█ حصريا تحميل كتاب مجاناً PDF اونلاين 2023
❞ عادت لارين إلى لوحاتها من جديد .. في الحقيقة كانت ترسم لتخرج أنفاسها الحارة على الورق، ولتسكب دمعها بمائة لون حتى لا يتعرف إليه أحد ، هى تشتاق لوالدها حدّ البكاء، تخاف على أخيها للحد الذى ترغب بأن تذهب إليه كل يوم للأطمئنان عليه .
وجود مصطفى ورغدة وعمتها هوّن عليها كثيرا .. أنهم الان أقرب ما يكونوا إليها .. بل أن رغدة أبدت رغبتها فى تعلّم الرسم كما تفعل لارين .
وقدبدأت بالفعل فى تعليمها .
فى حين كان مصطفى يتأمل الفتاتان عن بعد , فيشعر بدبيب قلبه حين تقع عيناه على لارين , إنه يقرأ فى نظراتها رسائل تأبى البوح بها , ويسمع فى صمتها الأف الكلمات , يعجبه تصميمها وإرادتها فى حلمها ..
أنها تحاول الوصول إليه بكل وسيلة لكنها تنسى أن الوصول إلى الفضاء طريقه يبدأ أولا من الأرض .
تناول أخر بحث لها عن تربة كوكب المريخ وخصائصه .. أبهره أسلوبها العلمى الدقيق , وترتيب أفكارها .
أنها مشروع رائدة فضاء ولا شك . . ❝
❞ خطر لي ذات مساء أن أقوم ببحث في سراديب ذاكرتي .. فأرصد في ورقة كل ما أحفظه من أرقام ..
رقم الباسبور ورقم العربة ورقم الشقة ورقم البطاقة العائلية وتليفونات من أعرف من الأصدقاء والزملاء .. وتليفونات المصالح والجرائد .. وأرقام جدول الضرب التي أحفظها غيباً وعمليات الجمع والطرح والقسمة الأولية التي أعرفها بالبداهة .. وتواريخ ميلادي وميلاد أولادي .. وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبة التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموع زوايا المثلث ودرجة غليان الماء .. وما تعلمته في كلية الطب عن نسبة سكر الدم وعدد الكريات الحمراء وعدد الكريات البيضاء وحجم الدم وسرعة النبض وسرعة التنفس وجرعات العقاقير ..
وفي لحظات تجمعت تحت يدي عدة صفحات من مئات الأرقام .. تداعت في ذهني ولمعت كالبرق وكأني حاسب إلكتروني .. وكان المشهد مذهلاً .
كيف أحفظ هذا الكم الهائل من الأعداد .. كل عدد يبلغ طوله ستة أو سبعة أرقام ؟
وأين تختفي هذه الأرقام في تلافيف المخ ؟
وكيف يتم استدعاؤها فتلمع في الوعي كالبرق الخاطف ؟
وبأي أسلوب تصطف هذه الأرقام في أعداد متمايزة .. كل عدد له مذكرة تفسيرية ملحقة به تشرح دلالته ومعناه ؟
وكيف تتراكم المئات والمئات من هذه الأرقام في ذاكرتنا ولا تختلط ولايطمس بعضها بعضاً؟
وغير الأرقام .. هناك الأسماء والإصطلاحات والكلمات .. والأشكال والوجوه .. تزدحم بها رأسنا . وهناك معالم الطبيعة التي طُفنا بها والأماكن التي زرناها .. وهناك الروائح .. ومع كل رائحة صورة لامرأة عرفناها أو مشهد نذكره ولواعج وأشواق وقصص وسيناريو من آلاف اللقطات .. وهناك الطعوم .. والنكهات .. يأتي الطعم في الفم فيسيل اللعاب شوقاً أو يتحرك الغثيان إشمئزازاً .. ومع كل طعم .. يجري شريط يحكي عن وليمة دسمة ذات يوم أو جرعة دواء مريرة ومرض طويل ممض وأوجاع أليمة .. حتى لمسة النسيم الحريرية ورائحة أصداف الشاطئ تحفظها لنا الذاكرة فتهب علينا لفحات الهواء الرطيب مع ذكراها وكأننا نعيشها من جديد .
حتى الأصوات والهمسات والوشوشات والصخَب والصراخ والضجيج والعويل والنشيج .
وفاصل من موسيقى ..
ومقطع من أغنية ..
ولطمة على وجه ..
