📘 ❞ النار المقدسة - وظائف الديني ❝ كتاب ــ ريجيس دوبريه اصدار 2018

الفكر والفلسفة - 📖 ❞ كتاب النار المقدسة - وظائف الديني ❝ ــ ريجيس دوبريه 📖

█ _ ريجيس دوبريه 2018 حصريا كتاب النار المقدسة وظائف الديني عن دار دال للنشر والتوزيع 2024 الديني: انهجس الفيلسوف الفرنسي منذ بداياته الأولى التأليف بالتنظير والتقعيد للوسائطيات باعتبارها دراسة لمختلف أشكال الوسائط التي يعتمدها البشر تعاملاتهم واتصالاتهم الحياتية وقد بذل ذلك جهدا جهيدا نصَّبه رائدَ هذا المبحث ومؤسسَه الرئيس بإجماع الباحثين واللافت الأمر أن لم يكتفِ بالتصدي للوسائطية العالم المنظور وحده بل جعلها تمتد لتشمل غير الآخر بكل عناصره ومقوماته كاشفا النقاب صلة الإنسان بالإلهي وتجلياتها الديانات التوحيدية كما غيرها من التدين والتعبد الأخرى معتبرا إياها جميعا ظواهر حاجة ماسة إلى تحليل “ميديولوجي” يفحص الأفكار الدينية والأسناد التقنية توظفها لبث رسائلها فضلا المؤسسات تُنَصِّب نفسها قَيِّمَة الشأن هكذا وبعد كتابه “الإله خط سير” وسّع مجال بحثه دافعا بمنهجه أقصى مداه ليتأتى له الكشف أساسيات المتدين الغرب مناطق أخرى بصرف النظر عما إذا كان يعبد إلها واحدا أو ألْفًا لا أحد وهو السِّفر يرصد تجليات وتبعات “النار المقدسة” كانت ولا تزال وستظل باقية بتقلباتها وتناقضاتها قلب المدينة ما بقي الوجود يقف بدقة مجمل الاختلافات القائمة بين الجانب ووظائفه والجانب الروحي وتجسداته فما الجدوى الأديان؟ وما عسانا نفعل بها؟ وكيف نفكر فيها؟ حجر الأرض إمتاع عابر للحقول بطل الجبل أول يستوقفنا هذه الأسئلة أنها تسائل الدين الأديان وهي مسألة يقصدها وينافح عنها لاقتناعه بأن وجه الإجمال وجود له؛ ويجب ألا نستخدم اللفظ الدال عليه إلا بصيغة الجمع وليس مردّ اعتقاده تشتت الظاهرة تجانس مكوناتها وصعوبة التعامل بنفس الكيفية مع ديانة سماوية وديانة ملحدة وغيرهما ضروب فحسب ولكن لأن مبرر هو تتميز بعضها بعض حياتها تميزها واختلافها توحدها يعتقد الحالمون ومع يحذرنا مغبة تقديم أجوبة عجلى أسئلة القبيل لأنها ببساطة نوع الملغومة تحمل معها إرثا تاريخيا مديدا يستوجب أخذ الوقت الكافي والتزام الهدوء والتريث معه يقتضي نفحص دونما غشاوة ودون أحكام مسبقة جاهزة الوظائف الحيوية والاجتماعية والنفسية نهضت بها زالت قلوبنا وأرواحنا عبر التاريخ وهذا بالفعل يقوم به هنا دون تعصب تبشير مستندا مستندات ووثائق وبنية حجاجية قوية أراد خلالها يُلفت انتباه المؤمنين “غير المؤمنين” أمر غريب مألوف لديهم بتعبير أخفّ يتمثل جعلهم يرون المقدسَ كطريق للوصول الدنيوي (المدنَّس) والمتخيَّل كبوابة للولوج الواقعي وتمكينهم بالتالي يفهموا غموض تفخيم الكلام الذي تعنيه بالتدقيق مفاهيم: الأخُوة والكراهية والحرب والهوية والوحدة والسلام وأن يدركوا كذلك مجبول الإيمان لأنه يضمن توازنا يُمَكِّنه عبور الحياة بشقاء أقل هشاشته النفسية تُخَوّله العيش قناعات معتقدات يُسنِد إليها رأسه ويشد عضده حتى ينهار نقطة رحلة العبور؛ فهو “لم يؤمن بالله حداثة سنه فإنه سيؤمن محالة بلينين بهتلر بالدلاي لاما بلاكان بالبروليتاريا ببُرْجه بالجمهورية بصهيون بماو تسي تونغ بالأمة بزيدان بنايكي بديزني”([1]) أحيانا كثيرة يجبره الاقتراب نهاية عمره القصير إسقاط قناعاته السابقة وتجديد إيمانه بالسماء إما خوفا عقاب ممكن طمعا ثواب محتمل تعلق خالص طريقة العشق الصوفي ربما نجانب الصواب قلنا إن تزايد اهتمام بالديني وبوظائفه العقود الأخيرة يرجع المقام الأول ارتفاع منسوب الحقد اللذين عبَّرت عنهما قولا فعلا الطوائف المتعصبة جانب تصاعد أعمال العنف والقتل اكتوى بنارها عددٌ يستهان ساكنة إطار عُرف بـ”انتقام الإله”([2]) الأعمال تم تصنيفها خانة “الأعمال الإرهابية” ينبغي نظر نربطها رأسا بما بات يعرف بالنزعة الإسلاموية([3]) ونجعل منها كبش فداء فقد خرجت خلال القرن الماضي حربان عالميتان داخل القارة الأكثر إيمانا بالإنجيل القارات الخمس ومع يحق لنا ندين المسيحية الإحصاءات تكشف الهند الإسلامية الهندوسية تعرف معدلا إجراميا يضاهي ارتفاعه نجده الولايات المتحدة اليهودية فهل نكون مخطئين حين نقحم السماء شؤوننا الأرضية؟ يبدو لأننا عندما نعود بالزمان الوراء ندرك الحرب أثينا روما أيضا ذات مَنزع ديني أنه ثبت يوما إله الجيوش قد صنع أسلحة أطلق نيرانا([4]) مما تضمنته كتب الأساطير فأن يُلقي رجال الرسالية الثلاث: والمسيحية والإسلام بمسؤولية جرائمهم فذلك اعتقاد ليس سوى واحد محاولتهم التملص العقاب وتبرئة أنفسهم أفعال ينسبونها الإله بغير حق لأنهم يعلمون علم اليقين لو أمكن “إخراج الصراعات الكبرى تلهب حاليا فإن جذوتها ستنطفئ لغياب الوقود ووقود النيران المستعرة يُعد برميل البارود إخماده…” ([5]) لكنْ أليس يطردوا الخطيئة صدورهم بدل يعزوها متعالٍ دخل يُنسب إليه مِن اتخاذه مِشجبا تُعَلَّق التُّهم أجل التنصل المسؤولية وإضفاء القداسة حروب مدنّسَة؟ ينظر تداخل الإلهي بالدموي باعتباره أمرا ضاربا القِدم وحتى اللاهوت المتعالي يمارس تهديدا بسياسته المطلقة فلا شيء يدفع المرء إدانة المطلق (=الإله) وتجريمه هم يشنون الآلهة وإذا تمكنت تغذية وهناك نشير بالأصابع دين مخصوص ونعتبره أضرمها مثلما الإلحاد يكن مرادفا للسلام ولْنجرؤ الاعتراف “الوحشية” بطبيعة ذاته بوصفه حيوانا مُحرَّفا مصابا بهذا المرض العضال يحمل إسما مُبهِجا الثقافة ([6]) فهل تعد هي السبب الوحشية أبداها مدار تاريخه؟ يطلعنا حاول فرويد يوضحه لعدد العلماء الذين كانوا مشدودين ضرب اليوتوبيا يقضي “الحرب موافِقة للطبيعة وأنها تستند بيولوجي ولذلك بالكاد يمكن تجنبها عمليا”([7]) يوضح لهم مفهوم الطبيعة التبس عليهم ولم يتمكنوا إدراك ماهيته الحقيقية؛ مدلولها العام تمثل بالنسبة البشرية نظره يمثله القتل لطقس القربان دفاعا النفس للقتل نعاينه هيئات مختلفة للكائن البشري لدوافع متباينة فأبناء جنسنا يتقاتلون فيما بينهم ليأكل بعضهم بعضا حاصل لدى الحيوانات تحركها غريزة البقاء والحياة محرك وإنما ثقافي صرف وهو يُصَعِّبُ “تفاديها عمليا” ([8]) بناء يرى العودة قاموس المفردات القديمة شأنها توقفنا تمييز غاية الأهمية كلمة حضارة – “بما يدل مجموعة الاستعدادات العامة الكونية القابلة للنقل” وكلمة ثقافة تعني أسلوبا خاصا يقبل النقل الجميع” “هي السمات المميزة السلوكات القيم تَسِمُ شعبا معينا” وبموجب التمييز يدخل “الثقافة” شأنه ينسف الحلم المُطَمْئِن بحضارة بلا ثقافات بحضارةٍ تحضنها ومثلما تتحطم سفينة الحب صخرة الواقع اليومي يتحطم الجميل وكما تتوحد الشعوب معادلاتها وأدواتها فهي تتفرق أذواقها وصلواتها؛ فتصير طرُقها الحساب وصنع الآلات العلم والتقنية قابلة للتبادل أما الأصوات تخرج أفواهها وأحلامها اللغة والتدين يحدث تتوافق([9]) معناها الإثنولوجي توجد حيث يرتسم حد معين والحد عزلة يخفى والعزلة تقديس للذات وإعلاء وربما انطوت قدر قليل كثير ازدراء مصير كل منعزل يكون مكروها ومعشوقا الآن وتلك طبيعة المقدس يتماهى خلفه قفًا اسمها ففي النهاية يتسبب شقاء نتيجة ثابتة ومحسومة مهما حاولنا تبريرها وتسويغها بالصورة تخدم مآربنا أحلامنا أوهامنا؛ فليست كائنات خارقة أضفت صفة الألوهية أبطال ميتين وألّهت الوطن وخلّدت الجنود قضوا القضية أُطلق عليها اسم (من ستالين…) وليست حقوق المُطلق للنسبيين بمنأى المساءلة ليست خيرا مطلقا يتوهم البعض فعلاوة تفلح أبدا الحيلولة قصف رياض الأطفال والعُزل والنساء والعجزة وغيرهم اتُّخذت مطية لانتهاك وباسم النزعة الإنسانية أُبيد ولهذا خيّرة بالفطرة سيئة بالمطلق؛ جميعها تمنح الفوائد لأعضائها الإجحاف تبدو قيمته متساوية بينها تقريبا الفكر والفلسفة مجاناً PDF اونلاين ترتيب أمور معلومة للتأدي مجهول ويُستخدم الدراسات المتعلقة بالعقل ويشير قدرة العقل تصحيح الاستنتاجات بشأن حقيقي واقعي وبشأن كيفية حل المشكلات ويمكن تقسيم النقاش المتعلق بالفكر مجالين واسعي النطاق وفي هذين المجالين استمر استخدام المصطلحين "الفكر" و"الذكاء" كمصطلحين مرتبطين ببعضهما الفلسفة (لغويا اليونانية φιλοσοφία‏ philosophia والتي حرفيًا "حب الحكمة") والأساسية والمعرفة والقيم والعقل والاستدلال واللغة غالبًا تطرح مثل كمسائل لدراستها حلها ربما صاغ مصطلح "فيلسوف (محب الحكمة)" وعالم الرياضيات فيثاغورس (570 495 قبل الميلاد) تشمل الأساليب الفلسفية الاستجواب والمناقشة النقدية والحجة المنطقية والعرض المنهجي وهذا ركن خاص بكتب مجانيه للتحميل

