█ الخـــروج كان يزدرد الطعام كأنه كُرات من العجين يُلقي بها جوفه دون تَلذُذ كان الهواء راكداً ثقيلاً كل شيء راكد ثقيل صفحة النهار تبدو كليلٍ بلا نجوم و لم يكن يدري كم الوقت قد مضى عليه هو جالس كُرسيه مقهى الروف بأعلى البرج ربما بِضع ساعات يجلس نفس الجلسة يُحرك إصبعاً ربما بنفس النظرة الذاهلة المحملقة أن يختلج له جفن كأنما تسمرت نفسه بات عقله مصلوباً فكرة واحدة لا يبرحها يتخلص حياته مريض شفاء يتنقل طبيب إلى دواء مُخدِر مخدر أمل ثم تذوي الآمال يكتشف أنه يبق إلا الصبر البيت وحده فِراش بارد مائدة عليها عشرات العقاقير خِطابات يجف حبرها تجري سطورها اللاهِثة بنداء واحد يهدأ : سوزان سوزان عودي أحبك أستطيع أحيا بدونك أموت حياتي ليل بدون ضوء عينيك و دائماً تُرسَل الخطابات تسافر عبر البحر يأتي لها رد يُسمَع صَدى الزوجة الأوروبية عادت بلادها بقلب ينزف تركت وراءها قلباً آخر ذلك الصمت الشبيه بالصراخ يعيش تلك الغرفة المُترَفة الوثيرة ذات الديكورات الغالية كتاب نقطة الغليان مجاناً PDF اونلاين 2024 تأليف الدكتور مصطفى محمود وهو عبارة عن مجموعة قصصية يدور محورها الرئيس حول الهداية والإيمان بالله العلي القدير وبأقداره وبما قسمه للإنسان صورت هذه القصص ما يشعر به الإنسان المعاصر ضياع وعدمية وفقدان لمعنى الحياة وجوهرها وقدمت يكون سعيدا بغير هداية الله الطريق الصحيح؛ فلا سعادة بمال أو حب سلطة التوجه تعالى والتقرب منه وإليه
❞ 《 كلما امتنعت بذنبي عن الدعاء لم تمنعني بذنبي علی العطاء 》
هو " الشيخ مبروك " صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين ..كان مجرما " غلباناً " دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها .
و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه .. و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا .
يشعر دائماً ان الله يراه .. و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور .. و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام .
شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه .. و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم ..
و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا .. فهو غني بنفسه عن العالمين .. و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما .. و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد . ❝
❞ أفرغ الرجل كأس الخمر الرديئة في جوفه و شرع يبكي و يتمتم نادماَ .. تُبت إليك يا رب .. لا أعود إلى شربها أبداً أعاهدك و أستغفرك ..
و بعد لحظات كان يملأ كأساً أخرى ليلقيها في جوفه ليعود فيستفغر باكيا مغمغماً .. سامحني يا رب .. هذه اخر مرة .. تبت إليك و رجعت إليك و أنبت إليك ..
ثم ما تلبث الغفلة أن تسيطر عليه و يعاوده ضعفه فيغالبه فيغلبه فينكب على كأس أخرى .. ثم يعود فيقف تائباً باكياً بالباب .
ذلك هو الشيخ مبروك .. و كانوا يسمونه " الشيخ " من باب السخرية بحاله .
ستون سنة و لكن هيكله المضعضع يوحي بأنه جاوز المائة .. جاء إلى الدنيا لقيطاً ملقى على الرصيف في لفة و قضى صباه في ملجأ للأيتام ثم في سجن للأحداث .
لم يدع منكراً إلا قارفه و لا مخاضة أو حال إلا انغرس فيها .
كان يخرج من سجن ليدخل سجناً و يخرج من تخشيبة ليلقى في تخشيبة و انتهى حاله إلى ان أصبح حارساً في قرافة ..
ينام و يأكل و يشرب و يسكن مع الموتى .. يحرس القبور نهاراً ثم يعود فينبشها ليلا ليبيع الجثث لطلبة الطب في مقابل جنيهات قليلة يسكر بها .
