفرهم (( الحمير )) و القرآن يروي أنهم استخدموا (( العير )) و هي الإبل.
و الحمار حيوان حضري عاجز عن أن يجتاز مسافات صحراوية شاسعة لكي يجيء من فلسطين إلى مصر. و حكاية العير هي حكاية أدق و أصدق:
ألم يلعن أرميا: (( أقلام النساخ الكاذبة )).
إن الوحي يلقي على محمد ما لا يعلمه محمد لا هو و لا أصحابه و لا قومه و لا نساخ التوراة و حفاظها. ثم هو يلقي عليه من فواتح السور ما هو أشبه بالشفرة و الألغاز مثل: ( كهيعص ). ( طسم ). ( حم ). ( عسق ) مما لم يقل لنا النبي إنه يعلم له تفسيراً.
و لو أن محمداً هو الذي وضع القرآن لبث فيه أشجانه و حالاته النفسية و أزماته و أحزانه. و القرآن غير هذا تماما فهو يبدو من البدء إلى النهاية معزولا عن النفس المحمدية بما فيها من مشاغل و هموم. بل إن الآية لتنزل مناقضة للإرادة المحمدية:
❞ سأكون خائنًا للعلم إن لم ألحّ على أنّ دراسته هي غاية في حد ذاتها.
يجب تتبّع مسار #العلم لأجله هو ذاته، أيّا ما كان يقود إليه، سواءً إلى تل البصيرة أو نفق الغموض!. ❝ ⏤سير آرثر ستانلي إدنجتون
❞ سأكون خائنًا للعلم إن لم ألحّ على أنّ دراسته هي غاية في حد ذاتها.
يجب تتبّع مسار #العلم لأجله هو ذاته، أيّا ما كان يقود إليه، سواءً إلى تل البصيرة أو نفق الغموض!. ❝
❞ تروي لنا الأديان حكاية رجل يظهر في آخر الزمان و يأتي من الخوارق و المعجزات بما يفتن الناس من كافة أرجاء الأرض فيسيرون خلفه و قد اعتقدوا أنه إله .
و تصفه الروايات بأنه أعور , و أنه يملك من القوة الخارقة ما يجعله يرى بهذه العين الواحدة ما يجري في أقصى الأرض كما يسمع بأذنه ما يتهامس به عبر البحار , كما يسقط الأمطار بمشيئته فينبت الزرع و يكشف عن الكنوز المخبوءة و يشفى المرضى و يحيي الموتى و يميت الأحياء و يطير بسرعة الريح .
و يفتتن به كل من يراه و يسجد له , على أنه الله . على حين يراه المؤمنون على حقيقته و لا تخدعهم معجزاته , و يشهَدون رسم الكفر على وجهه .
ذلك هو المسيخ الدجال , إحدى علامات الساعة التي نقرأ عنها في كتب الدين .
و المسيخ الدجال قد ظهر بالفعل كما يقول الكاتب البولندي ليوبولدفايس ... و قد أسلم هذا الكاتب و عاش بمكة . و تسمى باسم محمد أسد .
و هذا المسيخ الشائه ذو العين الواحدة كما يقول ليوبولدفايس هو :
التقدم العلمي و القوة المادية و الترف المادي .. معبودات هذا الزمان .
مدينة العصر الذري , العوراء العرجاء , التي تتقدم في اتجاه واحد , و ترى في اتجاه واحد هو الاتجاه المادي , على حين تفتقد العين الثانية ((الروح)) التي تبصر البعد الروحي للحياة .. فهي قوة بلا محبة , و علم بلا دين , و تكنولوجيا بلا أخلاق .
و قد استطاع هذا المسخ فعلاً عن طريق العلم أن يسمع ما يدور في أقصى الأرض ((باللاسلكي)) و يرى ما يجري في آخر الدنيا ((بالتلفزيون)) , وهو الآن يسقط المطر بوسائل صناعية , و يزرع الصحارى و يشفي المرضى و ينقل قلوب الأموات إلى قلوب الأحياء , و يطير حول الأرض في صواريخ و ينشر الموت و الدمار بالقنابل الذرية , و يكشف عروق الذهب في باطن الجبال .
و قد افتتن الناس بهذا المسخ فعبدوه .
و أمام هذا الاستعراض الباهر للتقدم العلمي الغربي فقدنا نحن الشرقيين ثقتنا بأنفسنا و نظرنا باحتقار إلى تراثنا و ديننا .
و في حمى الشعور بالنقص و التخلف تصورنا أن دياناتنا ضرب من الخرافات المخجلة التي يجب أن نتخلص منها لنلحق بركب التقدم و ندخل في رحاب المعبد الجديد . معبد العلم لنعبد ذلك الإله الجديد الذي اسمه القوة المادية .
و سجدنا مبهورين فاقدي الوعي و قد اختلطت علينا الوسيلة بالغاية .. فجعلنا من القوة المادية غايتنا . و نسينا أنها مجرد وسيلة و أداة .
