❞ {مقدمة سلسلة أحاديث رمضان}
لله حمدي وإليه أسند * وما ينوب فعليه أعتمد
ثمَّ على نبيِّه محمــــــــدِ * خير صلاة وسلام سرمدِ
وبعد: فقد يظن البعض أن علم الحديث علم خاص بسرد الأحاديث وسماعها وحسب
, والصحيح؛ أنَّ علم الحديث هو علم شامل
, فيشمل كل العلوم الأخرى
, فهو يشمل علم العقيدة
, وعلم التفسير
, وعلم الفقه
, وعلم القواعد الفقهية
, وعلم أصول الفقه
, والقواعد أصول الفقه
, وعلم البلاغة
, واللغة وغيرها...
وكل هذا لأنَّ علم الحديث هو الأصل لكل العلوم
, سواء أكانت أصلية أم فرعية (آلات العلوم الأصلية) والأصلية هي الفقه والتفسير والحديث
, وحتى العلوم الأصلية فإنَّ علم الحديث هو المهيمن عليها
, فكل من الفقه والتفسير مع أنهما أصليَّان إلَّا إنهما مُستخرجان من علم الحديث
, فالتفسير إن لم يكن من تفسير رسول الله ﷺ أو ما علمَّه لأصحابه فلا خير فيه
, إلا إن لم يكن في الآية حديث
, فبقول الصحابة فيها
, وقول الصحابة ليس بدعة بل هو مما تعلموه من رسول الله ﷺ؛ فإن لم يكن في قول الصحابة شيء فبقول التابعين وأتباعهم
, وأقوال هؤلاء ليس ببدعة بل هو مما تعلموه من الصحابة والصحابة بدورهم تعلموه من النبي ﷺ
, فإن لم يوجد شيء ممَّل سبق نستعمل قواعد التفسير
, وقواعد التفسير وأصوله هما بذاتهما تمَّ استنباطهما من حديث رسول الله
, فأصل أصول التفسير أن تفسر القرآن بالقرآن
, وهذا تعلمناه من الحديث
, من ذلك تفسير النبي ﷺ لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}[الأنعام: 82]
, فشق ذلِكَ علَى المسلِمينَ فقَالوا: يا رسولَ اللَّهِ وأيُّنا لا يظلِمُ نفسَهُ؟ قالَ: ليسَ ذلِكَ
, إنَّما هوَ الشِّركُ ألَم تسمَعوا ما قالَ لقمانُ لابنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان: 13] .
وأمَّا الفقه فكلُّه مستخرج من علم الحديث
, وهذا معلوم مشهور مأثور
, فإن كانت أصول العلوم كذلك ففروعه من باب أولى
, سيقول القائل إنَّ القواعد الفقهية وأصول الفقه هي استنباطية جائت من عقول العلماء
, نقول: أنَّ العلماء استنبطوها من حديث رسول الله ﷺ
, فمثلا قاعدة: الأمور بمقاصدها
, التي عبَّر عنها ابن سند المالكي في منظومته منظومة القواعد الفقهية قال: إنَّ الأمور هنَّ بالمقاصد * .................
فهذا مستنبط من قول النبي ﷺ: إنَّما الأعمال بالنيَّات... .
وهكذا إلى سائر العلوم الشرعية فكلها مستنبطة من علم الحديث
, ومن جملة هذه العلوم علوم العقيدة
, فأصل أصول علم العقيدة هو حديث جبريل ﷺ
, وفيه كل أبواب أصول العقيدة
, فقد جمع النبي ﷺ في حديث واحد كل مباني العقيدة.
والعقيدة عند أهل السنة لا تستحكم من قلب المسلم إلا بثلاثة أعمال:
1 – أعمال القلب.
2 – وأعمال اللسان.
3 – وأعمال الجوارح.
ومرادها هو أن تعتقد بأن ˝لا إله إلا الله˝ بقلبك
, وتنطق بها بلسانك
, وتعمل بها جوارحك.
