❞ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ۚ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قوله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين
قوله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك
, وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض ; أي أقدرناه على ما يريد . وقال إلكيا الطبري قوله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض دليل على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح
, وما فيه الغبطة والصلاح
, واستخراج الحقوق
, ومثله قوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وحديث أبي سعيد الخدري في عامل خيبر
, والذي أداه من التمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما قاله . قلت : وهذا مردود على ما يأتي . يقال : مكناه ومكنا له
, قال الله تعالى : مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم . قال الطبري : استخلف الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل إطفير وعزله ; قال مجاهد : وأسلم على يديه . قال ابن عباس : ملكه بعد سنة ونصف . وروى مقاتل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته . ثم مات إطفير فزوجه الوليد بزوجة إطفير راعيل
, فدخل بها يوسف فوجدها عذراء
, وولدت له ولدين : إفراثيم ومنشا
, ابني يوسف
, ومن زعم أنها زليخاء قال : لم يتزوجها يوسف
, وأنها لما رأته في موكبه بكت
, ثم قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية
, والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا
, فضمها إليه
, فكانت من عياله حتى ماتت عنده
, ولم يتزوجها ; ذكره الماوردي ; وهو خلاف ما تقدم عن وهب
, وذكره الثعلبي ; فالله أعلم . ولما فوض الملك أمر مصر إلى يوسف تلطف بالناس
, وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به
, وأقام فيهم العدل
, فأحبه الرجال والنساء
, قال وهب والسدي وابن عباس وغيرهم : ثم دخلت السنون المخصبة
, فأمر يوسف بإصلاح المزارع
, وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة
, فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت
, ثم بنى لها الأهراء
, فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها
, ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك
, حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل جبريل وقال : يا أهل مصر جوعوا ; فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين . وقال بعض أهل الحكمة : للجوع والقحط علامتان : إحداهما : أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة
, ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك
, وتأخذ من الطعام فوق الكفاية . والثانية : أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية
, فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد يوسف
, فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع !! ويأكلون ولا يشبعون
, وانتبه الملك
, ينادي الجوع الجوع !! قال : فدعا له يوسف فأبرأه الله من ذلك
, ثم أصبح فنادى يوسف في أرض مصر كلها ; معاشر الناس ! لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء . وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف ; قال ابن عباس : لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل
, فهتف الملك يا يوسف ! الجوع الجوع !! فقال يوسف : هذا أوان القحط ; فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة
, فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف ; فباعهم أول سنة بالنقود
, حتى لم يبق بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه ; وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر
, حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ; وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب
, حتى احتوى عليها أجمع
, وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء
, حتى احتوى على الكل ; وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع
, حتى ملكها كلها ; وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم
, حتى لم يبق في السنة السابعة بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له ; فقال الناس : والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا ; فقال يوسف لملك مصر : كيف رأيت صنع ربي فيما خولني ! والآن كل هذا لك
, فما ترى فيه ؟ فقال : فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت
, وإنما نحن لك تبع ; وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك
, ولا أنا إلا من بعض مماليكك
, وخول من خولك ; فقال يوسف - عليه السلام - : إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم
, ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء ; وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم
, ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم
, ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي . ويروى أن يوسف - عليه السلام - كان لا يشبع من طعام في تلك السنين
, فقيل له : أتجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع ; وأمر يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار
, حتى يذوق الملك طعم الجوع . فلا ينسى الجائعين ; فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار .
قوله تعالى : نصيب برحمتنا من نشاء أي بإحساننا ; والرحمة النعمة والإحسان .
ولا نضيع أجر المحسنين أي ثوابهم . وقال ابن عباس ووهب : يعني الصابرين ; لصبره في الجب
, وفي الرق
, وفي السجن
, وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة . وقال الماوردي : واختلف فيما أوتيه يوسف من هذه الحال على قولين : أحدهما : أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه . الثاني : أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه
, وثوابه باق على حاله في الآخرة .. ❝