القطار وسيلة .
و التلغراف وسيلة .
و الكهرباء وسيلة .
و الطاقة الذرية وسيلة .
و دور هذه الوسائل أن توضع في خدمة الإنسان لتحرره من الضرورات المادية فيفرغ إلى الفكر و التأمل و إثراء روحه بالمعرفة الحقة .
و بدلاً من أن تكون هذه الوسائل في خدمتنا أصبحنا نحن في خدمتها نكد و نكدح و نتعارك و نتكالب لنمتلك عربة و راديو و تلفزيوناً . فإذا امتلكنا هذه الأشياء ازددنا نهماً و رغبة لنمتلك عربة أكبر من العربة ثم جهاز تسجيل ستريو فونيك ثم قارباً للنزهة ثم يختاً ثم فيلا و حديقة و حمام سباحة .. ثم طائرة خاصة إن أمكن . و يطيش صوابنا شيئاً فشيئاً أمام سيل المنتجات الاستهلاكية التي تملأ الفاترينات .. و نتحول إلى جوع أكال يزداد جوعاً كلما أمعن في الشراء . و حلقة مفرغة من الأطماع لا تنتهي لتبدأ , و هي أبداً تهدف إلى اقتناء سبب من أسباب القوة المادية أو الترف الحياتي مما تطرحه التكنولوجيا كل يوم في واجهات المحلات .
و كما يكدس المواطن العادي البضائع الاستهلاكية تكدس الدول الأسلحة و الذخائر ثم تدمر بها بعضها بعضاً في حروب طاحنة ثم تعود فتكدس أسلحة أخطر و قنابل أكبر .
العالم أصبح مسرحاً مجنوناً يهرول فيها المجانين في اتجاه واحد نحو القوة المادية . المسيخ الدجال الأعور ذو العين الواحدة . معبود هذا الزمان .
لا إله إلا المادة .
هذه هي الصلاة اليومية .
اختفى الإيمان بالله .
و اختفى معه الإحساس بالأمن و السكينة و الطمأنينة .
و أصبحت الصورة الفلسفية للعالم هي غابة يتصارع فيها المخلب و الناب .
صراع طبقي .. و صراع عنصري .. و صراع عقائدي .. عالم فظيع من الخوف و القتل .
و لا أحد في السماء يرعى هذا العالم و يحفظه .
إلى هذه الحالة انتهت بنا عبادة الدجال الذي اسمه القوة المادية .
والنتيجة هي هذا الإنسان الكئيب المهموم الخائف القلق .وهذا الشاب الذي يدمن المخدرات في شوارع لندن وباريس ..والانتحار والجنون الذي بلغ ذروته في بلاد الغنى والوفرة والرخاء أمثال السويد والنرويج وأمريكا .
وإنسان المذعور الذي افتقد الأمان يحاول أن يستجلب لنفسه هذا الأمان بالوسائل الصناعية التكنولوجية .. عن طريق عين سحرية يضعها على الباب تعمل بالأشعة تحت الحمراء لاكتشاف اللصوص . و جرس الإنذار للخزينة . و رسم كهربائي للقلب كل شهر لاكتشاف الجلطة قبل أوانها . و أجهزة تكييف للحر و البرد و بوالص تأمين . و عشرات الأصناف من الفيتامينات و المسكنات و المنبهات و عشرات الأجهزة التي توفر الجهد و القوة العضلية .
و كل وسيلة ماديّة تحتاج بدورها إلى وسيلة مادية أخرى لتؤمنها . و في النهاية لا أمان , بل مزيد من الخوف و القلق و سعار نحو مزيد من الوسائل المادية بلا جدوى .
و ينسى الإنسان في هذا التيه الذي أضاع فيه عمره أنه أخطأ منذ البداية حينما تصوّر أن هذا العالم بلا إله و أنه قذف به إلى الدنيا بلا نواميس تحفظه و بلا رب يسأله .
و أخطأ مرة أخرى حينما عبد القوة المادية و جعل منها مصدراً لسعادته و هدفاً لحياته و غاية لسعيه , و أقامها مكان الله . و تصور أنها يمكن أن تمنحه الأمن و السكينة و الاطمئنان المفتقد , و أنها يمكن أن تحفظه من الموت و الدمار , فإذا هي نفسها التي تسلبه سكينة النفس , ثم إذا بها في النهاية تصبح أدوات الحروب التي تدمره و تبعثره أشلاء .
و أخطأ مرة ثالثة حينما تصور أنا الكيمياء و الطبيعة و الكهرباء علوم و أن الدين خرافة .
و لو انه فكر قليلاً لأدرك أن الكيمياء و الطبيعة و الكهرباء هي في الواقع علوم جزئية تبحث في الجزيئات و العلاقات و المقادير و الكميات .. و أن الدين علم كلي يبحث في الكليات .. بل هو منتهى العلم لأنه يبحث في البدايات الأولى للأشياء و النهايات المطلقة للأشياء , و الغايات النهائية للوجود , و المعنى العالم للحياة و المغزى الكلي للألم .