وقرقعة عصاً على الظهر ..
وحشرجة ألم ..
كل هذا تحفظه الذاكرة وتسجله في دقة شديدة وأمانة .. ومعه بطاقة بالتاريخ والمناسبة وأسماء الأشخاص وظروف الواقعة ومحضر بالأقوال .. معجزة .. إسمها الذاكرة .
إن معنا رقيباً حقيقياً يكتب بالورقة والقلم كل دبة نمل في قلوبنا ؟
وما نتخيل أحياناً أننا نسيناه نكتشف أننا لم ننسه وأنه موجود يظهر لنا فجأة في لحظة استرخاء أو حلم أو بعد كأس أو في عيادة طبيب نفسي .. وأحياناً يظهر في زلة لسان أو خطأ إملائي .
لا شيء يُنسَى أبداً .. ولا شيء يضيع .. والماضي مكتوب بالفعل لحظة بلحظة ودقة قلب بدقة قلب .
والسؤال الكبير بل اللغز المحير هو .. أين توجد هذه الصور .. أين هذا الأرشيف السري ؟
وهو سؤال حاول أن يجيب عليه أكثر من عالِم وأكثر من فيلسوف .
الفلاسفة الماديون قالوا إن الذاكرة في المخ .. وإنها ليست أكثر من تغيرات كيميائية كهربائية تحدث لمادة المخ نتيجة الفعل العصبي للحوادث تماماً كما يحدث لشريط ريكوردر عند التسجيل .. وإن هذه اللفائف المسجلة تُحفَظ بالمخ وإنها تدور تلقائياً لحظة محاولة التذكر فتعيد ما كان .. في أمانة ودِقة .
الذاكرة مجرد نقش وحفر على مادة الخلايا .
ومصيرها أن تَبلَى وتتآكل كما تبلى النقوش وتتآكل وينتهي شأنها حينما ينتهي الإنسان بالموت وتتآكل خلاياه .
رأي مريح وسهل ولكنه أوقع أصحابه في مطلب لم يستطيعوا الخروج منه ..
فإذا كانت الذاكرة هي مجرد طارئ مادي يطرأ على مادة الخلايا فينبغي أن تتلف الذاكرة لأي تلف مادي مناظر في الخلايا المخية .. وينبغي أن يكون هناك توازٍ بين الحادثين .. كل نقص في ذاكرة معينة لا بد أن يقابله تلف في الخلايا المختصة المقابلة .. وهو أمر لا يشاهَد في إصابات المخ وأمراضه .. بل ما يشاهد هو العكس .
يصاب مركز الكلمات فلا تصاب ذاكرة الكلمات بأي تلف , وإنما الذي يحدث هو عاهة في النطق .. في الأداء الحركي للعضلات التي تنطق الكلمات . إن الموتور هو الذي يتلف بتلف الخلايا .. أما الذاكرة .. أما صورة الكلمات في الذهن فتظل سليمة .
♦♦ وهذا دليل على أن وظيفة المخ ليست الذاكرة ولا التذكر .
وإنما المخ هو مجرد سنترال يعطي التوصيلة .
هو مجرد أداة تُعَبّر به الكلمة عن نفسها في وسط مادي فتصبح صوتًا مسموعًا .. كما يفعل الراديو حينما يحوّل الموجة اللاسلكية إلى نبض كهربائي مسموع .. فإذا أصيب الراديو بعطل فلا يكون معنى هذا العطل أن تتعطل موجة الأثير .. وإنما فقط يحدث شلل في جهاز النطق في الراديو . أما الموجة فتظل سليمة على حالها يمكن أن يلتقطها راديو آخر سليم .
وهذا حال الذاكرة .. فهي صور وأفكار ورُؤى مستقلة مسكنها ومستقرها الروح وليس المخ ولا الجسد بحال .. وما المخ إلا وسيلة لنقل هذه الصور لتصبح كلمات منطوقة مسموعة في عالم ماديّ .
فإذا أصيب المخ بتلف .. يصاب النطق بالتلف ولا تصاب الذاكرة لأن الذاكرة حكمها حكم الروح ولا يجري عليها ما يجري على الجسد .
التوازي مفقود بين الإثنين مما يدل على أننا أمام مستويين (جسد .. وروح ) لا مستوى واحد إسمه المادة .
