محمد الورداشي ˝حينما تبكي الروحُ! ˝ باغتني العياء... 💬 أقوال محمد الورداشي 📖 كتاب يومياتي

- 📖 من ❞ كتاب يومياتي ❝ محمد الورداشي 📖

█ محمد الورداشي "حينما تبكي الروحُ! " باغتني العياء المتوحش وأنهك جسدي النحيل سكون الليل فأخذت أتقلب سريري المليء بالمنعرجات ويفرُّ النوم من عيني المتعبتين أستلقي ظهري أحس ألما شديدا وأتقلب جانبي الأيسر فأشعر بوجع ممض معدتي ثم أستدير جهة اليمين ولكن لا يزورني ولا يقترب عينيّ قيد أنملة أحاول جاهدا فأغمض رغما عنهما وضدا الأرق فأسمع صوتا مزعجا الشارع أنهض متثاقلا وأطل نافذة المطبخ فلا أرى إلا أشباحا تمضي مسرعة كالبرق وأعيد النظر بعدما حاولت فتح فيتراءى لي قطان أسودان يتعاركان ويصدران أصواتا حزينة ومبهمة فهمها وهتك غموضها ولكني أقرّ رأي واحد تجاه هذه الأصوات التي تمزج بين الحزن والشكوى الإعلان عن الأذى المحدق والتعبير الانزعاج لم يرقني هذا المنظر؛ لأني أحب مشاهدة الحيوانات وهي تنهش جسد بعضها البعض يؤلمني كثيرا أن حيوانا ضعيفا يلحقه قبل حيوان أقوى منه إنسان يكره الحيوان ويرى فيه عدوا يجب اضطهاده حيثما وجد أكره إلى الكائنات الضعيفة تُؤذى الأقوى منها؛ لذلك أغلقت النافذة بهدوء وسرحت ببصري فوقعت عيناي بقايا طعام وفواكه ارتمت كتاب مجاناً PDF اونلاين 2024

إنضم الآن وتصفح بدون إعلانات
❞ محمد الورداشي

˝حينما تبكي الروحُ!˝

باغتني العياء المتوحش , وأنهك جسدي النحيل في سكون الليل , فأخذت أتقلب على سريري المليء بالمنعرجات , ويفرُّ النوم من عيني المتعبتين , أستلقي على ظهري , أحس ألما شديدا , وأتقلب على جانبي الأيسر , فأشعر بوجع ممض في معدتي , ثم أستدير جهة اليمين , ولكن النوم لا يزورني ولا يقترب من عينيّ قيد أنملة. أحاول النوم جاهدا , فأغمض عيني رغما عنهما وضدا في الأرق , فأسمع صوتا مزعجا في الشارع , أنهض متثاقلا وأطل من نافذة المطبخ , فلا أرى إلا أشباحا تمضي مسرعة كالبرق , وأعيد النظر بعدما حاولت فتح عيني , فيتراءى لي قطان أسودان يتعاركان , ويصدران أصواتا حزينة ومبهمة , أحاول فهمها وهتك غموضها , ولكني لا أقرّ على رأي واحد تجاه هذه الأصوات التي تمزج بين الحزن والشكوى , بين الإعلان عن الأذى المحدق والتعبير عن الانزعاج. لم يرقني هذا المنظر؛ لأني لا أحب مشاهدة الحيوانات وهي تنهش جسد بعضها البعض , يؤلمني كثيرا أن أرى حيوانا ضعيفا يلحقه الأذى من قبل حيوان أقوى منه , من قبل إنسان يكره الحيوان , ويرى فيه عدوا يجب اضطهاده حيثما وجد.

أكره النظر إلى الكائنات الضعيفة وهي تُؤذى من قبل الأقوى منها؛ لذلك أغلقت النافذة بهدوء , وسرحت ببصري في المطبخ , فوقعت عيناي على بقايا طعام وفواكه , ارتمت يدي على تفاحة حمراء , أحب التفاح الأحمر , أحب الفواكه الحمراء أكثر من غيرها , لأنها تبعث في نفسي الحياة , وتروي عطش النفس إلى الإحساس بالشبع والارتواء.

شربت كأس ماء بارد , وعدت إلى الغرفة بخطى وئيدة لئلا أوقظ النائمين , أعرف حب البشر للنوم , وكرههم الشديد لمن يوقظهم دون إرادة منهم , أو يكون سببا في يقظتهم. أنا أيضا أكره من يزعجني , فيكون سببا في فرار النوم من عيني؛ لكني لا أحب النوم لذاته , وإنما لغيابه الطويل عني.

