█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2023
❞ كل ما تراه وتسمعه، وتلمسه، وتتنشقه، وتتذوقه وما تذكره، وتنتظره، وينتظرك يدعوك للرحيل والفرار ولو بثيابك الداخلية إلى أقرب سفينة أو قطار:
ألوان الطعام ,الشراب , الخدمات العامة , الرشاوى العلنية , أصوات المطربين , أصوات الباعة , مخالفات المرُور , الأمراض المستعصية , الأدوية المفقودة , والمجارير المكشوفة في كل مكان. . ❝
❞ هل أنت صادق ؟
سؤال سوف يجيب عليه الكل بنعم .. فكل واحد يتصور أنه صادق وأنه لا يكذب .. وقد يعترف أحدهم بكذبة أو بكذبتين ويعتبر نفسه بلغ الغاية من الدقة والصراحة مع النفس وأنه أدلى بحقيقة لا تقبل مراجعة .
ومع ذلك فدعونا نراجع معًا هذا الإدعاء العريض وسوف نكتشف أن الصدق شيء نادر جدّاً .. وأن الصادق الحقيقي يكاد يكون غير موجود .
وأكثرنا في الواقع مغشوش في نفسه حينما يتصور أنه من أهل الصدق .
بل إننا نبدأ في الكذب من لحظة أن نتيقظ في الصباح وقبل أن نفتح فمنا بكلمة .
أحياناً تكون مجرد تسريحة الشعر التي نختارها كذبة .
الكهل الذي يسرح شعره خنافس ليبدو أصغر من سِنه يكذب , والمرأة العجوز التي تصبغ شعرها لتبدو أصغر من سنها تكذب .
والباروكة على رأس الأصلع كذبة .
وطقم الأسنان في فم الأهتم كذبة .
والبدلة السبور الخفيفة التي تخفي تحتها فانلة صوف كذبة .
والكورسيه والمشدّات حول البطن المترهلة كذبة .
والنهد الكاوتشوك على الصدر المنهك من الرضاع كذبة .
والمكياج الذي يحاول صاحبه إن يخفي به التجاعيد هو نوع آخر من الكذب الصامت .
والبودرة والأحمر والكحل والريميل والرموش الصناعية .. كلها أكاذيب ينطق بها لسان الحال قبل أن يفتح الواحد منا فمه ويتكلم .
بل إن مجرد ضفيرة المدارس على رأس بنت الثلاثين كذبة .
واللبانة في فم رجل كهل هي كذبة أكثر وقاحة .
كل هذا ولم يبدأ اللسان ينطق ولم يُفتح الفم بعد .
فإذا فتح الواحد منا فمه وقال صباح الخير .. فإنه يقولها على سبيل العرف والعادة .. لم ينوي له الخير ولم ينوي له الشر .. فهو يكذب .. وهو يقرأ السلام على من يبيت له العدوان .. فهو يكذب .
فإذا رفع سماعة التليفون مضى يطلب ما لا يريد من الأشياء لمجرد أنها مظاهر ومجاملات .. فهو يكذب .. وقد يرفض ما يريد خجلًا وادعاء .. فهو يكذب .
والولد والبنت يتكلمان طوال ساعتين في كل شيء إلا ما يتحرقان شوقًا إلى أن يتصارحا به .. فهما يكذبان .
وفتاة البار تبدؤك الحديث بالحب وهو لا يخطر لها على بال ولا تشغلها سوى حافظة نقودك . وكم زجاجة من الشمبانيا ستفتح لها .
والإعلان الذي يصف لك نكهة السيجارة وفوائدها الصحية يكذب عليك .
والإعلان الذي يقول لك إن قرص الإسبرين يشفي من الإنفلونزا كذب حتى بالقياس إلى علم الأدوية ذاته .
وكل ما يدور في عالم البيع والشراء يبدأ بالكذب .