الكيمياء و الطبيعة و الكهرباء هي العلوم الصغيرة .
و الدين هو العلم الكبير الذي يشتمل على كل العلوم في باطنه .
و لا تعارض بين الدين و العلم , لأن الدين في ذاته منتهى العلم المشتمل بالضرورة على جميع لعلوم .
و الدين ضروري و مطلوب لأنه هو الذي يرسم للعلوم الصغيرة غاياتها و أهدافها و يضع لها وظائفها السليمة في إطار الحياة المثلى .
الدين هو الذي يقيم الضمير .
و الضمير بدوره يختار للطاقة الذرية وظيفة بناءة .. و لا يلقى بها دماراً و موتاً على الأبرياء .
و هو الذي يهيب بنا أن نجعل من الكهرباء وسيلة للإضاءة لا وسيلة للهلاك .
و الدين هو الذي يدلنا على أن كل العلوم وسائل هي الأخرى . و المادة ذاتها مخلوقة مثلنا و ليست إلهاً يعبد .. و أنها لا تستطيع أن تمنح الإنسان الأمن و السكينة و السعادة .. و أنها من طبيعتها التحلل و الفساد و التبدل و التغير شأنها شأن ذلك الكون الناقص و أنها لا تصلح سنداً و لا تشكل قوة حقيقية .
و التقدم المادي مطلوب و لكنه وسيلة لا أكثر من وسائل الإنسان المتحضر و لا يصح أن يكون غايته .
و الدين لا يرفض التقدم المادي و لكنه يضع في مكانه كوسيلة لا غاية .
و الدين لا يرفض العلم بل يأمر به و يحض عليه و لكنه يضعه في مكانه كوسيلة للمعرفة ضمن الوسائل العديدة التي يملكها الإنسان كالفطرة و البصيرة و البداهة و الإلهام و الوحي .
و رفض العلم و رفض الأخذ بالوسائل المادية المتقدمة خطيئة مثل عبادة هذه الوسائل و الخضوع لها سواء بسواء , و هو أحد أسباب التأخر في بلادنا .
و أنت تجد في الشرق أحد اثنين .. تجد من يرفض العلم اكتفاء بالدين و القرآن .. و تجد من يرفض الدين اكتفاء و عبادة للعلم المادي و الوسائل المادية .
و كلا الاثنين سبب من أسباب النكبة الحضارية في المنطقة .. و كلاهما لم يفهم المعنى الحقيقي للدين و لا المعنى الحقيقي للعلم .
و الدين , و الإسلام خاصة , يعتبر العلم فريضة .. و يقول نبينا إن من مات مهاجراً في سبيل العلم فقد مات شهيداً .. و عن العلماء ورثة الأنبياء .. و إن علينا أن نطلب العلم و لو في الصين .. و أول كلمة نزلت في القرآن هي ((اقرأ)) .
و الإسلام دين عقل يخاطب أتباعه بالمنهج العقلي .
فالعلم و التقدم العلمي المادي له مكانه العظيم في ديننا .
و لكن هو دائماً وسيلة لا غاية .. أداة لا صنم معبود ..
و هذا هو وضع الشيء في وضعه الصحيح .
فالوسيلة المادية لا تمنح النفس أمناً و لا سكينة . و إنما هي سبيل إلى الترف و الرفاهية و تيسير الحياة .. أما القلق و الخراب الروحي فأنه يبقى و لا يزول بالرغم من وجود الفريجيدير و التلفزيون و الريكوردر و جهاز التكييف و جميع الوسائل المادية . بل إن هذا القلق و الخراب الروحي يتفاقم بازدياد خضوع الإنسان لهذه الوسائل و جريه وراءها .
و لا تنزل السكينة على القلب و لا تعمر الروح بالطمأنينة و الأمان إلا بوسيلة واحدة هي الاعتقاد بأن هناك إلهاً خلق الكون و أن هذا الإله عادل كامل .. و أنه هيأ الكون نواميس تحفظه و قدر فيه كل شيء لحكمة و سبب و أننا راجعون إليه . و أن آلامنا و عذابنا لن تذهب عبثاً . و أن الفرد حقيقة مطلقة و ليس ترساً في آلة مصيره إلى التراب .
هذا اليقين الديني هو وحده الذي يرد للإنسان اعتباره و كرامته و ليس الفريجيدير و التلفزيون و الريكوردر و لا أية وسيلة مادية مهما عظمت .
و بهذا اليقين تنزل السكينة على القلب و يصل الإنسان إلى حالة من العمار الروحي و التكامل الداخلي و يشعر بنفسه أقوى من الموت و أقوى من الظلم .
و بهذا اليقين يجابه أعظم الأخطار و يقهرها فهو بإيمانه في حصن أقوى من دروع الدبابات . حصن لا سبيل إلى اختراقه بأي قذيفة . لأنه حصن يعبر الموت ذاته .