وفي حوادث النسيان المرحلي .. الذي تنسى فيه مرحلة زمنية بعينها ( وهو الموضوع المحبب عند مؤلفي السينما المصريين ) .. ينسى المصاب فترة زمنية بعينها فتُمحى تمامًا من وعيه وتكشط من ذاكرته .
وكان يتحتم تبعًا للنظرية المادية أن نعثر على تلف مخي جزئي مقابل ومناظر للفترة المنسية .
لكن من الملاحَظ أن أغلب تلك الحالات هي حالات صدمة نفسية عامة وليست تلفًا جزئيًا محددًا .
مرة أخرى نجد أن التوازي مفقود بين حجم الحادث وبين حجم التلف المادي .
وفي حالات التلف المادي الشديد للمخ نتيجة الكسور أو الإلتهابات أو النمو السرطاني , حينما يبدأ النسيان الكامل يلاحظ دائمًا أن هذا النسيان يتخذ نظامًا خاصًا فتُنسَى في البداية أسماء الأعلام وآخر ما يُنسَى هي الكلمات الدالة على الأفعال .
وهذا التسلسل المنتظم في النسيان في مقابل إصابة غير منتظمة .. وفي مقابل تلف مشوش أصاب المخ كيفما اتفق , هو مرة أخرى عدم توازٍ له معنى .. فهنا إصابة في الذاكرة لا علاقة لها من حيث المدى والكم والنظام بالإصابة المادية للمخ .
وهكذا تتحطم النظرية المادية للذاكرة على حائط مسدود .
ونجد أنفسنا أمام ظاهرة متعالية على الجسد وعلى خلايا المخ .
وسوف تموت وتتعفن الخلايا المخية وتظل الذاكرة شاخصة حية بتفصيلاتها ودقائقها تذكرنا في حياتنا الروحية الثانية بكل ما فعلناه .
ولم يكن الجسد إلا جهازاً تنفيذيّاً للفعل وللإفصاح عن النوايا في عالم الدنيا المادي .. كان مجرد أداة للروح ومطية لها .
لم يكن المخ إلا سنترالًا .. وكابلات توصيل .
وكل دوره هو أن يعطي التوصيلة من عالم الروح إلى عالم المادة أو كما يقول برجسون DONNER LA COMMUNICATION ....... يعطي الخط .
كابلات الأعصاب تنقل مكنون الروح وتحوله إلى نبض إلكتروني لتنطق به عضلات اللسان على الطرف الآخر .. كما يفعل الراديو بالموجة اللاسلكية ..
وهكذا نتبادل الكلام كأجساد في عالم مادي .. فإذا ماتت أجسادنا عدنا أرواحًا .. لنتذاكر ما فعلناه في دنيانا لحظة بلحظة حيث كل حرف وكل فعل مسجل .
بل إن هناك نظريات علمية تمضي لأكثر من هذا فترى أن التحصيل هو في ذاته عملية تذكر لعلم قديم مكنوز ومسطور في الروح .. وليس تعلماً من السبورة .. فنحن لا نكتشف أن 2 × 2 = 4 من عدم , وإنما نولد بها .. وكل ما نفعله أننا نتذكرها .. وكذلك بداهات الرياضة والهندسة والمنطق .. كلها بداهات نولد بها مكنوزة فينا .. وكل ما يحدث أننا نتذكرها .. تُذكِرنا بها الخبرة الدنيوية كل لحظة .
وبالمثل شخصيتنا .. نولد بها مسطورة في روحنا .. وكل ما يحدث أن الواقع الدنيوي يقدم المناسبات والملابسات والقالب المادي لتفصح هذه الشخصية عن خيرها وشرها .. فيسجل عليها فعلها .
والتسجيل هو الأمر الجديد الذي يتم في الدنيا .
الإنتقال من حالة النية إلى حالة التلبس .
وهذا ما تُعبِّر عنه الأديان بأن يحق القول على المذنب بعد الإبتلاء والإختبار في الدنيا .. فتحق عليه الضلالة وتلزمه رتبته .
وهو أمر قد سبق إليه علم الله .. علم الحصر لا علم الإلزام .. فالله لا يلزم أحداً بخطيئة ولا يقهره على شر .. وإنما كل واحد يتصرف على وفاق طبيعته الداخلية .. فعله هو ذاته .. وليس في ذلك أي معنى من معاني الجبر .. لأن هذه الطبيعة الداخلية هي التي نسميها أحيانًا الضمير وأحيانًا السريرة وأحيانًا الفؤاد .. ويسميها الله (( السر )) .