وهذه المباني الثلاثة لا تتمُّ إلا ببعضها فهي كالعقد الدريُّ المنظوم
, إن سللت درة منه تساقطت البقية
, ومع هذا فهي ليست متساوية في القوَّة
, فأعلاها قوَّة هي أعمال القلوب
, وقد بيَّن النبي ﷺ ذلك بقوله: ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً
, إذا صَلَحَتْ
, صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ
, وإذا فَسَدَتْ
, فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ
, ألا وهي القَلْبُ .
فالقلب وأعماله هو المهين على سائر الأعمال سواء أعمال الجوارح أو اللسان
, وهذا لا يعني أنَّ ترك أعمال الجوارح واللسان جائز
, هذا لا يجوز أبدا
, فكل الثلاثة يكملون بعضهم
, ولكنَّ مرادنا بيان أنَّ أعمال القلب أعلاها.
وعمل القلب هو التوحيد
, والتوحيد أصل تندرج تحته كل أعمال القلب
, كالولاء والبراء
, والبغض والمحبة
, وغيرها من أعمال القلب
, وأعلى فرع من فروع التوحيد هو المحبَّة
, فعلى قدر حب المسلم لربِّه ولنبيِّه ولصحب نبيه يكون قربه لله تعالى
, وعلى قدر بغضه للكفر والكفار يكون قربه من الله تعالى
, والعكس بالعكس.
وهذا الحب ليس متعلق بالله وحده
, بل يشمل نبيه ثمَّ سائر أنبيائه
, ثمَّ صحب نبيه وصحب سائر أنبيائه
, ثمَّ تابعيهم وتابعي سائر أنبيائهم
, ثمَّ أتباعهم وأتباع سائر أنبيائهم
, ولكن حبُّ الله تعالى هو الأعلى من بين ما سبق
, لأنه الأصل وحب هؤلاء ما كان إلا بحب الله تعالى
, وهذه المحبَّة هي بدورها كالدر المنظوم
, إن سللت درة تساقطت بقية الدرر
, فلا يدعي أحدا أنه يحب الله تعالى وهو يبغض أحد أنبيائه أو أحد ملائكته
, فقد قال تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}[البقرة: 97 – 98]
, لاحظ معي أنه سبحانه قال في الآية الأولى {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ}ثمَّ بيَّن لك أنَّ عداوة جبريل الملك الرسول هي عداوة لله تعالى
, وزاد وبيَّن أنَّ الضرر المنجر إليك ببغضك لجبريل ليس خاصا بجبريل وحسب
, بل بيَّن في الآية الثانية أنه شامل لكل أهل الله تعالى
, وعطف جبريل وميكال عطف الخاص على العام لبيان فضلهما فقال: {مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ثمَّ بيَّن حكم من يبغض أهل الله تعالى وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ}
, هذه الآيات المباركات
, هي درر أصول وفروع عقيدة المسلم
, التي لم ينتبه إليها كثير من العامة
, بحيث يبغض البعض منهم اللحية أو الأقمصة أو الأبيض من اللباس أو التقصير في الثياب
, فكل ما ذكرته يعود لتك الآيات المباركات
, فما اللحية والقميص والبياض والتقصير وغيره إلا سنن من سنن المصطفى ﷺ
, فمن كان يبغض هذا فقد أبغض شيأ من سنن المصطفى ﷺ ومن أبغض شيأ من سنن المصطفى ﷺ فقد أبغض المصطفى ﷺ
, ومن أبغض المصطفى أبغض الله تعالى
, ومن أبغض الله تعالى
, يوشك الله أن يأخذه.