و بهذا الإيمان يشعر الإنسان أنه استرد هويته و أنه أصبح هو هو حقّاً .. و أنه أدرك ذاته و تعرف على نفسه و مكانته من خلال إدراكه للإله الواحد الكامل .
و الذي جرب هذا الشعور النادر يعلم أنه حالة من الاستنارة الداخلية و أنه ليس افتعالاً .. و ليس استجلاباً مزيفاً للأمان .. و إنما هو الحق عينه .. و أنه الصحو و ليس الحلم .
و إنا نعلم أمر هذا اليقين من حال نقيضه ..
من حال كثرة الناس الذين يعبدون الدجال ..
مسيخ العصر الذري ذو المخ الإلكتروني .
هذه الكثرة التي تتصارع بالمخلب و الناب و تأكل المخدرات و تتخبط على أبواب الجنون و الانتحار و تنحدر في خطوات دموية إلى حرب عالمية ثالثة .
و سوف تقول لك فطرتك أي الاثنين على حق ؟
هذه الكثرة التي يأكل بعضها بعضاً و تتآكل حقداً و غلاً و ضراوة .. أم هذه القلة التي نزلت على قلوبها السكينة و أدركت أن هناك إلهاً ..
* * *
و الدين لا يرفض الحياة و لا يرفض العقل .
و الإسلام بالذات ينطلق من مبدأ حب الحياة و الحرص عليها و رعايتها , و بحض على احترام العقل و على طلب العلم و يقدم شريعة عصرية توحد بين الروح و الجسد في التئام فريد .. لا الروح تطغى على الجسد و لا الجسد يطغى على الروح و إنما يتصرف الاثنان على أنهما واحد .. فهو لا يطلب كنا أن نميت الشهوة و إنما يطلب منا أن ننظمها و نوجهها في إطار العلاقة المشروعة .. و معيار التقوى عنده ليس الانقطاع للعبادة و العزلة و الرهبانية .. و إنما معيارها العمل .. تسبيح الروح لا بد أن يقترن بعمل اليدين و سعي القدمين من أجل خير المجتمع و نفعه .. و الصلاة لا يكفي فيها خشوع النفس و إنما لا بد أن يعبر الجسد عن الخشوع هو الآخر و في ذات الوقت بالركوع و السجود ..
و الصلاة الإسلامية هي رمز لهذه الوحدة التي لا تتجزأ بين الروح و الجسد ..الروح تخشع و اللسان يسبح و الجسد يركع .
و الطواف حول الكعبة رمز آخر لدوران الأعمال حول القطب الواحد .. و استهداف الحركات و الأفكار لهف واحد هو الخالق الذي خلق الإنسان حيث لا موجود بحق إلا هو , و حيث كل شيء منه و إليه .. و الطواف هو التعبير الجسماني و النفساني و الروحاني لهذا التوحيد .
و بهذا يعيد الإسلام إلى الإنسان التئامه روحاً و جسداً و يعيد إليه السكينة فينتهي ذلك الصراع الأزلي بين الشهوة و العقل , و يولد منهما شيء جديد هو الشهوة العاقلة البصيرة التي يتوحد فيها النقيضان .. كما تتوحد العاطفة مع الفكر و الباطن مع الظاهر فلا نعود نرى ذلك المخادع يخالف قلبه عقله و يخالف عقله قوله و يخالف قوله فعله .. و إنما يقوم مقام ذلك الإنسان المفكك الممزق .. إنسان جديد توحد روحاً و جسداً .. و قولاً و فعلاً .. و باطناً و ظاهراً ..
و بوصول الإنسان إلى وحدته مع نفسه يصل إلى وحدته مع ربه .. و هي حالة القرب التي يدخل بها الإنسان دائرة الضوء و يضع قدمه على حافة الملكوت .
و يدور الإسلام حول هذه الفكرة المحورية .. فكرة التوحيد .. و يؤكد القرآن هذا المعنى في كل حرف و كل كلمة و كل آية و يكرره بمختلف الصور و القصص و الأمثلة و الحكم و العبر .
و الإسلام يقدم للعصر المادي باب النجاة الوحيد و الحل الوحيد و المخرج الوحيد .. فهو يقدم إليه كل تراثه الروحي دون أن يكلفه أن ينزل عن شيء من مكتسباته العلمية أو تفوقه المادي .. و كل ما يريده الإسلام هو أن يحقق الاقتران الناجح و التزاوج الناجح بين المادة والروح لتقوم مدينة جديدة هي مدينة القوة و الرحمة , حيث لا تكون القوة المادية مسخاً معبوداً و إنما تكون أداة و وسيلة في يد القلب الرحيم .. و بذلك يتم تحطيم المسخ الدجال .. و تقوم دولة الإنسان الكامل .
....
