█ _ محمد رشيد رضا 1936 حصريا كتاب ❞ تفسير سورة يوسف ❝ عن دار المنار 2024 يوسف: وصف pdfتاليف رضا (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن)آية مليئة بالمعاني الكثيرة التي تيبن أروع حدثت تعرض سيدنا لظلم من إخوته حتي يقربوا أباهم منهم لأن الشيطان أوهمهم أنه بعيد عنهم ولكن كان لذالك القصة حكمة الله وهو نشر الدين بلاد مصر حتى تحقق أمر بفضله وإرادته إسلامية متنوعة مجاناً PDF اونلاين مكتبة الكتب الاسلاميه المتنوعه التى يوجد بها موضوعات كثيره فى شتى فروع الاسلامى وتشمل ( الملائكة المقدسة الرسل والأنبياء يوم القيامة القضاء والقدر شعائر وعبادات أركان الإسلام الإحسان أخرى الجهاد الآداب والطعام الشريعة والفقه الإسلامي مصادر التشريع المذاهب الفقهية الكبرى التاريخ العصر النبوى عصر الخلفاء الراشدين الأموي العبّاسي العثماني ما بعد دور العبادة الأسرة رجال واليهودية والمسيحية والعقائد الشرقية رأي غير المسلمين ) كلمة : في اللغة المقصود الاستسلام والانقياد أما معناها شرعاً فهو: والخضوع لله تعالى وأنّ المُسلم يُسِلّم أمره كُله الواحد القهار والإسلام ديانة إبراهيمية سماوية إلهية وآخر الديانات السماوية وهي ثاني حيث عدد المعتنقين الديانة المسيحيّة ولكنها أكثر مُنتشرة جغرافيّاً وجه الكُرة الأرضيّة وأنزل عز وجل القرآن الكريم آخر أنزله وحفظه ليكون صالحاً كل مكان وزمان المسلمون يؤمنون بأنّ عبادة وعدم الشرك به فرض عليهم مع تصديق الرسول صل عليه وسلم والإيمان بالقرآن وقراءته وتدبره واتباعه الواجبات يؤمن بالدين الإسلاميّ أركان : نطق الشهادتين "أشهد أن لا اله الا وأشهد محمداً رسول الله الصلاة خمس صلوات اليوم الزكاة إعطاء مال للمساكين والفُقراء صوم رمضان صوم شهر كُل سنة حج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً زيارة مكة المُكرمة وأداء مناسك الحج وقد فُرض مرة العُمر قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمرَةَ لِلّهِ ) أركان الإيمان بالله نؤمن بوحدانيّة إشراك أحد معه الربوبية الإيمان بالملائكة الترتيب الثاني الله الإيمان باليوم الآخر يجب يكون إيمانه الإيمان بالقدر خيره وشره أساسيات بربوبية
❞ قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قوله تعالى : قل هذه سبيلي ابتداء وخبر ; أي قل يا محمد هذه طريقي وسنتي ومنهاجي ; قاله ابن زيد . وقال الربيع : دعوتي ، مقاتل : ديني ، والمعنى واحد ; أي الذي أنا عليه وأدعو إليه يؤدي إلى الجنة .
" على بصيرة " أي على يقين وحق ; ومنه : فلان مستبصر بهذا . " أنا " توكيد . " ومن اتبعني " عطف على المضمر .
وسبحان الله أي قل يا محمد : وسبحان الله .
وما أنا من المشركين الذين يتخذون من دون الله أندادا . ❝
❞ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قوله تعالى : قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه خاطبوه باسم العزيز إذ كان في تلك اللحظة بعزل الأول أو موته . وقولهم : إن له أبا شيخا كبيرا أي كبير القدر ، ولم يريدوا كبر السن ; لأن ذلك معروف من حال الشيخ . فخذ أحدنا مكانه أي عبدا بدله ; وقد قيل : إن هذا مجاز ; لأنهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر يسترق بدل من قد أحكمت السنة عندهم رقه ; وإنما هذا كما تقول لمن تكره فعله : اقتلني ولا تفعل كذا وكذا ، وأنت لا تريد أن يقتلك ، ولكنك مبالغ في استنزاله . ويحتمل أن يكون قولهم : فخذ أحدنا مكانه حقيقة ; وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يروا استرقاق حر ، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الحمالة ; أي خذ أحدنا مكانه . حتى ينصرف إليك صاحبك ; ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ; ويعرف يعقوب جلية الأمر ; فمنع يوسف - عليه السلام - من ذلك ، إذ الحمالة في الحدود ونحوها - بمعنى إحضار المضمون فقط - جائزة مع التراضي ، غير لازمة إذا أبى الطالب ; وأما الحمالة في مثل هذا على أن يلزم الحميل ما كان يلزم المضمون من عقوبة ، فلا يجوز إجماعا . وفي ˝ الواضحة ˝ : إن الحمالة في الوجه فقط في جميع الحدود جائزة ، إلا في النفس . وجمهور الفقهاء على جواز الكفالة في النفس . واختلف فيها عن الشافعي ; فمرة ضعفها ، ومرة أجازها .
قوله تعالى : إنا نراك من المحسنين يحتمل أن يريدوا وصفه بما رأوا من إحسانه في جميع أفعاله معهم ، ويحتمل أن يريدوا : إنا نرى لك إحسانا علينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا ; وهذا تأويل ابن إسحاق . ❝
❞ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ۖ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ۖ هَٰذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ۖ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ۖ ذَٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
قوله تعالى : ولما فتحوا متاعهم الآية ليس فيها معنى يشكل .
ما نبغي ˝ ما ˝ استفهام في موضع نصب ; والمعنى : أي شيء نطلب وراء هذا ؟ ! وفى لنا الكيل ، ورد علينا الثمن ; أرادوا بذلك أن يطيبوا نفس أبيهم . وقيل : هي نافية ; أي لا نبغي منك دراهم ولا بضاعة ، بل تكفينا بضاعتنا هذه التي ردت إلينا . وروي عن علقمة ˝ ردت إلينا ˝ بكسر الراء ; لأن الأصل ، رددت ; فلما أدغم قلبت حركة الدال على الراء .
وقوله : ونمير أهلنا أي نجلب لهم الطعام ; قال الشاعر :
بعثتك مائرا فمكثت حولا متى يأتي غياثك من تغيث
وقرأ السلمي بضم النون ، أي نعينهم على الميرة .
ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير أي حمل بعير لبنيامين . ❝
❞ ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قوله تعالى : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون
قوله تعالى : ذلك من أنباء الغيب ابتداء وخبر . نوحيه إليك خبر ثان . قال الزجاج : ويجوز أن يكون " ذلك " بمعنى الذي ، " نوحيه إليك " خبره ; أي الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك ; يعني هو الذي قصصنا عليك يا محمد من أمر يوسف من أخبار الغيب نوحيه إليك أي نعلمك بوحي هذا إليك .
وما كنت لديهم أي مع إخوة يوسف
إذ أجمعوا أمرهم في إلقاء يوسف في الجب .
وهم يمكرون أي بيوسف في إلقائه في الجب . وقيل : يمكرون بيعقوب حين جاءوه بالقميص ملطخا بالدم ; أي ما شاهدت تلك الأحوال ، ولكن الله أطلعك عليها . ❝
❞ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ (14)
قوله تعالى : قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة أي جماعة نرى الذئب ثم لا نرده عنه .
إنا إذا لخاسرون أي في حفظنا أغنامنا ; أي إذا كنا لا نقدر على دفع الذئب عن أخينا فنحن أعجز أن ندفعه عن أغنامنا . وقيل : ˝ لخاسرون ˝ لجاهلون بحقه . وقيل : لعاجزون . ❝
❞ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
قوله تعالى : ورفع أبويه على العرش قال قتادة : يريد السرير ، وقد تقدمت محامله ; وقد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه ; ومنه قول النابغة الذبياني :
عروش تفانوا بعد عز وأمنة
وقد تقدم .
