█ _ مصطفى محمود 1961 حصريا كتاب آينشتين والنسبية عن دار المعارف 2024 والنسبية: من فكر وثقافة هذا الكتاب رحلة علمية خصبة يحوي طياته الكثير المفاتيج الهامة لبعض الالغاز التي نحاول جاهدين الي اداركها ,رحلة عملية مثيرة تصحب قارئ ذلك تصنع خياله مادة للتفكير المنطقي وفى هذا يأخذك " مصفى محمود" قصيرة وأقرب ما تكون لعقلك وقلبك وروحك إلى حيث بدأ آينشتاين رحتله مع النسبية يتدرج بها نسبية المكان الزمان الكتلة والمجال ممتعة تلك الرحلة حتى أنها تكاد تخلو الأرقام يحكيها بجمال ستعجب منه! كيف استطاع أن يقرب كل هذه المعاني العلمية الكبيرة ويحاور قلبك قبل ذهنك يجعلك تتأمل عظمة الكون أكثر وفي مدى قصور العلم مهما بلغ ومهما حاول يفهم القدرات الإلهية نكاد نجهل ماهيتها تماما النهاية يقول كان يدرك تواضع عاجز رؤية البداية والنهاية قاصر فهم ماهية أي شيء يستطيعه هو يقيس كميات ويتعرف العلاقات تربط الكميات ويكشف القوانين تجمعها معاً شمل واحد" وحاول دكتور رحمه الله باسلوبه المعروف بالسهولة والمنطقية الشديدة النظرية لاينشتين بحيث تناسب وادراك عامة الناس اعتراض شديد منه قصر المعلومات عدد قليل العلماء بحجة التعمق والتخصص قد يؤدي عزلة مؤيدا كتابه دعا اليه اينشتين نفسه نشر بين فقد يكره الكهانة والتلفع بالغموض والادعاء والتعاظم وكان الحقيقة بسيطة وقد نجح اديب الفلاسفة حد كبير شرحها كالعادة خلال الكتاب إقتباسات : كل نراه ونتصوره خيالات مترجمة لا وجود لها الاصل مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صوّرها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة رؤيتنا العاجزة ترى الجدران صمّاء وهي ليست بل هي مخلخلة أقصى درجات التخلخل! ولكن حواسنا تسمح لنا برؤية العالم الذي ليس حقيقياً إنما عالم اصطلاحي بحت نعيش به معتقلين الرموز يختلقها عقلنا ليدلنا الأشياء غير المعروفة خضرة الحقول زرقة السماء وكل الألوان المبهجة أصلاً الأشياء! تفسيرات وترجمته لموجات الضوء حوله لا سبيل لمعرفة المطلق لأي أحسن الأحوال نقدّر موضعه نسبةً كذا وكذا يستحيل لأن "كذا وكذا" حالة حركة أيضاً! هناك استثناء واحد ندرك فيه الحركة المطلقة: اللحظة تفقد انتظامها فتتسارع تتباطأ القطار نركبه بالفعل متحرك! يتضاعف حولنا لعشرات وملايين الأضعاف لكننا لن نشعر بذلك النسب الحجمية تظل محفوظة ولأن نسبة للحركة بجوارها ثابتة المراجع وثقافة مجاناً PDF اونلاين الثقافة تعني صقل النفس والمنطق والفطانة المثقف يقوم بتعلم أمور جديدة كما حال القلم عندما يتم بريه هذا القسم يشمل العديدة الكتب المتميزة الفكر والثقافة تتعدّد ترمي إليها اللغة العربية فهي ترجِع أصلها الفعل الثلاثي ثقُفَ يعني الذكاء والفطنة وسرعة التعلم والحذق والتهذيب وتسوية الشيء وإقامة اعوجاجه والعلم والفنون والتعليم والمعارف
❞ والنتيجة هي مفاجأة أكثر إدهاشًا من كل المفاجآت السابقة ..
الكتلة مرادفة للوزن في لغة الكلام العادي .. والذين يذكرون بعض المعلومات التي أخذوها في كتب الطبيعة يعلمون أن للكتلة تعريفًا مختلفًا ..
فهي : خاصية مقاومة الحركة .. هكذا يسميها الفقهاء .
وقد تعلمنا من هؤلاء الفقهاء أن الكتلة كمٌ ثابت .. وأنها لا تتأثر بحركة الجسم أو بسكونه .. فهي صفة جوهرية فيه .
ولكن أينشتين الذي قلب وجه الفقه الطبيعي أثبت أن الكتلة نسبية مثل الزمان والمكان .. وأنها مقدار متغير، وأنها تتغير بحركة الجسم .
كلما ازدادت سرعة الجسم كلما ازدادت كتلته ..
ولا تبدو هذه الفروق في السرع الصغيرة المألوفة حولنا ولهذا تفوتنا فلا نلاحظها .. ولكنها في السرَع العالية التي تقترب من سرعة الضوء تصبح فروقاً هائلة .. حتى إذا بلغت سرعة الجسم مثل سرعة الضوء فإن كتلته تصبح لا نهائية .. وبالتالي تصبح مقاومته للحركة لا نهائية وبالتالي يتوقف .
وهذه فرضية مستحيلة طبعًا .. لأنه لا يوجد جسم يمكنه أن يتحرك بسرعة الضوء ..
واستطاع أينشتين أن يقدم المعادلة الدقيقة التي تبين العلاقة بين كتلة الجسم وسرعته ..
لينك المعادلة :
http://im35.gulfup.com/MlRL9.jpg
حيث أن ك1 هي كتلة الجسم وهو متحرك ، ك كتلته وهو ساكن ، ع سرعته ، ص سرعة الضوء .
والذين يذكرون أوليات علم الجبر يعلمون أن ع حينما تكون مقاديرها صغيرة لا تؤثر بكثير في المعادلة .. ولكن حينما تقترب ع من سرعة الضوء فإن النتيجة تتضخم بشكل هائل وتصبح قيمة الجذر التربيعي أقرب إلى الصفر .. وتصبح الكتلة الجديدة هي ك مقسومة على صفر .. أي لا نهاية ..
ولم تلبث المعامل أن قدمت لنا التجربة الملموسة التي تثبت صدق هذه المعادلة .. وبهذا خرجت بها من حيز الافتراضات الجبرية إلى حيز الحقائق العلمية المعترف بها ..
أثبتت التجارب أن القذائف المشعة التي تطلقها مادة الراديوم واليورانيوم ( وهي دقائق مادية متناهية في الصِغَر تنطلق بسرعة قريبة من سرعة الضوء ) تزداد كتلتها بما يتفق مع حسابات أينشتين ..
وخطا أينشتين خطوة أخرى في تفكيره النظري قائلًا :
إنه مادام الجسم يكتسب مزيدًا من الكتلة حينما يكتسب مزيدًا من الحركة .. وبما أن الحركة شكل من أشكال الطاقة .. فإن معنى هذا أن الجسم حينما يكتسب طاقة يكتسب في نفس الوقت كتلة ..
أي أن الطاقة يمكن أن تتحول إلى كتلة، والكتلة يمكن أن تتحول إلى طاقة .
وما لبث أن قدم المعادلة التاريخية لهذه العلاقة بين الطاقة والكتلة .. وهي المعادلة التي صُنِعت القنبلة الذرية على أساسها :
طـ = ك X ص2 .
أو أن الطاقة المتحصلة من كتلة معينة تساوي حاصل ضرب هذه الكتلة بالجرام في مربع سرعة الضوء بالسنتيمتر/ ثانية ..
ويلاحَظ هنا أن الطاقة الناتجة من تفجير جرام واحد كمية هائلة جدًا .. وأنها يمكن أن تحرق مدينة .. أو تزوِّد مديرية كاملة بالوقود لمدة سنة .
فإذا أردنا أن نحسب كمية الكتلة المتحصلة من تركيز كمية الطاقة، فإن المعادلة تكون أن .. الكتلة تساوي الطاقة مقسومة على سرعة الضوء بالسنتيمتر ثانية .. أي مقدار ضئيل جدًا ..
والمعادلة تفسر لنا السر في أزلية هذا الكون وقِدَمه ..
السر أن هذا العدد الهائل من النجوم مضت عليه آماد طويلة من بلايين السنين وهو يشع نورًا وطاقة وحرارة .. ولم تبد عليه مخايل الفناء بعد ..
والسر هو أن النجوم تحترق بطريقة أخرى غير احتراق السجاير .. والكبريت .. فالكبريت يشتعل بطريقة كيميائية .. والنار التي تخرج منه هي حرارة اتحاد عناصر بعضها ببعض .. هي حرارة إتحاد الكبريت بالأوكسجين لينتج ثاني أكسيد الكربون ..
الكبريت لا يفنَى وإنما يتحول إلى مركبات أخرى .. هي الدخان .
أما احتراق الشمس والنجوم فإنه احتراق فَناء ..
ذرات الشمس والنجوم تتحطم وتتدفق شعاعًا في كل أقطار الكون، وهذا النوع من الاحتراق النووي بطيء جدًا .. لأن قليلًا جدً جدًا من المادة يملأ الفضاء بالكثير جدًا جدًا من الطاقة ..
فالنجوم تخسر قليلًا جدًا من مادتها كل يوم .. وهذا سر عمرها الطويل الأزلي، ولو كانت الشمس تحترق بالطريقة التي تحترق بها السجائر وعيدان الكبريت لانطفأت في لحظة ولتحولت الأرض إلى صقيع وانقرض ما عليها من صنوف الحياة .
ولقد كان انفجار قنبلة هيروشيما ، واختراع القنبلة الهيدروجينية بعد ذلك ، ثم قنبلة النيوترون بداية فتح رهيب في عالَم الطاقة .
لقد سلَّم أينشتين مفاتيح جهنم للعلماء .. وللساسة المخبولين .. وللمجانين من هواة الحروب .. بهذه المعادلة البسيطة ..
وأصبح ممكنًا بالحساب والأرقام معرفة كمية المادة اللازمة لنسف دولة وإفناء شعب .. وهي في العادة قليل من جرامات اليورانيوم والماء الثقيل والكوبالت .. أقل مما يملأ قبضة اليد ..
وانفتح في نفس الوقت باب لبحوث الفضاء .. وأصبح السفر في صواريخ هائلة تنطلق بسرعة خارقة وتخرج من جاذبية الأرض ممكنًا .. نتيجة اختراع صنوف جديدة من الوقود الذرّي .
لكن أهم من هذه التطبيقات العملية .. كانت هناك نتيجة نظرية خطيرة ترتبت على هذه الخطوة ..
أن الحاجز بين المادة والطاقة قد سقط نهائيًا .. وأصبحت المادة هي الطاقة ، والطاقة هي المادة .
لا فرق بين الصوت والضوء والحرارة والحركة والمغنطيسية والكهرباء .. وبين المادة الخاملة التي لا يخرج منها صوت ولا تندّ عنها حركة .
فالمادة هي كل هذه الظواهر مختزنة مركَّزة .
المادة هي الحركة مضغوطة محبوسة .
هي قمقم سليمان فيه عفريت .
وأينشتين هو الذي أطلق تعزيمة الرموز والطلاسم الجبرية فانفتح القمقم وخرج العفريت .
المادة ليست مادة ..
إنها حركة ..
ما الفرق بين أن نقول ذلك ، وبين أن نقول إنها روح .. ؟!
الروح تعبير صوفي نقصد به الفعالية الخالصة التي بلا جسد ..
والمادة اتضح أنها فعالية خالصة ( حركة ) وأن جسمها الملموس وَهم من أوهام الحواس ..
الألفاظ تختلط ببعضها .. وكل شيء جائز .
ومنذ اللحظة التي حطم فيها أينشتين السدّ الوهميّ بين المادة والطاقة ، انهار كل يقين حسي ملموس .. وتحولت الدنيا إلى خواء مشحون بطاقة غير مرئية .. مثل الجن والعفاريت ..
مرة يسميها العِلم موجات مغناطيسية كهربائية .. ومرة يسميها أشعة كونية .. ومرة يسميها أشعة إكس .. ومرة يسميها جزيئات بيتا .. ومرة يسميها أشعة جاما ..
وأغلبها أشياء تقتل في الظلام دون أن تدركها الحواس .. وهذه الأشياء هي نفسها المادة الساذجة الخاملة التي نتداولها بين أيدينا كل يوم ..
وسط هذا التشويش والغموض وَجَدت بعض المعضلات العلمية تفسيرها .. المشكلة التي أثارها ماكس بلانك : هل طبيعة الضوء ذرية .. أو موجية .. ؟!
مثل هذا الازدواج أصبح طبيعيًا .. فالضوء مادة وفي نفس الوقت طاقة .. ولابد أن يحمل أثر هذه الطبيعة المزدوجة .. وهي ازدواج وليس تناقضًا ..
لأن الذرة ليست شكلًا ثابتًا وحيدًا للمادة .. وإنما هي في ذات الوقت يمكن أن تتبعثر أمواجًا ..