و جواباً على الذين يسألون في حيرة : لماذا خلقنا الله ؟ لماذا أوجدنا في هذه الدنيا ؟ و ما حكمة هذا العذاب الذي نعانيه ؟
يجيب القرآن بمجموع آياته .. إن الله أنزل الإنسان إلى الدنيا بفضول مفطور فيه .. ليتعرف على مجهولاتها ثم يتعرف على نفسه . و من خلال إدراكه لنفسه يدرك ربه .. و يدرك مقام هذا الرب الجليل فيعبده و يحبه و بذلك يصبح أهلاً لمحبته و عطائه ..
و لهذا خلقنا الله ..
وهذا الهدف النهائي .. ليحبنا و يعطينا ..
و هو يعذبنا ليوقظنا من غفلتنا فنصبح أهلاً لمحبته وعطائه .
بالحب خلق ..
و للحب خلق ..
تبارك و تعالى في سماواته , الذي خلقنا باسمه الرحمن الرحيم .
مقال / المسيخ الدجال
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝ ⏤مصطفى محمود
❞ تروي لنا الأديان حكاية رجل يظهر في آخر الزمان و يأتي من الخوارق و المعجزات بما يفتن الناس من كافة أرجاء الأرض فيسيرون خلفه و قد اعتقدوا أنه إله .
و تصفه الروايات بأنه أعور , و أنه يملك من القوة الخارقة ما يجعله يرى بهذه العين الواحدة ما يجري في أقصى الأرض كما يسمع بأذنه ما يتهامس به عبر البحار , كما يسقط الأمطار بمشيئته فينبت الزرع و يكشف عن الكنوز المخبوءة و يشفى المرضى و يحيي الموتى و يميت الأحياء و يطير بسرعة الريح .
و يفتتن به كل من يراه و يسجد له , على أنه الله . على حين يراه المؤمنون على حقيقته و لا تخدعهم معجزاته , و يشهَدون رسم الكفر على وجهه .
ذلك هو المسيخ الدجال , إحدى علامات الساعة التي نقرأ عنها في كتب الدين .
و المسيخ الدجال قد ظهر بالفعل كما يقول الكاتب البولندي ليوبولدفايس .. و قد أسلم هذا الكاتب و عاش بمكة . و تسمى باسم محمد أسد .
و هذا المسيخ الشائه ذو العين الواحدة كما يقول ليوبولدفايس هو :
التقدم العلمي و القوة المادية و الترف المادي . معبودات هذا الزمان .
مدينة العصر الذري , العوراء العرجاء , التي تتقدم في اتجاه واحد , و ترى في اتجاه واحد هو الاتجاه المادي , على حين تفتقد العين الثانية ((الروح)) التي تبصر البعد الروحي للحياة . فهي قوة بلا محبة , و علم بلا دين , و تكنولوجيا بلا أخلاق .
و قد استطاع هذا المسخ فعلاً عن طريق العلم أن يسمع ما يدور في أقصى الأرض ((باللاسلكي)) و يرى ما يجري في آخر الدنيا ((بالتلفزيون)) , وهو الآن يسقط المطر بوسائل صناعية , و يزرع الصحارى و يشفي المرضى و ينقل قلوب الأموات إلى قلوب الأحياء , و يطير حول الأرض في صواريخ و ينشر الموت و الدمار بالقنابل الذرية , و يكشف عروق الذهب في باطن الجبال .
و قد افتتن الناس بهذا المسخ فعبدوه .
و أمام هذا الاستعراض الباهر للتقدم العلمي الغربي فقدنا نحن الشرقيين ثقتنا بأنفسنا و نظرنا باحتقار إلى تراثنا و ديننا .
و في حمى الشعور بالنقص و التخلف تصورنا أن دياناتنا ضرب من الخرافات المخجلة التي يجب أن نتخلص منها لنلحق بركب التقدم و ندخل في رحاب المعبد الجديد . معبد العلم لنعبد ذلك الإله الجديد الذي اسمه القوة المادية .
و سجدنا مبهورين فاقدي الوعي و قد اختلطت علينا الوسيلة بالغاية . فجعلنا من القوة المادية غايتنا . و نسينا أنها مجرد وسيلة و أداة .
القطار وسيلة .
و التلغراف وسيلة .
و الكهرباء وسيلة .
و الطاقة الذرية وسيلة .
و دور هذه الوسائل أن توضع في خدمة الإنسان لتحرره من الضرورات المادية فيفرغ إلى الفكر و التأمل و إثراء روحه بالمعرفة الحقة .
