❞ الفطرة أم المجتمع: في أصل الأخلاق الإنسانية
منذ فجر التاريخ، ظل السؤال عن طبيعة الأخلاق الإنسانية يشغل الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الاجتماع: هل يولد الإنسان مزودًا ببوصلة أخلاقية فطرية توجهه نحو الخير والشر؟ أم أن الأخلاق مجرد بناء اجتماعي يتشكل عبر التربية والثقافة؟ هذا السؤال ليس مجرد نقاش نظري، بل هو استقصاء لجوهر الإنسان، يحاول أن يكشف ما إذا كانت الفضيلة والرذيلة مكتوبتين في أعماقنا البيولوجية والنفسية، أم أنهما نتاج التقاليد والقوانين التي يفرضها المجتمع.
في هذا المقال، سنناقش وجهتي النظر المتعارضتين: الأولى ترى أن الأخلاق فطرية، مستندة إلى حجج دينية وعلمية، والثانية تؤكد أن الأخلاق مكتسبة، مدعومة بنظريات فلسفية واجتماعية. ثم سنحاول التوفيق بينهما، ونخلص إلى رأي شخصي مدعوم بالأدلة والمنطق.
> 1. الأخلاق فطرية: الرؤية الدينية والنفسية
> أ. الحجة الدينية: الفطرة السليمة
تؤكد العديد من الأديان أن الإنسان يُخلق بفطرة نقية تميل إلى الخير. في الإسلام، يقول القرآن:
﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، مما يشير إلى أن الأخلاق جزء من تكوين الإنسان الأصلي. كذلك، في المسيحية، تطرح فكرة "الضمير" كمرشد داخلي، وهو ما يتوافق مع مفهوم القانون الطبيعي عند القديس توما الأكويني، الذي يرى أن الخير والشر مفاهيم متأصلة في العقل البشري.
ب. الحجة العلمية: دراسات علم النفس التطوري
يدعم بعض العلماء فكرة أن الأخلاق فطرية، مستندين إلى دراسات على الأطفال الرضع. ففي تجارب عالم النفس "بول بلوم"، لوحظ أن الأطفال يميلون إلى التعاطف مع الشخص "الطيب" ويرفضون الشخص "الشرير"، حتى قبل أن يتلقوا أي تربية أخلاقية. كما أن نظرية "التطور" عند داروين تشير إلى أن الأخلاق قد تكون نتاجًا لآليات البقاء، حيث ساعد التعاون والعدل المجتمعات البشرية على النجاة.
> ج. أمثلة واقعية: العفو والتضحية
ثمة مواقف إنسانية يصعب تفسيرها إلا بالفطرة، مثل أم تضحي بحياتها لإنقاذ طفلها، أو شخص يعفو عن عدوه رغم قدرته على الانتقام. هذه السلوكيات لا تبدو مكتسبة بالكامل، بل تشير إلى نزعة أخلاقية داخلية.
2. الأخلاق مكتسبة: تأثير المجتمع والتربية
أ. المدرسة الاجتماعية: روسو وفرويد
على النقيض، يرى بعض الفلاسفة أن الإنسان يولد كصفحة بيضاء، ويتم تشكيل أخلاقه عبر المجتمع. جان جاك روسو قال إن الإنسان "وليد طبيعة طيب، لكن المجتمع يفسده"، مما يعني أن الفضائل والرذائل تُكتسب. كذلك، سيغموند فرويد رأى أن الضمير الأخلاقي
(الأنا الأعلى) يتكون عبر قمع الرغبات البدائية بضغوط المجتمع.
ب. النسبية الأخلاقية: الثقافة تحدد المعايير
تختلف المفاهيم الأخلاقية بين المجتمعات، فما يعتبر فضيلة في ثقافة قد يكون رذيلة في أخرى. مثلاً، بعض المجتمعات القديمة كانت تقبل بالتضحية البشرية، بينما تعتبرها أخرى جريمة. هذا التنوع يدعم فكرة أن الأخلاق ليست فطرية، بل تتبع العرف الاجتماعي.
ج. دور التربية: التجارب السلوكية
في تجربة "الدمية بوبو" لباندورا، تعلّم الأطفال العنف من خلال التقليد، مما يثبت أن السلوك الأخلاقي يتشكل بالملاحظة والتعليم. كذلك، الأطفال الذين ينشأون في بيئات عنيفة يميلون إلى العدوانية، مما يؤكد دور البيئة في تشكيل الأخلاق.
3. التوفيق بين الفطرة والاكتساب: الرأي الشخصي
بعد استعراض الحجج، يبدو أن الأخلاق مزيج من الفطرة والاكتساب. فالإنسان يولد بقدرة فطرية على التمييز بين الخير والشر، لكن هذه القدرة تحتاج إلى صقل بالتربية والمجتمع. الفطرة توفر الأساس، مثل بذرة الخير، لكن التربية هي التي تحدد إن كانت ستزهر أو تذبل.
أدلة التكامل:
بعض القيم العالمية
(مثل تحريم القتل ظلمًا) موجودة في كل الثقافات، مما يشير إلى جذر فطري.
مع ذلك، تفسير هذه القيم يختلف حسب المجتمع، مما يظهر دور الثقافة.
تشير أبحاث علم الأعصاب الحديثة إلى أن بنية الدماغ تتفاعل مع التجارب البيئية لتكوين ما يُعرف بـ"الاستعداد الأخلاقي"، وهو ما يسمى بالمرونة العصبية
(Neuroplasticity). أي أن الإنسان مهيأ بيولوجيًا لاكتساب الأخلاق، لكنها لا تنضج إلا في حضن التجربة والمعايشة.
كما يرى المفكر الكندي جوردان بيترسون أن الإنسان "يحمل بذور النور والظلام معًا، وما نغذّيه منهما هو ما يصبح واقعه الأخلاقي"، مشيرًا إلى أن الأخلاق لا تُمنح جاهزة، بل تُروى بالتحديات والمعايير المجتمعية.
> الخاتمة
الأخلاق كالنور الذي يولد مع الإنسان، لكن المجتمع هو العدسة التي تحدد كيف ينعكس. قد نختلف في تفسير أصل الأخلاق، لكن الأهم هو أن ندرك أن الإنسان - بالفطرة أو بالاكتساب - قادر على العطاء والقسوة، وأن مسؤوليتنا هي تنمية الخير فيه. كما قال الفيلسوف إيمانويل كانت: "الفضيلة لا تُعطى، بل تُكتسب بالجهد"، لكن الجهد نفسه لا يكون إلا بوجود بذرة فطرية تستحق العناء.
هكذا، نجد أن الجدل حول أصل الأخلاق ليس صراعًا بين الفطرة والمجتمع، بل هو حوار بين جذورنا العميقة وأغصاننا الممتدة في تربة الثقافة. والإنسان، في النهاية، هو الكائن الوحيد الذي يحمل هذا السؤال في داخله، ويحاول الإجابة عنه بكل خطوة يخطوها في رحلته الأخلاقية.
> بسمه سعيد رحيم مرسلين ❝