مقال / الكتلة
من كتاب / اينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ “إننا نكون أشبه بالأعمى الذى يمسك بقطعة من الثلج ليتحسن شكلها ومقاييسها .. وهى في اللحظة التى يتحسسها تذوب مقاييسها بين يديه, فيفقد الشئ الذى يبحث عنه بنفس العمليه التي يبحث بها عنه .
وهكذا تتعطل القوانين حينما تصل إلى منتهى أجزاء ذلك الكون الكبير وتتوقف عند أصغر وحدة في وحداته .. فلا تعود سارية ولا تعود صالحة للتطبيق .” . ❝
❞ هل الضوء أمواج ؟
هل الضوء ذرّات ؟
كانت المعركة محتدمة بين العلماء الذين يقولون بأن للضوء طبيعة موجية .. وبين العلماء الذين يقولون بأن طبيعته مادية ذرية ..
حينما تقدم عالَم نمساوي إسمه شرودنجر بمجموعة من المعادلات .. ليعلن نظرية اسمها "الميكانيكا الموجية" .
وفي هذه النظرية أثبت شرودنجر بالتجربة أن حزمة من الإلكترونات ساقطة على سطح بللورة معدنية تحيد بنفس الطريقة التي تحيد بها أمواج البحر التي تدخل من مضيق .. واستطاع أن يحسب طول موجة الإلكترونات التي تحيد بهذه الطريقة ..
وأعقبت هذه المفاجأة مفاجآت أخرى ..
فقد أثبتت التجارب التي أجريت على حِزَم من الذرّات، ثم على حِزَم من الجزيئات .. أنها بإسقاطها على بللورة معدنية تتصرف بنفس الطريقة الموجية وأن طول موجاتها يمكن حسابه بمعادلات شرودنجر ..
وبهذا بدأ صرح النظرية المادية كله ينهار .
إن الهيكل كله يسقط، ويتحول إلى خواء .
إن كُهّان العلوم دأبوا من سنين على أن يعلمونا أن الذرة عبارة عن معمار مادي يتألف من نواة ( بروتون أو أكثر ) تدور حولها الإلكترونات في أفلاك دائرية كما تدور الكواكب حول الشمس ..
وأكثر من هذا .. حسبوا عدد الإلكترونات في كل ذرة وقالوا لنا إنها إلكترون واحد في ذرة الأيدروجين ثم تزيد في العناصر الثقيلة حتى تبلغ 92 إلكترون في ذرة اليورانيوم، وأن كل ذرة لها وزن ذري .. وأثبتوا كل هذا بالمعادلات ..
فماذا يقولون في هذا الذي يهدم لهم صرح الهيكل ليقول إنه لا يحتوي على شيء له كيان مادي أو حيِّز، وإنما كل ما هناك .. طاقة متموجة، وأكثر من هذا يقدم لهم الإثبات بالمعادلات، والتجارب ..
وكانت بلبَلة علمية لا حـد لها .
كيف يمكن أن يقوم البرهان على شيئين متناقضين ! .. وهل يمكن أن يكون للشيء طبيعة متناقضة .. ؟!
كيف يمكن أن تكون للمادة صفات موجية، وللضوء صفات مادية .. ؟!
وتقدم عالِم ألماني هو " هايزنبرج " وبرفقته عالِم آخر هو " بورن " ليقول أنه من الممكن تخطي هذه الفجوة، وأنه لا توجد مشكلة .. وقدم مجموعة من المعادلات يمكن عن طريقها حساب الضوء على أنه أمواج أو على أنه ذرّات، ولمن يريد أن يختار الإفتراض الذي يعجبه .. وسيجد أن المعادلات تصلح للغرضين في وقت واحد ..
كيف يمكن أن تكون الحقيقة متناقضة .. ؟!
العلماء يسألون ..
وهايزنبرج يرد ببساطة .. الحقيقة المطلَقة لا سبيل إلى إدراكها .
العلم لا يستطيع أن يعرف حقيقة أي شيء .. إنه يعرف كيف يتصرف ذلك الشيء في ظروف معينة، ويستطيع أن يكشف علاقاته مع غيره من الأشياء ويحسبها .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف ما هو . !
لا سبيل أمام العلم لإدراك المطلق .
العلم يدرِك كميات، ولكنه لا يدرِك ماهيات ..
العلم لا يمكنه أن يعرف ما هو الضوء .. ولا ما هو الإلكترون ..
وحينما يقول إن الأشعة الضوئية هي موجات كهربية مغناطيسية أو فوتونات .. فإنه يحيل الألغاز إلى ألغاز أخرى .. فما هي الموجات الكهربائية المغناطيسية ؟ حركة في الأثير ؟ .. وما الحركة ؟ .. وما الأثير ؟ ..
وما الفوتونات ؟ .. حِزَم من الطاقة ؟ .. وما الطاقة ؟ ..
العلم لا يمكن أن يعرف ماهية أي شيء .. إنه يستطيع أن يعرف سلوك الشيء وعلاقاته بالأشياء الأخرى والكيفيات التي يوجد بها في الظروف المختلفة .. ولكنه لا يستطيع أن يعرف حقيقته .
وحينما يكتشف العلم أن الضوء في إحدى التجارب يتصرَف بطريقة مَوْجية، وفي تجربة أخرى يتصرف بطريقة مادية ذرية، فلا تناقض هناك .. لأن ما اكتشفه العلم هو مسلَك الضوء، والكيفيات التي ينطلق بها في الظروف المختلفة .. لا حقيقة الضوء .. ويمكن أن تكون للضوء طبيعة مزدوجة .
والصفة الثانية للعلم ..
أن أحكامه كلها إحصائية وتقريبية .. لأنه لا يُجري تجاربه على حالات مفردة .. لا يمسك ذرة مفردة ليجري عليها تجاربه .. ولا يقبض على إلكترون واحد ليلاحظه .. ولا يمسك فوتونًا واحدًا ليفحصه ويتفرج عليه ..
وإنما يجري تجاربه على مجموعات .. على شعاع ضوء مثلًا ( والشعاع يحتوي على بلايين بلايين الفوتونات ) ..
أو جرام من مادة .. والجرام يحتوي على بلايين بلايين الذرات .. وتكون النتيجة أن الحسابات كلها حسابات إحصائية تقوم على الإحتمالات .. وعلى الصواب التقريبي .
والقوانين العلمية أشبه بالإحصائيات التي يمسح بها الباحثون الاجتماعيون المجتمع لتقرير أسباب الانتحار .. أو أسباب الطلاق .. أو علاقة السرطان بالتدخين .. أو الخمر بالجنون ..
وكل النتائج تكون في هذه الحالة نتائج إحتمالية وإحصائية لأنها جميعها متوسطات حسابية عن أعداد كبيرة .
أما إذا حاول العلم أن يجري تجاربه على وِحدة أساسية .. كأن يدرس ذرّة بعينها أو يلاحظ إلكترونًا واحدًا بالذات .. فإنه لا يمكنه أن يخرج بنتيجة أو معرفة .. لأنه يصطدم باستحالة نهائية .
ولكي يثبت هايزنبرج هذه الإستحالة تخيل أن عالِمًا يحاول أن يشاهد الإلكترون .. فعليه أولًا أن يستخدم ميكروسكوبًا يكبر مائة مليون مرة .. وعلى افتراض أنه حصل على هذا الميكروسكوب، فإن هناك صعوبة أخرى .. وهي أن الإلكترون أصغر من موجة الضوء .. فعليه أن يختار موجة قصيرة مثل أشعة إكس ..
ولكن أشعة إكس لا تصلح للرؤية .. إذاً عليه أن يستخدم أشعة الراديوم .
وبافتراض أنه حصل على هذه الأشياء .. فإنه في اللحظة التي يضع فيها عينيه على الميكروسكوب ويطلق فوتونًا ضوئيًا ليرى به الإلكترون .. فإن الفوتون سوف يضرب الإلكترون كما تضرب العصا كرة البلياردو ويزيحه من مكانه مغيرًا سرعته ..
لأن الفوتون عبارة عن شحنة من الطاقة ..
فهو في محاولته لتسجيل وضع الإلكترون وسرعته .. لن يصل إلى أي نتيجة ..
إذ في اللحظة التي يحاول فيها تسجيل سرعته يتغير مكانه .. لأن إطلاق الضوء عليه لرؤيته ينقله من مكانه ويغير سرعته .
إن عملية الملاحظة التي يقوم بها تغير من النتيجة المطلوبة ..
إنه يحاول أن يرى طبيعة الإلكترون ليسجلها .. ولكن عملية الرؤية تُغير أول ما تُغير تلك الطبيعة التي يجري وراء تسجيلها ..
فهو ينقل الإلكترون من مكانه في اللحظة التي يحاول فيها أن يسجل مكانه .
وهكذا يكون التعامل مع الوحدات الأساسية للطبيعة مستحيل .. فحينما نصل إلى عالَم الذرة الصغير يستحيل علينا التحديد .. وفي نفس الوقت يتعطل قانون السببية ..
فلا يصبح ساريًا .. لأن عملية الملاحظة تتدخل بين السبب والنتيجة وتكسر حلقة السببيية من منتصفها .. وتدخل هي بذاتها كسبب يغير من النتيجة بشكل يجعل من المستحيل معرفتها أو حسابها ..
إننا نكون أشبه بالأعمى الذي يمسك بقطعة مربعة من الثلج ليتحسس شكلها ومقياسها .. وهي في اللحظة التي يتحسسها تذوب مقاييسها بين يديه .. فيفقد الشيء الذي يبحث عنه بنفس العملية التي يبحث بها عنه .
وهكذا تتعطل القوانين حينما تصل إلى منتهى أجزاء ذلك الكون الكبير .. وتتوقف عند أصغر وحدة في وحداته .. فلا تعود سارية ولا تعود صالحة للتطبيق .
وبالمثل هي تتعطل أحيانًا حينما نحاول أن نطبقها على الكون بأسره ككل .. فقانون السببية أيضًا لا يعود ساريًا بالنسبة للكون ككل .. إذ أن اعتبار الكون صادرًا عن سبب، واعتباره خاضعًا للسببية يجعل منه جزءًا صادرًا عن جزء آخر ويتناقض مع كليته وشموله ..
القوانين تصطدم مع الحدّ الأكبر ومع الحدّ الأصغر للكون ولا تعود سارية ..
والعقل يصطدم بالإستحالة حينما يحاول أن يبحث في المبدأ وفي المنتهى .. لأنه لم يُجهَز بالوسائل التي يقتحم بها هذه الحدود ..
بهذا البحث الفلسفي الرياضي .. إستطاع هايزنبرج أن يفسر الطبيعة المزدوجة للضوء، ووضع المعادلات التي تصلح لتفسير الضوء على الأساس المادي وعلى الأساس الموجي في نفس الوقت، واعتبر القوانين في هذا المجال قوانين احتمالية إحصائية .. تعبِّر عن سلوك مجاميع هائلة من بلايين بلايين الفوتونات ..
أما الفوتون نفسه .. فشيء لا يمكن تحديده .
وهل يمكن تحديد نقطة في ريح عاصفة في الظلام .. وهل يمكنك أن تقول إن هذه النقطة تشغل هذا المكان بالذات .. ؟!
كل ما يمكن للعلم أن يدركه هو "الكميات" و "الكيفيات" .. ولكن لا سبيل إلى إدراك الماهيات .
** ** **
لكن أينشتين كانت له وجهة نظر أخرى ..
كان يرى في العالَم وحدة منسجمة ..
كان يرى العالَم الكبير بشموسه وأفلاكه، والعالم الصغير بذرّاته وإلكتروناته خاضعًا كله لقانون واحد بسيط ..
وكان يرى أن العقل في إمكانه أن يكتشف هذا القانون .. وكان يبحث جاهدًا عنه ..
وفي سنة 1929 أعلن عن نظرية "المجال الموحَد" .. ثم عاد بعد ذلك ورفضها واستبعدها .. وعاود البحث من جديد .
مقال / مبدأ الشـــك .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝
❞ إننا لا نرى الأشياء مشوهة عن أصلها فقط و إنما لا نراها إطلاقا و أحيانا ما نراه يكون لا وجود له بالمرة و على العكس نرى أشياء لا وجود لها . ❝
❞ هل نحن نرى الدنيا على حقيقتها ؟
هل هذه السماء زرقاء فعلًا .. وهل الحقول خضراء .. وهل الرمال صفراء ؟
وهل العسل حلو .. والعلقَم مُر ؟
هل الماء سائل .. والجليد صلب ؟
وهل الخشب مادة جامدة كما تقول لنا حواسّنا ؟
وهل حجارة الأرض مادة موات، لا حركة فيها ولا دبيب ؟
وهل الزجاج شفاف كما يبدو لنا .. والجدران صمّاء كما نراها ؟
وهل الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين كما تقول لنا الهندسة التقليدية التي تعلمناها .. وهل مجموع زوايا المثلث تساوي 2 ق ؟
وهل أحداث الكون كلها ممتدة في زمن واحد .. بحيث يمكن أن تتواقت بعضها مع بعض في آن واحد في أماكن متفرقة .. كما يتواقت خروج الموظفين مثلًا من مختلف الوزارات في ذات الوقت والساعة .. فنقارن أحداثًا تجري في الأرض مع أحداث تجري في المريخ .. والزهرة وسديم الجبار .. ونقول إنها حدثت في وقت واحد .. أو أن أحدها كان قبل الآخر ..