و بدلاً من أن تكون هذه الوسائل في خدمتنا أصبحنا نحن في خدمتها نكد و نكدح و نتعارك و نتكالب لنمتلك عربة و راديو و تلفزيوناً . فإذا امتلكنا هذه الأشياء ازددنا نهماً و رغبة لنمتلك عربة أكبر من العربة ثم جهاز تسجيل ستريو فونيك ثم قارباً للنزهة ثم يختاً ثم فيلا و حديقة و حمام سباحة . ثم طائرة خاصة إن أمكن . و يطيش صوابنا شيئاً فشيئاً أمام سيل المنتجات الاستهلاكية التي تملأ الفاترينات . و نتحول إلى جوع أكال يزداد جوعاً كلما أمعن في الشراء . و حلقة مفرغة من الأطماع لا تنتهي لتبدأ , و هي أبداً تهدف إلى اقتناء سبب من أسباب القوة المادية أو الترف الحياتي مما تطرحه التكنولوجيا كل يوم في واجهات المحلات .
و كما يكدس المواطن العادي البضائع الاستهلاكية تكدس الدول الأسلحة و الذخائر ثم تدمر بها بعضها بعضاً في حروب طاحنة ثم تعود فتكدس أسلحة أخطر و قنابل أكبر .
العالم أصبح مسرحاً مجنوناً يهرول فيها المجانين في اتجاه واحد نحو القوة المادية . المسيخ الدجال الأعور ذو العين الواحدة . معبود هذا الزمان .
لا إله إلا المادة .
هذه هي الصلاة اليومية .
اختفى الإيمان بالله .
و اختفى معه الإحساس بالأمن و السكينة و الطمأنينة .
و أصبحت الصورة الفلسفية للعالم هي غابة يتصارع فيها المخلب و الناب .
صراع طبقي . و صراع عنصري . و صراع عقائدي . عالم فظيع من الخوف و القتل .
و لا أحد في السماء يرعى هذا العالم و يحفظه .
إلى هذه الحالة انتهت بنا عبادة الدجال الذي اسمه القوة المادية .
والنتيجة هي هذا الإنسان الكئيب المهموم الخائف القلق .وهذا الشاب الذي يدمن المخدرات في شوارع لندن وباريس .والانتحار والجنون الذي بلغ ذروته في بلاد الغنى والوفرة والرخاء أمثال السويد والنرويج وأمريكا .
وإنسان المذعور الذي افتقد الأمان يحاول أن يستجلب لنفسه هذا الأمان بالوسائل الصناعية التكنولوجية . عن طريق عين سحرية يضعها على الباب تعمل بالأشعة تحت الحمراء لاكتشاف اللصوص . و جرس الإنذار للخزينة . و رسم كهربائي للقلب كل شهر لاكتشاف الجلطة قبل أوانها . و أجهزة تكييف للحر و البرد و بوالص تأمين . و عشرات الأصناف من الفيتامينات و المسكنات و المنبهات و عشرات الأجهزة التي توفر الجهد و القوة العضلية .
و كل وسيلة ماديّة تحتاج بدورها إلى وسيلة مادية أخرى لتؤمنها . و في النهاية لا أمان , بل مزيد من الخوف و القلق و سعار نحو مزيد من الوسائل المادية بلا جدوى .
و ينسى الإنسان في هذا التيه الذي أضاع فيه عمره أنه أخطأ منذ البداية حينما تصوّر أن هذا العالم بلا إله و أنه قذف به إلى الدنيا بلا نواميس تحفظه و بلا رب يسأله .
و أخطأ مرة أخرى حينما عبد القوة المادية و جعل منها مصدراً لسعادته و هدفاً لحياته و غاية لسعيه , و أقامها مكان الله . و تصور أنها يمكن أن تمنحه الأمن و السكينة و الاطمئنان المفتقد , و أنها يمكن أن تحفظه من الموت و الدمار , فإذا هي نفسها التي تسلبه سكينة النفس , ثم إذا بها في النهاية تصبح أدوات الحروب التي تدمره و تبعثره أشلاء .
و أخطأ مرة ثالثة حينما تصور أنا الكيمياء و الطبيعة و الكهرباء علوم و أن الدين خرافة .
و لو انه فكر قليلاً لأدرك أن الكيمياء و الطبيعة و الكهرباء هي في الواقع علوم جزئية تبحث في الجزيئات و العلاقات و المقادير و الكميات . و أن الدين علم كلي يبحث في الكليات . بل هو منتهى العلم لأنه يبحث في البدايات الأولى للأشياء و النهايات المطلقة للأشياء , و الغايات النهائية للوجود , و المعنى العالم للحياة و المغزى الكلي للألم .
الكيمياء و الطبيعة و الكهرباء هي العلوم الصغيرة .
و الدين هو العلم الكبير الذي يشتمل على كل العلوم في باطنه .
و لا تعارض بين الدين و العلم , لأن الدين في ذاته منتهى العلم المشتمل بالضرورة على جميع لعلوم .
و الدين ضروري و مطلوب لأنه هو الذي يرسم للعلوم الصغيرة غاياتها و أهدافها و يضع لها وظائفها السليمة في إطار الحياة المثلى .
الدين هو الذي يقيم الضمير .
و الضمير بدوره يختار للطاقة الذرية وظيفة بناءة . و لا يلقى بها دماراً و موتاً على الأبرياء .