(( يعلم السر وأخفَى )) .
ونقول عنها في تعبيراتنا الشعبية عن الموت (( طلع السر الإلهي )) أي صعدت الروح إلى بارئها ..
هذا السر المطلسم هو ابتداء حر ومبادرة أعتقها الله من كل القيود ليكون فعلها هو ذاتها وليكون هواها دالاً عليها .
ومِن هنا لا يصح القول بالحتميات في المجال الإنساني أمثال حتمية الصراع الطبقي والجبرية التاريخية .. لأن الإنسان مجال حر وليس مسمارًا أو ترسًا في ماكينة .
وكما لا يمكن التنبؤ بما يأتي به الغد في حياة فرد فإنه يستحيل القول بالحتم أو الجبر في مجال المجتمعات والتاريخ .. وكل ما يمكن القول به هو الترجيح والإحتمال بناء على مقدمات إحصائية .. وهو ترجيح يخطئ ويصيب ويحدث فيه تفاوت في طرفيه .. فمعدل عمر الإنسان في إنجلترا مثلاً هو ستون سنة .. وهذا المعدل معدل إحصائي مأخوذ من متوسطات أرقام .. وهو غير ملزم بالنسبة للفرد , فقد يعيش فرد مثل برناردشو في إنجلترا أكثر من تسعين سنة ويتجاوز المعدل . وقد يموت في سن العشرين في حادثة . وقد يموت وهو طفل بمرضٍ معدٍ ..
ثم إن المعدل ذاته قابل للتذبذب من طرفيه صعودًا وهبوطًا من سنة لأخرى ..
فلا يصح القول بالحتمية والجَبر في هذا الموضوع .. ولا يجوز إخضاع المجال الإنساني سواء كان فرداً أو مجتمعاً أو تاريخاً لقالب نظري أو معادلة أو حسبة إحصائية أو فرض فلسفي .
إنما تأتي فكرة الحتمية الخاطئة من التصور الخاطئ للإنسان على أنه جسد بلا نفس وبلا روح وبلا عقل ..واعتبار النفس والعقل مجرد مجموعة الوظائف العليا للجهاز العصبي.
ومن الواقع المشاهد من خضوع الجسم للقوانين الفسيولوجية يستنتج المفكر المادي أن الإنسان والإنسانية بأسرها مغلولة في القوانين المادية.
وهكذا يجعل من الإنسان كتلة مادية أشبه بكتلة القمر محكومة في دورانه حول الأرض والشمس بالحتميات الفلكية.
وينسى أن الإنسان يعيش في مستويين.
مستوى الزمن الخارجي الموضوعي المادي .. زمن الساعة .. وفي هذا الزمن يرتبط بالمواعيد والضرورات الإجتماعية ويعيش في أَسر القوانين والحتميات .
ومستوى زمنه الخاص الداخلي .. زمن الشعور وزمن الحلم .. وفي هذا المستوى يعيش حياة حرة بالفعل .. فيفكر ويحلم ويبتكر ويخترع و يقف من كل المجتمع و التاريخ موقف الثورة .. بل يستطيع أن ينقل هذه الثورة الداخلية إلى فعل خارجي فيقلب المجتمع و يغير التاريخ من أساسه كما حدث في كل الثورات التقدمية .
هذه الثنائية هي صفة ينفرد بها الإنسان .
وهذه الحياة الداخلية الحرة يختص بها الإنسان دون الجماد
وهذه النفس التي يملكها تتصف بصفات مختلفة مغايرة لصفت الجماد .. فهنا نحن أمام وحدة لا امتداد لها في المكان ..
هي الـ (( أنا )) تتصف بالحضور والديمومة والشخوص والكينونة والمثول الدائم في الوعي .. ثم هي تفرض نفسها على الواقع الخارجي وتغيره .. وتفرض نفسها على الجسد وتحكمه وتقوده وتعلو على ضروراته .. فتفرض عليه الصوم والحرمان إختياراً .
بل قد تقوده إلى الموت فداء وتضحية ..
مثل هذه النفس لا يمكن أن تكون مجرد ناتج ثانوي من نواتج الجسد وذيلًا تابعًا له ومادة تطورت منه .. مثل هذه النظريات المادية لا تفسر لنا شيئًا .. وإنما لابد لنا أن نسلم أن هذه النفس عالية على الجسد متعالية عليه وأنها من جوهر مفارق لجوهر الجسد وحاكم عليه .. فهي في واقع الأمر تستخدم الجسد كأداة لأغراضها ومطية لأهدافها كما يستخدم العقل المخ مجرد توصيلة أو سنترال .