وهل يمكننا أن نقطع في يقين أن جسمًا ما من الأجسام يتحرك وأن جسمًا آخر لا يتحرك ؟
♦♦ كل هذه الأسئلة التي يُخيّل لك أنك تستطيع الإجابة عنها في بساطة، والتي كان العلماء يظنون أنهم قد انتهوا منها من زمن .. قد تحولت الآن إلى ألغاز ..
لقد انهار اليقين العلمي القديم ..
والمطرقة التي حطمت هذا اليقين، وكشفت لنا عن أنه كان يقينا ساذجا، هي عقل أينشتين الجبار ..
ونظريته التي غيرت الصورة الموضوعة للعالم .. نظرية النسبية .
*********
والنظرية النسبية قد عاشت سنوات منذ بداية وضعها في سنة 1905 إلى الآن في برج عاجي لا يقربها إلا المختصون ..
وكان القارئ العادي يسمع عنها في خوف كما يسمع عن الكِهانات الغامضة والطقوس الماسونية .. ولا يجرؤ على الخوض فيها ..
ومن المأثور عن الدكتور "مشرفة" أنه كان يقول دائما إن هذه النظرية " النظرية النسبية " لا يفهمها في العالم كله إلا عشرة ..
ولكن النظرية النسبية ترتبت عليها القنبلة الذرية ..
إنها لم تعد نظرية .. وإنما تحولت إلى تطبيقات خطيرة تمس كيان كل فرد وتؤثر في مصيره .
لقد خرجت من حيز الفروض والمعادلات الرياضية لتتحول إلى واقع رهيب ..
وأصبح من حق كل فرد أن يعرف عنها شيئا .
ولقد تعددت المحاولات من العلماء لتبسيطها وتقريبها إلى الفهم .. من ادنجتون إلى جيمس جينز .. إلى لنكولن بارنت .. إلى راسِل ..
وكان أينشتين نفسه يحاول أن يبسط ما في نظريته من غموض .. وكان يقول إن قَصْر المعلومات على عدد قليل من العلماء بحجة التعمق والتخصص .. يؤدي إلى عزلة العِلم .. ويؤدي إلى موت روح الشعب الفلسفية وفقره الروحي، وكان يكره الكهانة العلمية والتلَفُح بالغموض، والادعاء .. والتعاظم ..
وكان يقول إن الحقيقة بسيطة .
وفي آخر محاولاته التي أتمها في عام 1949 كان يبحث عن قانون واحد يفسر به كل علاقات الكون .
ونظرية النسبية ليست كلها معادلات .. وإنما لها جوانب فلسفية .
وحتى المعادلات الرياضية .. يقول أينشتين أنها انبعثت في ذهنه نتيجة شطحاته التي حاول فيها أن يتصور الكون على صورة جديدة ..
وأمام هذه الشطحات الفلسفية سوف نقف قليلًا .. تاركين المعادلات الرياضية لأربابها من القادرين عليها، محاولين أن نشرح بعض ما أراد ذلك العالِم العظيم أن يقوله، على قدر الإمكان، إمكان فهمنا .
وسوف نبدأ من البداية .. من قبل أينشتين .. من السؤال الذي بدأنا به المقال :
هل نحن نرى الدنيا على حقيقتها ؟
هل هذه السماء زرقاء فعلًا .. وهل الحقول خضراء .. وهل الرمال صفراء ؟
وهل العسل حلو .. والعلقَم مُر ؟
هل الماء سائل .. والجليد صلب ؟
وهل الخشب مادة جامدة كما تقول لنا حواسّنا ؟
وهل حجارة الأرض مادة موات، لا حركة فيها ؟
وهل الزجاج شفاف .. والجدران صمّاء ؟
# # # # #
لا ..
ليست هذه هي الحقيقة ..
هذا ما نراه .. وما نحسه بالفعل .. ولكنه ليس كل الحقيقة ..
فالنور الأبيض الذي نراه أبيض .. إذا مررناه خلال منشور زجاجي .. يتحلل إلى سبعة ألوان .. هي ألوان الطيف المعروفة .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والأخضر والأزرق والبنفسجي .. إلخ .
فإذا حاولنا أن ندرس ماهية هذه الألوان، لم نجد أنها ألوان .. وإنما وجدناها موجات لا تختلف في شيء إلا في طولها ..
ذبذبات متفاوتة في ترددها .. وهذه كل الحكاية .. ولكن عيننا لا تستطيع أن ترى هذه الأمواج كأمواج .. ولا تستطيع أن تحس بهذه الذبذبات كذبذبات .. وانما كل ما يحدث أن الخلايا العصبية في قاع العين تتأثر بكل نوع من هذه الذبذبات بطريقة مختلفة ..
ومراكز البصر في المخ تترجم هذا التأثر العصبي على شكل ألوان ..
ولكن هذه المؤثرات الضوئية ليست ألوانًا .. وإنما هي محض موجات واهتزازات .. والمخ بلغته الإصطلاحية .. لكي يميزها عن بعضها .. يطلق عليها هذه التعريفات التي هي عبارة عن تصورات .. وهذه هي حكاية الألوان ..
والحقول التي نراها خضراء ليست خضراء .. وإنما كل ما يحدث أن أوراق النباتات تمتص كل أمواج الضوء بكافة أطوالها ما عدا تلك الموجة ذات الطول المعين التي تدخل عيننا وتؤثر في خلاياها فيكون لها هذا التأثير الذي هو في اصطلاح المخ "أخضر" ..
وبالمثل .. أي لون .. ليس له لون .. وإنما هو مؤثِر يفرقه المخ عن غيره بهذه الطريقة الاصطلاحية .. بأن يلونه .. ويتضح هذا الخلط أكثر حينما ننتقل إلى المثل الثاني .. العســل ..
فالعسل في فمنا حلو .. ونحن نتلذذ به ونلحسه لحسًا ونمصمصه بلساننا .. ولكن دودة المش لها رأي مختلف تمامًا في العسل .. بدليل أنها لا تقربه ولا تذوقه بعكس المش الذي تغوص فيه وتلتهمه التهامًا وتبيض وتفقس وتعشش فيه .
الحلاوة إذًا لا يمكن أن تكون صفة مطلقة موضوعية في العسل .. وإنما هي صفة نسبية نِسبةً إلى أعضاء التذوق في لساننا .. إنها ترجمتنا الإصطلاحية الخاصة للمؤثرات التي تُحدِثها ذرات العسل فينا ..
وقد يكون لهذه المؤثرات بالنسبة للأعضاء الحسيّة في حيوان آخر طعمًا مختلفًا هو بالمرارة أشبه ..
♦ فإذا جئنا للسؤال الثالث لنسأل أنفسنا .. هل الماء سائل .. وهل الجليد صلب .. فإن المشكلة تتضح أكثر ..
فالماء والبخار والجليد .. مادة كيميائية واحدة تركيبها الكيميائي ( اتحاد الأيدروجين بالأوكسجين 1:2 ) .. وما بينها من اختلاف ليس اختلافًا في حقيقتها وإنما هو اختلافًا في كيفيتها ..
فحينما نضع الماء على النار فإننا نعطيه حرارة .. أو بمعنى آخر طاقة .. فتزداد حركة جزيئاته وبالتالي تتفرق وتتفركش نتيجة اندفاعها الشديد في كل اتجاه ويكون نتيجة هذه الفركشة عند لحظة معينة أن تتفكك تمامًا وتتحول إلى جزيئات سابحة بعيدة عن بعضها (غاز) .. فإذا فقدت هذه الحرارة الكامنة التي أخذتها عن طريق النار حتى تصل في لحظة إلى درجة من التقارب نترجمها بحواسنا على أنها (صلابة) .
الحالة الغازية والسائلة والصلبة هي ظواهر كيفية لحقيقة واحدة .. هي درجة تقارب الجزيئات من بعضها البعض لمادة واحدة هي الماء ..
وشفافية الماء وعتامة الثلج سببها أن جزيئات الماء متباعدة لدرجة تسمح لنا بالرؤية من خلالها .
ولا يعني هذا أن جزيئات الثلج متلاصقة .. وإنما هي متباعدة هي الأخرى ولكن بدرجة أقل .
وجزيئات كل المواد حتى الحديد مخلخلة ومنفصلة عن بعضها .. بل إن الجزئ نفسه مؤلف من ذرات منفصلة .. والذرّة مؤلفة من بروتونات وإلكترونات هي الأخرى منفصلة ومخلخلة ومتباعدة تباعد الشمس عن كواكبها .
كل المواد الصُلبة عبارة عن خلاء منثورة فيه ذرّات .. ولو أن حِسّنَا البصري مكتمل لأمكننا أن نرى من خلال الجدران لأن نسيجها مخلخل كنسيج الغربال ..
ولو كنا نرى عن طريق أشعة إكس لا عن طريق النور العادي لرأينا بعضنا عبارة عن هياكل عظمية، لأن أشغة اكس تخترق المسافات الجزيئية في اللحم .. وتراه في شفافية الزجاج ..
♦ مرة أخرى ..
رؤيتنا العاجزة هي التي ترى الجدران صماء .. وهي ليست صمّاء .. بل هي مخلخلة أقصى درجات التخلخل .. ولكن وسائلنا المحدودة والأشعة التي نرى عن طريقها .. لا تنفد فيها، وإنما تنعكس على سطوحها وتبدو لنا وكأنها ســدّ يقف في طريق رؤيتنا .
إنها جميعًا أحكام نسبية تلك التي نطلقها على الأشياء .. ( نسبة إلى حواسنا المحدودة ) وليست أحكامًا حقيقية ..
والعالَم الذي نراه ليس هو العالَم الحقيقي .. وإنما هو عالَم اصطلاحي بَحتْ .. نعيش فيه معتقَلين في الرموز التي يختلقها عقلنا .. ليدلنا على الأشياء التي لا يعرف لها ماهية أو كَنَهًا .
والرسّام التجريدي على حق حينما يحاول أن يعبر عما يراه .. على طريقته .. فهو يدرك بالفطرة أن ما يراه بعينه ليس هو كل الحقيقة، وبالتالي فهو ليس ملزِمًا له .. وفي إمكانه أن يتلَمّس الحقيقة .. لا بعينه .. وإنما بعقله .. وربما بعقله الباطن .. أو وجدانه .. أو روحه ..
وهو لا يكون مجنونـــًا .. وقد نكون نحن المجــانين .
ورجل العلم له وسائل أخرى غير رجل الفن ..
الفنان يبحث عن الحقيقة معتمدًا على وسائله .. عن طريق الإلهام .. والروح .. والوجدان .
ورجل العلم يلجأ إلى الحسابات والمعادلات .. والفروض النظرية .. التي يحاول أن يتثبت منها بتجارب عملية .
وأينشتين في مغامرته العقلية لم يكن يختلف كثيرًا عن الرسّام التجريدي في مغامرته الفنية .
ومعظم ما كتبه أينشتين في معادلاته كان في الحقيقة تجريدًا للواقع على شكل أرقام وحدود رياضية .. ومحاولة جادة من رجل العلم في أن يهزم العلاقات المألوفة للأشياء ويزيحها لتبدو من خلفها لمحات من الحقيقة المدهشة التي تتخفى في ثياب العادة والألفة ..
وماذا هناك في الواقع المحسوس المألوف ؟
إننا لا نرى الأشياء مشوهة عن أصلها فقط .. وإنما لا نراها إطلاقًا .. وأحيانًا يكون ما نراه لا وجود له بالمرة ..
فهناك غير ألوان الطيف السبعة .. أمواج أقصر من أن ندركها .. هي فوق البنفسجية .. وأمواج أخرى أطول من أن ندركها .. هي تحت الحمراء .. وتكون النتيجة ألا نراها مع أنها موجودة ويمكن إثباتها باللوح الفوتوغرافي الحساس .. وبالترمومتر ..
وعلى العكس نرى أحيانًا أشياء لا وجود لها ..
فبعض النجوم التي نراها بالتلسكوب في أعماق السماء تبعد عنا بمقدار 500 مليون سنة ضوئية .. أي أن الضوء المنبعث منها يحتاج إلى خمسمائة مليون سنة ليصل إلى عيوننا .. وبالتالي فالضوء الذي نلمحها به هو ضوء خرج منها منذ هذا العدد الهائل من السنين .. فنحن لا نراها في الحقيقة .. وإنما نرى ماضيها السحيق الموغَل في القِدَم ..
أما ماهيتها الآن .. فالله وحده يعلم .. وربما تكون قد انفجرت واختفت .. أو انطفأت .. أو ارتحلت بعيدًا في أطراف ذلك الخلاء الأبدي وخرجت من مجال الرؤية بكل وسائلها .. فحالها الآن لا يمكن أن يصلنا خبره إلا بعد مضي خمسمائة مليون سنة ..