و هو الذي يهيب بنا أن نجعل من الكهرباء وسيلة للإضاءة لا وسيلة للهلاك .
و الدين هو الذي يدلنا على أن كل العلوم وسائل هي الأخرى . و المادة ذاتها مخلوقة مثلنا و ليست إلهاً يعبد . و أنها لا تستطيع أن تمنح الإنسان الأمن و السكينة و السعادة . و أنها من طبيعتها التحلل و الفساد و التبدل و التغير شأنها شأن ذلك الكون الناقص و أنها لا تصلح سنداً و لا تشكل قوة حقيقية .
و التقدم المادي مطلوب و لكنه وسيلة لا أكثر من وسائل الإنسان المتحضر و لا يصح أن يكون غايته .
و الدين لا يرفض التقدم المادي و لكنه يضع في مكانه كوسيلة لا غاية .
و الدين لا يرفض العلم بل يأمر به و يحض عليه و لكنه يضعه في مكانه كوسيلة للمعرفة ضمن الوسائل العديدة التي يملكها الإنسان كالفطرة و البصيرة و البداهة و الإلهام و الوحي .
و رفض العلم و رفض الأخذ بالوسائل المادية المتقدمة خطيئة مثل عبادة هذه الوسائل و الخضوع لها سواء بسواء , و هو أحد أسباب التأخر في بلادنا .
و أنت تجد في الشرق أحد اثنين . تجد من يرفض العلم اكتفاء بالدين و القرآن . و تجد من يرفض الدين اكتفاء و عبادة للعلم المادي و الوسائل المادية .
و كلا الاثنين سبب من أسباب النكبة الحضارية في المنطقة . و كلاهما لم يفهم المعنى الحقيقي للدين و لا المعنى الحقيقي للعلم .
و الدين , و الإسلام خاصة , يعتبر العلم فريضة . و يقول نبينا إن من مات مهاجراً في سبيل العلم فقد مات شهيداً . و عن العلماء ورثة الأنبياء . و إن علينا أن نطلب العلم و لو في الصين . و أول كلمة نزلت في القرآن هي ((اقرأ)) .
و الإسلام دين عقل يخاطب أتباعه بالمنهج العقلي .
فالعلم و التقدم العلمي المادي له مكانه العظيم في ديننا .
و لكن هو دائماً وسيلة لا غاية . أداة لا صنم معبود .
و هذا هو وضع الشيء في وضعه الصحيح .
فالوسيلة المادية لا تمنح النفس أمناً و لا سكينة . و إنما هي سبيل إلى الترف و الرفاهية و تيسير الحياة . أما القلق و الخراب الروحي فأنه يبقى و لا يزول بالرغم من وجود الفريجيدير و التلفزيون و الريكوردر و جهاز التكييف و جميع الوسائل المادية . بل إن هذا القلق و الخراب الروحي يتفاقم بازدياد خضوع الإنسان لهذه الوسائل و جريه وراءها .
و لا تنزل السكينة على القلب و لا تعمر الروح بالطمأنينة و الأمان إلا بوسيلة واحدة هي الاعتقاد بأن هناك إلهاً خلق الكون و أن هذا الإله عادل كامل . و أنه هيأ الكون نواميس تحفظه و قدر فيه كل شيء لحكمة و سبب و أننا راجعون إليه . و أن آلامنا و عذابنا لن تذهب عبثاً . و أن الفرد حقيقة مطلقة و ليس ترساً في آلة مصيره إلى التراب .
هذا اليقين الديني هو وحده الذي يرد للإنسان اعتباره و كرامته و ليس الفريجيدير و التلفزيون و الريكوردر و لا أية وسيلة مادية مهما عظمت .
و بهذا اليقين تنزل السكينة على القلب و يصل الإنسان إلى حالة من العمار الروحي و التكامل الداخلي و يشعر بنفسه أقوى من الموت و أقوى من الظلم .
و بهذا اليقين يجابه أعظم الأخطار و يقهرها فهو بإيمانه في حصن أقوى من دروع الدبابات . حصن لا سبيل إلى اختراقه بأي قذيفة . لأنه حصن يعبر الموت ذاته .
و بهذا الإيمان يشعر الإنسان أنه استرد هويته و أنه أصبح هو هو حقّاً . و أنه أدرك ذاته و تعرف على نفسه و مكانته من خلال إدراكه للإله الواحد الكامل .
و الذي جرب هذا الشعور النادر يعلم أنه حالة من الاستنارة الداخلية و أنه ليس افتعالاً . و ليس استجلاباً مزيفاً للأمان . و إنما هو الحق عينه . و أنه الصحو و ليس الحلم .
و إنا نعلم أمر هذا اليقين من حال نقيضه .
من حال كثرة الناس الذين يعبدون الدجال .
مسيخ العصر الذري ذو المخ الإلكتروني .