ولا بد أن يتداعى إلى ذهننا الإحتمال البديهي من أن هذه النفس لا يمكن أن يجري عليها ما يجري على الجسد من موت وتآكل وتعفن بحكم جوهرها الذي تشعر به متصفًا بالحضور والديمومة والشخوص في الوعي طوال الوقت .. فلا تتآكل كما يتآكل الجسد ولا هي تقع كما يقع الشعر ولا هي تبلى كما تبلى الأسنان .
وإنه لأمر بديهي تمامًا أن نتصور بقاءها بعد الموت .
فإذا نحن تأملنا ما يصاحب أفعالنا من تردد قبل اختيار القرار ثم شعور بالمسئولية في أثناء العمل ثم ندم أو راحة بعد تمامه .. فنحن نستنتج أننا أمام حالة مراقبة فطرية وفكرة ملحة بالحساب وبأن هناك خطأ وصوابًا . وإننا نعلم بداهةً وبالفطرة التي ولدنا بها أن العدل والنظام هو ناموس الوجود .. وأن المسئولية هي القاعدة .
ويفترض لنا هذا الشعور الفطري القهري أن الظالم الذي أفلت من عقاب الأرض .. والقاتل الذي أفلت من محاسبة القانون البري الأرضي .. لابد أن يعاقَب ويحاسَب .. لأن العالم الذي نعيش فيه يفصح عن النظام والإنضباط من أصغر ذرة إلى أكبر فلك .. والعبث غير موجود إلا في عقولنا وأحكامنا المنحرفة .
وفكرة العدل والنظام وضرورة العدل عالم آخر يتم فيه العدل والنظام والمحاسبة .
كل هذا علم نولد به .. وحقيقة تقول بها الفطرة والبداهة .
ولا غرابة في أن يعترف مفكر غربي ألماني وهو (( عمانويل كانت )) بهذه الحقيقة في كتابة (( نقد العقل العلمي )) .
ولا غرابة في أن يصل إلى هذه النتيجة السليمة دون أن يقرأ قرآنًا .
إنها الفطرة والبداهة التي تقوم عليها جميع العلوم .
ولا حاجة لأن يقرأ العقل السليم الكتاب المقدس ليكتشف أن له روحًا و أن له حياة بعد الموت و أن هناك حساباًَ .. فالفطرة السليمة تضيء لصاحبها الطريق إلى هذه الحقائق .
وهذا العلم الذي نولد به .. وهذه البداهة التي نولد بها .. تقوم شاهدة على جميع العلوم المكتسبة وملزمة لها .. فجميع العلوم المكتسبة يجوز فيها الخطأ والصواب .. أما العلم الذي نولد به فهو جزء من نظام الكون المحكم .. وهو الحقيقة الأولى التي نعمل على ضوئها نرى جميع الحقائق الفرعية .. وهي المعيار والمقياس .. وإذا فسد المعيار فسد كل شيء وأصبح كل شيء عبثًا في عبث وهو أمر غير صحيح .
وإذا اتهمنا بالبداهة فإن جميع العلوم والمعارف سوف ينسحب عليها الإتهام وسوف تنهدم لأنها تقوم أصلاً على البداهات .
فنحن هنا أمام أصل من أصول المعرفة ومرجع لا يجوز الشك فيه ( لأن هذا المرجع شأنه شأن الحياة ذاتها ) نحن أمام متن هو لحم المعرفة ودمها . وكما نأتي إلى الحياة مزودين بعضلات لنتحرك بها وندافع عن أنفسنا كذلك نولد مزودين بالبداهات الأولى لنحتكم إليها في إدراك الحق من الباطل والصواب من الخطأ .
وأعلى درجات المعرفة هي ما يأتيك من داخلك , فأنت تستطيع أن تدرك وضعك ( هل أنت واقف أو جالس أو راقد ) دون أن تنظر إلى نفسك .. يأتيك هذا الإدراك وأنت مغمض العينين .. يأتيك من داخلك .. وتقوم هذه المعرفة حجة على أية مشاهدة .