وصورة لاعب التنس في يده زجاجة ويسكي وصورة الأسد الذي يحتضن زجاجة الكينا .. وبطل الجري الذي يدخن سيجارة فرجينيا كلها صنوف من الأكاذيب الظريفة التي تراها ملصقة على الجدران وعلى أغلفة الصحف وفي إعلانات السينما والتلفزيون وكأنما أصبح الكذب عُرفًا تجاريًا لا لوم عليه .
وفي عالم السياسة والسياسيين وفي أروقة الأمم المتحدة وعلى أفواه الدبلوماسيين نجد أن الكذب هو القاعدة .
بل إن فن الدبلوماسية الرفيع هو كيف تستطيع أن تجعل الكذب يبدو كالصدق .. وكيف تقول ما لا تعني .. وكيف تخفي ما تريد .. وكيف تحب ما تكره .. وكيف تكره ما تحب .
وأذكر بهذه المناسبة النكتة التي رويت عن تشرشل حينما رأى شاهد مقبرة مكتوبًا عليها ..
(( هنا يرقد الرجل الصادق والسياسي العظيم )) .
فقال ضاحكاً :
هذه أول مرة أرى فيها رجلين يدفنان في تابوت واحد .
فلم يكن من الممكن إطلاقاً في نظر تشرشل أن يكون الرجل الصادق والسياسي العظيم رجلاً واحداً .. إذ أن أول مؤهلات العظمة السياسية في نظر تشرشل هو الكذب .
وشرط السياسة هو أن تخفي الحقيقة لحساب المصلحة .. وتتأخر العاطفة لتتقدم الحيلة .. والفطنة .. والذكاء .. والمراوغة .
والدبلوماسي الذي يجاهر بعاطفته هو دبلوماسي أبله .. بل إنه لا يكون دبلوماسيّاً على الإطلاق .
وفي عالم الدين ودنيا العبادات يطل الكذب الخفي من وراء الطقوس والمراسيم .
شهر الصيام الذي هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل فتظهر المشهيات والحلويات والمخللات والمتبلات .. من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات ويرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان فتقول لنا الإحصاءات بالأرقام إنه يصل إلى الضعف ويصبح شهر رمضان هو شهر الصواني والطواجن .
وبين كل مائة مُصَل أكثر من تسعين يقفون بين يدي الله وهم شاردون مشغولون بصوالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم في الحقيقة يعبدون مصالحهم وأغراضهم ويركعون الركعة لتُقضَى لهم هذه المصالح والأغراض .
وقد عاش بابوات القرون الوسطى في ترف الملوك والسلاطين وسبحوا في الذهب والحرير والسلطة والنفوذ , وامتلكوا الإقطاعيات والقصور بإسم الدين وبإسم الإنجيل الذي يقول إن الغني لن يدخل ملكوت الله إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة .
بل إنهم تصوروا أنهم امتلكوا الجنة فباعوها صكوكًا لطالبي الغفران .
وفي دولة الحب نجد أن مخادعة النفس هي الأسلوب المتعارف عليه .. يخدع كل واحد نفسه ويخدع الآخر أحيانًا بوعي وأحيانًا بدون وعي .. فيتحدث العاشقان عن الحب وهما يريدان أن يقدما مبررًا شريفًا مقبولًا للوصول إلى الفراش .. ويخيل للحبيب أنه قد جن حبّاً وهو في الواقع يلتمس لنفسه وسيلة للهرب من واقع مرير .
كنوع من إظهار البراعة والمهارة أو كمظهر من مظاهر النجاح .
وأحياناً تكون كلمة الحب كذبة معسولة تخفي وراءها رغبة شريرة في الإمتلاك والإستحواذ والسيطرة .
وأحياناً تكون كلمة الحب خطة محبوكة وشِركاً للوصول إلى ميراث .
وهي في أكثر صورها شيوعاً وسيلة للوصول إلى لذّة سريعة وطريقة لتدليك الضمير والتغلب على الخجل ورفع الكلفة .