إننا قد نكون محملقين في شيء يلمع دون أن يكون له وجود بالمرة .
إلى هذه الدرجة يبلغ عدم اليقين ..
وإلى هذه الدرجة يمكن أن تضللنا الحواس ..
ما دليلنا في هذا التِيه .. ؟!
وكيف نهتدي إلى الحقيقة في هذه الظلمات المطبقة ؟!
مقال / أينشتين والنظرية النسبية .
من كتاب : اينشتين والنسبيه.
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ أنكر أينشتين في نظريته إمكان الحركة المطلقة ..
فمن المستحيل أن نعرف أن جسمًا ما في حالة حركة أو في حالة سكون إلا بالرجوع إلى جسم آخر ..
وتاريخنا مع الأرض يؤكد كلام أينشتين .. لقد ظللنا نعتقد قرونًا طويلة بأن الأرض ساكنة حتى اكتشفنا حركتها عن طريق رصد النجوم والكواكب حولها ..
ولو أن أرضنا كانت تدور وحدها في فضاء الكون لما أمكن على الإطلاق معرفة حركتها من سكونها .. لانعدام أي مرجع نقيس به ..
ولكان من المؤكد أننا سوف نظل جاهلين بحالنا .. وكان هناك استثناء واحد ..
أن تبطئ الأرض في حركتها فجأة .. أو تُسرِع فجأة .. أو تضطرب حركتها .. فندرك عن طريق تثاقل أجسامنا وقصورنا الذاتي أننا على جسم متحرك ..
شأننا شأن راكب الطائرة الذي يستطيع أن يكتشف حركتها دون حاجة إلى أن يطل من النافذة، أو يرجع إلى مرجع .. بمجرد أن تغير الطائرة من سرعتها أو اتجاهها أو ارتفاعها ..
ومثل راكب القطار الذي يجلس في مقصورة مغلقة .. جاهلًا بحركة قطاره حتى يبدأ القطار في التباطؤ أو ينحرف عن مسيره .. فيدرك أن قطاره يتحرك ..
وكان معنى هذا الإستثناء أن الحركة يمكن أن تكون مطلقة إذا كانت غير منتظمة ..
فهي في هذه الحالة يمكن إدراكها بالرجوع إلى ذاتها .. وبدون حاجة إلى مرجع خارجي ..
ولهذا وضع أينشتين نظريته الأولى " النسبية الخاصة " وقصرها على الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة ..
وقال فيها : " إن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة " .
ولكن هذا الشذوذ في القاعدة .. ظل يؤرق باله .. فهو لا يعتقد في كون معقّد وإنما يؤمن بكون بسيط .. ويرى أن البساطة أعمق من التعقيد، وأن تعدد القوانين وتناقضها في كون واحد يدل على عقل رياضي سطحي عاجز عن إدراك الحقيقة .
وبعد سنوات من التفكير والحساب وإعادة النظر .. قدم نظريته الجريئة في " النسبية العامة " التي أعلن فيها أن : " قوانين الكون واحدة لكل الأجسام بصرف النظر عن حالات حركتها " .
وبذلك عاد فأكد رفضه لكل ما هو مطلَق .. حتى هذا الإستثناء الواحد .. الحركة غير المنتظمة .. هي الأخرى أصبحت نسبية لا يمكن الجزم بها بدون مرجع خارجي ..
** ** **
ولتقريب هذا الإشكال الجديد إلى الذهن تخيل أينشتين أرجوحة مربوطة بحبال إلى عمود رأسي .. وأن هذه الأرجوحة تدور حول العمود كما تدور أراجيح الأطفال في المولد .. مع فارق واحد : أنها مغلقة تمامًا وأن الجالس بداخلها لا يرى ما يدور خارجها .. وأنها موجودة في الفضاء بعيدًا عن أي جاذبية ..
ماذا سوف يحدث لعدد من العلماء جالسين في تلك الأرجوحة ؟
إنهم سوف يلاحظون أن أجسامهم تتثاقل دائمًا نحو أرضية الأرجوحة، وأنه إذا ألقوا بأي شيء فإنه يسقط دائمًا نحو الأرضية .. وإذا انطلقت رصاصة لتخترق جدار الأرجوحة فإنها سوف تميل نحو أرضيتها على شكل قطع مكافئ .. وسوف يكون تعليلهم لهذه الظاهرة أن هناك قوى جاذبية في هذه الأرضية ..
وهم لن يفطنوا إلى أن الأرضية هي الجدار الخارجي لأرجوحتهم نظرًا لأن الحواس تقرن دائمًا أي تثاقل بأنه اتجاه إلى تحت ( وهو شبيه لما يحدث لنا على الأرض .. فنحن أثناء دوران الأرض تكون رءوسنا إلى أسفل وأقدامنا إلى أعلى .. ومع ذلك يخيل إلينا العكس .. أن أقدامنا إلى أسفل دائمًا نتيجة الإحساس بالتثاقل الناتج عن الجاذبية ) .
وهكذا .. سوف تكون جميع حسابات هؤلاء العلماء مؤكدة بأنهم خاضعون لقوى الجاذبية ..
ولكن من يلاحظ هذه الأرجوحة من الخارج سوف يُخَطّئ كل حساباتهم .. وسوف يرى أنهم خاضعون للقصور الذاتي المعروف بإسم " القوة الطاردة المركزية " .. وهي القوة التي تطرد الأجسام المتحركة في دائرة إلى خارج الدائرة ..
ومعنى هذا أن هناك إمكانية للخلط دائمًا بين الحركة الناتجة من الجاذبية والحركة الناتجة من القصور الذاتي .. وأنه لا يمكن التفرقة بين اثنين بدون مرجع خارجي .
فإذا عدنا إلى الإشكال الأول .. وهو إشكال الحركة غير المنتظمة وتخيلنا الأرض التي تسير وحدها في الفضاء .. وتخيلنا الإستثناء الذي ترتب عليه إدراكنا لهذه الحركة .. وهو أن تبطئ أو تسرع .. أو تضطرب في حركتها .. فإن هذا الإستثناء لا يكون دلالة على أن حركتنا مطلقة .. إذ أن الخلط مازال قائمًا ..
فمن المحتمل أن يكون ما حسبناه حركة أرضية ( نتيجة القصور الذاتي ) هو في الواقع اضطراب في مجال الجاذبية لنجم بعيد غير مرئي .. ( مثل ما يحدث في حركة مياه البحر من مدّ وجزر نتيجة التقلبات في مجال جاذبية القمر ) .
إن التمييز بين الحركة الناتجة عن القصور الذاتي، والحركة الناتجة عن الجاذبية .. مستحيل .. بدون مرجع نهائي .
وبذلك لا تكون هناك وسيلة إلى إدراك الحركة المطلقة حتى من خلال الحركة غير المنتظمة .
وبذلك تصبح نظرية أينشتين نظرية عامة شاملة لكل قوانين الكون .. لا نظرية خاصة بالأجسام ذات الحركة المنتظمة ..
** ** **
والبرهان الثاني يأخذه أينشتين من ظاهرة طبيعية معروفة .. هي سقوط الأجسام نحو الأرض بسرعة واحدة مهما اختلفت كتلاتها ..
كرة من الحديد تسقط نحو الأرض .. بنفس السرعة التي تسقط بها كرة من الخشب مماثلة لها في الحجم .. بنفس السرعة التي تسقط بها قنبلة مدفع ..
وإذا كانت قطعة من الورق تسقط نحو الأرض ببطء فالسبب أن مسطحها كبير ومقاومة الهواء لسقوطها كبير مما يؤدي إلى هذا البطء في سقوطها .. ولكن لو كورناها تمامًا فإنها سوف تسقط نحو الأرض بنفس السرعة التي تسقط بها كرة الحديد .
ولقد كانت هذه السرعة الواحدة التي تسقط بها جميع الأجسام مصدر مشكلة عويصة في الطبيعة ..
إذ أن هذه الظاهرة هي عكس الظاهرة المعروفة في حركة الأجسام الأفقية .. وتفاوت سرعتها تبعًا لكتلتها ..
فالقوة التي تدفع كرة صغيرة عدة أميال إلى الأمام .. لا تكاد تحرك عربة سكة حديد إلا عدة سنتيمترات .. نتيجة أن عربة السكة الحديد تقاوم الحركة بقصورها الذاتي الأكبر بكثير من قصور كرة صغيرة ذات كتلة صغيرة ..
وقد حل نيوتن هذا الإشكال بقانونه الذي قال فيه : إن قوة الجاذبية الواقعة على جسم تزداد كلما ازداد قصوره الذاتي ..
والنتيجة أن الأرض تشد الكرة الحديد بقوة أكبر من الكرة الخشب .. ولذلك تسقط الكرتان بسرعة واحدة .. لأنه ولو أن الكرة الحديد قصورها أكبر ومقاومتها للحركة أكبر إلا أن القوة التي تشدها أكبر ..
وهذا القانون الذي أعلنه نيوتن باسم " تكافؤ الجاذبية والقصور الذاتي " .. هو دليل آخر على إمكانية الخلط بين القوتين .
** ** **
إنتهت نظرية أينشتين الثانية المعروفة " بالنسبية العامة " إلى نفي معرفة كل ما هو مطلق .. وإلى اعتبار الكون خاضعًا لقوانين واحدة برغم اختلاف الحركة في داخله .. وإلى استحالة معرفة الحركة من السكون بدون مرجع خارج عن نطاق الحركة وعن نطاق هذا السكون ..
ولكن أينشتين فتح على نفسه بابًا خطيرًا من الشك ..
فهذا الخلط بين الجاذبية والقصور الذاتي .. فتح بابًا للتساؤل .. من أين نعلم إذًا أن ما نقيسه على الأرض هو ظواهر لقوة جاذبية .. لماذا لا تكون ظواهر قصورية .. !
إن وجود الجاذبية يصبح أمرًا مشكوكًا فيه من أساسه .. وعلى أينشتين أن يملأ هذه الفجوة الرهيبة التي فتحها .. عليه أن يواجه عملاقًا اسمه نيوتن و يرد عليه ..
والإشكال الثاني .. هو هذا التفكك الذي اعترى الحقيقة على يد النسبية .. فانفرطت إلى كلمات خاوية .. المكان، والزمان، والكتلة .. حتى الكتلة انفرطت هي الأخرى فأصبحت حركة .. مجرد خواء .
كيف يعود أينشتين فيبني من هذا الخواء كونًا مأهولًا معقولًا ملموسًا كالكون الذي نراه .. ؟!
وكيف يصبح لهذا الكون شكل .. وأعمدة الشكل .. وهي الصلابة المادية .. قد انهارت وتبخرت .. إلى طاقة وإشعاع غير منظور .. ؟!
إن أينشتين عمد إلى البساطة فانتهى إلى الغموض ..
وهدِفَ إلى الحقيقة فأخذ بيدها إلى هوة من الشكّ .
..
مقال .. الحركة المطلقة .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ لا سبيل لمعرفة المكان المطلق لأي شيء، في أحسن الأحوال نقدّر موضعه نسبةً إلى كذا وكذا، يستحيل ذلك لأن ˝كذا وكذا˝ في حالة حركة أيضاً! هناك استثناء واحد ندرك فيه الحركة المطلقة اللحظة التي تفقد الحركة انتظامها فتتسارع/تتباطأ، ندرك أن القطار الذي نركبه بالفعل متحرك قد يتضاعف الكون حولنا لعشرات وملايين الأضعاف لكننا لن نشعر بذلك لأن النسب الحجمية تظل محفوظة ولأن نسبة كل حركة للحركة بجوارها ثابتة . ❝
❞ كان أول سؤال سأله أينشتين :
هل يمكن تقدير وضع أي شيء في المكان ؟
وهل يمكن الإثبات بشكل مطلق وقاطع بأن جسمًا من الأجسام يتحرك وجسمًا آخر ثابت لا يتحرك ؟
راكب يمشي على ظهر سفينة في عرض البحر .. لو أردنا أن نقدر موضعه فسوف نحاول أن نقيس مكانه بالنسبة للصاري أو المدخنة .. فنقول مثلًا إنه على بعد كذا من مدخنة السفينة ..
ولكن هذا التقدير خاطئ لأن المدخنة ليست ثابتة وإنما هي تتحرك مع السفينة التي تتحرك بأسرها في البحر .. إذًا نحاول أن نعرف موضعه بالنسبة للأرض .. فنقول إنه عند تقاطع خط طول كذا بخط عرض كذا ..
ولكن هذا التقدير خاطئ أيضًا لأن الأرض بأسرها تتحرك في الفضاء حول الشمس .
إذًا نحاول أن نقدِّر وضعه بالنسبة للشمس .. ولكن الشمس تتحرك مع مجموعتها الشمسية كلها في الفضاء حول مركز مدينتها النجمية الكبرى ..
لا فائــدة أيضًا ..
فالمدينة النجمية هي الأخرى جزء من مجرة هائلة إسمها " سكة التبانة " .. وهي تتحرك حول مركز التبانة ..