قوله تعالى : وخروا له سجدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وخروا له سجدا الهاء في ˝ خروا له ˝ قيل : إنها تعود على الله تعالى ; المعنى : وخروا شكرا لله سجدا ; ويوسف كالقبلة لتحقيق رؤياه ، وروي عن الحسن ; قال النقاش : وهذا خطأ ; والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة : رأيتهم لي ساجدين . وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف ، والصغير للكبير ; سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف - عليه السلام - فاقشعر جلده وقال : هذا تأويل رؤياي من قبل وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة . وقال سلمان الفارسي وعبد الله بن شداد : أربعون سنة ; قال عبد الله بن شداد : وذلك آخر ما تبطئ الرؤيا . وقال قتادة : خمس وثلاثون سنة . وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة : ست وثلاثون سنة . وقال الحسن وجسر بن فرقد وفضيل بن عياض : ثمانون سنة . وقال وهب بن منبه : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة . وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب . وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة . وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة ، ثم توفي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : أقام عنده ثماني عشرة سنة . وقال بعض المحدثين : بضعا وأربعين سنة ; وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله . وقال ابن إسحاق : ثماني عشرة سنة ، والله أعلم .
الثانية : قال سعيد بن جبير عن قتادة عن الحسن : في قوله : وخروا له سجدا - قال : لم يكن سجودا ، لكنه سنة كانت فيهم ، يومئون برءوسهم إيماء ، كذلك كانت تحيتهم . وقال الثوري والضحاك وغيرهما : كان سجودا كالسجود المعهود عندنا ، وهو كان تحيتهم . وقيل : كان انحناء كالركوع ، ولم يكن خرورا على الأرض ، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء ، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا ، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء . وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة ; قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم ; وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة .
قلت : هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية ، وعند العجم ، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض ; حتى إن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به ، وأنه لا قدر له ; وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض ، عادة مستمرة ، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء نكبوا عن السنن ، وأعرضوا عن السنن . وروى أنس بن مالك قال : قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا ؟ قال : لا ; قلنا : أفيعتنق بعضنا بعضا ؟ قال لا . قلنا : أفيصافح بعضنا بعضا ؟ قال نعم . خرجه أبو عمر في ˝ التمهيد ˝ فإن قيل : فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : قوموا إلى سيدكم وخيركم - يعني سعد بن معاذ - قلنا : ذلك مخصوص بسعد لما تقتضيه الحال المعينة ; وقد قيل : إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار ; وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه ، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار . وجاء عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يقومون له إذا رأوه ، لما يعرفون من كراهته لذلك .
الثالثة : فإن قيل : فما تقول في الإشارة بالإصبع ؟ قيل له : ذلك جائز إذا بعد عنك ، لتعين له به وقت السلام ، فإن كان دانيا فلا ; وقد قيل بالمنع في القرب والبعد ; لما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : من تشبه بغيرنا فليس منا . وقال : لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة . وإذا سلم فإنه لا ينحني ، ولا أن يقبل مع السلام يده ، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله . وأما تقبيل اليد فإنه من فعل الأعاجم ، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم ; قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رءوس أكاسرتها فهذا مثله . ولا بأس بالمصافحة ; فقد صافح النبي - صلى الله عليه وسلم - جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة ، وأمر بها ، وندب إليها ، وقال : تصافحوا يذهب الغل وروى غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا التقوا تصافحوا ، وإذا قدموا من سفر تعانقوا ; فإن قيل : فقد كره مالك المصافحة ؟ قلنا : روى ابن وهب عن مالك أنه كره المصافحة والمعانقة ، وذهب إلى هذا سحنون وغيره من أصحابنا ; وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة ، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ ; وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف . قال ابن العربي : إنما كره مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين ، ولا منقولا نقل السلام ; ولو كانت منه لاستوى معه
قلت : قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها ، والدأب عليها والمحافظة ; وهو ما رواه البراء بن عازب قال : لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم ؟ فقال : نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما .
قوله تعالى : وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ولم يقل من الجب استعمالا للكرم ; لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله : لا تثريب عليكم .
قلت : وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية : ذكر الجفا في وقت الصفا جفا ، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب . وقيل : لأن في دخوله السجن كان باختياره بقوله : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وكان في الجب بإرادة الله تعالى له . وقيل : لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة ، وفي الجب مع الله تعالى ; وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر ، لأنه دخله بسبب أمر هم به ; وأيضا دخله باختياره إذ قال : رب السجن أحب إلي فكان الكرب فيه أكثر ; وقال فيه أيضا : اذكرني عند ربك فعوقب فيه .
وجاء بكم من البدو يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان ، وكانوا أهل مواش وبرية ; وقيل : كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها ، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية . وقيل : إنه كان خرج إلى بدا ، وهو موضع ; وإياه عنى جميل بقوله :
وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما
وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا ، كما يقال : غاروا غورا أي أتوا الغور ; والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ; ذكره القشيري ، وحكاه الماوردي عن الضحاك عن ابن عباس .
من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي بإيقاع الحسد ; قاله ابن عباس . وقيل : أفسد ما بيني وبين إخوتي ; أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه .
إن ربي لطيف لما يشاء أي رفيق بعباده . وقال الخطابي : اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون ; كقوله : الله لطيف بعباده يرزق من يشاء . وقيل : اللطيف العالم بدقائق الأمور ; والمراد هنا الإكرام والرفق . قال قتادة ، لطف بيوسف بإخراجه من السجن ، وجاءه بأهله من البدو ، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان . ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب ; وأخبره بقدومه فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه ; فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم ; وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب ، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا ; فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال : يا يهوذا ! هذا فرعون مصر ؟ قال : لا ، بل هذا ابنك يوسف ; فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك ، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ; فابتدأ يعقوب بالسلام فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وبكى وبكى معه يوسف ; فبكى يعقوب فرحا ، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن ; قال ابن عباس : فالبكاء أربعة ، بكاء من الخوف ، وبكاء من الجزع ، وبكاء من الفرح ، وبكاء رياء . ثم قال يعقوب : الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان ، ودخل ، مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته ; فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف ; وقطعوا البحر مع موسى - عليه السلام - ; رواه عكرمة عن ابن عباس . وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا . وقال الربيع بن خيثم : دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف . وقال وهب بن منبه : دخل يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير ، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون ، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا مقاتلين ، سوى الذرية . والهرمى والزمنى ; وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة ، وقال أهل التواريخ : أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة ، ومات بمصر ، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل ، ثم انصرف إلى مصر . قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب - صلى الله عليه وسلم - في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ، ووافق ذلك يوم مات عيصو ، فدفنا في قبر واحد ; فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس ، من فعل ذلك منهم ; وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد ، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة . ❝
❞ تعرض سيدنا يوسف لظلم من إخوته حتي يقربوا أباهم منهم لأن الشيطان أوهمهم أنه بعيد عنهم ولكن كان لذالك القصة حكمة من الله وهو نشر الدين في بلاد مصر حتى تحقق أمر الله بفضله وإرادته . ❝
❞ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ۖ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
قوله تعالى : وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون
قوله تعالى : وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان لما دنا فرج يوسف - عليه السلام - رأى الملك رؤياه ، فنزل جبريل فسلم على يوسف وبشره بالفرج وقال : إن الله مخرجك من سجنك ، وممكن لك في الأرض ، يذل لك ملوكها ، ويطيعك جبابرتها ، ومعطيك الكلمة العليا على إخوتك ، وذلك بسبب رؤيا رآها الملك ، وهي كيت وكيت ، وتأويلها كذا وكذا ، فما لبث في السجن أكثر مما رأى الملك الرؤيا حتى خرج ، فجعل الله الرؤيا أولا ليوسف بلاء وشدة ، وجعلها آخرا بشرى ورحمة ; وذلك أن الملك الأكبر الريان بن الوليد رأى في نومه كأنما خرج من نهر يابس سبع بقرات سمان ، في أثرهن سبع عجاف - أي مهازيل - وقد أقبلت العجاف على السمان فأخذن بآذانهن فأكلنهن ، إلا القرنين ، ورأى سبع سنبلات خضر قد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن فلم يبق منهن شيء وهن يابسات ، وكذلك البقر كن عجافا فلم يزد فيهن شيء من أكلهن السمان ، فهالته الرؤيا ، فأرسل إلى الناس وأهل العلم منهم والبصر بالكهانة والنجامة والعرافة والسحر ، وأشراف قومه ، فقال : يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي فقص عليهم ، فقال القوم : أضغاث أحلام قال ابن جريج قال لي عطاء : إن أضغاث الأحلام الكاذبة المخطئة من الرؤيا . وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : إن الرؤيا منها حق ، ومنها أضغاث أحلام ، يعني بها الكاذبة . وقال الهروي : قوله تعالى : أضغاث أحلام أي أخلاط أحلام . والضغث في اللغة الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ وما أشبههما ، أي قالوا : ليست رؤياك ببينة ، والأحلام الرؤيا المختلطة . وقال مجاهد : أضغاث الرؤيا أهاويلها . وقال أبو عبيدة : الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا .
قوله تعالى : سبع بقرات سمان حذفت الهاء من " سبع " فرقا بين المذكر والمؤنث " سمان " من نعت البقرات ، ويجوز في غير القرآن سبع بقرات سمانا ، نعت للسبع ، وكذا خضرا ، قال الفراء : ومثله . سبع سماوات طباقا . وقد مضى في سورة " البقرة " اشتقاقها ومعناها . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : المعز والبقر إذا دخلت المدينة فإن كانت سمانا فهي سني رخاء ، وإن كانت عجافا كانت شدادا ، وإن كانت المدينة مدينة بحر وإبان سفر قدمت سفن على عددها وحالها ، وإلا كانت فتنا مترادفة ، كأنها وجوه البقر ، كما في الخبر يشبه بعضها بعضا . وفي خبر آخر في الفتن كأنها صياصي البقر يريد لتشابهها ، إلا أن تكون صفرا كلها فإنها أمراض تدخل على الناس ، وإن كانت مختلفة الألوان ، شنيعة القرون وكان الناس ينفرون منها ، أو كأن النار والدخان يخرج من أفواهها فإنه عسكر أو غارة ، أو عدو يضرب عليهم ، وينزل بساحتهم . وقد تدل البقرة على الزوجة والخادم والغلة والسنة ; لما يكون فيها من الولد والغلة والنبات .
يأكلهن سبع عجاف من عجف يعجف ، على وزن عظم يعظم ، وروي عجف يعجف على وزن حمد يحمد .
قوله تعالى : يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي جمع الرؤيا رؤى : أي أخبروني بحكم هذه الرؤيا .
إن كنتم للرؤيا تعبرون العبارة مشتقة من عبور النهر ، فمعنى عبرت النهر بلغت شاطئه ، فعابر الرؤيا يعبر بما يئول إليه أمرها . واللام في للرؤيا للتبيين ، أي إن كنتم تعبرون ، ثم بين فقال : للرؤيا قاله الزجاج . ❝
❞ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
قوله تعالى : قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين في الكلام حذف ، التقدير : فلما رجعوا من مصر قالوا يا أبانا ; وهذا يدل على أن الذي قال له : تالله إنك لفي ضلالك القديم بنو بنيه أو غيرهم من قرابته وأهله لا ولده ، فإنهم كانوا غيبا ، وكان يكون ذلك زيادة في العقوق . والله أعلم . وإنما سألوه المغفرة ، لأنهم أدخلوا عليه من ألم الحزن ما لم يسقط المأثم عنه إلا بإحلاله .
قلت : وهذا الحكم ثابت فيمن آذى مسلما في نفسه أو ماله أو غير ذلك ظالما له ; فإنه يجب عليه أن يتحلل له ويخبره بالمظلمة وقدرها ; وهل ينفعه التحليل المطلق أم لا ؟ فيه خلاف والصحيح أنه لا ينفع ; فإنه لو أخبره بمظلمة لها قدر وبال ربما لم تطب نفس المظلوم في التحلل منها . والله أعلم . وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه قال المهلب فقوله - صلى الله عليه وسلم - : أخذ منه بقدر مظلمته يجب أن تكون المظلمة معلومة القدر مشارا إليها مبينة ، والله أعلم . ❝
❞ ۞ لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7)
قوله تعالى : لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين يعني ، من سأل عن حديثهم . وقرأ أهل مكة ˝ آية ˝ على التوحيد ; واختار أبو عبيد ˝ آيات ˝ على الجمع ; قال : لأنها خير كثير . قال النحاس : و ˝ آية ˝ هنا قراءة حسنة ، أي لقد كان للذين سألوا عن خبر يوسف آية فيما خبروا به ، لأنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة فقالوا : أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر ، فبكى عليه حتى عمي ؟ ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ، ولا من يعرف خبر الأنبياء ; وإنما وجه اليهود إليهم من المدينة يسألونه عن هذا - فأنزل الله - عز وجل - سورة [ يوسف ] جملة واحدة ; فيها كل ما في التوراة من خبر وزيادة ، فكان ذلك آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة إحياء عيسى ابن مريم - عليه السلام - الميت . آيات موعظة ; وقيل : عبرة . وروي أنها في بعض المصاحف ˝ عبرة ˝ . وقيل : بصيرة . وقيل : عجب ; تقول فلان آية في العلم والحسن أي عجب . قال الثعلبي في تفسيره : لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه ; وقال ابن زيد : كانوا أنبياء ، وقالوا : ما يرضى أن يسجد له إخوته حتى يسجد له أبواه ! فبغوه بالعداوة ، وقد تقدم رد هذا القول . قال الله تعالى : لقد كان في يوسف وإخوته وأسماؤهم : روبيل وهو أكبرهم ، وشمعون ولاوي ويهوذا وزيالون ويشجر ، وأمهم ليا بنت ليان ، وهي بنت خال يعقوب ، وولد له من سريتين أربعة نفر ; دان ونفتالي وجاد وآشر ، ثم توفيت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل ، فولدت له يوسف وبنيامين ، فكان بنو يعقوب اثني عشر رجلا . قال السهيلي : وأم يعقوب اسمها رفقا ، وراحيل ماتت في نفاس بنيامين ، وليان بن ناهر بن آزر هو خال يعقوب . وقيل : في اسم الأمتين ليا وتلتا ، كانت إحداهما لراحيل ، والأخرى لأختها ليا ، وكانتا قد وهبتاهما ليعقوب ، وكان يعقوب قد جمع بينهما ، ولم يحل لأحد بعده ; لقول الله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف . وقد تقدم الرد على ما قاله ابن زيد ، والحمد لله . ❝
❞ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5)
قوله تعالى : قال يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين فيه إحدى عشرة مسألة : الأولى : فيكيدوا لك كيدا أي يحتالوا في هلاكك ; لأن تأويلها ظاهر ; فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ . واللام في لك تأكيد . كقوله : إن كنتم للرؤيا تعبرون .
الثانية : الرؤيا حالة شريفة ، ومنزلة رفيعة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له . وقال : أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا . وحكم - صلى الله عليه وسلم - بأنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وروي من سبعين جزءا من النبوة . وروي من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - جزءا من أربعين جزءا من النبوة . ومن حديث ابن عمر جزء من تسعة وأربعين جزءا . ومن حديث العباس جزء من خمسين جزءا من النبوة . ومن حديث أنس من ستة وعشرين . وعن عبادة بن الصامت من أربعة وأربعين من النبوة . والصحيح منها حديث الستة والأربعين ، ويتلوه في الصحة حديث السبعين ; ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين ، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ ; قاله ابن بطال . قال أبو عبد الله المازري : والأكثر والأصح عند أهل الحديث من ستة وأربعين . قال الطبري : والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح ، ولكل حديث منها مخرج معقول ; فأما قوله : إنها جزء من سبعين جزءا من النبوة فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة ، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان ; وأما قوله : إنها من أربعين أو ستة وأربعين فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق - رضي الله عنه - أنه كان بها ; فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات ، والصبر في الله على المكروهات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءا من النبوة ، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزأين ما بين الأربعين إلى الستين لا تنقص عن سبعين ، وتزيد على الأربعين وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبد البر فقال : اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلافا متضادا متدافعا - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، والدين المتين ، وحسن اليقين ; فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه كانت رؤياه أصدق وإلى النبوة أقرب كما أن الأنبياء يتفاضلون ، قال الله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض .
قلت : فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث ، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه ; ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال : معنى قوله : جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، فإن الله تعالى أوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - في النبوة ثلاثة وعشرين عاما - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاما وجدنا ذلك جزءا من ستة وأربعين جزءا ; وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه ˝ المعلم ˝ واختاره القونوي في تفسيره من سورة [ يونس ] عند قوله تعالى : لهم البشرى في الحياة الدنيا . وهو فاسد من وجهين : أحدهما : ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث على رأس أربعين ، فأقام بمكة عشر سنين ; وهو قول عروة والشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه ، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس ، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني : أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى .
الثالثة : إنما كانت الرؤيا جزءا من النبوة ; لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران ، وقلب الأعيان ، والاطلاع على شيء من علم الغيب ; كما قال - عليه السلام - : إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم . . . الحديث . وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله ، وإنها من النبوة ; قال - صلى الله عليه وسلم - : الرؤيا من الله والحلم من الشيطان وأن التصديق بها حق ، ولها التأويل الحسن ، وربما أغنى بعضها عن التأويل ، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه ; ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر ، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة .
الرابعة : إن قيل : إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءا من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلا لها ؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة ; كمنام رؤيا الملك الذي رأى سبع بقرات ، ومنام الفتيين في السجن ; ورؤيا بختنصر التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه ، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنام عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمره وهي كافرة ، وقد ترجم البخاري ˝ باب رؤيا أهل السجن ˝ : فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة ; إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة ; وقد تقدم في [ الأنعام ] أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق ، لكن ذلك على الندور والقلة ، فكذلك رؤيا هؤلاء ; قال المهلب : إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة ، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة ، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها ، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءا من النبوة .
الخامسة : الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام ، وكان تأويلها موافقا لما في اللوح المحفوظ ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم ، وهي المضافة إلى الشيطان ، وإنما سميت ضغثا ; لأن فيها أشياء متضادة ; قال معناه المهلب . وقد قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرؤيا أقساما تغني عن قول كل قائل ; روى عوف بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ، ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة . قال : قلت : سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ! سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
السادسة : قوله تعالى : قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك الآية . الرؤيا مصدر رأى في المنام ، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى ; وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف . وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا ; فقيل : هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة ، كالنوم المستغرق وغيره ; ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم ; فيخلق الله تعالى للرائي علما ناشئا ، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك ، قال ابن العربي : ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة ، ولذلك لا يرى في المنام شخصا قائما قاعدا بحال ، وإنما يرى الجائزات المعتادات . وقيل : إن لله ملكا يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم ، فيمثل له صورا محسوسة ; فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود ، وتارة تكون لمعان معقولة غير محسوسة ، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة ; قال - صلى الله عليه وسلم - في صحيح مسلم وغيره : رأيت سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى . ورأيت سيفي قد انقطع صدره وبقرا تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون . ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة . ورأيت في يدي سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي . إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال ; ومنها ما يظهر معناه أولا فأولا ، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر ; وقد رأى النائم في زمن يوسف - عليه السلام - بقرا فأولها يوسف السنين ، ورأى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه .
السابعة : إن قيل : إن يوسف - عليه السلام - كان صغيرا وقت رؤياه ، والصغير لا حكم لفعله ، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه : لا تقصص رؤياك على إخوتك ؟ فالجواب : أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه ، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقي في اليقظة ، وإذا أخبر عما رأى صدق ، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام ; وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض ; روي أن يوسف - عليه السلام - كان ابن اثنتي عشرة سنة .
الثامنة : هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح ، ولا على من لا يحسن التأويل فيها ; روى أبو رزين العقيلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الرؤيا جزء من أربعين جزءا من النبوة . والرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلا أو محبا أو ناصحا أخرجه الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح ; وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر . وقيل لمالك : أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال : أبالنبوة يلعب ؟ وقال مالك : لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها ، فإن رأى خيرا أخبر به ، وإن رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت ; قيل : فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه ؟ فقال : لا ! ثم قال ، : الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة .
التاسعة : وفي هذه الآية دليل على أن مباحا أن يحذر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه ، ولا يكون داخلا في معنى الغيبة ; لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على إخوته فيكيدوا له كيدا ، وفيها أيضا ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسدا وكيدا ; وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود . وفيها أيضا دليل واضح على معرفة يعقوب - عليه السلام - بتأويل الرؤيا ; فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم ، ولم يبال بذلك من نفسه ; فإن الرجل يود أن يكون ولده خيرا منه ، والأخ لا يود ذلك لأخيه . ويدل أيضا على أن يعقوب - عليه السلام - كان أحس من بنيه حسد يوسف وبغضه ; فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم ، فيعملوا الحيلة في هلاكه ; ومن هذا ومن فعلهم بيوسف يدل على أنهم كانوا غير أنبياء في ذلك الوقت ، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء ، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي ، وعن عقوق الآباء ، وتعريض مؤمن للهلاك ، والتآمر في قتله ، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء ، ولا يستحيل في العقل زلة نبي ، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعا من الكبائر ، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها ، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي .
العاشرة : روى البخاري عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا : وما المبشرات ؟ قال : الرؤيا الصالحة وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك ; فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله - تعالى - لا تسر رائيها ، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقا به ورحمة ، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه ; فإن أدرك تأولها بنفسه ، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك . وقد رأى الشافعي - رضي الله عنه - وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك ، وقد تقدم في [ يونس ] في تفسير قوله تعالى : لهم البشرى في الحياة الدنيا أنها الرؤيا الصالحة . وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب ، والله أعلم .
الحادية عشرة : روى البخاري عن أبي سلمة قال : لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول : وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب ، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره . قال علماؤنا : فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها ; ألا ترى قول أبي قتادة : إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل ، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئا . وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثا وليتحول عن جنبه الذي كان عليه . وفي حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل . قال علماؤنا : وهذا كله ليس بمتعارض ; وإنما هذا الأمر بالتحول ، والصلاة زيادة ، فعلى الرائي أن يفعل الجميع ، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع ; لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور ; لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه ، وإذا تمضمض تفل وبصق ، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة ; وذلك السحر من الليل . ❝
❞ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذَٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ۚ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
قال لهما يوسف : لا يأتيكما طعام ترزقانه يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما
إلا نبأتكما بتأويله لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما ، فقالا : افعل ! فقال لهما : يجيئكما كذا وكذا ، فكان على ما قال .
ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وكان هذا من علم الغيب خص به يوسف . وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله ، يعني دين الملك . ومعنى الكلام عندي : العلم بتأويل رؤياكما ، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله ، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا ، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام ، فقال : يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون الآية كلها ، على ما يأتي . وقيل : علم أن أحدهما مقتول فدعاهما إلى الإسلام ليسعدا به . وقيل : إن يوسف كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علمه من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره فقال : لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم إلا نبأتكما بتفسيره في اليقظة ، قاله السدي ، فقالا له : هذا من فعل العرافين والكهنة ، فقال لهما يوسف - عليه السلام - : ما أنا بكاهن ، وإنما ذلك مما علمنيه ربي ، إني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما ، بل هو بوحي من الله - عز وجل - . وقال ابن جريج : كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معروفا فأرسل به إليه ، فالمعنى : لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة ، فعلى هذا ترزقانه أي يجري عليكما من جهة الملك أو غيره . ويحتمل يرزقكما الله . قال الحسن : كان يخبرهما بما غاب ، كعيسى - عليه السلام - . وقيل : إنما دعاهما بذلك إلى الإسلام ; وجعل المعجزة التي يستدلان بها إخبارهما بالغيوب . ❝
❞ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قوله تعالى : قال لا تثريب عليكم اليوم أي قال يوسف - وكان حليما موفقا : لا تثريب عليكم اليوم وتم الكلام . ومعنى " اليوم " : الوقت . والتثريب التعيير والتوبيخ ، أي لا تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم ; قال سفيان الثوري وغيره ; ومنه قوله - عليه السلام - : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها أي لا يعيرها ; وقال بشر :
فعفوت عنهم عفو غير مثرب وتركتهم لعقاب يوم سرمد
وقال الأصمعي : ثربت عليه وعربت عليه بمعنى إذا قبحت عليه فعله . وقال الزجاج : المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة ، وحق الإخوة ، ولكم عندي العفو والصفح ; وأصل التثريب الإفساد ، وهي لغة أهل الحجاز . وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بعضادتي الباب يوم فتح مكة ، وقد لاذ الناس بالبيت فقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال : ماذا تظنون يا معشر قريش قالوا : خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم وقد قدرت ; قال : " وأنا أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم " فقال عمر - رضي الله عنه - : ففضت عرقا من الحياء من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أني قد كنت قلت لهم حين دخلنا مكة : اليوم ننتقم منكم ونفعل ، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال استحييت من قولي .