وهي ذريعتنا الدائمة للتغلب على عقدة الذنب فتخلع المرأة آخر قطعة ثياب وهي تطمئن نفسها بأنها ضحية الحب .. وأن الحب إحساس طاهر وأنه أمر الله وأنه قضاء وقدر .. وأنها ليست أول من أحبت ولا آخر من أعطت .
ولا توجد شبكة حريرية من الأكاذيب كما توجد في الحب .. ففي كل كلمة كذبة .. وفي كل لمسة كذبة .. والغريزة الجنسية ذاتها تكذب فما أسرع ما تشتعل وما أسرع ما تنطفئ . وما أسرع ما تضجر وتمل وتطالب بتغيير الطعام .
والصدق في الحب وقصص الحب نادر أندر من الماس في الصحاري .. وهو من أخلاق الصديقين وليس من أخلاق الغمر العادي من الناس .
وتتواطأ أغاني الحب وقصص الحب وتتآمر هي الأخرى لتنصب شراكاً من الأكاذيب المنمقة الجميلة وترسي دعامات ساحرة من الأوهام والأحلام الوردية والصور البراقة الخادعة عن القبلة والضمة ولقاء الفراش ولذة العذاب وعذاب اللذة ولسعة الحرمان ودموع الوسادة وإغماء السعادة وصحوة الفراق .. وضباب وضباب .. وعطور وصور خلابة مرسومة بريشة فنانين كذابين عظام .
والكذب في الفن عادة قديمة بدأها الشعراء من زمن طويل .
وقصائد المديح وقصائد الهجاء في شعرنا العربي شاهد على انتشار هذه العادة السيئة .
والفن وليد الهوى والخاطر والمزاج .. والمزاج متقلب .
ما أكثر الكذب حقّاً !
إننا لنكذب حتى في الأكل فنأكل حتى ونحن شبعانون .
أين الصدق إذن ؟
ومتى تأتي هذه اللحظة الشحيحة التي نتحرى فيها الحق والحق وحده ؟
إنها تأتي على ندرة .
في معمل العالم الذي يضع عينه على ميكروسكوب بحثاً عن حقيقة .
هنا نجد العقل يتطلع في شوق حقيقي وصادق ويبحث في حياد مطلق .. ويفكر في موضوعية على هدى أرقام دقيقة ومقادير وقوانين .
والعلم بذاته هو النظرة الموضوعية المستقلة عن الهوى والمزاج وأداته الوحيدة .. صدق الإستقراء .. وصدق الفراسة .
واللحظة الأخرى الصادقة هي لحظة الخلوة مع النفس حينما يبدأ ذلك الحديث السري .. ذلك الحوار الداخلي .
تلك المكالمة الإنفرادية حيث يصغي الواحد إلى نفسه دون أن يخشى أذناً أخرى تتلصص على الخط .
ذلك الإفضاء والإفشاء والإعتراف والطرح الصريح من الأعماق إلى سطح الوعي في محاولة مخلصة للفهم .
وهي لحظة من أثمن اللحظات .
إن الحياة تتوقف في تلك اللحظة لتبوح بحكمتها .
والزمن يتوقف ليعطي ذلك الشعور المديد بالحضور .. حيث نحن في حضرة الحق .. وحيث لا يجوز الكذب والخداع والتزييف .. كما لا يجوز لحظة الموت ولحظة الحشرجة .
إننا نكتشف ساعتها أننا عشنا عمرنا من أجل هذه اللحظة .. وأننا تألمنا وتعذبنا من أجل أن نصل إلى هذه المعرفة الثمينة عن نفوسنا .
وقد تأتي تلك اللحظة في العمر مرة فتكون قيمتها بالعمر كله .
أما إذا تأخرت ولم تأت إلا ساعة الموت .. فقد ضاع العمر دون معنى ودون حكم .. و أكلته الأكاذيب .. وجاءت الصحوة بعد فوات الأوان .