للأسف - لا أمل – لأن التبانة هي الأخرى تتحرك مع عدد من المجرات حول مصيبة أخرى لا يعلمها إلا الله ..
وحتى بافتراض أننا أحطنا بكل مجرات الكون ومدنه النجمية الهائلة، وعرفنا حركاتها كلها بالنسبة للكون ..
لا فائدة أيضًا ..
لأن الكون كله في حالة تمدد .. وكل أقطاره في حالة انفجار دائم في جميع الاتجاهات ..
إذًا هناك استحالة مؤكدة ..
ولا سبيل لمعرفة المكان المطلق لأي شيء في الفضاء .. وإنما نحن في أحسن الأحوال نقدِّر موضعه النسبي بالنسبة إلى كذا وكذا .. أما وضعه الحقيقي فمستحيل معرفته .. لأن كذا وكذا في حالة حركة هي الأخرى .
وأغلب الظن أنه لا يوجد شيء اسمه " وضع حقيقي " ..
فإذا جئنا إلى الحركة فالمشكلة هي نفس المشكلة ..
فأنت في قطار حينما يمر بك قطار آخر قادم في عكس الاتجاه، فإنك للوهلة الأولى يختلط عليك، يخيل إليك أن قطارك واقف والآخر هو الذي يتحرك .. وأنت عادة تقدر سرعته خطأ .. فيخيل إليك أنه يسير بسرعة خاطفة ( بينما هو في الواقع يسير بمعدل سرعة القطار الذي تركبه ) .
وإذا كان يسير في نفس اتجاه قطارك، وموازٍ له .. فأنت يخيل إليك أن القطارين واقفان .
فإذا أغلقت نوافذ قطارك خُيل إليك أنه ساكن لا يتحرك .. ولا سبيل للخروج من هذا الخلط إلا بالمقارنة بمرجع ثابت .. كأن تفتح النوافذ وتنظر إلى الأشجار أو أعمدة البرق .. فتدرك بالمقارنة أن القطار يتحرك بالنسبة لها .
فإذا كان قطارك واحدًا من عدة قطارات فلا سبيل إلى تمييز حركاتها من سكونها إلا بالخروج منها والتفرج عليها من بعيد من على رصيف محطة ثابتة .
القَطْع إذًا بحركة الجسم وسكونه يحتاج إلى رصيف ثابت للملاحظة، وبدون مرجع ثابت لا يمكن معرفة الحركة من السكون، وعلى الأكثر يمكن معرفة الحركة النسبية فقط .
فإذا تركنا القطارات وجئنا إلى الكون .. فالمعروف أنه في حالة حركة ككل وكأجزاء ..
الأرض مثلًا تدور حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة، وحول الشمس بسرعة عشرين ميلًا في يالثانية .
والشمس تتحرك ضمن مجموعتها الشمسية بسرعة 13 ميلًا في الثانية حول مدينتها النجمية، والمدينة النجمية تتحرك داخل سكة التبانة بسرعة مائتي ميل في الثانية، وسكة التبانة تتحرك نحو المجرّات الأخرى بسرعة مائة ميل في الثانية .. إلخ ..
وقد تعب نيوتن من مشكلة البحث عن الحركة الحقيقية، وظل يتخبط من حركة نسبية إلى حركة نسبية .. فحاول الخروج من المشكلة بافتراض أن هناك جسمًا ساكنًا تمامًا يوجد في مكان ما بعيد غير معروف، تقاس به الحركة الحقيقية .. ثم عاد فاعترف بعجزه عن البرهنة على وجود هذا الجسم الثابت، واعتبر أن الشيء الثابت هو الفضاء نفسه واستمر على هذه العقيدة بدوافع دينية، قائلًا أن الفضاء يدل على وجود الله، ولم تنفع بالطبع هذه الدروشة ..
ولم يكن العلماء أقل دروشة من نيوتن .. فقد افترضوا مادة ثابتة تملأ الفضاء – هي الأثير – وبرهنوا على وجود الأثير بالطبيعة الموجية للضوء قائلين إن الأمواج لابد لها من وسط مادي تنتشر فيه كما ينتشر موج البحر في الماء، وأمواج الصوت في الهواء .. كذلك الضوء لابد لها من وسط .
وحينما أثبتت التجارب أن الضوء يمكن أن ينتشر في الهواء المفرغ في الناقوس، قالوا بوجود مادة اسمها " الأثير " تملأ كل الفراغات الكونية، واعتبروا هذا الأثير المزعوم مرجعًا ثابتًا يمكن أن تُنسَب إليه الحركات، وتكتَشَف به الحركات الحقيقية .
وفي سنة 1881 أجرى العالمان ميكلسون و مورلي تجربة حاسمة بغرض إثبات وجود الأثير ..
وفكرة التجربة تتلخص في أن الأرض تتحرك حلال الأثير بسرعة عشرين ميلًا في الثانية، فهي بذلك تُحدِث تيارًا في الأثير بهذه السرعة .. فلو أن شعاع ضوء سقط على الأرض في اتجاه التيار، فإنه لابد ستزداد سرعته بمقدار العشرين ميلًا، فإذا سقط في اتجاه مضاد للتيار .. فلابد أن سرعته سوف تنقص بمقدار العشرين ميلًا ..
فإذا كانت السرعة المعروفة للضوء 186284 ميلًا في الثانية، فإنها ستكون في التجربة الأولى 186304 ، وفي التجربة الثانية 186264 ..
وبعد متاعب عديدة قام ميكلسون و مورلي بتنفيذ التجربة بدقة، وكانت النتيجة المدهشــــة .. أنه لا فرق بين سرعتي الضوء في الاتجاهين، وأنها 186284 بدون زيادة أو نقصان .
وأن سرعة الأرض في الأثير تساوي صفر .
وكان معنى هذا .. أن يسلم العلماء بأن نظرية الأثير كلام فارغ .. ولا وجود لشيء إسمه الأثير .. أو يعتبروا أن الأرض ساكنة في الفضاء .
وكانت نظرية الأثير عزيزة عند العلماء لدرجة أن بعضهم شكّ في حركة الأرض واعتبرها ساكنة فعلًا .
أما أينشتين فكان رأيه في المشكلة .. أن وجود الأثير خرافة لا وجود لها .. وأنه لا يوجد وسط ثابت، ولا مرجع ثابت في الدنيا .. وأن الدنيا في حالة حركة مصطخبة ..
وبهذا لا يكون هناك وسيلة لأي تقدير مطلَق بخصوص الحركة أو السكون ..
فلا يمكن القطع بأن جسمًا ما يتحرك وأن جسمًا ما ثابت . وإنما كل ما يُقال .. إن الجسم كذا يعتبر متحركًا بالنسبة إلى الجسم كذا .. كل ما هنالك حركة نسبية .. أما الحركة الحقيقية فلا وجود لها .
كما وأن السكون الحقيقي لا وجود له أيضًا، والفضاء الثابت لا معنى له .
ويؤيد هذا رأي قديم لفيلسوف اسمه ليبنتز .. يقول فيه : إنه لا يوجد شيء اسمه فضاء .. وما الفضاء سوى العلاقة بين الأجسام بعضها البعض .
وكانت هناك مشكلة ثانية تفرعت عن تجربة ميكلسون و مورلي .. هي ثبات سرعة الضوء بالرغم من اختلاف أماكن رصدها ..
وقد تأكد بعد هذا أن هذه السرعة ثابتة لا بالنسبة لزوايا الرصد المختلفة على الأرض وحدها، وإنما هي ثابتة بالنسبة للشمس والقمر والنجوم والنيازك والشهب .. وأنها أحد الثوابت الكونية .
وقد استخلص أينشتين من هذه الحقيقة قانونه الأول في النسبية ..
وهو: أن قوانين الكون واحدة لكل الأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة .
ولشرح هذا القانون نورِد هذا المَثَل :
مثل الراكب على السفينة الذي يتمشى على سطحها بسرعة ميل واحد في الساعة ..
لو أن السفينة كانت تسير بسرعة 15 ميلًا واحد في الساعة، لكانت سرعته بالنسبة إلى البحر 16 ميلًا في الساعة ( 15 + 1 ) .. ولو أنه غيّر اتجاهه وسار بالعكس ( بعكس اتجاه السفينة ) لأصبحت سرعته بالنسبة إلى البحر ( 15 – 1 ) 14 ميلًا في الساعة .. برغم أنه لم يغير سرعته في الحالين، وبرغم أن سرعته في الاتجاهين كانت ميلًا واحدًا في الساعة، ومعنى هذا أنه وهو نفس الشخص يسير بسرعتين مختلفتين 14 و 16 في نفس الوقت .. وهذه استحالة ..
وأينشتين يكشف سر هذه الإستحالة قائلًا إن هناك خطأ حسابيًا .
والخطأ الحسابي هنا هو الإضافة والطرح لكميات غير متجانسة .. واعتبار أن المسافة المكانية لحادثة يمكن أن ينظر إليها مستقلة عن الجسم الذي اتُخِذ مرجعًا لها .. وهو هنا الراكب ..
والسرعة ميل واحد في الساعة هي سرعة الراكب، والمسافة هنا مرجعها الراكب ..
أما الـ 15 ميل سرعة السفينة .. فهي بالنسبة إلى البحر .. ولا يمكن إضافة الـ 15 إلى الواحد لأنهما مسافتين من نظامين مختلفين، ومرجعهما مختلف، ونسبتهما مختلفة .. فالحساب هنا خطأ تبعًا لقانون النسبية الأول الذي يقول بوحدة القوانين للأجسام التي تتحرك بحركة منتظمة داخل نظام واحد .
والقانون لا ينطبق على المسافة المكانية وحدها وإنما هو أيضًا ينطبق على الفترات الزمنية .. فالفترة الزمنية لحادثة لا يمكن أن يُنظَر إليها مستقلة عن حالة الجسم المتخَذ مرجعًا لها ..
والمَثَل الوارد عن راكب السفينة يؤكد هذا أيضًا .. فسرعة الراكب وهي ميل/ساعة لا تقبل الإضافة إلى سرعة السفينة 15 ميل/ساعة .. حيث إن المرجعين اللذين تنتسب إليهما هاتين الفترتين الزمنيتين مختلفان .
وهذا يجرنا إلى الحلقة الثانية في النظرية النسبية .. وهي الزمان .
لقد رفض أينشتين فكرة المكان المطلق .. واعتبر أن المكان دائمًا مقدار متغير ونسبي، واعتبر التقدير المطلَق لوضع أي جسم في المكان مستحيلًا، وإنما هو في أحسن الحالات يقدّر له وضعه بالنسبة إلى متغيّر بجواره .
كما اعتبر إدراك الحركة المطلقة لجسم يتحرك بانتظام أمرًا مستحيلًا .. وبالمثل إدراك سكونه المطلَق .
إنه عاجز عن اكتشاف الحالة الحقيقية لجسم من حيث الحركة والسكون المطلقين طالما أن هذا الجسم في حالة حركة منتظمة .. وكل ما يستطيع أن يقوله إن هذا الجسم يتحرك حركة نسبيية معينة بالنسبة إلى جسم آخر .
وهناك مثل طريف يضربه العالِم الرياضي هنري بوانكاريه على هذا العجز .. فهو يقول : لنتصور معًا أن الكون أثناء استغراقنا في النوم قد تضاعف في الحجم ألف مرة .. كل شيء في الكون بما في ذلك السرير الذيي ننام عليه بما في ذلك الوسادة والغرفة والشباك والعمارة والمدينة والسماء والشمس والقمر والنجوم .. بما في ذلك أجسامنا نحن أيضًا .. بما في ذلك الذرّات والجزيئات والأمواج .. بما في ذلك أجهزة القياس العيارية التي نقيس بها .
ماذا يحدث لنا حينما نستيقظ ..
يقول بوانكاريه في خبث شديد .. إننا لن نلاحظ شيئًا .. ولن نستطيع أن ندرك أن شيئًا ما قد حدث، ولو استخدمنا كل ما نملك من علوم الرياضة .
إن الكون قد تضاعف في الحجم ألف مرة هذا صحيح، ولكن كل شيء قد تضاعف بهذه النسبة في ذات الوقت .. والنتيجة أن النِسَب الحجمية العامة تظل محفوظة بين الأشياء بعضها البعض .
ونفس القصة تحدث إذا تضاعفت سرعة الأشياء جميعها أثناء النوم بنفس النسبة .. فإننا نصحو فلا ندرك أن شيئًا ما قد حدث .. بسبب عجزنا عن إدراك الحركة المطلَقة ..
ولأننا نقف في إدراكنا عند الحركة النسبية، وهي في قصتنا ثابتة .. لأن نسبة كل حركة إلى الحركة بجوارها ثابتة رغم الزيادة المطلقة والعامة للحركة .. لأننا أيضًا قد تضاعفت حركتنا وسرعتنا ونشاطنا الحيوي .
ويقول أينشتين أن هناك إستثناء واحدًا يمكن أن ندرك فيه الحركة المطلقة .. هو اللحظة التي تفقد الحركة انتظامها فتتسارع أو تتباطأ .. فندرك أن القطار الذي نركبه يتحرك عندما يبطئ استعدادًا للفرملة أو تغير الاتجاه ..