يغفر الله لكم مستقبل فيه معنى الدعاء ; سأل الله أن يستر عليهم ويرحمهم . وأجاز الأخفش الوقف على " عليكم " والأول هو المستعمل ; فإن في الوقف على " عليكم " والابتداء ب اليوم يغفر الله لكم جزما بالمغفرة في اليوم ، وذلك لا يكون إلا عن وحي ، وهذا بين . وقال عطاء الخراساني : طلب الحوائج من الشباب أسهل منه من الشيوخ ; ألم تر قول يوسف : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وقال يعقوب : سوف أستغفر لكم ربي . ❝
❞ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قوله تعالى : وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
قوله تعالى : وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه قيل : الاشتراء هنا بمعنى الاستبدال ; إذ لم يكن ذلك عقدا ، مثل : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى . وقيل : إنهم ظنوه في ظاهر الحال اشتراء ، فجرى هذا اللفظ على ظاهر الظن . قال الضحاك : هذا الذي اشتراه ملك مصر ، ولقبه العزيز . السهيلي : واسمه قطفير . وقال ابن إسحاق : إطفير بن رويحب اشتراه لامرأته راعيل ; ذكره الماوردي . وقيل : كان اسمها زليخاء . وكان الله ألقى محبة يوسف على قلب العزيز ، فأوصى به أهله ; ذكره القشيري . وقد ذكر القولين في اسمها الثعلبي وغيره . وقال ابن عباس : إنما اشتراه قطفير وزير ملك مصر ، وهو الريان بن الوليد . وقيل : الوليد بن الريان ، وهو رجل من العمالقة . وقيل : هو فرعون موسى ; لقول موسى : ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات وأنه عاش أربعمائة سنة . وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف ، على ما يأتي في [ غافر ] بيانه . وكان هذا العزيز الذي اشترى يوسف على خزائن الملك ; واشترى يوسف من مالك بن دعر بعشرين دينارا ، وزاده حلة ونعلين . وقيل : اشتراه من أهل الرفقة . وقيل : تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكا وعنبرا وحريرا وورقا وذهبا ولآلئ وجواهر لا يعلم قيمتها إلا الله ; فابتاعه قطفير من مالك بهذا الثمن ; قاله وهب بن منبه . وقال وهب أيضا وغيره : ولما اشترى مالك بن دعر يوسف من إخوته كتب بينهم وبينه كتابا : هذا ما اشترى مالك بن دعر من بني يعقوب ، وهم فلان وفلان مملوكا لهم بعشرين درهما ، وقد شرطوا له أنه آبق ، وأنه لا ينقلب به إلا مقيدا مسلسلا ، وأعطاهم على ذلك عهد الله . قال : فودعهم يوسف عند ذلك ، وجعل يقول : حفظكم الله وإن ضيعتموني ، نصركم الله وإن خذلتموني ، رحمكم الله وإن لم ترحموني ; قالوا : فألقت الأغنام ما في بطونها دما عبيطا لشدة هذا التوديع ، وحملوه على قتب بغير غطاء ولا وطاء ، مقيدا مكبلا مسلسلا ، فمر على مقبرة آل كنعان فرأى قبر أمه - وقد كان وكل به أسود يحرسه فغفل الأسود - فألقى يوسف نفسه على قبر أمه فجعل يتمرغ ويعتنق القبر ويضطرب ويقول : يا أماه ! ارفعي رأسك تري ولدك مكبلا مقيدا مسلسلا مغلولا ; فرقوا بيني وبين والدي ، فاسألي الله أن يجمع بيننا في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين ، فتفقده الأسود على البعير فلم يره ، فقفا أثره ، فإذا هو بياض على قبر ، فتأمله فإذا هو إياه ، فركضه برجله في التراب ومرغه وضربه ضربا وجيعا ; فقال له : لا تفعل ! والله ما هربت ولا أبقت وإنما مررت بقبر أمي فأحببت أن أودعها ، ولن أرجع إلى ما تكرهون ; فقال الأسود : والله إنك لعبد سوء ، تدعو أباك مرة وأمك أخرى ! فهلا كان هذا عند مواليك ; فرفع يديه إلى السماء وقال : اللهم إن كانت لي عندك خطيئة أخلقت بها وجهي فأسألك بحق آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تغفر لي وترحمني ; فضجت الملائكة في السماء ، ونزل جبريل فقال له : يا يوسف غض صوتك فلقد أبكيت ملائكة السماء أفتريد أن أقلب الأرض فأجعل عاليها سافلها ؟ قال : تثبت يا جبريل ، فإن الله حليم لا يعجل ; فضرب الأرض بجناحه فأظلمت ، وارتفع الغبار ، وكسفت الشمس ، وبقيت القافلة لا يعرف بعضها بعضا ; فقال رئيس القافلة : من أحدث منكم حدثا ؟ - فإني أسافر منذ كيت وكيت ما أصابني قط مثل هذا - فقال الأسود : أنا لطمت ذلك الغلام العبراني فرفع يده إلى السماء وتكلم بكلام لا أعرفه ، ولا أشك أنه دعا علينا ; فقال له : ما أردت إلا هلاكنا ايتنا به ، فأتاه به ، فقال له : يا غلام لقد لطمك فجاءنا ما رأيت ; فإن كنت تقتص فاقتص ممن شئت ، وإن كنت تعفو فهو الظن بك ; قال : قد عفوت رجاء أن يعفو الله عني ; فانجلت الغبرة ، وظهرت الشمس ، وأضاء مشارق الأرض ومغاربها ، وجعل التاجر يزوره بالغداة والعشي ويكرمه ، حتى وصل إلى مصر فاغتسل في نيلها وأذهب الله عنه كآبة السفر ، ورد عليه جماله ، ودخل به البلد نهارا فسطع نوره على الجدران ، وأوقفوه للبيع فاشتراه قطفير وزير الملك ; قاله ابن عباس على ما تقدم .
وقيل : إن هذا الملك لم يمت حتى آمن واتبع يوسف على دينه ، ثم مات الملك ويوسف يومئذ على خزائن الأرض ; فملك بعده قابوس وكان كافرا ، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى .
أكرمي مثواه أي منزله ومقامه بطيب المطعم واللباس الحسن ; وهو مأخوذ من ثوى بالمكان أي أقام به ; وقد تقدم في [ آل عمران ] وغيره .
عسى أن ينفعنا أي يكفينا بعض المهمات إذا بلغ .
أو نتخذه ولدا قال ابن عباس : كان حصورا لا يولد له ، وكذا قال ابن إسحاق : كان قطفير لا يأتي النساء ولا يولد له . فإن قيل : كيف قال أو نتخذه ولدا وهو ملكه ، والولدية مع العبدية تتناقض ؟ قيل له : يعتقه ثم يتخذه ولدا بالتبني ; وكان التبني في الأمم معلوما عندهم ، وكذلك كان في أول الإسلام ، على ما يأتي بيانه في [ الأحزاب ] إن شاء الله تعالى . وقال عبد الله بن مسعود : أحسن الناس فراسة ثلاثة ; العزيز حين تفرس في يوسف فقال : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ، وبنت شعيب حين قالت لأبيها في موسى استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ، وأبو بكر حين استخلف عمر . قال ابن العربي : عجبا للمفسرين في اتفاقهم على جلب هذا الخبر ، والفراسة هي علم غريب على ما يأتي بيانه في سورة [ الحجر ] وليس كذلك فيما نقلوه ; لأن الصديق إنما ولى عمر بالتجربة في الأعمال ، والمواظبة على الصحبة وطولها ، والاطلاع على ما شاهد منه من العلم والمنة ، وليس ذلك من طريق الفراسة ; وأما بنت شعيب فكانت معها العلامة البينة على ما يأتي بيانه في [ القصص ] . وأما أمر العزيز فيمكن أن يجعل فراسة ; لأنه لم يكن معه علامة ظاهرة . والله أعلم .