ذلك هو " الشيخ مبروك " صاحب ملف السوابق الحافل . و لكنه طراز خاص من المجرمين ..كان مجرما " غلباناً " دائم البكاء دائم الندم منكسر الوجه إلى الأرض يلازمه الشعور بأنه حشرة و بأنه لا يستحق شعاع الشمس الذي يطلعه الله عليه و لا نسمة الهواء التي يتنفسها و لا اللقمة الجافة التي يأكلها .
و لم يكن يرتكب ذنباً إلا كانت وراءه ضرورة ملحة تدفعه .. و حياته كلها كانت محاولة مستمرة للاستقامة دون جدوي . فهو يغالب طبعه و طبعه يغلبه . و يغالب ضعفه و ضعفه يغلبه . ثم يبكي في النهاية و يشعر بالخزي و الهوان . و يحاول أن ينسي ذلك الهوان بالشرب فيزداد بالشرب هوانا .
يشعر دائماً ان الله يراه .. و لا يدري من أين يأتيه ذلك الشعور .. و لا كيف يفعل ما يفعل أمام عين الله التي لا تنام .
شعوره الدائم الذي لا يفارقه هو الإشمئزاز من نفسه . و هو شعور ملازم له كالتنفس لا خلاص منه .. و كأنه صرصور غارق في مستنقع من الصمف كلما حاول الخلاص ازداد غرقا . لا ينجيه من الموت يأسا إلا إيمانه بأن ذنوبه مهما عظمت فإن عفو الله اعظم ..
و إن الله لا تنفعه طاعتنا و لا تضره ذنوبنا .. فهو غني بنفسه عن العالمين .. و هو الذي وسع كل شيء رحمة و علما .. و هو الوهاب الذي لا يحتاج لأحد .
لا يكف عن البكاء .
و لا يكف عن الوقوف بباب الرحمة و إن كان يشعر بأن يديه ملطختان بالآثام .. يعرف الناس تاريخه ويسخرون منه و لكنهم يعطفون عليه .. و البعض يقول له .. ادع لنا يا شيخ مبروك فيقول لهم .. يدعو لكم الشيخ مبروك .. و لكن لا أنا شيخ و لا أنا مبروك و يبكي و يمد يده المرتجفة تحت جلبابه ليخرج الزجاجة فيشربها ممزوجة بدموعه ثم يمضي يحث الخطى لائذاً بالجدران منكس الوجه إلى الارض ليختفي في ظلمة المقابر .. و هو يستغفر و يطلب العفو .
و اليوم كان على الشيخ مبروك أن يفتح حوش الحاج إبراهيم للمرة الخامسة ليلتقي الإبن الخامس للحاج .. تلك القصة التي كانت تتكرر كل عام .. كلما أنجب الحاج إبنا شق له لحداً .
و كان قلب الشيخ مبروك ينفطر حزناً على ذلك الأب الواله الغارق في دموعه .
قال الحاج و هو يبكي :
ذلك هو إبني الخامس .. بنتي الوحيده أصابها شلل الأطفال من شهور و أصبحت كسيحة تتحرك على كرسي بعجلات .. و بالأمس قال الطبيب .. إنه لا فائدة .. تآكلت جذور الأعصاب و لم يعد ينفع طب و لا دواء .. عن قريب نشق لها لحداً آخرا يا شيخ مبروك .. عن قريب آتي بها إليك محمولة .. يا رب رجمتك .
و ألقى الرجل بنفسه على صدر الشيخ مبروك وراح يبكي و ينهنه كطفل يتيم .
قال الحاج في دموعه :
أدع لها بالشفاء يا شيخ مبروك .. لعل الله يشفيها بدعوتك ..
قال الشيخ مبروك و الخزي يملأ نبراته :
أنت اولى بالدعوة يا حاج .. أنت حجيت بيت الله .. و زرت النبي .. أما أنا فحجي كان إلي السجون و زياراتى للملاجئ و الأحداث و حظى من تقوى الله هو ما تري .. فكيف أجرؤ أن أرفع وجهى إليه بدعاء .