في هذه اللحظة فقط نستطيع أن نجزم أننا نجلس في مركبة متحركة، ونستطيع أن نقول بحركتها المطلقة دون حاجة إلى مشاهدتها من رصيف منفصل .
وسوف نرى أنه حتى هذا الإستثناء الواحد قد عاد أينشتين فنقضه في نهاية بحثه ..
** ** **
هذا ما قاله أينشتين عن المكان، وعن الحركة في المكان ..
فماذا قال عن الزمان .. !
إن المكان والزمان هما حدّان غير منفصلين في الحركة .. فماذا قالت النسبية عن هذا الحدّ الثاني .. ؟
مقال / المكــان .
من كتاب / أينشتين والنسبية
لـلدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝
❞ إذا كنت في البحر وأردت أن تحدد وضعك، فأنت في حاجة إلى نسبة هذا الوضع إلى بعدين .. هما الطول والعرض ..
فأنت عند التقاء خط طول كذا بعرض كذا .
أما إذا كنت طائرًا في الهواء وأردت أن تحدد موضعك، فأنت في حاجة إلى ثلاثة أبعاد .. الطول والعرض والإرتفاع .. لتحدد النقطة التي أنت فيها بالضبط .
وهذه الأبعاد الثلاثة لا تصف لنا حركتك .. لأن وضعك يتغير من لحظة لأخرى على محور رابع غير منظور ولا ملموس .. هو الزمن .
فإذا أردت أن تعرف حركتك .. فإن الأبعاد الثلاثة لا تكفي، ولابد أن تضيف إليها بعدًا رابعًا .. هو الزمن .. فأنت على خط طول كذا وخط عرض كذا في ارتفاع كذا في الوقت كذا ..
ولأن كل شيء في الطبيعة في حالة حركة .. فالأبعاد الثلاثة هي حدود غير واقعية للأحداث الطبيعية .. والحقيقة ليست ثلاثية في أبعادها ولكنها رباعية .
إنها .. المكان والزمان معًا ( في متصل واحد ) .. ( Space – time continuum )
ولكن المكان والزمان يظهران دائمًا منفصلين في إحساسنا .. لأننا لا نرى الزمان ولا نمسكه كما نمسك بالأبعاد المكانية الأخرى .. ولا نعرف له معادلًا موضوعيًا خاصًا به كما المكان .. ومع هذا فاتصال الزمان بالمكان حقيقة ..
بدليل أننا إذا أردنا أن نتتبع الزمان فإننا نتتبعه في المكان .. فنترجم النقلات الزمانية بنقلات مكانية ..
فنقول " فُلان بيكبر " ونقصد في السِن، والحجم ..
ونقول " وقت الغروب " ونقصد انحدار الشمس في المكان بالنسبة للأرض ..
ونقول " اليوم .. والشهر .. والسنة .. " وهي إشارات للأوضاع المكانية التي تحتلها الأرض حول الشمس .
ونحن حينما ننظر في أعماق السماء بالتلسكوب .. لنشاهد نجومًا بعيدة جدًا بيننا وبينها ألوف السنين الضوئية، نحن في الحقيقة ننظر في الزمان لا في المكان وحده .. نحن ننظر في ماضي هذه النجوم .. وما نراه هو صورتها حينما غادرها الضوء ليصل إلينا بعد هذه الألوف من السنين .
ومع هذا فنحن لا نستطيع أن نتخيل شكلًا ذا أبعاد أربعة ..
إن هذه التركيبة الخيالية تُحدِث لنا دَوارًا ..
فكيف يمكن أن يضاف الزمان إلى الأبعاد الثلاثة ليصنع شكلًا ذا أبعاد أربعة .. وماذا تكون صفة هذا الشكل .. !
وأينشتين يقول أننا سجناء حواسّنا المحدودة .. ولهذا نعجز عن رؤية هذه الحقيقة وتصورها .
ولكن كل ما في الكون من أحداث يثبت أن هذه التركيبة ليست تركيبة فرضيّة رياضية .. وإنما هي حقيقة ..
فالزمان غير منفصل عن المكان، وإنما هما نسيج واحد ..
وهذا النسيج هو " المجال " الذي تدور فيه كل الحركات الكونية .. وعند كلمة " مجال " نتوقف قليلًا .. فهي كلمة لها عند أينشتين معنى جديد عميق ..
** ** **
كلمة " مجــال " .. هي الكلمة التي رد بها أينشتين على نظرية الجاذبية لنيوتن ..
نيوتن يقول إن الجاذبية قوة كامنة في الأجسام تجذب بعضها إلى بعض وتؤثر عن بُعد .
ولكن أينشتين يرفض نظرية التأثير عن بُعد .. وينكر أن الجاذبية قوة .. ويقول إن الأجسام لا تشد بعضها بعضًا .. ولكنها تخلق حولها " مجالًا " ..
كل جسم يحدِث اضطرابًا في الصفات القياسية للفضاء حوله .. كما تُحدِث السمكة اضطرابًا في الماء حولها .. ويخلق حوله مجالًا ( نتيجة التعديلات التي تحدث في الزمان والمكان حوله ) ..
وكما في المغناطيس يمكن تخطيط هذا المجال عن طريق رش برادة الحديد .. كذلك يمكننا عن طريق الحساب والمعادلات أن نحسب شكل وتركيب مجال جسم معين عن طريق كتلته ..
وقد استطاع أينشتين أن يقدم بالفعل هذه المعادلات المعروفة بمعادلات التركيب .. وأرفق بها مجموعة أخرى من المعادلات سماها معادلات الحركة .. لحساب حركة أي جسم يقع في ذلك المجال ..
وتفسير ما يحدث في نظر أينشتين حينما يجذب المغناطيس برادة الحديد .. أن برادة الحديد تتراص في صفوف في الفضاء وفقًا للمجال .. لأنها لا تستطيع أن تسلك سُبلًا أخرى في حركتها نتيجة التعديلات التي أحدثها وجود المغناطيس في الخواص القياسية للفضاء حوله ..
إن المغناطيس لا يجذب البرادة ..
والبرادة لا تنجذب إلى المغناطيس ..
ولكنها لا تجد طريقًا تسلكه سوى هذه السكك الفضائية الجديدة التي اسمها المجال المغنطيسي ..
تمامًا كما تَخلق السمكة نتيجة حركتها في الماء تيارًا تسير فيه ذرات الغبار العالقة بالماء .. ويبدو على هذه الذرات أنها تسير منجذبة إلى السمكة .. ولكنها في الواقع تتحرك وفقًا للدوامة المائية وللتيارات التي خلقتها السمكة بحركتها في الماء ..
إنها لا تتحرك بقوة السمكة .. بل هي تتحرك وفقًا لمجال .
وكان من الممكن أن تمر هذه النظرية على أنها نوع من التخريف والهذيان، لولا أن معادلات أينشتين قد استطاعت أن تتنبأ بظواهر طبيعية وفلكية .. كانت تُعتبَر إلى وقت قريب من الألغاز .
فقد ظلت حركة عطارد حول الشمس لغزًا حتى فسرتها هذه المعادلات ..
والظاهرة التي كانت تحير العلماء أن هذا الكوكب الصغير ينحرف عن مداره بمقدار معين كل عدد معين من السنين .. وأن المجال الذي يدور فيه ينتقل من مكانه بمضي الزمن ..
وقد تنبأت معادلات أينشتين بمقدار الإنحراف بالضبط .. وكان التفسير الذي قدمه أينشتين لهذه الظاهرة أن شدة اقتراب عطارد من الشمس بالإضافة إلى سرعة دورانه وعِظَم جاذبية الشمس .. هو الذي يؤدي إلى هذا الاضطراب في المجال والانحراف المشاهَد في مدار الكوكب ..
أما النبوءة الثانية فكانت أخطر من الأولى، وأكثر إثارة للأوساط العلمية ..
فقد كان معلومًا أن الضوء ينتشر في خطوط مستقيمة .. وهكذا تعلمنا في كتب الضوء الأولية التي درسناها في المدارس ..
ولكن أينشتين كان له رأي آخر ..
فمادام الضوء طاقة، والطاقة مادة .. فلابد أن يخضع الضوء لخواص المجال كما تخضع برادة الحديد فيسير في خطوط منحنية حينما يقترب من جسم مثل جسم الشمس .. ذي مجال جاذبية قوي ..
فلو رصدنا نجمًا يمر ضوؤه بجوار الشمس لوجدنا أن الشعاع القادم إلينا ينحرف إلى الداخل ناحية مجال الشمس ولرأينا الصورة بالتالي تنحرف إلى الخارج بزاوية معينة قدَّرها أينشتين 1.75 درجة ..
وكان رصد مثل هذا النجم يقتضي الانتظار حتى يأتي وقت الكسوف .. لتكون رؤيته إلى جوار الشمس ممكنة .
** ** **
ولقد أسرع العلماء يبنون مراصدهم في المناطق الإستوائية .. وعلى ذرى الجبال .. في انتظار اللحظة الحاسمة التي يمتحنون فيها هذه النظرية الخرافية ..
فماذا كانت النتيجة .. ؟
سجلت المراصد انحرافًا قدره 1.64 درجة .. أي قريبًا جدًا من نبوءة أينشتين ..
إذًا أينشتين على صواب .. والضوء مادة، والأشعة الضوئية لا تسير في خطوط مستقيمة .. وإنما تنحني وفقًا لخطوط المجال ..
هل هذا الرجل شيخ طريقة يَعلَم الغيب ويحسب حساب النجوم ويعرف مقدّراتها دون أن يراها .. ؟!
هل هو رجل مكشوف عنه الحِجاب .. ؟!
وما هذا السر الذي وضع يده عليه .. وبدأ يفض به مكنونات الوجود .. ؟!
ما حكاية " المجال " الذي يتكلم عنه .. وما معناه .. ؟
وما معنى النسيج الواحد من المكان والزمان ذي الأربعة أبعاد .. ؟
وكيف يَخلُق الجسم مجالًا حوله .. ؟
أينشتين يشرح هذا الغموض قائلًا .. إن أي جسم يوجد في مكان وزمان .. فإنه يُحدِث تغييرات في الخواص القياسية لهذا المكان والزمان .. فينحني الفضاء حول هذا الجسم كما تنحني خطوط القوى حول المغانطيس .. وهذه التغييرات هي المجال .
وكل ذرة مادية تقع في هذا المجال تعدّل سيرها وفقًا له .. كما تتراص برادة الحديد وفقًا لخطوط المجال حول المغناطيس ..
وعلى هذا الأساس تدور الأرض حول الشمس .. لا بسبب قوة جذب الشمس .. ولكن بسبب خصائص المجال الذي تخلقه الشمس حولها .
الأرض لا تجد مسلكًا تسير فيه سوى هذا المسلك الدائري .. وكل الكواكب محكومة في مسالكها بخطوط دائرية .. هي انحناءات المجال حول الأجسام الأكبر منها ..
الجاذبية ظاهرة أشبه بظاهرة القصور .. الأجسام قاصرة عن أن تتعدى مجالاتها المرسومة ..
ولا يُجدي أن نقول إن الفضاء واسع .. فلماذا تأخذ الأجسام هذه المسارات الدائرية وتعجز عن الخروج منها .. !
فالبحر واسع أيضًا .. ومع هذا حينما تتلقف دوامة حطام إحدى المراكب فإنها تظل تدور به في مجالاتها لا تفلته .. ويعجز بدوره عن الخروج من قبضتها مع أن البحر واسع لا حدود لآفاقه ..
ونحن نرى الطائرات في الجو تتجنب المطبات الهوائية .. والدوامات .. لأنها تفقد تحكمها إذا وقعت في أسرها ..
ولا شك أن جانبًا كبيرًا من غموض المسألة سببه أن عيوننا لا ترى هذه الأشياء التي اسمها خطوط المجال .. إنما نحن نتتبعها عن طريق قياس أثرها ثم نحسب حسبتها في ذهننا عن طريق المعادلات والرموز الرياضية .. ثم نبني لها شكلًا خياليًا في عقلنا ..
أما حكاية المكان والزمان اللذان يؤلفان نسيجًا واحدًا .. فهي مشكلة المشاكل في النسبية ..
فإننا بحكم حواسنا المحدودة لا نستطيع أن نرسم صورة أو شكلًا لهذا الشيء ذي الأبعاد الأربعة ..
..
مقال / البعد الرابع .
من كتاب / أينشتين والنسبية
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ “كل ما نراه ونتصوره ،
خيالات مترجمة لا وجود لها في الاصل ، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صوّرها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة .” . ❝
❞ العالم الذي نراه ليس حقيقياً، إنما هو عالم أصطلاحي بحت نعيش به معتقلين في الرموز التي يختلقها عقلنا ليدلنا على الأشياء غير المعروفة . ❝
❞ خُضرة الحقول اليانعة .. وزرقة السماء الصافية .. وحُمرة الورود الدامية .. وصفرة الرمال الذهبية .. وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء ..