ولهذا كانت الخلوة مع النفس شيئاً ضروريّاً ومقدساً بالنسبة لإنسان العصر الضائع في متاهات الكذب والتزييف .. وهي بالنسبة له طوق النجاة وقارب الإنقاذ .
والإنسان يولد وحده ويموت وحده ويصل إلى الحق وحده .
وليست مبالغة أن توصف الدنيا .. بأنها باطل الأباطيل .. الكل باطل وقبض الريح ..
فكل ما حولنا من مظاهر الدنيا يتصف بالبطلان والزيف .
ونحن نقتل بعضنا بعضاً في سبيل الغرور وإرضاء لكبرياء كاذب .
والدنيا ملهاة قبل أن تكون مأساة .
ومع ذلك نحن نتحرق شوقاً في سبيل الحق ونموت سعداء في سبيله .
والشعور بالحق يملؤنا تماماً وإن كنا نعجز عن الوصول إليه .
إننا نشعر به ملء القلب وإن كنا لا نراه حولنا .
وهذا الشعور الطاغي هو شهادة بوجوده .
إننا وإن لم نر الحق وإن لم نصل إليه وإن لم نبلغه فهو فينا .. وهو يحفزنا .. وهو مثال مطلق لا يغيب عن ضميرنا لحظة وبصائرنا مفتوحة عليه دوماً .
ولحظة التأمل الصافي تقودنا إليه .
والعلم يقودنا إليه .
ومراقبتنا لأنفسنا من الداخل تقودنا إليه .
وبصائرنا تهدي إليه .
والحق في القرآن هو الله .. وهو أحد أسمائه الحسنى .
وكل هذه المؤثرات الداخلية تدل عليه .
وهو متجاوز للدنيا متعالٍ عليها .
نراه رؤية بصيرة لا رؤية بصر .
وتبرهن عليه أرواحنا بكل شوقها وبكل نزوعها .
والعجب كل العجب لمن يسألنا عن برهان على وجود الله .. على وجود الحق .. وهو نازع إليه بكليته مشغوف به بجماع قلبه .
وكيف يكون موضع شك من هو قِلبة كل القلوب ومهوى جميع الأفئدة وهدف جميع البصائر ؟
كيف نشك في وجوده وهو مستولٍ على كل مشاعرنا ؟
كيف نشك في الحق ونطلب عليه دليلاً من الباطل ؟
كيف ننزلق مع المنطق المراوغ إلى هذه الدرجة من التناقض فنجعل من لب الوجود وحقيقة حقائقه محل سؤال ؟
إني لا أجد نصيحة أثمن من أن أقول ليعد كل منا إلى فطرته .. ليعد إلى بكارته وعذريته التي لم تدنسها لفلفات المنطق ومراوغات العقل .
ليعد كل منا إلى قلبه في ساعة خلوة .
وليسأل قلبه .
وسوف يدل قلبه على كل شيء .
فقد أودع الله في قلوبنا تلك البوصلة التي لا تخطئ .. والتي اسمها الفطرة والبداهة .
وهي فطرة لا تقبل التبديل ولا التشويه لأنها محور الوجود ولُبَه ومداره وعليها تقوم كل المعارف والعلوم .
(( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ))
(الروم – 30)
لقد جعل الله هذه الفطرة نازعة إليه بطبيعتها تطلبه دواماً كما تطلب البوصلة أقطابها مشيرة إليه دالة عليه .
فليكن كل منا كما تملي عليه طبيعته لا أكثر .
وسوف تدله طبيعته على الحق .
وسوف تهديه فطرته إلى الله بدون جهد .
كن كما أنت .. وسوف تهديك نفسك إلى الصراط .
مقال / ماذا قالت لي الخلوة ؟!