فعاد الحاج يقول باكيا :
بُحَّ صوتي بالدعاء و جاهدت نفسي صلاة و صوما فما استمعت السماء لدعائي ..
ادع لها انت يا شيخ مبروك فالله رب قلوب .. بحق الله ادع لها ولاتخيب رجاء اب ملكوم .
فرفع الشيخ مبروك يديه إلي السماء واجماً خزيان وتوجه إلي الله بتظرات خجلى وتمتم بدعوى مخضلة بالدمع متهدجة بالانكسار:
يا رب اشفها لا شاف سواك و عافها فلا معاف سواك .. و بكى الرجلان كما لم يبكيا منذ وُلِدا .
و في اليوم التالي شهدت القرافة الحاج ابراهيم يبحث عن الشيخ مبروك .. و يفتش عنه كالمجنون و هويقول لكل من يلقاه :أين الشيخ مبروك ؟ .. أين الشيخ مبروك دلوني على مكانه .. بنتي شفيت من الشلل .. قامت من كرسيها و مشت وحدها و قال الدكتور هي معجزة.أين الشيخ مبروك .. أين أجد الشيخ مبروك .
و لكن الشيخ مبروك كان قد مات و لقى ربه في فجر ذلك اليوم و دفن حيث لفظ أنفاسه و هو يتمتم باكياً كعادته كلما وضع خده لينام .
رب اغفر لي فمن يغفر الذنوب إلا انت .
رب إن ذنوبي و إن كثرت فانها لن تضرك و طاعاتي و ان كثرت فانها لن تنفعك فانت الغني عن العالمين .
رب مهما عظمت ذنوبي فان عفوك أعظم و مهما كبرت آثامي فان إحسانك أكبر .
سبحانك وسعت كل شيء رحمة و علما .. فارحم ضعفي وعجزي وفاقتي و انت القائل : " وَ خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا " (28) النساء
رب اقبلني من المنكسرين الخائفين المشفقين الوجلين ..
يا رب انت الرب و انا العبد .. انت الوجود و انا العدم .. سبحانك لا أملك من نفسي شيئا و لا املك لنفسي شيئا.رب اسلمت نفسي اليك .. و أسلمت ضعفي اليك .. و أسلمت حقيقتي اليك .. و اسلمت ارادتى اليك .. و أسلمت روحى إليك .. لا حول و لا قوة إلا بكك .. بك أحيا و بك أموت و بك أُبعَث .. و بك أنال المغفرة و بك أدخل الجنة .
و طلع فجر ذلك اليوم معه آخر أنفاس الشيخ مبروك يسلمها إلي ربه .
و انتهت قصة رجل من الخطائين كان أقرب إلي الله من كثير من الطائعين من أهل الغرور بطاعتهم .
رجل غفر الله له لأنه عرف مقامه .. و كانت حياته كلها إنحناءً و إنكساراً و دخولاً من الباب الضيق .
قصة / المبروك
من كتاب / نقطة الغليان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ كان هذا هو اليوم الأخير في ” التأبيدة ” التي قضى فيها السجين عشرين سنة من عمره وراء القضبان و هو يعد الأيام يوماً يوماً إنتظاراً لتلك اللحظة التي يرى فيها النور .
و قد دخل إبراهيم السجن في جريمة قتل ..
و يذكر إبراهيم ما حدث دقيقة بدقيقة ، و كأنما هناك شريط سينمائي ناطق مجسَم بالألوان يدور في رأسه و لا يكف عن الدوران .
يذكر ما حدث حينما عاد إلى بيته في تلك الليلة من يناير مبكراً على غيري عادة .. و وقف يقرع الباب ..
لم تأتي زوجته مهرولة كعادتها لتفتح .. و إنما سمع حركة مضطربة خلف الباب ، و سمع أقداماً تجري و لم يفتح أحد .
و عاد يقرع الباب و قد تحرك شك قاتل في صدره .. و عادت الأقدام تجري في اضطراب ، و سمع لَغطاً .. ثم أصوات أشياء تقع على الأرض و زجاجاً ينكسر و نوافذ تصطفق ..