إنضم الآن وتصفح بدون إعلانات
النار المقدسة - وظائف الديني
كتاب

النار المقدسة - وظائف الديني

ــ ريجيس دوبريه

صدر 2018م عن دار دال للنشر والتوزيع
النار المقدسة - وظائف الديني
كتاب

النار المقدسة - وظائف الديني

ــ ريجيس دوبريه

صدر 2018م عن دار دال للنشر والتوزيع
عن كتاب النار المقدسة - وظائف الديني:
انهجس الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه منذ بداياته الأولى في التأليف، بالتنظير والتقعيد للوسائطيات، باعتبارها دراسة لمختلف أشكال الوسائط التي يعتمدها البشر في تعاملاتهم واتصالاتهم الحياتية، وقد بذل في ذلك جهدا جهيدا نصَّبه رائدَ هذا المبحث ومؤسسَه الرئيس بإجماع الباحثين. واللافت في الأمر أن دوبريه لم يكتفِ بالتصدي للوسائطية في العالم المنظور وحده بل جعلها تمتد لتشمل العالم غير المنظور، العالم الآخر بكل عناصره ومقوماته، كاشفا النقاب عن صلة الإنسان بالإلهي وتجلياتها في الديانات التوحيدية كما في غيرها من أشكال التدين والتعبد الأخرى، معتبرا إياها جميعا ظواهر في حاجة ماسة إلى تحليل “ميديولوجي”، يفحص الأفكار الدينية، والأسناد التقنية التي توظفها لبث رسائلها، فضلا عن المؤسسات التي تُنَصِّب نفسها قَيِّمَة على الشأن الديني.