قوله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض الكاف في موضع نصب ; أي وكما أنقذناه من إخوته ومن الجب فكذلك مكنا له ; أي عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتى تمكن من الأمر والنهي في البلد الذي الملك مستول عليه .
ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب : ويعلمك من تأويل الأحاديث . وقيل : المعنى مكناه لنوحي إليه بكلام منا ، ونعلمه تأويله . وتفسيره ، وتأويل الرؤيا ، وتم الكلام .
والله غالب على أمره الهاء راجعة إلى الله تعالى ; أي لا يغلب الله شيء ، بل هو الغالب على أمر نفسه فيما يريده أن يقول له : كن فيكون . وقيل : ترجع إلى يوسف ; أي الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره ، حتى لا يصل إليه كيد كائد .
ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي لا يطلعون على غيبه . وقيل : المراد بالأكثر الجميع ; لأن أحدا لا يعلم الغيب . وقيل : هو مجرى على ظاهره ; إذ قد يطلع من يريد على بعض غيبه . وقيل : المعنى ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره ، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر .
وقالت الحكماء في هذه الآية : والله غالب على أمره حيث أمره يعقوب ألا يقص رؤياه على إخوته فغلب أمر الله حتى قص ، ثم أراد إخوته قتله فغلب أمر الله حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه ، ثم أراد الإخوة أن يخلو لهم وجه أبيهم فغلب أمر الله حتى ضاق عليهم قلب أبيهم ، وافتكره بعد سبعين سنة أو ثمانين سنة ، فقال : يا أسفا على يوسف ثم تدبروا أن يكونوا من بعده قوما صالحين ، أي تائبين فغلب أمر الله حتى نسوا الذنب وأصروا عليه حتى أقروا بين يدي يوسف في آخر الأمر بعد سبعين سنة ، وقالوا لأبيهم : إنا كنا خاطئين ثم أرادوا أن يخدعوا أباهم بالبكاء والقميص فغلب أمر الله فلم ينخدع ، وقال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ثم احتالوا في أن تزول محبته من قلب أبيهم فغلب أمر الله فازدادت المحبة والشوق في قلبه ، ثم دبرت امرأة العزيز أنها إن ابتدرته بالكلام غلبته ، فغلب أمر الله حتى قال العزيز : استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ، ثم دبر يوسف أن يتخلص من السجن بذكر الساقي فغلب أمر الله فنسي الساقي ، ولبث يوسف في السجن بضع سنين . ❝
❞ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
قوله تعالى : إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين قوله تعالى : إذ قال يوسف إذ في موضع نصب على الظرف ; أي اذكر لهم حين قال يوسف . وقراءة العامة بضم السين . وقرأ طلحة بن مصرف ˝ يؤسف ˝ بالهمزة وكسر السين . وحكى أبو زيد : ˝ يؤسف ˝ بالهمزة وفتح السين . ولم ينصرف لأنه أعجمي ; وقيل : هو عربي .
وسئل أبو الحسن الأقطع - وكان حكيما - عن ˝ يوسف ˝ فقال : الأسف في اللغة الحزن ; والأسيف العبد ، وقد اجتمعا في يوسف ; فلذلك سمي يوسف .
˝ لأبيه يا أبت ˝ بكسر التاء قراءة أبي عمرو وعاصم ونافع وحمزة والكسائي ، وهي عند البصريين علامة التأنيث أدخلت على الأب في النداء خاصة بدلا من ياء الإضافة ، وقد تدخل علامة التأنيث على المذكر فيقال : رجل نكحة وهزأة ; قال النحاس : إذا قلت يا أبت بكسر التاء فالتاء عند سيبويه بدل من ياء الإضافة ; ولا يجوز على قوله الوقف إلا بالهاء ، وله على قوله دلائل : منها - أن قولك : ˝ يا أبه ˝ يؤدي عن معنى ˝ يا أبي ˝ ; وأنه لا يقال : يا أبت إلا في المعرفة ; ولا يقال : جاءني أبت ، ولا تستعمل العرب هذا إلا في النداء خاصة ، ولا يقال : ˝ يا أبتي ˝ لأن التاء بدل من الياء فلا يجمع بينهما . وزعم الفراء أنه إذا قال : ˝ يا أبت ˝ فكسر دل على الياء لا غير ; لأن الياء في النية . وزعم أبو إسحاق أن هذا خطأ ، والحق ما قال ، كيف تكون الياء في النية وليس يقال : ˝ يا أبتي ˝ ؟ وقرأ أبو جعفر والأعرج وعبد الله بن عامر ˝ يا أبت ˝ بفتح التاء ; قال البصريون : أرادوا ˝ يا أبتي ˝ بالياء ، ثم أبدلت الياء ألفا فصارت ˝ يا أبتا ˝ فحذفت الألف وبقيت الفتحة على التاء . وقيل : الأصل الكسر ، ثم أبدل من الكسرة فتحة ، كما يبدل من الياء ألف فيقال : يا غلاما أقبل . وأجاز الفراء ˝ يا أبت ˝ بضم التاء .
إني رأيت أحد عشر كوكبا ليس بين النحويين اختلاف أنه يقال : جاءني أحد عشر ، ورأيت ومررت بأحد عشر ، وكذلك ثلاثة عشر وتسعة عشر وما بينهما ; جعلوا الاسمين اسما واحدا وأعربوهما بأخف الحركات . قال السهيلي : أسماء هذه الكواكب جاء ذكرها مسندا ; رواه الحارث بن أبي أسامة قال : جاء بستانة - وهو رجل من أهل الكتاب - فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأحد عشر كوكبا الذي رأى يوسف فقال : ( الحرثان والطارق والذيال وقابس والمصبح والضروح وذو الكنفات وذو القرع والفليق ووثاب والعمودان ; رآها يوسف - عليه السلام - تسجد له ) . قال ابن عباس وقتادة : الكواكب إخوته ، والشمس أمه ، والقمر أبوه . وقال قتادة أيضا : الشمس خالته ، لأن أمه كانت قد ماتت ، وكانت خالته تحت أبيه .