وحينما تقول .. أنا سعيد .. أنا شقيّ .. أنا أتألم .. فكلامك يقوم حجة بالغة ولا يجوز تكذيبه بحجة منطقية .. بل إن تناول هذا الأمر بالمنطق هو تنطع ولجاجة لا معنى لها .. فلا أحد أعرف بحال نفسك من نفسك ذاتها .
وبالمثل شهادة الفطرة وحكم البداهة هي حجة على أعلى مستوى .. وحينما تقول الفطرة والبداهة مؤيدة بالعلم والفكر والتأمل حينما تقول بوجود الروح والنفس .. وبالحرية وبالمسئولية والمحاسبة , وحينما توحي بالتصرف على أساس أن في الكون نظامًا .. فنحن هنا أمام حجة على أعلى مستوى من اليقين .
وهو يقين مثل يقين العيَان أو أكثر .. فالفطرة عضو مثل العين نولد به .
وهو يقين أعلى من يقين العلم .. لأن الصدق العلمي هو صدق إحصائي والنظريات العلمية تُستنتَج من متوسطات الأرقام .. أما حكم البداهة فله صفة القطع والإطلاق
2 × 2 = 4 هي حقيقة مطلقة صادقة صدقًا مطلقًا , لا يجوز عليها ما يجوز من نسخ وتطور وتغير في نظريات العلم لأنها مقبولة بديهية .
1 + 1 = 2 مسألة لا تقبل الشك لأنها حقيقة ألقتها إلينا الفطرة من داخلنا وأوحت بها البداهة .
وهي معرفة أولى جاءت إلينا مع شهادة الميلاد .
لو أدرك الإنسان هذا لأراح واستراح .. ولوفّر على نفسه كثيراً من الجدل والشقشقة والسفسطة والمكابرة في مسألة الروح والجسد .. والعقل والمخ .. والحرية والجبر .. والمسئولية والحساب .. ولاكتفى بالإصغاء إلى ما تهمس به فطرته وما يُفتي به قلبه وما تشير به بصيرته .
وذرة من الإخلاص أفضل من قناطير من الكتب .
لنصغي إلى صوت نفوسنا وهمس بصائرنا في إخلاص شديد دون محاولة تشويه ذلك الصوت البكر بحبائل المنطق وشراك الحجج .
وعلى من يشك في كلامي .. وعلى هواة الجدل والنقاش والمقارعة المنطقية أن يعودوا فيقرأوا مقالي من أوله .
..
مقال / الروح
من كتاب : رحلتي من الشك إلى الإيمان
للدكتور : مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝
❞ أنكر أينشتين في نظريته إمكان الحركة المطلقة ..
فمن المستحيل أن نعرف أن جسمًا ما في حالة حركة أو في حالة سكون إلا بالرجوع إلى جسم آخر ..
وتاريخنا مع الأرض يؤكد كلام أينشتين .. لقد ظللنا نعتقد قرونًا طويلة بأن الأرض ساكنة حتى اكتشفنا حركتها عن طريق رصد النجوم والكواكب حولها ..
ولو أن أرضنا كانت تدور وحدها في فضاء الكون لما أمكن على الإطلاق معرفة حركتها من سكونها .. لانعدام أي مرجع نقيس به ..
ولكان من المؤكد أننا سوف نظل جاهلين بحالنا .. وكان هناك استثناء واحد ..
أن تبطئ الأرض في حركتها فجأة .. أو تُسرِع فجأة .. أو تضطرب حركتها .. فندرك عن طريق تثاقل أجسامنا وقصورنا الذاتي أننا على جسم متحرك ..
شأننا شأن راكب الطائرة الذي يستطيع أن يكتشف حركتها دون حاجة إلى أن يطل من النافذة، أو يرجع إلى مرجع .. بمجرد أن تغير الطائرة من سرعتها أو اتجاهها أو ارتفاعها ..
ومثل راكب القطار الذي يجلس في مقصورة مغلقة .. جاهلًا بحركة قطاره حتى يبدأ القطار في التباطؤ أو ينحرف عن مسيره .. فيدرك أن قطاره يتحرك ..
وكان معنى هذا الإستثناء أن الحركة يمكن أن تكون مطلقة إذا كانت غير منتظمة ..
فهي في هذه الحالة يمكن إدراكها بالرجوع إلى ذاتها .. وبدون حاجة إلى مرجع خارجي ..
ولهذا وضع أينشتين نظريته الأولى " النسبية الخاصة " وقصرها على الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة ..