هكذا وبعد كتابه “الإله. خط سير”، وسّع دوبريه مجال بحثه دافعا بمنهجه إلى أقصى مداه ليتأتى له الكشف عن أساسيات الإنسان المتدين في الغرب كما في مناطق أخرى، بصرف النظر عما إذا كان هذا الإنسان يعبد إلها واحدا، أو ألْفًا، أو لا أحد.

وهو في هذا السِّفر يرصد تجليات وتبعات “النار المقدسة” التي كانت ولا تزال وستظل باقية، بتقلباتها وتناقضاتها، في قلب المدينة ما بقي الإنسان في الوجود، كما يقف بدقة على مجمل الاختلافات القائمة بين الجانب الديني ووظائفه والجانب الروحي وتجسداته.

فما الجدوى من الأديان؟ وما عسانا نفعل بها؟ وكيف نفكر فيها؟

حجر الأرض إمتاع عابر للحقول

بطل الجبل

أول ما يستوقفنا في هذه الأسئلة أنها لا تسائل الدين بل الأديان، وهي مسألة يقصدها دوبريه وينافح عنها لاقتناعه بأن الدين على وجه الإجمال لا وجود له؛ ويجب ألا نستخدم اللفظ الدال عليه إلا بصيغة الجمع. وليس مردّ ذلك في اعتقاده إلى تشتت الظاهرة الدينية، ولا تجانس مكوناتها، وصعوبة التعامل بنفس الكيفية مع ديانة سماوية وديانة ملحدة وغيرهما من ضروب التدين الأخرى، فحسب، ولكن لأن مبرر وجود الأديان جميعا هو أن تتميز بعضها عن بعض، لأن حياتها في تميزها واختلافها لا في توحدها كما يعتقد الحالمون.

ومع ذلك، يحذرنا دوبريه من مغبة تقديم أجوبة عجلى على أسئلة من هذا القبيل، لأنها ببساطة من نوع الأسئلة الملغومة التي تحمل معها إرثا تاريخيا مديدا يستوجب أخذ الوقت الكافي والتزام الهدوء والتريث في التعامل معه. كما يقتضي أن نفحص، دونما غشاوة ودون أحكام مسبقة جاهزة، الوظائف الحيوية والاجتماعية والنفسية التي نهضت بها، وما زالت، قلوبنا وأرواحنا عبر التاريخ. وهذا بالفعل ما يقوم به دوبريه هنا، دون تعصب ولا تبشير، مستندا في ذلك إلى مستندات ووثائق وبنية حجاجية قوية، أراد من خلالها أن يُلفت انتباه المؤمنين كما “غير المؤمنين” إلى أمر غريب، أو غير مألوف لديهم، بتعبير أخفّ، يتمثل في جعلهم يرون المقدسَ كطريق للوصول إلى الدنيوي (المدنَّس)، والمتخيَّل كبوابة للولوج إلى الواقعي، وتمكينهم بالتالي من أن يفهموا دون غموض أو تفخيم في الكلام ما الذي تعنيه بالتدقيق مفاهيم: الأخُوة، والكراهية، والحرب، والهوية، والوحدة والسلام، وأن يدركوا كذلك أن الإنسان مجبول على الإيمان لأنه يضمن له توازنا يُمَكِّنه من عبور الحياة بشقاء أقل، وأن هشاشته النفسية لا تُخَوّله العيش دون قناعات أو معتقدات يُسنِد إليها رأسه ويشد بها عضده حتى لا ينهار في نقطة ما من رحلة العبور؛ فهو إذا “لم يؤمن بالله منذ حداثة سنه، فإنه سيؤمن لا محالة بلينين، أو بهتلر، أو بالدلاي لاما، أو بلاكان، أو بالبروليتاريا، أو ببُرْجه، أو بالجمهورية، أو بصهيون، أو بماو تسي تونغ، أو بالأمة، أو بزيدان، أو بنايكي أو بديزني”([1])، بل أحيانا كثيرة يجبره الاقتراب من خط نهاية عمره القصير على إسقاط قناعاته السابقة وتجديد إيمانه بالسماء إما خوفا من عقاب ممكن أو طمعا في ثواب محتمل أو عن تعلق خالص بالله على طريقة العشق الصوفي.