هذه الكثرة التي تتصارع بالمخلب و الناب و تأكل المخدرات و تتخبط على أبواب الجنون و الانتحار و تنحدر في خطوات دموية إلى حرب عالمية ثالثة .
و سوف تقول لك فطرتك أي الاثنين على حق ؟
هذه الكثرة التي يأكل بعضها بعضاً و تتآكل حقداً و غلاً و ضراوة . أم هذه القلة التي نزلت على قلوبها السكينة و أدركت أن هناك إلهاً .
**
و الدين لا يرفض الحياة و لا يرفض العقل .
و الإسلام بالذات ينطلق من مبدأ حب الحياة و الحرص عليها و رعايتها , و بحض على احترام العقل و على طلب العلم و يقدم شريعة عصرية توحد بين الروح و الجسد في التئام فريد . لا الروح تطغى على الجسد و لا الجسد يطغى على الروح و إنما يتصرف الاثنان على أنهما واحد . فهو لا يطلب كنا أن نميت الشهوة و إنما يطلب منا أن ننظمها و نوجهها في إطار العلاقة المشروعة . و معيار التقوى عنده ليس الانقطاع للعبادة و العزلة و الرهبانية . و إنما معيارها العمل . تسبيح الروح لا بد أن يقترن بعمل اليدين و سعي القدمين من أجل خير المجتمع و نفعه . و الصلاة لا يكفي فيها خشوع النفس و إنما لا بد أن يعبر الجسد عن الخشوع هو الآخر و في ذات الوقت بالركوع و السجود .
و الصلاة الإسلامية هي رمز لهذه الوحدة التي لا تتجزأ بين الروح و الجسد .الروح تخشع و اللسان يسبح و الجسد يركع .
و الطواف حول الكعبة رمز آخر لدوران الأعمال حول القطب الواحد . و استهداف الحركات و الأفكار لهف واحد هو الخالق الذي خلق الإنسان حيث لا موجود بحق إلا هو , و حيث كل شيء منه و إليه . و الطواف هو التعبير الجسماني و النفساني و الروحاني لهذا التوحيد .
و بهذا يعيد الإسلام إلى الإنسان التئامه روحاً و جسداً و يعيد إليه السكينة فينتهي ذلك الصراع الأزلي بين الشهوة و العقل , و يولد منهما شيء جديد هو الشهوة العاقلة البصيرة التي يتوحد فيها النقيضان . كما تتوحد العاطفة مع الفكر و الباطن مع الظاهر فلا نعود نرى ذلك المخادع يخالف قلبه عقله و يخالف عقله قوله و يخالف قوله فعله . و إنما يقوم مقام ذلك الإنسان المفكك الممزق . إنسان جديد توحد روحاً و جسداً . و قولاً و فعلاً . و باطناً و ظاهراً .
و بوصول الإنسان إلى وحدته مع نفسه يصل إلى وحدته مع ربه . و هي حالة القرب التي يدخل بها الإنسان دائرة الضوء و يضع قدمه على حافة الملكوت .
و يدور الإسلام حول هذه الفكرة المحورية . فكرة التوحيد . و يؤكد القرآن هذا المعنى في كل حرف و كل كلمة و كل آية و يكرره بمختلف الصور و القصص و الأمثلة و الحكم و العبر .
و الإسلام يقدم للعصر المادي باب النجاة الوحيد و الحل الوحيد و المخرج الوحيد . فهو يقدم إليه كل تراثه الروحي دون أن يكلفه أن ينزل عن شيء من مكتسباته العلمية أو تفوقه المادي . و كل ما يريده الإسلام هو أن يحقق الاقتران الناجح و التزاوج الناجح بين المادة والروح لتقوم مدينة جديدة هي مدينة القوة و الرحمة , حيث لا تكون القوة المادية مسخاً معبوداً و إنما تكون أداة و وسيلة في يد القلب الرحيم . و بذلك يتم تحطيم المسخ الدجال . و تقوم دولة الإنسان الكامل .
..
و جواباً على الذين يسألون في حيرة : لماذا خلقنا الله ؟ لماذا أوجدنا في هذه الدنيا ؟ و ما حكمة هذا العذاب الذي نعانيه ؟
يجيب القرآن بمجموع آياته . إن الله أنزل الإنسان إلى الدنيا بفضول مفطور فيه . ليتعرف على مجهولاتها ثم يتعرف على نفسه . و من خلال إدراكه لنفسه يدرك ربه . و يدرك مقام هذا الرب الجليل فيعبده و يحبه و بذلك يصبح أهلاً لمحبته و عطائه .
و لهذا خلقنا الله .
وهذا الهدف النهائي . ليحبنا و يعطينا .
و هو يعذبنا ليوقظنا من غفلتنا فنصبح أهلاً لمحبته وعطائه .
بالحب خلق .
و للحب خلق .
تبارك و تعالى في سماواته , الذي خلقنا باسمه الرحمن الرحيم .
مقال / المسيخ الدجال
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله ). ❝