ارتميت بجسدي العليل على السرير , نظرت إلى الساعة التي تشير إلى الرابعة صباحا , لم أحزن على الزمن الذي يمضي مسرعا , لم أقلق يوما لأني ظللت حتى آخر الليل باحثا عن نوم مرغوب؛ لأني ألفت السهر والأرق , والقراءة والتأمل كلما نام الناس , أو دخلوا في حضرة النوم مستسلمين غير محتجّين.

حملت هاتفي وأخذت أتصفح الأخبار , وألقي نظرة على بوح الأصدقاء الافتراضيين والواقعيين , تستوقفني خاطرة صديق , وأتأمل كلمات صديق آخر يرى نفسه فيلسوفا , وأعجب من كثرة الشعراء والأدباء , وأشجب تعسفهم على الشعر والأدب؛ لأنهم لا يقرأون بقدر ما يكتبون , ولا يبدعون أكثر من ما يجترون , فيغمرني حزنٌ ومللٌ قاتمان , وأرمي الهاتف على الوسادة , ثم أعود إلى ذاتي المنطفئة , أغور في أعماقها , وأنبش في غياهبها حتى يطاوعني النوم بعد طول انتظار.

يرن جرس الساعة , فأحمل جسدي بتثاقل , وأتجه صوب الحمام حتى أتوضأ , فأصلي بضع ركعات , ثم أرتدي ملابسي الشتائية , وأبحث في جيبي عن بضعة دراهم , وأنزل الدرج متجها نحو الفرن. أجد المكان مزدحما بالنساء أكثر من الرجال , فأتساءل في خلدي عن ما يفعله الرجال في البيت , والموانع الحائلة دون تواجدهم أمام الفرن عوض نسائهم , لكني لا أظفر بجواب يشفي الغليل , فيحين دوري وأبتاع الخبز , ثم أعود إلى البيت متسللا , وأعد فطوري البسيط متثائبا.

أتناول فطوري والهاتف في يدي اليسرى , أتصفح الأخبار الصباحية , وأمعن النظر والتفكير في الوضع الاجتماعي , يهمني المجتمع وقضاياه أكثر من اهتمامي بالسياسة والاقتصاد. أجدني في حركة المجتمع الدائبة أكثر من قضايا أخرى.

أقرأ أخبارا عن الاحتجاج التعليمي المغربي , وأمعن النظر في كل تصريحات الفريقين , أقصد الجهات الرسمية المسؤولة والأساتذة المتضررين , وتتفاعل نفسي مع هذه الأخبار بين الإيجاب والسلب , ثم أنظر إلى الساعة التي تشير إلى الحادية عشرة صباحا.

أغلق الباب بهدوء , وأنزل الدرج متعجلا , فأجدني مندمجا في الشارع بعد بضع خطوات , أرى وأُرى , أبتسم ويُبتسم لي , فأمضي على هذه الحال حتى أبلغ المقهى. أبحث عن كرسي شاغر , وأجلس مطمئن البال , تمر دقيقة أو دقيقتان فتكون قهوتي السوداء جاهزة , يعرفني النادل كما يعرف الزبناء الآخرين , كانت خمس سنوات كافية ليعرف كل منا صاحبه. أتجرع قهوتي هادئا , وأتصفح الهاتف بتؤدة , فترمق عيناي جريدة , أقفز نحوها وأفتح أوراقها واحدة عقب أخرى , يصيبني الملل من التكرار والاجترار , فأردد متمتما ˝لا جديد تحت الشمس˝.

يسرح بصري في من يدخلون المقهى ويغادرونه , أمعن النظر في شخص يلفت نظري , أرقب حركاته وسكناته خلسة , ويزداد اهتمامي به كلما صدرت عنه حركة ما. يجلس أمامي رجل اشتعلتْ رأسه شيبا , جسده نحيف جدا , وعيناه ضيقتان كأنه صيني , يرتدي جاكيتا جلديا قديما , وسروالا ذا بُقع ورُقع كثيرة , وينتعل حذاءً جلديا بُنيَّ اللون , له مقدمةٌ تشبه رأس أفعى سامة , وتعلوه خروق وشقوق.

يحتسي قهوته مائل الظهر , ينظر إلى شيء أمامه , يحرك يده صوب هذا الشيء , أتململ في كرسيَّ , فأرى أنه ينظر إلى هاتفه على الطاولة , أعاود النظر إليه خلسة , يشدهني منظره على بعد أمتار قليلة: ظهرٌ مُنحن نحو الأمام , وعينان ضيقتان كأنه نائم , أو راهبٌ يتمتم بدعوات ما , ويؤدي طقسا تعبديا مهابا.