وقال فيها : " إن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة " .
ولكن هذا الشذوذ في القاعدة .. ظل يؤرق باله .. فهو لا يعتقد في كون معقّد وإنما يؤمن بكون بسيط .. ويرى أن البساطة أعمق من التعقيد، وأن تعدد القوانين وتناقضها في كون واحد يدل على عقل رياضي سطحي عاجز عن إدراك الحقيقة .
وبعد سنوات من التفكير والحساب وإعادة النظر .. قدم نظريته الجريئة في " النسبية العامة " التي أعلن فيها أن : " قوانين الكون واحدة لكل الأجسام بصرف النظر عن حالات حركتها " .
وبذلك عاد فأكد رفضه لكل ما هو مطلَق .. حتى هذا الإستثناء الواحد .. الحركة غير المنتظمة .. هي الأخرى أصبحت نسبية لا يمكن الجزم بها بدون مرجع خارجي ..
** ** **
ولتقريب هذا الإشكال الجديد إلى الذهن تخيل أينشتين أرجوحة مربوطة بحبال إلى عمود رأسي .. وأن هذه الأرجوحة تدور حول العمود كما تدور أراجيح الأطفال في المولد .. مع فارق واحد : أنها مغلقة تمامًا وأن الجالس بداخلها لا يرى ما يدور خارجها .. وأنها موجودة في الفضاء بعيدًا عن أي جاذبية ..
ماذا سوف يحدث لعدد من العلماء جالسين في تلك الأرجوحة ؟
إنهم سوف يلاحظون أن أجسامهم تتثاقل دائمًا نحو أرضية الأرجوحة، وأنه إذا ألقوا بأي شيء فإنه يسقط دائمًا نحو الأرضية .. وإذا انطلقت رصاصة لتخترق جدار الأرجوحة فإنها سوف تميل نحو أرضيتها على شكل قطع مكافئ .. وسوف يكون تعليلهم لهذه الظاهرة أن هناك قوى جاذبية في هذه الأرضية ..
وهم لن يفطنوا إلى أن الأرضية هي الجدار الخارجي لأرجوحتهم نظرًا لأن الحواس تقرن دائمًا أي تثاقل بأنه اتجاه إلى تحت ( وهو شبيه لما يحدث لنا على الأرض .. فنحن أثناء دوران الأرض تكون رءوسنا إلى أسفل وأقدامنا إلى أعلى .. ومع ذلك يخيل إلينا العكس .. أن أقدامنا إلى أسفل دائمًا نتيجة الإحساس بالتثاقل الناتج عن الجاذبية ) .
وهكذا .. سوف تكون جميع حسابات هؤلاء العلماء مؤكدة بأنهم خاضعون لقوى الجاذبية ..
ولكن من يلاحظ هذه الأرجوحة من الخارج سوف يُخَطّئ كل حساباتهم .. وسوف يرى أنهم خاضعون للقصور الذاتي المعروف بإسم " القوة الطاردة المركزية " .. وهي القوة التي تطرد الأجسام المتحركة في دائرة إلى خارج الدائرة ..
ومعنى هذا أن هناك إمكانية للخلط دائمًا بين الحركة الناتجة من الجاذبية والحركة الناتجة من القصور الذاتي .. وأنه لا يمكن التفرقة بين اثنين بدون مرجع خارجي .
فإذا عدنا إلى الإشكال الأول .. وهو إشكال الحركة غير المنتظمة وتخيلنا الأرض التي تسير وحدها في الفضاء .. وتخيلنا الإستثناء الذي ترتب عليه إدراكنا لهذه الحركة .. وهو أن تبطئ أو تسرع .. أو تضطرب في حركتها .. فإن هذا الإستثناء لا يكون دلالة على أن حركتنا مطلقة .. إذ أن الخلط مازال قائمًا ..
فمن المحتمل أن يكون ما حسبناه حركة أرضية ( نتيجة القصور الذاتي ) هو في الواقع اضطراب في مجال الجاذبية لنجم بعيد غير مرئي .. ( مثل ما يحدث في حركة مياه البحر من مدّ وجزر نتيجة التقلبات في مجال جاذبية القمر ) .
إن التمييز بين الحركة الناتجة عن القصور الذاتي، والحركة الناتجة عن الجاذبية .. مستحيل .. بدون مرجع نهائي .