˝ رأيتهم ˝ توكيد . وقال : رأيتهم لي ساجدين فجاء مذكرا ; فالقول عند الخليل وسيبويه أنه لما أخبر عن هذه الأشياء بالطاعة والسجود وهما من أفعال من يعقل أخبر عنها كما يخبر عمن يعقل . وقد تقدم هذا المعنى في قوله : وتراهم ينظرون إليك . والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل إذا أنزلوه منزلته ، وإن كان خارجا عن الأصل . ❝
❞ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
قوله تعالى : قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون
قوله تعالى : قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف قيل للحسن : أيحسد المؤمن ؟ قال : ما أنساك ببني يعقوب . ولهذا قيل : الأب جلاب والأخ سلاب ; فعند ذلك أجمعوا على التفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال . وقالوا ليعقوب : يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وقيل : لما تفاوضوا وافترقوا على رأي المتكلم الثاني عادوا إلى يعقوب - عليه السلام - وقالوا : هذا القول . وفيه دليل على أنهم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى على ما يأتي . قرأ يزيد بن القعقاع وعمرو بن عبيد والزهري ˝ لا تأمنا ˝ بالإدغام ، وبغير إشمام وهو القياس ; لأن سبيل ما يدغم أن يكون ساكنا . وقرأ طلحة بن مصرف ˝ لا تأمننا ˝ بنونين ظاهرتين على الأصل . وقرأ يحيى بن وثاب وأبو رزين - وروي عن الأعمش - ˝ ولا تيمنا ˝ بكسر التاء ، وهي لغة تميم ; يقولون : أنت تضرب ; وقد تقدم . وقرأ سائر الناس بالإدغام والإشمام ليدل على حال الحرف قبل إدغامه
وإنا له لناصحون أي في حفظه وحيطته حتى نرده إليك . قال مقاتل : في الكلام تقديم وتأخير ; وذلك أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم : أرسله معنا غدا الآية ; فحينئذ قال أبوهم : إني ليحزنني أن تذهبوا به فقالوا حينئذ جوابا لقوله ما لك لا تأمنا على يوسف الآية . ❝
❞ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قوله تعالى : ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين
قوله تعالى : ودخل معه السجن فتيان ˝ فتيان ˝ تثنية فتى ; وهو من ذوات الياء ، وقولهم : الفتو شاذ . قال وهب وغيره : حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار ، وطيف به ˝ هذا جزاء من يعصي سيدته ˝ وهو يقول : هذا أيسر من مقطعات النيران ، وسرابيل القطران ، وشراب الحميم ، وأكل الزقوم . فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم ، واشتد بلاؤهم ; فجعل يقول لهم : اصبروا وأبشروا تؤجروا ; فقالوا له : يا فتى ! ما أحسن حديثك ! لقد بورك لنا في جوارك ، من أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق ، ابن خليل الله إبراهيم . وقال ابن عباس : لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني ، وأنا أريد أن تسجنه ، فسجنه في السجن ; فكان يعزي فيه الحزين ، ويعود فيه المريض ، ويداوي فيه الجريح ، ويصلي الليل كله ، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب ، وطهر به السجن ، واستأنس به أهل السجن ; فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف ، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه ; ثم قال له : يا يوسف ! لقد أحببتك حبا لم أحب شيئا حبك ; فقال : أعوذ بالله من حبك ، قال : ولم ذلك ؟ فقال : أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه ، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى ، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه ، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه ، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا ، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب ، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك ، فأمر الملك بحبسهما ، فاستأنسا بيوسف ، فذلك قوله : ودخل معه السجن فتيان وقد قيل : إن الخباز وضع السم في الطعام ، فلما حضر الطعام قال الساقي : أيها الملك ! لا تأكل فإن الطعام مسموم . وقال الخباز : أيها الملك لا تشرب ! فإن الشراب مسموم ; فقال الملك للساقي : اشرب ! فشرب فلم يضره ، وقال للخباز : كل ; فأبى ، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه ، فحبسهما سنة ، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف . واسم الساقي منجا ، والآخر مجلث ; ذكره الثعلبي عن كعب . وقال النقاش : اسم أحدهما شرهم ، والآخر سرهم ; الأول ، بالشين المعجمة . والآخر بالسين المهملة . وقال الطبري : الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو ، قال السهيلي : وذكر اسم الآخر ولم أقيده . وقال فتيان لأنهما كانا عبدين ، والعبد يسمى فتى ، صغيرا كان أو كبيرا ; ذكره الماوردي . وقال القشيري : ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم ; ولهذا قال : تراود فتاها عن نفسه . ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا . ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله ، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه .
قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا أي عنبا ; كان يوسف قال لأهل السجن : إني أعبر الأحلام ; فقال أحد الفتيين لصاحبه : تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني ; فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ; قاله ابن مسعود . وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا ; فسألاه عن رؤياهما . قال ابن عباس ومجاهد : كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها ; ولذلك صدق تأويلها . وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا . وقيل : إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا ; وهذا قول ابن مسعود والسدي . وقيل : إن المصلوب منهما كان كاذبا ، والآخر صادقا ; قاله أبو مجلز . وروى الترمذي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال : من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وعن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة . قال : حديث حسن . قال ابن عباس : لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين ; فقال لهما يوسف : ما لي أراكما مكروبين ؟ قالا : يا سيدنا ! إنا رأينا ما كرهنا ; قال : فقصا علي ، فقصا عليه ; قالا : نبئنا بتأويل ما رأينا ; وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام إنا نراك من المحسنين فإحسانه ، أنه كان يعود المرضى ويداويهم ، ويعزي الحزانى ; قال الضحاك : كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به ، وإذا ضاق وسع له ، وإذا احتاج جمع له ، وسأل له . وقيل : من المحسنين أي العالمين الذين أحسنوا العلم ، قاله الفراء . وقال ابن إسحاق : من المحسنين لنا إن فسرته ، كما يقول : افعل كذا وأنت محسن .
. قال : فما رأيتما ؟ قال الخباز : رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير ، وجعلته في ثلاث سلال ، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه . وقال الآخر : رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض ، فعصرتهن في ثلاث أوان ، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى ، فذلك قوله : إني أراني أعصر خمرا أي عنبا ، بلغة عمان ، قاله الضحاك . وقرأ ابن مسعود : ˝ إني أراني أعصر عنبا ˝ . وقال الأصمعي : أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له : ما معك ؟ قال : خمر . وقيل : معنى . أعصر خمرا أي عنب خمر ، فحذف المضاف . ويقال : خمرة وخمر وخمور ، مثل تمرة وتمر وتمور . ❝
❞ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قوله تعالى : وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قوله تعالى : وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي لما ثبت للملك براءته مما نسب إليه ; وتحقق في القصة أمانته ، وفهم أيضا صبره وجلده عظمت منزلته عنده ، وتيقن حسن خلاله قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي فانظر إلى قول الملك أولا - حين تحقق علمه - ائتوني به فقط ، فلما فعل يوسف ما فعل ثانيا قال : ائتوني به أستخلصه لنفسي وروي عن وهب بن منبه قال : لما دعي يوسف وقف بالباب فقال : حسبي ربي من خلقه ، عز جاره وجل ثناؤه ولا إله غيره . ثم دخل فلما نظر إليه الملك نزل عن سريره فخر له ساجدا ; ثم أقعده الملك معه على سريره فقال . إنك اليوم لدينا مكين أمين قال له يوسف اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ للخزائن عليم بوجوه تصرفاتها . وقيل : حافظ للحساب ، عليم بالألسن . وفي الخبر : يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكن أخر ذلك سنة . وقيل : إنما تأخر تمليكه إلى سنة لأنه لم يقل إن شاء الله . وقد قيل في هذه القصة : إن يوسف - عليه السلام - لما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره ، وأعوذ بك من شره وشر غيره ; ثم سلم على الملك بالعربية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : هذا لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ; وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا ، فكلما تكلم الملك بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان ، فأعجب الملك أمره ، وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة ; ثم أجلسه على سريره وقال : أحب أن أسمع منك رؤياي ، قال يوسف نعم أيها الملك ! رأيت سبع بقرات سمان شهبا غرا حسانا ، كشف لك عنهن النيل فطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافها لبنا ; فبينا أنت تنظر إليهن وتتعجب من حسنهن إذ نضب النيل فغار ماؤه ، وبدا أسه ، فخرج من حمئه ووحله سبع بقرات عجاف شعث غبر مقلصات البطون ، ليس لهن ضروع ولا أخلاف ، لهن أنياب وأضراس ، وأكف كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع ، فاختلطن بالسمان فافترسنهن افتراس السباع ، فأكلن لحومهن ، ومزقن جلودهن ، وحطمن عظامهن ، ومشمشن مخهن ; فبينا أنت تنظر وتتعجب كيف غلبنهن وهن مهازيل ! ثم لم يظهر منهن سمن ولا زيادة بعد أكلهن ! إذا بسبع سنابل خضر طريات ناعمات ممتلئات حبا وماء ، وإلى جانبهن سبع يابسات ليس فيهن ماء ولا خضرة في منبت واحد ، عروقهن في الثرى والماء ، فبينا أنت تقول في نفسك : أي شيء هذا ؟ ! هؤلاء خضر مثمرات ، وهؤلاء سود يابسات ، والمنبت واحد ، وأصولهن في الماء ، إذ هبت ريح فذرت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات ، فأشعلت فيهن النار فأحرقتهن ; فصرن سودا مغبرات ; فانتبهت مذعورا أيها الملك ; فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبا بأعجب مما سمعت منك ! فما ترى في رؤياي أيها الصديق ؟ فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام ، وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة ; فإنك لو زرعت على حجر أو مدر لنبت ، وأظهر الله فيه النماء والبركة ، ثم ترفع الزرع في قصبه وسنبله تبني له المخازن العظام ; فيكون القصب والسنبل علفا للدواب ، وحبه للناس ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم إلى أهرائك الخمس ; فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ، ويأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك ; فقال الملك : ومن لي بتدبير هذه الأمور ؟ ولو جمعت أهل مصر جميعا ما أطاقوا ، ولم يكونوا فيه أمناء ; فقال يوسف - عليه السلام - عند ذلك : اجعلني على خزائن الأرض أي على خزائن أرضك ; وهي جمع خزانة ; ودخلت الألف واللام عوضا من الإضافة ، كقول النابغة :
