قراءة المزيد .. ❞ على هامش القلب تبدأ الحكاية… ليست حكاية مكتملة، ولا رواية لها بداية ونهاية تقليدية، بل هي فتات روح متناثر، شذرات من نبض، بقايا أحلام وكسور لم تلتئم. على الهامش فقط، يولد الصدق بلا رتوش، وتكتب الكلمات بلا خوف من حكم أو قيد.
لقد اعتدتُ أن أدفن مشاعري في أعماقي، أن أرتبها في صندوق مغلق لا يراه أحد. كنت أظن أنني بذلك أحمي نفسي من الانكسار، وأحمي العالم من وجعي. لكن مع مرور الوقت، اكتشفت أن ما نُخفيه في قلوبنا لا يختفي حقًا، بل يتكاثر في صمت، يتضخم حتى يملأ كل مساحة ممكنة منّا. كل كلمة لم تُقال، كل دمعة لم تسقط، كل حنين لم يجد طريقه، يتحول إلى جرح صغير على الهامش… حتى يصبح القلب نفسه مجرد هوامش متناثرة.
على الهامش كتبتُ أحلامي الأولى، كتبتُ أسماء الأشخاص الذين مرّوا ثم غابوا، كتبتُ المواقف التي علّمتني أن بعض الطرق لا تؤدي إلا إلى التيه. على الهامش تركتُ رسائل لم تُرسل، واعترافات لم تجد شجاعة للخروج. كنت أظن أنني بذلك أُنقذ نفسي من الندم، لكنني اليوم أدرك أن ما نضعه على الهامش لا يموت… بل يعيش فينا، يتنفس في لحظات الصمت، ويعود في أوقات الوحدة ليذكرنا أننا لم نُشفَ بعد.
أكتب هذه الكلمات الآن وأنا أعلم أنني لا أكتب لك، أيها القارئ، ولا أكتب للعالم من حولي… إنما أكتب لي أنا. لأني أحتاج أن أرى نفسي على الورق، أن أتعرف على وجهي الذي تهشّم في مرايا كثيرة. ربما أبدو لكِ، أيها الصفحة البيضاء، متناقضة: أضحك في العلن، وأبكي في صمت. أُجيد الاختباء خلف قناع القوة، لكنني أرتجف في داخلي كلما اقترب الليل.
على هامش القلب تعلمت أن الحب ليس ورديًا كما حلمنا صغارًا. الحب أحيانًا يُشبه العاصفة: يقتلع كل ما في داخلك، يبعثر يقينك، ويتركك في مواجهة نفسك. لكن رغم ذلك، يظل هو الشيء الوحيد القادر على إعادة الروح لنا من جديد. أحببتُ مرة، وربما مرات، لكن كل حب ترك أثرًا مختلفًا، بعضه كان نورًا، وبعضه كان ندبة، وما بين النور والندبة عرفت أن القلب لا يُشفى تمامًا أبدًا.
وعلى الهامش أيضًا عرفت معنى الفقد. أن تفقد إنسانًا لا يعني غيابه عن الحياة فقط، بل غيابه عن تفاصيلك، عن أحاديثك، عن مقعد فارغ إلى جوارك. الفقد هو أن تمتد يدك في العتمة فلا تجد من تعتاد عليه، أن تبحث عن صوته في ضجيج الأيام فلا تسمعه. الفقد علّمني أن الحياة تستمر، لكننا لا نعود كما كنا أبدًا… نكمل السير ببطء، بظل ثقيل لا يفارقنا.
أما الخيانة… فهي أكثر من طعنة. هي هدم بيت بنيته في قلبك، هي انكسار ثقة لم تعتقد يومًا أنها ستنكسر. لكنني رغم كل ذلك، لم أعد أكره من خان، ولا ألعن من رحل. لقد تعبت من حمل الأحقاد، وتعلمت أن العفو ليس ضعفًا، بل تحرير لروحي أنا.
على هامش القلب أيضًا كتبت عن أحلامي الكبيرة. عن الطب، عن أن أكون يومًا ما سببًا في شفاء إنسان، عن أن أضع بصمتي في هذا العالم مهما كان صغيرًا. أحلامي ليست مثالية دائمًا، وليست سهلة أبدًا، لكنها لي، تخصني، وهي الشيء الوحيد الذي يجعلني أستيقظ كل صباح رغم كل التعب.
أكتب هنا لأنني أعلم أنني لست وحدي. ربما كل قارئ سيمسك بهذا الكتاب سيجد نفسه بين سطوري، سيشعر أنني أتحدث بلسانه. لأننا جميعًا نملك هامشًا لا يراه الآخرون… نكتب فيه صمتنا، نخفي فيه وجعنا، ونخبئ فيه ما لا نجرؤ أن نقوله.
الهامش هو الوجه الآخر لكل واحد فينا… الوجه الصادق، الذي لا يتجمل ولا يخاف. إنه المكان الذي نحتفظ فيه بأكثر أسرارنا هشاشة، وأكثر مشاعرنا عمقًا. وربما، لو امتلكنا الشجاعة يومًا، لفتحنا هذا الهامش وأرينا العالم من نحن حقًا.
في هذه الصفحات ستجدون كل شيء: حبًا يشبه المطر حين يداهمك فجأة، ووجعًا يشبه الريح حين تقتلعك من جذورك. ستجدون حنينًا لأيام لم تعد، وغربة داخلية تشبه الضياع في مدينة مزدحمة. ستجدون قوة ناعمة تولد من قلب الانكسار، وستجدون ابتسامة صغيرة رغم الدموع.
هذا الكتاب ليس رواية، ولا سيرة ذاتية كاملة، لكنه مقاطع من حياة، لحظات متفرقة جمعتها كما تُجمع قطع الزجاج المكسور. قد تجرحكم الحواف أحيانًا، لكنني واثقة أنها ستُريكم انعكاسًا صادقًا لوجوهكم.
على هامش القلب… هناك دائمًا مساحة لم تُكتشف بعد. مساحة نكتب فيها لأنفسنا، لا لنُرضي الآخرين، مساحة نُفرغ فيها ما يثقل صدورنا، ونتركها كأثر، كدليل أننا كنّا هنا يومًا.
أهدي هذه الكلمات لكل من شعر يومًا أنه يعيش على الهامش. لكل من ظن أن صوته لا يُسمع، أو أن مشاعره لا تستحق أن تُكتب. هذا الكتاب لكم… لأنه ربما، حين نقرأ معًا، سندرك أننا لسنا وحدنا أبدًا.
✍️ ندى بدران. ❝