من كتاب / رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ الحيوانات تستطيع أن تباشر عملية التوليد بالغريزة ، وهي تعرف كيف تقطع الحبل السري ، وأين ومتى تقطعه عن الجنين .
والدجاجة تستطيع أن تميز البيضة الفاسدة بين البيضات التي ترقد عليها فتنبذها وتلقي بها بعيداً ، وتستطيع أن تميز البيضة الغير ملقحة من البيضة الملقحة .. وهي تقوم بإلهام غريزي بتقليب البيض الذي ترقد عليه كل عدد معلوم من الساعات .. و لولا هذا التقليب لماتت الأجنة بسبب التصاقها بالقشرة .
و الفرخ الوليد يعرف أين أضعف مكان في البيضة لينقره بمنقاره ويخرج .
والنحل يعرف كيف يبني بيوته السداسية بدون مسطرة وبدون برجل .. والنحلات الشغالة العائدة من الحقل تقوم بعمل خريطة طبوغرافية دقيقة بمكان الزهور ، وذلك عن طريق الرقص وعمل إشارات بحركات بطنها تدل باقي الشغالة على جغرافية المكان بدقة لا تخيب .
وأعجب من ذلك كله هو ذلك الطب الغريزي الذي يمارسه حيوان " الوارا " حينما يلدغة ثعبان ، فإنه يلجأ إلى نوع من العشب الصحراوي يسميه البدو " الرامرام " ويحُك فيه جرحه . وقد لوحظ أن هذا الحيوان لا يدخل في معركة مع الثعبان إلا إذا كان على مقربة من هذا العشب ، فإذا لم يجد هذا العشب فإنه لا يدخل في مواجهة مع الثعبان ويبادر بالهرب ..
و قد أثبتت التجارب أن هذا العشب يشفي بالفعل من لدغة الثعبان ، والإسم العلمي لهذا العشب هو Htliotropium ramosismum ومفعوله العلاجي راجع إلى تأثيره على الجهاز المناعي في الكبد .
وهذه حقائق علمية لم تُعرف إلا أخيراً .. فكيف أدرك حيوان " الوارا " هذه الحقائق ، ومن أين علم بها ..؟!
ذلك هو الإلهام المباشر والطب الإلهي بلا شك .
وهو مما أوحى به الله للحيوان .. مصداقاً للآية :
" وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجرِ ومما يعرِشون "
وهذا مما حدا بالمسلمين الأوائل إلى الإهتمام بالأعشاب .
وخرج من العرب عشابون عظام أمثال داود الأنطاكى وابن البيطار وكوهين العطّار وعمّار الموصلي .
وقد جاء الوقت الذي نعمل فيه على إحياء تراثنا الطبي العربي .. لقد قَدَمت الصين من تراثها الطبي الشعبي أسطورة الإبر الذهبية ونحن نستطيع إذا عكفنا على تراثنا الطبي الإسلامي أن نقدم الكثير .
لقد ظلت أوروبا حتى أوائل القرن التاسع عشر لا تعرف إلا الأقرباذين العربي ، ولا تعتمد في طبها إلا على مخطوطات ابن سينا والرازي والزهراوي وابن النفيس .
ومازالت أوروبا تسمي بعض المركبات الكيماوية بأسمائها العربية ..
فالطرطير هو ال TARTAR ، والبورق هو BORIC ، والكحول هو ALCOHOL ، والشراب هو SIRUP.
وكانت الحضارة الإسلامية هي الجامعة التي أخذت عنها أوروبا علومها الطبية في عصورها الوسطى المظلمة .
وقد حاول بعض المستشرقين أن يطمس هذا التاريخ ، فقال إن العرب كانوا مجرد ناقلين ومترجمين عن جالينوس وأبو قراط ، وأن الطب العربي طب منقول عن اليونان والهند والفرس ومصر ، وليس فيه جهد إبداعي .. وهو افتراء تُكذبه مخطوطات الرازي وما جاء فيها من تصويبات كثيرة لأبوقراط وجالينوس .