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم من الجود والأحلام غير كواذب
قوله تعالى : أستخلصه لنفسي جزم لأنه جواب الأمر ; وهذا يدل على أن قوله : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب جرى في السجن . ويحتمل أنه جرى عند الملك ثم قال في مجلس آخر : ائتوني به تأكيدا أستخلصه لنفسي أي أجعله خالصا لنفسي ، أفوض إليه أمر مملكتي ; فذهبوا فجاءوا به ; ودل على هذا قوله : ˝ فلما كلمه ˝ أي كلم الملك يوسف ، وسأله عن الرؤيا فأجاب يوسف ; ف ˝ قال ˝ الملك : إنك اليوم لدينا مكين أمين أي متمكن نافذ القول ، أمين لا تخاف غدرا . ❝
❞ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ۖ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ۖ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
قوله تعالى : فلما استيأسوا منه أي يئسوا ; مثل عجب واستعجب ، وسخر واستسخر . ˝ خلصوا ˝ أي انفردوا وليس هو معهم . ˝ نجيا ˝ نصب على الحال من المضمر في خلصوا وهو واحد يؤدي عن جمع ، كما في هذه الآية ; ويقع على الواحد كقوله تعالى : وقربناه نجيا وجمعه أنجية ; قال الشاعر :
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطرب القوم اضطراب الأرشيه
هناك أوصيني ولا توصي بيه
وقرأ ابن كثير : ˝ استايسوا ˝ ˝ ولا تايسوا ˝ ˝ إنه لا يايس ˝ ˝ أفلم يايس ˝ بألف من غير همز على القلب ; قدمت الهمزة وأخرت الياء ، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة ; والأصل قراءة الجماعة ; لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس ; بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته . وقال قوم : أيس ويئس لغتان ; أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس ، يتناجون فيما عرض لهم . والنجي فعيل بمعنى المناجي .
قوله تعالى : قال كبيرهم قال قتادة : وهو روبيل ، كان أكبرهم في السن . مجاهد : هو شمعون ، كان أكبرهم في الرأي . وقال الكلبي : يهوذا ; وكان أعقلهم . وقال محمد بن كعب وابن إسحاق : هو لاوي ، وهو أبو الأنبياء .
ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله أي عهدا من الله في حفظ ابنه ، ورده إليه .
ومن قبل ما فرطتم في يوسف ˝ ما ˝ في محل نصب عطفا على أن والمعنى : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ، وتعلموا تفريطكم في يوسف ; ذكره النحاس وغيره . و ˝ من ˝ في قوله : ˝ ومن قبل ˝ متعلقة ب ˝ تعلموا ˝ . ويجوز أن تكون ما زائدة ; فيتعلق الظرفان اللذان هما ˝ من قبل ˝ و ˝ في يوسف ˝ بالفعل وهو ˝ فرطتم ˝ . ويجوز أن تكون ما والفعل مصدرا ، و ˝ من قبل ˝ متعلقا بفعل مضمر ; التقدير : تفريطكم في يوسف واقع من قبل ; فما والفعل في موضع رفع بالابتداء ، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به ˝ من قبل ˝ .
فلن أبرح الأرض أي ألزمها ، ولا أبرح مقيما فيها ; يقال : برح براحا وبروحا أي زال ، فإذا دخل النفي صار مثبتا .
حتى يأذن لي أبي بالرجوع فإني أستحي منه .
أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي . وقيل : المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب وآخذ أخي ، أو أعجز فأنصرف بعذر ، وذلك أن يعقوب قال : لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن حارب وعجز فقد أحيط به ; وقال ابن عباس : وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف ; يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه . وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - : إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر ; وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه ; قالوا : بل اكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر ، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق ، فأخذ كل واحد منهم سوقا ; ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال : أيها الملك ! لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها ; وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب ، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمة ، فغضب يهوذا واشتد غضبه ، وانتفجت شعراته ; وكذا كان كل واحد من بني يعقوب ; كان إذا غضب ، اقشعر جلده ، وانتفخ جسده ، وظهرت شعرات ظهره ، من تحت الثوب ، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم ; وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان ، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها ، تماما أو غير تمام ; فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما ، أو تمسكه يد من نسل يعقوب ; فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية ، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه ; ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره ; فخرج مسرعا إلى إخوته وقال : هل حضرني منكم أحد ؟ قالوا : لا ! قال : فأين ذهب شمعون ؟ قالوا : ذهب إلى الجبل ; فخرج فلقيه ، وقد احتمل صخرة عظيمة ; قال : ما تصنع بهذه ؟ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رءوس كل من فيه ; قال : فارجع فردها أو ألقها في البحر ، ولا تحدثن حدثا ; فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا ! لقد مسني كف من نسل يعقوب . ثم دخلوا على يوسف ، وكان يوسف أشدهم بطشا ، فقال : يا معشر العبرانيين ! أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة ، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة ; وقد ركله يركله ; قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه ، وقال : هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم ، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه ، وأمر بصواعه فوضع بين يديه ، ثم نقره نقرة فخرج طنينه ، فالتفت إليهم وقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا ! قال : فإنه يقول : إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم ، ثم نقر نقرة ثانية وقال : إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه ; فقالوا : أيها العزيز ! استر علينا ستر الله عليك ، وامنن علينا من الله عليك ; فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول : إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب ، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس ، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله ; ثم نقره رابعة وقال : إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه ; ولم تتوبوا إليه ، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول : إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا ; ثم نقره سادسة وقال إنه يقول : لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم ; لأجعلنكم نكالا للعالمين . ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم ، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا : لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده ، وترابا يطأ علينا برجله ; فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم : اخرجوا عني ! قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم ، ولولا هو لجعلتكم نكالا . ❝
❞ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
قوله تعالى : واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم
قوله تعالى : واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : واستبقا الباب قالت العلماء : وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني ; وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا ، هي لترده إلى نفسها ، وهو ليهرب عنها ، فأدركته قبل أن يخرج .
وقدت قميصه من دبر أي من خلفه ; قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه ، ونزل التخريق إلى أسفل القميص . والاستباق طلب السبق إلى الشيء ; ومنه السباق . والقد القطع ، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا ; قال النابغة :
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا . وقال المفضل بن حرب : قرأت في مصحف " فلما رأى قميصه عط من دبره " أي شق . قال يعقوب : العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح .
وحذفت الألف من استبقا في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها ; كما يقال : جاءني عبد الله في التثنية ; ومن العرب من يقول : جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز ، يجمع بين ساكنين ; لأن الثاني مدغم ، والأول حرف مد ولين . ومنهم من يقول : عبدا الله بإثبات الألف والهمز ، كما تقول في الوقف .
الثانية : في الآية دليل على القياس والاعتبار ، والعمل بالعرف والعادة ; لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا ، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم ; وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة ، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة ، وهذا هو الأغلب .
قوله تعالى : وألفيا سيدها لدى الباب أي وجدا العزيز عند الباب ، وعني بالسيد الزوج ، والقبط يسمون الزوج سيدا . يقال : ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد ;
فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت ف قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا أي زنى .
إلا أن يسجن أو عذاب أليم تقول : يضرب ضربا وجيعا . و " ما جزاء " ابتداء ، وخبره " أن يسجن " . " أو عذاب " عطف على موضع " أن يسجن " لأن المعنى : إلا السجن . ويجوز أو عذابا أليما بمعنى : أو يعذب عذابا أليما ; قاله الكسائي . ❝