ربما لا نجانب الصواب إذا قلنا إن تزايد اهتمام الباحثين بالديني وبوظائفه في العقود الأخيرة يرجع في المقام الأول إلى ارتفاع منسوب الحقد والكراهية اللذين عبَّرت عنهما، قولا أو فعلا، بعض الطوائف الدينية المتعصبة، إلى جانب تصاعد أعمال العنف والقتل التي اكتوى بنارها عددٌ لا يستهان به من ساكنة العالم، في إطار ما عُرف بـ”انتقام الإله”([2]). على أن هذه الأعمال التي تم تصنيفها في خانة “الأعمال الإرهابية” لا ينبغي في نظر دوبريه أن نربطها رأسا بما بات يعرف بالنزعة الإسلاموية([3]) ونجعل منها كبش فداء، فقد خرجت، خلال القرن الماضي، حربان عالميتان من داخل القارة الأكثر إيمانا بالإنجيل بين القارات الخمس، ومع ذلك لا يحق لنا أن ندين المسيحية، لأن الإحصاءات تكشف أن الهند الإسلامية-الهندوسية تعرف معدلا إجراميا يضاهي في ارتفاعه ما نجده في الولايات المتحدة اليهودية-المسيحية. فهل نكون مخطئين حين نقحم السماء في شؤوننا الأرضية؟ لا يبدو الأمر كذلك، لأننا عندما نعود بالزمان إلى الوراء، ندرك أن الحرب في أثينا كما في روما كانت أيضا ذات مَنزع ديني، مع أنه ما ثبت يوما عبر التاريخ أن إله الجيوش قد صنع أسلحة أو أطلق نيرانا([4]) إلا ما كان مما تضمنته بعض كتب الأساطير. فأن يُلقي رجال الدين، في الديانات الرسالية الثلاث: اليهودية، والمسيحية، والإسلام، بمسؤولية جرائمهم على السماء، فذلك في اعتقاد دوبريه ليس له سوى مبرر واحد، هو محاولتهم التملص من العقاب وتبرئة أنفسهم من أفعال ينسبونها إلى الإله بغير وجه حق، لأنهم يعلمون علم اليقين أنه لو أمكن “إخراج الديانات من الصراعات الكبرى التي تلهب الأرض حاليا، فإن جذوتها ستنطفئ لا محالة لغياب الوقود. ووقود هذه النيران المستعرة هو الإله الذي يُعد برميل البارود الذي ينبغي إخماده…”.([5]) لكنْ أليس الصواب أن يطردوا الخطيئة من صدورهم، بدل أن يعزوها إلى متعالٍ لا دخل له في ما يُنسب إليه إلا ما كان مِن اتخاذه مِشجبا تُعَلَّق عليه التُّهم من أجل التنصل من المسؤولية وإضفاء القداسة على حروب مدنّسَة؟

ينظر دوبريه إلى تداخل الإلهي بالدموي باعتباره أمرا ضاربا في القِدم، وحتى لو كان اللاهوت المتعالي يمارس تهديدا بسياسته المطلقة، فلا شيء من ذلك يدفع المرء إلى إدانة المطلق (=الإله) وتجريمه، لأن البشر هم من يشنون حروب الآلهة. وإذا كانت الديانات التوحيدية قد تمكنت من تغذية النار المقدسة هنا وهناك، فإنه لا يحق لنا أن نشير بالأصابع إلى دين مخصوص ونعتبره هو من أضرمها، مثلما أن الإلحاد لم يكن يوما مرادفا للسلام. ولْنجرؤ على الاعتراف بأن “الوحشية” ذات صلة بطبيعة الإنسان ذاته بوصفه حيوانا مُحرَّفا، مصابا بهذا المرض العضال الذي يحمل إسما مُبهِجا هو الثقافة.([6])