فنرى الرازي يُخَطِىء أبو قراط في قوله بأن ماء الإستسقاء ascitis يصل إلى الرئة ويسبب السعال ، ويصف هذا الرأي بأنه سَمِج .. كما يخطئه في أن هُزال الجسم يزيد من رواسب البول .. ويقول هذا رأي خطأ لا يجوز .
كما نرى ابن النفيس يخطىء جالينوس في زعمه بأن هناك ثقباً بين البُطين الأيمن والبُطين الأيسر في القلب وأنهما متصلان ، ويقول إنه لا اتصال بين البطين الأيمن والأيسر ، وإن دم البطين الأيمن والأيسر لا يمتزجان إلا في الحالات المرضية .
كما نرى البغدادي يصحح ما زعمه جالينوس من أن الفك الأسفل عظمتان .. ويقول هما عظمة واحدة .
ومعلوم أن ابن النفيس كان أول من اكتشف الدورة الدموية الرئوية الصغرى .
وقد اكتشفها الراهب الإسباني سرفيتوس بعده بثلاثمائة سنة ، ونشر وصفاً لها في مجلته الدينية .. فلما بلغت هذه المجلة جون كالفين في سويسرا استدعاه إلى جنيف وحاكمه واتهمه بالزندقه وحكم عليه بالحرق .
هذا كان تاريخهم مع علمائهم ، وهذا كان تاريخنا .
بل إن أوروبا لم تنهض من كبوتها إلا حينما أخذت بالنظرة الإسلامية إلى العلم .
إن تصحيح هذه الأوهام أمر ضروري .
.. فأسوأ ما تصاب به أمة أن تكون بلا ذاكرة .
وما أكثر ما استحدث هؤلاء الرواد القدماء في صناعة الطب .
كان الزهراوي أول من عالج حصوة المثانة بالتفتيت ..
وكانت له محاولات متطورة في علاج البواسير والناصور والأورام السرطانية والفَتق .
وكان الرازي أول من تكلم عن التشخيص المقارَن differential diagnosis حينما تختلط الأمراض وتتشابه علامتها ..
وقد وصف الجهاز الهضمي بدقة كما وصف تشريح المعدة وطبقات العضلات المختلفة فيها .. تماماً كما نصفها اليوم .. وفرَّق بين النزيف المتسبَب من القرحة والنزيف المتسبَب من بواسير المريء ووصف أقراص الطباشير للحموضة ، وهو علاج نستعمله الآن .. وقدم وصفاً دقيقاً لمرضى الكزاز tetanus وقال عن وجه المريض بهذا الداء .. إنه يبدو كما لو كان يضحك ، وهو ما نسميه الآن risus sardonicus وقال إن مريض الكزاز يموت مختنقاً بسبب تشنج عضلات التنفس وتوقف حركاتها ، وهو كلام علمي دقيق .
وللرازي رأي جيد في علاج الحروق بالماء البارد ، وتلك آخر صيحة الآن في علاج الحروق .. حيث يوضع الذراع أو الساق المحروقة في الماء البارد دقيقتين لتقليل الألم ولتقليل فقدان البلازما .
ويقول ابن سينا في خلع الفقرات .. إن كانت الفقرة الأولى في العنق .. مات صاحبها في الحال .. لأن عصب التنفس ينضغط فلا يفعل فعله ، وإن كانت من الفقرات السفلية لم يمتنع التنفس ولكن يمتنع التبرز والتبول .. وهذا كلام علمي دقيق .
وقد سبق الزهراوي الجراحين بألف عام إلى اكتشاف جراحة دوالي الساق بطريقة سل العروق stripping of veins وهو أسلوب لم يُعرف إلا منذ ثلاثين عاماً .
وقد عرف العرب التخدير باستعمال البرودة الشديدة والأعشاب المرقدة ، كالحشيش والسكران والداتورا والبلادونا .