و حمل على الباب بكل قوته و دفعه دفعة هائلة ، فانفتح و قفز إلى الداخل ليرى زوجته واقفة مذعورة على اللحم ، و شبح رجل يهرب من النافذة .
و ترك كل شيء و انطلق يجري وراء الهارب .
و لم يستطع أن يلحق به فقد اندس في زحام المولد و انقطع أثره ، و لكنه عرفه و عرف من هو ..
و في اليوم التالي حمل سكيناً تحت جلبابه و ذهب إلى محل المكوجي ، و قتل مُسعد المكوجي بضربة واحدة من سكينة قطع بها شرايين رقبته ..
و حينما حاول صاحب المحل أن يدافع عنه قتله هو الآخر ..
ثم تكاثر عليه الناس و انتزعوا السكين من يده و سلموه للبوليس .
و من ذلك التاريخ و هو مُلقَى بالسجن .
و حكم عليه القاضي بالمؤبد .
و مضت عليه عشرون سنة كأنها عشرون قرناً و هو يعض على نواجذه من الغيظ لأنه دخل الزنزانة قبل أن يقتل زينب .
كان في عزمه أن يقتل الإثنين ، و قد بدأ بالرجل و في نيته أن ينثني مسرعاً ليقتل المرأة و يستريح ..
و لكن الحوادث التي تلاحقت ، و قتله لرجلين ، ثم تكاثُر الناس عليه ، ثم اعتقاله ، غَيَّر مجرَى الأمور ..
و أعطى المرأة عشرين سنة من العُمر .. و حكم عليه بعشرين سنة من الكظم و الغيظ .. قضاها لا يفكر في شيء إلا لحظة يحز رقبتها بسكينه .
زينب .. التي عرف في حضنها اللذة و السكَن و الراحة .. و التي أعطاها رزقه و عرقه و شبابه .. خانته .
كم بات يحلم بأن يقطع لسانها الذي كان يقول له .. بحبك يا إبراهيم .. و كم راح يهذي بأنه يغمس السكين في قلبها الذي كان يخفق في حضن قلبه .
و كان يراها دائماً في خياله ، جميلة طرية ريانة ، كأنها ثمرة يانعة فيها رائحة الحقل .
و كان يراها دائماً في حضن الرجل الآخر تُقبِلُه و توشوشه كما كانت تقبله و توشوشه .. و كان يسمع غنج صوتها في ظلام زنزانته ، فيفور الدم و يغلي في شرايينه .
و كان يسمع النبض يدق في دماغه .. و لكنه عاش يكظم و يكتم في انتظار اللحظة التي يخرج فيها إلى النور .
و حينما جاء السجّان و فتح له الباب و قال له .. مبروك يا إبراهيم .. إفراج ..
خرج كالريح ..
خرج كما يخرج الغضب من فم الغضبان ..
و كان أول شيء عمله ، أن توجه إلى بيته و السكين تحت جلبابه .
و كان باب البيت مفتوحاً ..
و أسرع داخلاً .
و كانت المرأة راقدة مريضة تسعل .
و تسمر في مكانه حينما أطل في وجهها .. و شعر بدمائه تبرد .. ثم تتثلج .. و تجمدت مشاعره .. و أحس بجنونه يتبخر من رأسه .. ثم أحس برأسه ذاته يتبخر .
لقد رأى امرأة أخرى تماماً غير تلك التي كان يحلم بقتلها في زنزانته .. رأى عجوزاً عجفاء سقطت أسنانها و انحنى هيكلها و تجعدت بشرتها .. ذهبت النضارة و خبا الجمال .. و جف العود الريان .. و تيبست الأطراف .. لم يبق شيء يقتله ، أو يقتل الناس أنفسهم من أجله .
و خمدت الغيرة في قلب الرجل فجأة كأنما هبّت عليها ريح جليدية .. و حل محلها مزيج غريب من الذهول و الدهشة و الإشفاق .
و لم يدرِ الرجل ماذا قال لامرأته ، فقد راح يقول أي كلام .. ثم ما لبث أن تسلل خارجاً و قد أصبح رجلاً آخر غير الذي دخل السجن من عشرين عاماً .