فهل تعد الثقافة هي السبب في الوحشية التي أبداها الإنسان على مدار تاريخه؟

يطلعنا دوبريه على أن ذلك ما حاول فرويد أن يوضحه لعدد من العلماء الذين كانوا مشدودين إلى ضرب من اليوتوبيا يقضي بأن “الحرب موافِقة للطبيعة، وأنها تستند إلى ما هو بيولوجي في الإنسان ولذلك بالكاد يمكن تجنبها عمليا”([7]). وقد حاول فرويد أن يوضح لهم بأن مفهوم الطبيعة قد التبس عليهم ولم يتمكنوا من إدراك ماهيته الحقيقية؛ لأن الطبيعة في مدلولها العام لا تمثل بالنسبة للطبيعة البشرية، في نظره، إلا ما يمثله القتل بالنسبة لطقس القربان، أو ما يمثله القتل دفاعا عن النفس بالنسبة للقتل الذي نعاينه في هيئات مختلفة للكائن البشري لدوافع متباينة. فأبناء جنسنا لا يتقاتلون فيما بينهم ليأكل بعضهم بعضا، مثلما هو حاصل لدى الحيوانات التي تحركها غريزة البقاء، ولذلك لا دخل للطبيعة والحياة في حروب البشر، ولا يبدو أن محرك الحرب بيولوجي وإنما ثقافي صرف، وهو ما يُصَعِّبُ من أمر “تفاديها عمليا”.([8])

بناء على ذلك، يرى دوبريه أن العودة إلى قاموس المفردات القديمة من شأنها أن توقفنا على تمييز في غاية الأهمية، بين كلمة حضارة – “بما هي مفهوم يدل على مجموعة من الاستعدادات العامة الكونية القابلة للنقل”- وكلمة ثقافة – التي تعني أسلوبا خاصا في الحياة لا يقبل النقل إلى الجميع”، أو “هي مجموعة من السمات المميزة، أو السلوكات أو القيم التي تَسِمُ شعبا معينا” – وبموجب هذا التمييز فإن الديني يدخل في خانة “الثقافة”، وهذا من شأنه أن ينسف الحلم المُطَمْئِن بحضارة بلا ثقافات، أو بحضارةٍ تحضنها جميعا. ومثلما تتحطم سفينة الحب على صخرة الواقع اليومي، يتحطم هذا الحلم الجميل على صخرة الأديان. وكما تتوحد الشعوب في معادلاتها وأدواتها، فهي تتفرق في أذواقها وصلواتها؛ فتصير طرُقها في الحساب وصنع الآلات – العلم والتقنية – قابلة للتبادل، أما الأصوات التي تخرج من أفواهها وأحلامها – اللغة والتدين- فلا يحدث أن تتوافق([9])، لأن الثقافة، في معناها الإثنولوجي، لا توجد إلا حيث يرتسم حد معين، والحد عزلة كما لا يخفى، والعزلة تقديس للذات وإعلاء من شأنها، وربما انطوت على قدر قليل أو كثير من ازدراء الآخر، ولذلك كان مصير كل منعزل أن يكون مكروها ومعشوقا في الآن ذاته، وتلك أيضا طبيعة المقدس الذي يتماهى مع الثقافة بما هي وجه يحمل خلفه قفًا اسمها الوحشية. ففي النهاية لم يتسبب في شقاء الإنسان سوى الإنسان، وتلك نتيجة ثابتة ومحسومة مهما حاولنا تبريرها وتسويغها بالصورة التي تخدم مآربنا أو أحلامنا أو أوهامنا؛ فليست كائنات خارقة للطبيعة هي من أضفت صفة الألوهية على أبطال ميتين، وألّهت الوطن، وخلّدت الجنود الذين قضوا دفاعا عن القضية التي أُطلق عليها هنا وهناك اسم “الحرب المقدسة” (من أجل الوطن، من أجل ستالين…)، وليست حقوق الإنسان، التي تمثل المُطلق بالنسبة للنسبيين، بمنأى عن المساءلة مثلما أنها ليست خيرا مطلقا كما يتوهم البعض، فعلاوة على أنها لم تفلح أبدا في الحيلولة دون قصف رياض الأطفال والعُزل والنساء والعجزة وغيرهم، فقد اتُّخذت مطية لانتهاك حقوق الإنسان، وباسم النزعة الإنسانية أُبيد الإنسان. ولهذا ما من ديانة خيّرة بالفطرة، أو سيئة بالمطلق؛ جميعها تمنح بعض الفوائد لأعضائها مع بعض الإجحاف الذي تبدو قيمته متساوية بينها تقريبا.
الترتيب:

#4K

0 مشاهدة هذا اليوم

#26K

15 مشاهدة هذا الشهر

#111K

501 إجمالي المشاهدات
مترجم الى: .
المتجر أماكن الشراء
ريجيس دوبريه ✍️ المؤلف
مناقشات ومراجعات
دار دال للنشر والتوزيع 🏛 الناشر
QR Code
أماكن الشراء: عفواً ، لا يوجد روابط مُسجّلة حاليا لشراء الكتاب من المتاجر الإلكترونية
نتيجة البحث