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر .. ليست هي الصورة الحقيقية للإبر .. وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء ..
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره .. خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة ..
أهي أحــــلام .. ؟
هل نحن نحلم .. ولا وجود لهذا العالَم .. هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج .. ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي .. فالعالَم الخارجي موجود .. وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا .. ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم .. حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته .. وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية .. وبشفرة مختلفة ..
ولو أننا كنا نحلم .. ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم .. ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة ..
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية .. ربما ناقصة .. وربما غير صحيحة .. ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا ..
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان .. هناك حقيقة خارجنا ..
إننا لا نحلـــم ..
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة .. وسجناء طبيعتنا العاجزة .. وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها .. ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا .. فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة .. وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة .. وهو لا يميز الألوان ..
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور .. فهي دنيا كلها ظلام .. دنيا خالية من المناظر .. ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد ..
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا .. ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة .. ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها .. لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى ..
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع اصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد .. ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها .. ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها .. ونعرف ســر هذه الدنيا .
ولكن هذا الاتصال غير ممكن .. لأننا الوحيدون في هذه الدنيا الذين نعرف اللغة .. وبقية المخلوقات عجماء ..
مــا الحــل .. ؟!
هل ننتظر حتى نسافر إلى الفضاء ونعثر على مخلوقات في المريخ تقرأ وتكتب .. ؟!
علماء الرياضة يقولون لنا أنه لا داعي لهذا الانتظار .. هناك طريقة أخرى .. طريقة صعبة ولكنها توصل إلى سكة الحقيقة ..
هذه الطريقة هي أن نضع جانبًا كل ما تقوله الحواس .. ونستعمل أساليب أخرى غير السمع والبصر والشم واللمس ..
نستعمل الحساب والأرقام .. نجرد كل المحسوسات إلى أرقام .. ومقادير ..
القائمة الطويلة المعروفة للأشعة الضوئية .. الأصفر والبرتقالي والأحمر والبنفسجي والأزرق والأخضر .. إلخ .. نجردها إلى أرقام ..
كل موجة طولها كذا .. وذبذبتها كذا ..
وكذلك كل صنوف الإشعاع .. أشعة إكس .. أشعة الراديوم .. الأشعة الكونية ..
كلها أمواج .. مثل أمواج اللاسلكي التي نسمع المذيع يقول كل يوم إنها كذا كيلو سيكل في الثانية ..
مجــرد أرقـــام .. نستطيع أن نقيسها ونحسبها ونجمعها ونطرحها .. إذًا نغمض أعيننا ونفكر بطريقة جديدة ..
وبدل أن نقول اللون الأخضر ، واللون الأحمر .. نقول كذا كيلو سيكل ثانية .
والذي أغمض عينيه وبدأ يفكر بهذه الطريقة الجديدة التي أحدَثَت انقلابًا في العلوم .. كان هو العالِم الرياضي ماكس بلانك .. الذي طلع في سنة 1900 بنظريته المعروفة في الطبيعة النظرية الكمّية .. ( Quantum Theory )
وقد بدأ من حقيقة بسيطة معروفة .. أنك إذا سخنت قضيبًا من الحديد .. فإنه في البداية يحمر، ثم يتحول إلى برتقالي، ثم أصفر، ثم أبيض متوهج ..
إذًا هناك علاقة حسابية بين الطاقة التي يشعها الحديد الساخن .. وطول أو ذبذبة الموجة الضوئية التي تنبعث منه ..
هناك معادلة ..
وبدأ يبحث عن هذه المعادلة حتى عثر عليها ..
وجد ببساطة أن الطاقة المشعة مقسومة على الذبذبة ( ن ) تساوي دائمًا كمًا ثابتًا (مثل النسبة التقريبية في الدائرة) هذا الكَم أسماه .. ثابت بلانك ( هـ ) .
والمعادلة هي : الطاقـــة = هـ X ن .
وهي معادلة تقوم على افتراض .. بأن الطاقة المشعة تنبعث في كميات متتابعة .. في دفعات .. أو حزم .. أو حبيبات من الطاقة .. أو ذرّات .
وأطلق على هذه الذرات الضوئية إسم " فوتونات " ..
وفي رسالة نال عليها أينشتين جائزة نوبل قدم دراسة وافية بالمعادلات والأرقام عن العلاقة بين هذه الفوتونات الضوئية الساقطة على لوح معدني .. وبين الكهرباء التي تتولد منه ..
وعلى أساس هذه المعادلات قامت فكرة اختراع التليفزيون فيما بعد ..
يقول أينشتين إن من الظاهرات المعروفة في المعمل أنك إذا أسقطت شعاعًا من الضوء على لوح معدني فإن عددًا من الإلكترونات تنطلق من اللوح .. ولا تتأثر سرعة انطلاق هذه الإلكترونات بشدة الضوء، فمهما خفّ الضوء ومهما ابتعد مصدره فالإلكترونات تنطلق بسرعة ثابتة .. ولكن بعدد أقل .. وإنما تزداد هذه السرعة كلما كانت الموجة الضوئية الساقطة عالية الذبذبة .. ولهذا تزيد في الأشعة البنفسجية وتقل في الحمراء .
وهو يفسر انطلاق هذه الإلكترونات بأن الضوء لا يسقط على اللوح المعدني في سيال متصل .. وإنما في حِزَم من الطاقة .. " فوتونات " وتصطدم هذه الفوتونات بالإلكترونات في اللوح المعدني كما تصدم العصا بكرات البلياردو فتطلقها حرة خارج مداراتها ..
وكلما كانت الأشعة الضوئية ذات ذبذبة عالية ( البنفسجية مثلًا ) كلما كان الفوتون يختزن طاقة أكثر .. كلما أطلق الإلكترونات بسرعة أكثر ..
وربَط هذه العلاقات في سلسلة من المعادلات الرياضية ..
وعمد التليفزيون إلى تطبيق هذه النظرية في جهاز الإرسال التليفزيوني ..
فأنت حينما تجلس أمام كاميرا التليفزيون فإنها تنقل صورتك التي هي عبارة عن نقط من الظل ونقط من النور إلى اللوح المعدني الحساس ..
ونقط النور ونقط الظل الساقطة على اللوح المعدني تطلق سيالًا من الإلكترونات يتفاوت في العدد وفي السرعة حسب الظل والنور في الصورة .. وهذه الخفقات الإلكترونية الكهربائية تنتقل إلى عمود الإرسال وتُذاع على شكل موجات مغناطيسية كهربائية إلى أجهزة الإستقبال .
وأينشتين لم يفكر حينما وضع معادلاته في اختراع التليفزيون .
وعلماء الرياضة لم يُثِر اهتمامهم في ذلك الحين ولا فيما بعد .. ظهور التليفزيون .. وإنما الذي أثارهم هو هذا الإفتراض الجديد الذي أقام عليه ماكس بلانك معادلاته في النظرية الكمّية، وأقام عليه أينشتين معادلاته في الظاهرة الضوئية الكهربائية ..
أن الضوء ينطلق في ذرّات أو فوتونات لا في أمواج متصلة .. فالضوء حتى ذلك الحين كانت طبيعته موجية .. فكيف يصبح شأنه شأن المادة .. مؤلَف من ذرات أو فوتونات .. !
وماذا تكون هذه الفوتونات .. ؟؟
هل هي كرات من الطاقة لها حيز، ولها أوضاع في المكان .. شأنها في ذلك شأن جزيئات المادة .. ؟!
وإذا كان الضوء ذرّات .. فكيف يتصرف كما لو كان أمواجًا .. ؟!
لماذا يحيد الضوء حينما يدخل من ثقب ضيق كما تحيد أمواج البحر حينما تدخل في مضيق .. ولماذا ينعطف الضوء حول شعرة رفيعة فلا يبدو لها ظل .. كما تنعطف الأمواج وتتلاحم حول عصا مرشوقة في البحر .. ؟!
وكيف نفرِّق بين المعادلات التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته موجية متصلة وبين المعادلات الجديدة التي تحسب الضوء على أساس أن طبيعته ذريّة متقطعة .. !
أم أن للضوء طبيعة مزدوجة .. ؟! وكيــف .. ؟؟ !!
كيف تكون الحقيقة بهذا التناقض .. ؟!
أم أنه لا توجد حقيقة واحدة ... ؟!
مقال / كل شيء ذرّات
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور/ مصطفى محمود (رحمه الله ) . ❝
❞ لا شيء يبعث على الحيرة أكثر من هذه الكلمة المبهمة الغامضة .. الزمان .. !
ما هو الزمان .. ؟
هناك زمان نتداوله في معاملاتنا ونعبر عنه بالساعة واليوم والشهر .
وهناك زمان نفساني داخلي يشعر به كل منا في دخيلة نفسه ..
والزمان الخارجي الذي نتداوله زمان مشترَك .. نتحرك فيه كما يتحرك غيرنا .. نحن فيه مجرد حادثة من ملايين الحوادث .. ومرجعنا فيه تقويم خارجي .. أو نتيجة حائط .
أما الزمن الداخلي فهو زمن خاص .. لا يقبل القياس .. لأنه لا مرجع له سوى صاحبه .. وصاحبه يختلف في تقديره .. فهو يشعر به شعورًا غير متجانس .. لا توجد فيه لحظة تساوي اللحظة الأخرى ..
فهناك اللحظة المشرقة المليئة بالنشوة التي تحتوي على أقدار العمر كله ..
وهناك السنوات الطويلة الفارغة التي تمر رتيبة خاوية كأنها عدم .. وهو زمن متصل في ديمومة شعورية وكأنه حضور أبدي، الماضي فيه يوجد كذكرى في الحاضر .
والمستقبل يولد كتطلع وتشوف في الحاضر، اللحظة الحاضرة هي كل شيء .. ونحن ننتقل من لحظة حاضرة إلى لحظة حاضرة ..
ولا ننتقل من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل ..
نحن نعيش في حضور مستمر، نعيش شاخصين باستمرار إلى سيّال من الحوادث ينهال أمام حواسنا .. لا نعرف في هذا الزمن الداخلي سوى "الآن"، ننتقل من "الآن" إلى "الآن" ، ولا يبدو انقطاع النوم في هذه الآنات إلا كانقطاع وهمي ما يلبث أن تصله اليقظة .
هذا الزمن الذاتي النفسي ليس هو الزمن الذي يقصده أينشتين في نظريته النسبية ..
إنه زمن برجسون، وسارتر، وهيدجر، وكيركجراد وسائر الفلاسفة الوجوديين . ( وهم يسمونه الزمن الوجودي ) ولكنه ليس زمن أينشتين .
أما زمن أينشتين فهو الزمن الخارجي الموضوعي .. الزمن الذي نشترك فيه كأحداث ضمن الأحداث اللانهائية التي تجري في الكون .. الزمن الذي نتحرك بداخله .. وتتحرك الشمس بداخله .. وتتحرك كافة النجوم والكواكب .
وهو زمن له معادل موضوعي في نور النهار .. وانحراف الظل .. وظلمة الليل .. وحركات النجوم .. وهو الزمن الذي نتفاهم من خلاله ونأخذ المواعيد ونرتبط بالعقود ونتعهد بالالتزامات .
** ** **
ماذا يقول أينشتين في هذا الزمان .. ؟
إنه يتناوله في نظريته النسبية بنفس الطريقة التي يتناول بها المكان .
المكان المطلق في النظرية النسبية لا وجود له .. إنه لا أكثر من تجريد ذهني خادع ..
المكان الحقيقي هو مقدار متغير يدل على وضع جسم بالنسبة لآخر .. ولأن الأجسام كلها متحركة فالمكان يصبح مرتبطًا بالزمان بالضرورة .. وفي تحديد وضع أي جسم يلزم أن نقول إنه موجود في المكان كذا في الوقت كذا .. لأنه في حركة دائمة .
وبهذا ينقلنا أينشتين في نظريته إلى الزمان ليشرح هذه الرابطة الوثيقة بين الزمان والمكان .. فيقول أنه حتى الزمان بالتعبير الدارج عبارة عن تعبير عن انتقالات رمزية في المكان ..
الزمن المعروف باليوم والشهر والسنة ما هو إلا مصطلحات ترمز إلى دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس .. أو بشكل آخر " مصطلحات لأوضاع مختلفة في المكان " .
الساعة هي دورة الأرض 15 درجة حول نفسها ..
واليوم هو دورة كاملة ..
والسنة هي التفافها الكامل حول الشمس ..
حتى الساعة التي نحملها في معصمنا عبارة عن انتقالات في المكان ( انتقالات عقرب على ميناء دائري من رقم إلى رقم ) .
الزمان والمكان متصلان في حقيقة واحدة .
وينتقل بعد هذا إلى النقطة الثانية فيقول :
إن كل الساعات التي نستخدمها على الأرض مضبوطة على النظام الشمسي .. لكن النظام الشمسي ليس هو النظام الوحيد في الكون ..
فلا يمكن أن نفرض تقويمها الزمني على الكون، ونعتبر الكميات التي نقيس بها كميات مطلقة منزلة .