وعرفوا طب الأسنان وخلعها وحشوها ، وذكر الرازي سبعة أنواع من المعاجين والمساحيق لعلاج الأسنان وهي لا تخرج في تركيبها عن المعاجين الحالية من حيث احتوائها على المواد العطرية والمواد المطهِرة والمواد الحاكة والمواد القابضة والمواد المزيلة للروائح .. كما عرفوا فتح الضرس بالمثقاب وإماتة عصب الضرس باستخدام الزرنيخ .
واشتغلت المرأة العربية بالتمريض والطب من قديم .. وفي أيام النبي عليه الصلاة والسلام كانت رفيدة الأسلمية تتخذ خيمة في المسجد تداوي فيها الجرحى في الحرب .. وفي أواخر الدولة الأموية كانت زينب طبيبة بني أود من الماهرات في صناعة الكحالة ومداواة آلام العين .
وكان العرب أول من استحضر أحماض الكبريتيك والنيتريك والماء الملكي وأيدروكسيد الصوديوم والنشادر ونترات الفضة وكلوريد الزئبق ويوديد الزئبق والأنتيمون وكثيراً غيرها .
وكان الرازي أول من جرب أملاح الزئبق على القرود ليرى مفعولها ، وأول من استخدم الزئبق في المراهم .
وعرف العرب في تحضير الأدوية و وسائل التقطير والتبخير والترشيح والتصعيد والتذويب والطبخ والتبلور .. وكان ابن سينا أول من غلف الحبوب بالذهب والفضة ، وكان الزهراوي أول من حضَّر الأقراص بالكبس في قوالب خاصة .
وسبق العرب العالم في ابتكار نظام المستشفيات .. وكانوا في بيمارستان قلاوون يرفهون عن المرضى بالموسيقى وتلاوة القرآن .. وكانوا يعطون كل مريض منحة مالية عند خروجه حتى لا يُعجِّل إلى العودة إلى عمله في فترة النقاهة .
ومن أقوال الرازي .. ينبغي للطبيب أن يوهم المريض بالصحة ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك ، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس ، وتلك نظرة نفسية عميقة من طبيب قديم .
وكان يقول .. لا تعالج بالدواء إذا استطعت أن تعالج بالغذاء وحده .. ولا تعطي دواءً مركباً إذا استطعت أن تعالج بدواء بسيط .
وفي تحرزهم في مسألة الأدوية هذه نرى طبيباً كبيراً من أطبائهم هو أبو العلاء ابن زهر الأندلسي يقول :
أقسم بالله أني ما سقيت دواء قط مسهلاً إلا واشتغل بالي قبله بأيام وبعده بأيام فإنما هي سموم ، فكيف حال مدبر السم ومسقيه .
وهذا طبيب كبير يتردد في كتابة دواء ملين ويقلق ويشتغل باله مخافة الإضرار بمريضه .
فأين هذا الطبيب من أطباء اليوم الذين يكتبون المضادات الحيوية والكورتيزون دون تحرز وهي سموم قتالة .
إنما هي أخلاقيات المسلم الذي يخاف ربه ..
ومِن النظرة الإيمانية أن تبدأ علاج المريض بأقرب الأشياء إلى طبيعته بمجرد تعديل قائمة غذائه .. فإذا لم يفلح العلاج لجأت إلى أعشاب من بيئته تقدمها له دون أن تغير طبيعتها ودون إضافة أو استخلاص أو تجزئة .. إيماناً بأن الله وضع العناصر الشافية في داخل هذه العبوة النباتية لحكمة .
وهذه النظرة صحيحة .. ولها شواهد علمية تؤيدها .. ففي التداوي بالنبات المسمى " بذر جوتونا " واسمه العلمي PLANTAGO OYATA لوحظ أن استخلاص العنصر الدوائي وهو القشر من البذور وتناوله منفرداً لعلاج القولون يؤدي إلى مضاعفات حساسية .. ولا تظهر هذه المضاعفات في حالة تناول البذور على حالتها الخام .