وعكس هذا يكون له نقيضه
, فمن أحب سنن المصطفى فقد أحب المصطفى
, ومن أحب المصطفى فقد أحب الله
, ومن أحب الله تعالى
, يوشك الله أن يدخله جنته
, واسمع لهذا الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: أنَّ رَجُلًا سَأَلَ النبيَّ ﷺ عَنِ السَّاعَةِ
, فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: ومَاذَا أعْدَدْتَ لَهَا. قَالَ: لا شيءَ
, إلَّا أنِّي أُحِبُّ اللَّهَ ورَسوله ﷺ
, فَقَالَ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ. قَالَ أنَسٌ: فَما فَرِحْنَا بشيءٍ
, فَرَحَنَا بقَوْلِ النبيِّ ﷺ: أنْتَ مع مَن أحْبَبْتَ
, قَالَ أنَسٌ: فأنَا أُحِبُّ النبيَّ ﷺ وأَبَا بَكْرٍ
, وعُمَرَ
, وأَرْجُو أنْ أكُونَ معهُمْ بحُبِّي إيَّاهُمْ
, وإنْ لَمْ أعْمَلْ بمِثْلِ أعْمَالِهِمْ .
والآن لاحظ معي؛ إن كان هذا الأمر في شيء من السنن
, فما بالك من أمر الله ورسوله ﷺ بحبهم
, بل وحثَّ على توقيرهم واتباعهم ونصرتهم
, بل وأمر بالاقتداء بهم
, وهم أصحاب رسول الله ﷺ وأتباعهم وأتباع أتباعهم
, الذين قال الله تعالى فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة: 100].
وقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح: 29].
وهاهو عبد الله ابن مسعود يبيِّن فضل هؤلاء وهو منهم حيث قال: مَن كانَ مُستنًّا؛ فليستَنَّ بمَن قَد ماتَ فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ علَيهِ الفِتنةُ أولئِكَ أصحابُ محمَّدٍ ﷺ كانوا أفضلَ هذِهِ الأمَّةِ أبرَّها قلوبًا وأعمقَها عِلمًا وأقلَّها تَكَلُّفًا اختارَهُمُ اللَّهُ لِصُحبةِ نبيِّهِ ولإقامةِ دينِهِ فاعرِفوا لَهُم فضلَهُم واتَّبعوا علَى آثارِهِم وتمسَّكوا بما استطعتُمْ مِن أخلاقِهِم وسِيَرِهِم
, فإنَّهم كانوا علَى الهُدى المستقيمِ .
فهؤلاء حبُّهم عقيدة المسلم
, وبغضهم علامة المنافة
, فمن أحبهم فهو معهم وإن لم يعمل بأعمالهم
, ومن أبغضهم فلقد أبغض رسول الله ﷺ
, ومن أبغض رسول الله ﷺ فقد أبغض الله تعالى.
ومن أحبهم فقد أحب رسول الله ﷺ
, ومن أحب رسول الله ﷺ فقد أحب الله تعالى.
ونحن نريد أن نجدد إيماننا
, ونحيي قلوبنا
, في هذا الشهر المبارك
, ونعطي لكل ذي حقٍّ حقَّه
, وننزل الناس منازلها
, ونعطي لكل ذي قدر قدره
, كي تكون عبادتنا خالصة تامَّة ما استطعنا
, وذلك بسرد أحاديث مشروحة عن فضل خير العصور الثلاثة
, وهم عصر الصحابة
, وعصر التابعين
, وعصر أتباع التابعين
, بصفة كل يوم حديث أو حديثين مع الشرح
, فلا يظننَّ أحد أنَّ الخير كان خاصًّا بالصحابة وحسب
, بل وأتباعهم وأتباع أتباعهم
, وسنرى ذلك في هذه السلسلة المباركة
, وقد قدَّمت أحاديث تبيِّن فضل التابعين تُذكر في جملة فضل الصحابة
, ثمَّ أحاديث خاصَّة بجملة الصحابة
, ثمَّ نختم بأحاديث في خواص الصحابة
, وقد ركزَّت كثيرا فيها على فضل التابعين
, لأنَّ الحال يقتضي ذلك
, هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل هذه السلسلة مباركة وذات فائدة وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
وكتب:
الدكتور عصام الدين إبراهيم النقيلي. ❝