فالإنسان الذي يسكن عطارد مثلًا .. سوف يجد للزمن دلالات مختلفة، إذ أن عطارد يدور حول نفسه في 88 يومًا .. وهو في هذه المدة نفسها يكون قد دار أيضًا حول الشمس ..
ومعنى هذا أن طول اليوم العطاردي يساوي طول السنة العطاردية .. وهو تقويم يختلف تمامًا عن تقويمنا .
وبذلك يكون الزمن مقدارًا لا معنى له إذا لم ينسب إلى النظام الذي اشتق منه .
ولا يمكن أن نفرض كلمة مثل "الآن" على الكون كله ..
فهي أولًا كلمة ذاتية نفسية .. وحتى إذا اقتصرنا على معناها الموضوعي وهو تواقت حدثين وحدوثهما معًا في ذات اللحظة .. فإن هذا التواقت لا يمكن أن يحدث بين أنظمة مختلفة لا اتصال بينها .
ويشرح أينشتين هذه النقطة وهي من أعمق تطبيقات النسبية وأكثرها غموضًا .. فيقول :
إن متكلمًا من نيويورك يمكن أن يخاطب في التليفون متكلمًا آخر في لندن .. ويكون الأول يتحدث في ساعة الغروب بينما الآخر في منتصف الليل ..
ومع ذلك يمكن لنا أن نجزم بتواقت الحدثين وحدوثهما معًا في ذات اللحظة .. والسبب أن الحدثين يحدثان معًا على أرض واحدة خاضعة لتقويم واحد هو التقويم الشمسي .. ومن الممكن استنباط فروق التوقيت ورد هذه الآنية ( الحدوث في آن واحد ) إلى مرجعها .. وهو النظام الواحد ..
أما القول بأنه من الممكن أن يحدث على الأرض .. وعلى كوكبه الجبار مثلًا .. أو الشعرى اليمانية .. أحداث متواقتة في آن واحد .. فهو أمر مستحيل .. لأنها أنظمة مختلفة لا اتصال بينها .. والاتصال الوحيد وهو الضوء يأخذ آلاف السنين لينتقل من واحد من هذه الأنظمة إلى الآخر ..
ونحن حينما نرى أحد هذه النجوم ويخيل إلينا أننا نراه "الآن" نحن في الحقيقة نراه عن طريق الضوء الذي ارتحل عنه منذ ألوف السنين ليصلنا ..
نحن في الواقع نرى ماضيه ويخيل إلينا أننا حاضره .. وقد يكون في الحاضر قد انفجر واختفى أو ارتحل بعيدًا خارج نطاق رؤيتنا .. وما نراه في الواقع إشارة إلى ماضٍ لم يعد له وجود بالمرة .
لابد أولًا لكي نجزم "بالآنيّة" من أن نعرف العلاقات بين الحوادث والمجاميع الكونية .. ونعرف نسبية كل مقدار موجود في إحدى المجاميع إلى المقادير الموجودة في المجاميع الأخرى .. ولابد من وجود وسيلة اتصال حاسمة تنقلنا عبر الأبعاد الفلكية الشاسعة .
ولكن للأسف أسرع وسيلة مواصلات كونية إلى الآن هي الضوء .. وسرعته 186284 ميلا في الثانية .. وهذه السرعة تمثل حدود معلوماتنا، والسقف الذي تنتهي عنده المعادلات والرياضيات النسبية الممكنة .
ويعود أينشتين فيشرح هذا الكلام بتجربة خيالية ..
إنه يتصور شخصًا جالسًا على رصيف محطة في منتصف مسافة بين النقطتين ا ، ب على شريط سكة حديد يجري عليه قطار .. ويتخيل أن ضربتين من البرق حدثتا في نفس الوقت وأنهما سقطتا على القضيب عند ( ا ) وعند ( ب ) . وأن الشخص الجالس على الرصيف يراقب العملية مزودًا بمرايا جانبية عاكسة سوف يرى ضربتي البرق في وقت واحد فعلًا .
فإذا حدث وجاء قطار سريع متجهًا من ( ب ) إلى ( ا ) وكان على القطار شخص آخر مزودًا بمرايا عاكسة ليلاحظ ما يجري .. فهل يلاحظ أن ضربتي البرق حدثتا في وقت واحد في اللحظة التي يصبح فيها محاذيًا للملاحِظ على الرصيف . . ؟
وليقرب أينشتين المثَل إلى الذهن يفترض أن القطار يسير بسرعة الضوء فعلًا 186284 ميلًا في الثانية .. ومعنى هذا أن ضربة البرق ( ب ) التي تركها خلفه لن تلحق به لأنه يسير بنفس سرعة موجة الضوء .. وهو لهذا لن يرى إلا ضربة البرق ( ا ) .
فلو كانت سرعة القطار أقل من سرعة الضوء .. فإن ضربة البرق ( ب ) سوف تلحق بعده متأخرة .. بينما سيشاهد ضربة البرق ( ا ) قبلها .. وبذلك لن يرى الحدثين متواقتين .. في آن واحد .. بينما يراهما الملاحِظ على الرصيف متواقتين في آن واحد .
وبهذا التناقض يشرح لنا أعمق ما في نظريته .. ما يسميه " نسبية الوقت الواحد " .. وكيف أن الإنسان لا يستطيع أن يطلق كلمة "الآن" على الكون .. وإنما يمكن أن يطلقها على نظامه الزمني .. لأن كل مجموعة من الأجسام لها زمنها الخاص ومرجعها الخاص ..
فإذا حدث وكانت هناك مجموعتان متحركتان .. كما في تجربة الملاحظ المتحرك على القطار .. والملاحظ الواقف على الرصيف .. فإننا نقع في التناقض إذا حاولنا المساواة بين الاثنين .
والنتيجة الهامة التي يخرج بها أينشتين من هذه التجربة .. أن الزمن مقدار متغير في الكون .. وأنه لا يوجد زمن واحد للكون كله ممتد من مبدأ الوجود والخليقة إلى الآن .. وإنما يوجد عديد من الأزمان .. كلها مقادير متغيرة لا يمكن نسبتها إلى بعضها إلا بالرجوع إلى أنظمتها واكتشاف علاقة حوادثها بعضها بالبعض وتحقيق الاتصال بينها . وهذا مستحيل .. لسبب بسيط ..
أن أسرع المواصلات الكونية وهي الضوء .. لا تستطيع أن تحقق تواقتًا بين أطرافه ..
والنتيجة الثانية التي يخرج بها .. أنه بما أن سرعة الضوء هي الثابت الكوني الوحيد .. فينبغي تعديل الكميات التي نعبِّر بها عن الزمان والمكان في كل معادلاتنا لتتفق مع هذه الحقيقة الأساسية ..
ومن الآن فصاعدًا يصبح الزمان مقدارًا متغيرًا .. والمكان مقدارًا متغيرًا .
وهذا يلقي بنا إلى نتائج مدهشة ..
..
مقال / الزمان
من كتاب / أينشتين والنسبيه
للدكتور / مصطفى محمود (رحمه الله) . ❝
❞ خُضرة الحقول اليانعة .. وزرقة السماء الصافية .. وحُمرة الورود الدامية .. وصفرة الرمال الذهبية .. وكل الألوان المبهجة التي نشاهدها في الأشياء لا وجود لها أصلًا في الأشياء ..
وإنما هي اصطلاحات جهازنا العصبي وشفرته التي يترجم بها أطوال الموجات الضوئية المختلفة التي تنعكس عليه .
إنها كآلام الوخز التي نشعر بها من الإبر .. ليست هي الصورة الحقيقية للإبر .. وإنما هي صورة لتأثرنا بالإبر .
وبالمثل طعم الأشياء ورائحتها وملمسها وصلابتها وليونتها وشكلها الهندسي وحجمها، لا تقدم لنا صورة حقيقية لما نلمسه ونشمه ونذوقه، وإنما هي مجرد الطريقة التي نتأثر بها بهذه الأشياء ..
إنها ترجمة ذاتية لا وجود لها خارجنا .
كل ما نراه ونتصوره .. خيالات مترجَمة لا وجود لها في الأصل، مجرد صور رمزية للمؤثرات المختلفة صورها جهازنا العصبي بأدواته الحسية المحدودة ..
أهي أحــــلام .. ؟
هل نحن نحلم .. ولا وجود لهذا العالَم .. هل هذه الصفات تقوم في ذهننا دون أن يكون لها مقابل في الخارج .. ؟؟
البداهة والفطرة تنفي هذا الرأي .. فالعالَم الخارجي موجود .. وحواسنا تحيلنا دائمًا على شيء آخر خارجنا .. ولكن هناك فجوة بيننا وبين هذا العالَم .. حواسنا لا تستطيع أن تراه على حقيقته .. وإنما هي تترجمه دائمًا بلغة خاصة وذاتية .. وبشفرة مختلفة ..
ولو أننا كنا نحلم .. ولو أننا كنا نهذي كل منا على طريقته لما استطعنا أن نتفاهم .. ولما استطعنا أن نتفق على حقيقة موضوعية مشتركة ..
ولكننا في الحقيقة نتناول بين أيدينا تراجم حسية .. ربما ناقصة .. وربما غير صحيحة .. ولكنها تراجِم لها أصل أمامنا ..
هناك نسخة موضوعية من الحقيقة نحاول أن نغش منها على قدر الإمكان .. هناك حقيقة خارجنا ..
إننا لا نحلـــم ..
وإنما نحن سجناء حواسنا المحدودة .. وسجناء طبيعتنا العاجزة .. وما نراه يُنقَل إلينا دائمًا مشوَّهًا وناقصًا ومبتورًا نتيجة رؤيتنا الكليلة .
والنتيجة أن هناك أكثر من دنيا ..
هناك الدنيا كما هي في الحقيقة وهذه لا نعرفها .. ولا يعرفها إلا الله .
وهناك الدنيا كما يراها الصرصور .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيانا، لأن الجهاز العصبي للصرصور مختلف تمامًا عن جهازنا .. فهو يرى الشمس يطريقة مختلفة .. وهو لا يرى الشجرة كما نراها نحن شجرة .. وهو لا يميز الألوان ..
وهناك الدنيا كما تراها دودة الإسكارس .. وهي مختلفة تمامًا عن دنيا الصرصور .. فهي دنيا كلها ظلام .. دنيا خالية من المناظر .. ليس فيها سوى إحساسات بليدة تنتقل عن طريق الجِلد ..
وهكذا كل طبقة من المخلوقات لها دنيا خاصة بها .
ومنذ لحظة الميلاد يتسلم كل مخلوق بطاقة دعوة إلى محفل من محافل هذه الدنيا .. ويجلس إلى مائدة مختلفة ليتذوّق أطعمة مختلفة .. ولذائذ وآلام مختلفة .
وكل طبقة من المخلوقات تعيش سجينة في تصوراتها .. لا تستطيع أن تصف الصور التي تراها الطبقات الأخرى ..
لا يمكننا نحن الآدميون أن نتكلم مع الطيور أو الزواحف أو الديدان أو الحشرات لنشرح لها ما نراه من الدنيا .
ولا يستطيع الصرصور أن يخاطبنا ويصف لنا العالَم الذي يعيش فيه .
وربما لو حدث هذا في يومٍ ما لأمكننا أن نصل إلى ما يشبه حجر رشيد .. ولأمكننا أن نتوصل إلى عدة شفرات، ولغات مختلفة للدنيا نضعها تحت بعضها ونفكك طلاسمها .. ونستنبط منها الحقيقة التي تحاول هذه الشفرات الرمزية أن تصفها .. ونعرف ســر هذه الدنيا ..💚
. ❝
❞ الإنسان مخيَّر فيما يعلم
مسيَّر فيما لا يعلم
وهو يعني بهذا أنه كلما اتسع علمه اتسع مجال حريته .. سواء كان العلم المقصود هو العلم الموضوعي أو العلم اللدنِّي . ❝
❞ ❞ أوهن البيوت في القرآن هو بيت العنكبوت .. لم يقل الله خيط العنكبوت بل قال بيت العنكبوت .. وخيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب أربع مرات ..!
إنما الوهن في البيت لا في الخيط .. حيث يكون البيت أسوأ ملجأ لمن يحتمي فيه .. فهو مصيدة لمن يقع فيه من الزوار الغرباء .. وهو مقتل حتى لأهله .. فالعنكبوت الأنثى تأكل زوجها بعد التلقيح .. وتأكل أولادها عند الفقس ..والأولاد يأكل بعضهم بعضًا ..!
إن بيت العنكبوت هو أبلغ مثال يضرب عن سوء الملجأ وسوء المصير .. وهكذا حال من يلجأ لغير الله .. وهنا بلاغه الآية: ˝مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ˝
وجاءت خاتمه الآية عبارة (لو كانوا يعلمون) إشارة إلى أنه علم لن يظهر إلا متأخرًا .. ومعلوم أن هذه الأسرار البيولوجيه لم تظهر إلا متأخرة ..
---. ❝ ⏤مصطفى محمود . ❝