يلتفت نحوي فجأة , يرمقني بعينيه الضيقتين , فيبتسم لي وهو يلوح بيده اليمنى , أرد عليه بالحركة والابتسامة نفسيهما. يسألني , وقد كشف عن فمٍ خالٍ من الأسنان:

- أين وصلتم؟

أرد عليه بصوت مرتفع:

- لم نصل إلى شيء ذي مصداقية بعد.

يحك رأسه بحركة سريعة , ثم يعقب مستنكرا:

- لا , لقد قالوا في الأخبار إنهم رفعوا من أجوركم.

صمتَ برهة , ثم أضاف مبتسما:

- مبارك عليكم , نحتاج دعوة إلى مأدبة.

ابتسمت بدءا , ثم سرعان ما انفجرت ضحكتي التي لفتت إلي الأنظار , فقلت موضحا:

- لم تكن الزيادة هدفا أولا لنا..

يرمقني بالنظرات المستنكرة نفسها , فأردف بجدية أكثر:

- نريد الكرامة الإنسانية أولا , ثم بعد ذلك تأتي المطالب الأخرى.

- الله يجعل لكم مخرجا.

أرد بلفظة ˝آمين˝ , ثم أطأطئُ رأسي منغمسا في الكتاب الذي أحمله معي , لكني لاحظت أن هذا الرجلَ العجوزَ يفكر في أمر ما , أحسست أن في نفسه كلاما كثيرا يريد قوله , فبادرته مبتسما:

- الحمد لله أنكم واعون بمشروعية نضال ومطالب الأساتذة.

فرد وعلامات الغضب تطفو على وجهه:

- أنا أستاذ متقاعد يا ولدي , لقد قضيت زهرة عمري في التعليم.

سألته ووقْعُ المفاجأة يغمرني:

- لم أتفطن لهذا الأمر , ما شاء الله يا أستاذ.

حرك رأسه ونشوة فخر تغزو ملامحه , فسألته:

- كم سنة قضيت؟

- أربعون سنة كلها عمل ونشاط.

- ما شاء الله

- أفنيت عمري وصحتي معهم , والنتيجة أمامك.

قلت له مخففا من أمواج الحزن المتلاطمة في غياهب نفسه:

- أجركم على الله تعالى , أما البشر فلا تنتظر منهم فضلا أو اعترافا بجميلك.

- ما يسعدني هو لقاء تلاميذي الذين ولجوا وظائف مختلفة.

- خير الثمار قطفتَ وجنيتَ.

- فعلا يا ولدي , ولكني فقدتُ صحتي.

توقفت لحظة أمام كلماته الحزينة , وفكرت في مصير كل من أحبَّ هذه المهنةَ النبيلةَ , فسألتُ نفسي إن كان مصيري سيكون مثله , وعن الأسباب التي تجعل هؤلاء الرجال المحاربين يعانون الويلات أثناء عملهم وبعده.

خاطبني بكلمات مؤثرة , حاول من خلالها إطالة عمر الحوار بيننا:

- كانوا مستخفين بنا , ومستغلين لصمتنا وتساهلنا , ولكنكم جيل أعاد للمهنة هيبتها وقيمتها , أنتم الجيل الذي سيحقق ما عجزنا عنه سنوات طوالا.

ابتسمت ابتسامة حزينة , ولأن نفسي لم تعد تطيق ألما وحزنا , قلت:

- لكل زمن أناسه وظروفه الخاصة , ولكنا نرجو الله أن ينعم علينا وعليكم بالصحة والعافية.

ردد لفظة ˝آمين˝ بصوت خافت , ثم انغمس في طقسه التعبدي , وعدت إلى كتابي أتصفحه , بيد أني لم أكن أقرأ بقدر ما كنت أفكر في مصيرنا , وفي الأوضاع المضطربة التي تغمرنا من كل جانب , فتخطف الفرحة من قلوبنا المرهفة , والابتسامة من وجوهنا السمحة. كنت أتساءل لمَ يتلذذ الإنسان بتعذيب أخيه الإنسان , ولا يعترف له بفضل أو جميل.

أغلقت دفتي الكتاب , أدخلته في محفظتي بيدي المرتعشة , ثم دفعت ثمن قهوتي وقهوة الأستاذ المتقاعد , الميت القاعد , وانصرفت بعدما ودعته بكلمات رقيقة وابتسامة خجولة , فوجدتني في الشارع أتحرك كالحشرة وسط الضجيج والازدحام الشديدين , وأخطو خطواتي صوب البيت.. ❝
مساهمة من:

محمد الورداشي

منذ 4 شهور
1
0 تعليقاً 0 مشاركة
نتيجة البحث