وبذلك لا تكون هناك وسيلة إلى إدراك الحركة المطلقة حتى من خلال الحركة غير المنتظمة .
وبذلك تصبح نظرية أينشتين نظرية عامة شاملة لكل قوانين الكون .. لا نظرية خاصة بالأجسام ذات الحركة المنتظمة ..
** ** **
والبرهان الثاني يأخذه أينشتين من ظاهرة طبيعية معروفة .. هي سقوط الأجسام نحو الأرض بسرعة واحدة مهما اختلفت كتلاتها ..
كرة من الحديد تسقط نحو الأرض .. بنفس السرعة التي تسقط بها كرة من الخشب مماثلة لها في الحجم .. بنفس السرعة التي تسقط بها قنبلة مدفع ..
وإذا كانت قطعة من الورق تسقط نحو الأرض ببطء فالسبب أن مسطحها كبير ومقاومة الهواء لسقوطها كبير مما يؤدي إلى هذا البطء في سقوطها .. ولكن لو كورناها تمامًا فإنها سوف تسقط نحو الأرض بنفس السرعة التي تسقط بها كرة الحديد .
ولقد كانت هذه السرعة الواحدة التي تسقط بها جميع الأجسام مصدر مشكلة عويصة في الطبيعة ..
إذ أن هذه الظاهرة هي عكس الظاهرة المعروفة في حركة الأجسام الأفقية .. وتفاوت سرعتها تبعًا لكتلتها ..
فالقوة التي تدفع كرة صغيرة عدة أميال إلى الأمام .. لا تكاد تحرك عربة سكة حديد إلا عدة سنتيمترات .. نتيجة أن عربة السكة الحديد تقاوم الحركة بقصورها الذاتي الأكبر بكثير من قصور كرة صغيرة ذات كتلة صغيرة ..
وقد حل نيوتن هذا الإشكال بقانونه الذي قال فيه : إن قوة الجاذبية الواقعة على جسم تزداد كلما ازداد قصوره الذاتي ..
والنتيجة أن الأرض تشد الكرة الحديد بقوة أكبر من الكرة الخشب .. ولذلك تسقط الكرتان بسرعة واحدة .. لأنه ولو أن الكرة الحديد قصورها أكبر ومقاومتها للحركة أكبر إلا أن القوة التي تشدها أكبر ..
وهذا القانون الذي أعلنه نيوتن باسم " تكافؤ الجاذبية والقصور الذاتي " .. هو دليل آخر على إمكانية الخلط بين القوتين .
** ** **
إنتهت نظرية أينشتين الثانية المعروفة " بالنسبية العامة " إلى نفي معرفة كل ما هو مطلق .. وإلى اعتبار الكون خاضعًا لقوانين واحدة برغم اختلاف الحركة في داخله .. وإلى استحالة معرفة الحركة من السكون بدون مرجع خارج عن نطاق الحركة وعن نطاق هذا السكون ..
ولكن أينشتين فتح على نفسه بابًا خطيرًا من الشك ..
فهذا الخلط بين الجاذبية والقصور الذاتي .. فتح بابًا للتساؤل .. من أين نعلم إذًا أن ما نقيسه على الأرض هو ظواهر لقوة جاذبية .. لماذا لا تكون ظواهر قصورية .. !
إن وجود الجاذبية يصبح أمرًا مشكوكًا فيه من أساسه .. وعلى أينشتين أن يملأ هذه الفجوة الرهيبة التي فتحها .. عليه أن يواجه عملاقًا اسمه نيوتن و يرد عليه ..
والإشكال الثاني .. هو هذا التفكك الذي اعترى الحقيقة على يد النسبية .. فانفرطت إلى كلمات خاوية .. المكان، والزمان، والكتلة .. حتى الكتلة انفرطت هي الأخرى فأصبحت حركة .. مجرد خواء .
كيف يعود أينشتين فيبني من هذا الخواء كونًا مأهولًا معقولًا ملموسًا كالكون الذي نراه .. ؟!
وكيف يصبح لهذا الكون شكل .. وأعمدة الشكل .. وهي الصلابة المادية .. قد انهارت وتبخرت .. إلى طاقة وإشعاع غير منظور .. ؟!
إن أينشتين عمد إلى البساطة فانتهى إلى الغموض ..
وهدِفَ إلى الحقيقة فأخذ بيدها إلى هوة من الشكّ .
..
مقال .. الحركة المطلقة .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