و كما تغير الرجل فجأة .. فقد تغيرت الدنيا أيضاً في عينيه فجأة و راح يكتشفها كأنه مولود يحبو و يتعرف على الدنيا لأول مرة .
حينما جلس يشرب الشاي في القهوة علم بأن زملاءه السباكين قد هاجروا للعمل في الخليج و السعودية و الكويت .
و قال له القهوجي :
♦ إن السباك يعمل الآن بمرتب شهري خمسة آلاف ريال في السعودية أي ألف جنيه شهرياً .. أما صغار العمال الذين آثروا البقاء في مصر .. فإن الواحد منهم يكسب من السباكة مائة و خمسين جنيه في الشهر ..
و إن السباك مطلوب في كل مكان ، و إن الذي يعرف كيف يصلح حنفية يسمي نفسه باشمهندس و يركب عربة ملاكي .
و سرح إبراهيم بعينين ذاهلتين .
كان كل شيء يتغير و يتبدل بسرعة هائلة بينما هو رابض كالتمثال في زنزانته يمضغ حقداً أسود لا يريد أن يزول .
المرأة أصبحت غير المرأة .
و الرجل غير الرجل .
و الصنعة غير الصنعة .
و البلد غير البلد .
بينما هو كتمثال من حجر صوّان يجتّر عذاباً لا ينتهي .
يا لها من لحظة تافهة .. تلك التي توقف عندها و كبّل نفسه بأغلالها عشرين عاماً ..
كيف يحدث أن يقتل الناس بعضهم بعضاً لأمور بمثل تلك التفاهة ؟!
لقد قتل رجلين من أجل زينب .. و من أجل حبه لزينب .. و من أجل شهوته لزينب .. و من أجل غيرته على زينب ..
فأين زينب الآن .. ؟
و أين حبه لزينب .. ؟
و أين شهوته لزينب .. ؟
و أين غيرته على زينب .. ؟
لقد تبخرت زينب و كأنما كانت وهماً .. و خلفت شيئاً مثل رماد المدفأة ، و تبخر حبه لزينب كما تتبخر الأحلام .
و تبخرت شهوته كما يتبخر مستنقع في يوم صيف .
و خمدت غيرته كما تخمد شعلة أكلت نفسها .
يا لها من أمور تافهة يتقاتل من أجلها الناس .
كم تبدو تلك الأحداث الهائلة و اللحظات الرهيبة المفعمة بالغضب .. كم تبدو له الآن على البُعد أحداثاً صغيرة .
أمَا كان أولَى به أن يُطَلِّقها و أن يذهب كل منهما لحاله و أن يجرب كل منهما حظه من جديد دون أن تُراق كل تلك الدماء .. !
و لو أنه بدأ حياة جديدة في تلك الظروف من الرخاء لَتزوج مَنْ هي أجمل من زينب ، و أرق من زينب ، و أوفَى من زينب ..
و لكانت عنده عربة .. و لربما هاجر مع الذين هاجروا إلى السعودية و الخليج و اقتنوا الثروات ، و ذاق لذة الترحال و التنقل و الأسفار بدلاً من ضياع العمر في الزنزانة و ذُل المؤبد .
يا له من أمر تافه ذلك الذي عشت أطحنه تحت أضراسي عشرين عاماً ..
و دلق إبراهيم بقية فنجان القهوة في جوفه و قام ليتوضأ على صوت الأذان ، و قد شعر بأنه أصبح خفيفاً مُجنَّحاً يكاد يطير مع كل خطوة .
و مضى إلى المسجد ليصلي .. و كأنه رجل آخر غير ذلك الذي عرفه و عاشره ستين عاماً .
و عَجِبَ مِن أمر نفسه .
و تساءل و هو يخطو إلى المسجد :
♦ كيف يحدث في لحظة أن يولَد العقل من الجنون كما يولد النهار من الليل .. ؟
و هل يحتاج مثل ذلك الميلاد أن يدفع الإنسان ذلك الثمن الباهظ من زهرة العمر .. ؟
. ❝