وهذا لا يعني ألا نقوم بالتجارب وندرس ونستخلص . بل المراد ألا نتدخل إلا للضرورة .. وأن ننظر باحترام إلى الطبيعة ومنتجاتها باعتبارها صناعة يد إلهية حكيمة لا تخطىء .
وعسل النحل وخواصه الشفائية شاهد على هذا الأمر .
وفي القرآن إشارات إلى مسائل مازالت إلى الآن من قبيل الأسرار ، فحينما يشكو أيوب لربه من مس الشيطان ..
" ربِ إني مسنيَ الشيطان بنصب وعذاب " .
يقول له ربه ..
" اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " .
الله يصف له ماء الينابيع ليشرب ويغتسل .. ليذهب عن جسمه من هذا المس الضار .
وفي آية أخرى عن الماء يقول القرآن ..
" ويُنزل من السماء ماء ليطهركم به ويُذهب عنكم رجس الشيطان "
فيصف الماء بخاصيتين .. خاصية التنظيف والتطهير ، وخاصية أخرى هي إذهاب مس الشيطان .
وفي حديث شريف يقول النبي عليه الصلاة والسلام في علاج المحسود ..
" يتوضأ الحاسد ويغتسل المحسود من وضوئه " .
إنه الماء مرة أخرى يوصف ليذهب المسوس الروحية الضارة التي أحدثتها العين .
فما هي تلك الخاصية الغيبية للماء ؟
ذلك باب شريف للبحث ، قد يتضح لنا بيانه في المستقبل .
وقد ظن البعض خطأً أن التداوي ليس من الإسلام وأنه ناقض للتوَكُل ، وقال البعض لرسول الله .. انتداوَى يا رسول الله .. أيَرُد الدواء قدر الله .. ؟؟
فقال النبي عليه الصلاة والسلام .. " إنما نرد قدر الله بقدر الله ، فما خرج شيء عن قدر الله " .
وفي الإسلام لمحات من الطب الوقائي لو اتبعتها البلاد الإسلامية لاختفت البلهارسيا والإنكلستوما من القارة الأفريقية ، ولوفرت الملايين التي تنفَق على العلاج بلا جدوى .
فقد نهى النبي عن التبرز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس وفي الحديث الثابت ..
" ولا يبولَن أحدكم في الماء ثم يتوضأ منه " .
"اتقوا الملاعن الثلاث : التبرز في الماء ، وفي ظل ، وفي طريق الناس " .
وتلك حلقة البلهارسيا المفرغة التي لا تنتهي .. تنزل البويضات في الماء .. فتفقس اليرقات وتسبح إلى القواقع .. ومن القواقع يخرج السركاريا ليصيب الإنسان من جديد ، فإذا كسرنا حلقة التبول والتبرز في الماء .. انتهت البلهارسيا إلى غير رجعة .
والنظافة أول الشعائر الدينية عند المسلم .. فلا صلاة بغير وضوء ولا إسلام بغير غُسل ولا ملبس إلا الطاهر .
يقول القرآن ..
" وثيابك فطَهِّر " .
والقرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي نص على الطهارة والنظافة والإغتسال .
وقد وضع الإسلام الأسس الثابته للصحة النفسية ، وذلك بالصبر والتوكل والتسليم والتفويض والحمد والشكر بعد الإجتهاد وبذل الوسع .
" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " .
" عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم ".
" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ".
" لا تيأسوا من رَوح الله إنه لا ييأس من رَوح الله إلا القوم الكافرون " .
وذلك هو الطب النفسي الإلهي الذي عجز فرسان الطب النفسي المادي أن يلحقوا به .. والذي مازال هو الباب الوحيد للسكينة والأمن حينما تسد جميع الأبواب .
مقال / الإسلام والطب
من كتاب / القرآن كائن حي
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